
عرق بارد
بقلم محمد بوعنونو
في ذلك الصباح كانت القداسة تكسو محياها البهيّ، والجلال ينساب عبر عنقها العاجي، والنور ينبعث من حدقتيها المتوردتين ...هيئتها مشيتها نظراتها كل ما فيها يشعرك بالجلال والاحترام، ويجعل قلبك نشوان بخمرة التجليات، وسكران بإكسير الفيض النسوي والجمال الأنثوي.
في ذلك الصباح، عند شجرة الصفصاف الواقعة جنوب المكان المقدس من أرض زيري بن عطية، قرّر صاحبنا أن يكشف المحجوب ويفرغ مكنونات فؤاده المكلوم، ويقدم قلبه قربانا إزّاء مذبح روحها، ويحرق روحه بخورا عند أخمص قدميها، فكانت المشاهدات.
بدأت حكايتهما كخيال من سراب، أو كسراب من خيال، ربّما لهذا بالذات كانت تناديه بفتى السراب، وأحيانا بفتى الأحزان أو الغريب ... وتكتب إليه تحت عنوان : ( أمواج المحيط ) أو ( جزيرة الأحلام ) وأحيانا بلا عنوان. ترى ما علاقة السراب بفتى الأحزان؟ وما الرابط بين الغريب وجزيرة الأحلام؟ وما شأن أمواج المحيط؟ تلك أسرار غابت بغيابها، وبقي صاحبنا أجهل الناس بها.
ثم مضت الأيام كأنها يا سادتي الدقائق بل الثواني بل اللحظات القصار، وقد ذاب بعضهما في بعض، وصارا واحدا بعد ما كانا اثنين، وفؤادا واحدا ينبض لكلا الجسدين...
في ظل الصنوبر والصفصاف نسجا معا خيوطا من أمل، وبنيا قصورا من أوهام، وأحلاما من أحلام، اتخذا من سهوب الأقحوان وشقائق النعمان أشهادا على صدق علاقتهما ونقاء سريرتهما.
تأملها يوما وقد عكس صفاء وجهها شمس الأصيل، فوجد لها من القمر هالاته، ومن الشمس جلالها، ومن النجوم بهاءها، ومن الأزهار عبقها، ومن الجواهر بريقها، ومن الآلئ صفاءها، ومن الغزلان جيدها، ومن العصافير رقتها، ومن الحمام هديلها، ومن العنادل عندلتها، ومن الفراش خفتها، فكانت بحق ملاك رحمة.
كان الصدق وساما يزين علاقتهما، وحده الماضي البئيس كان يهدد هذه الآصرة، ويقض مضجع تلك الرابطة المقدسة، لكن مع ذلك نسجا خيطا رقيقا يجمع بينهما، ووترا مباركا يشد بعضهما، وبين الفينة والاخرى تهب رياح الأشواق فتداعب ذلك الوتر فيجود هو بأعذب الألحان، فلا تتمالك نفسها حتى تغني لفتى السراب : أصلح الأوتار قلبي عاد يهفو للغناء لقد جاءت الأشواق حلما سائرا هذا المساء ...
فلا الجبال كانت قادرة على دك علاقتهما، ولا الدهر كان يستطيع التفريق بينهما، لكن الماضي البئيس ماضي فتى السراب كان أقوى من حبهما، فقد جاء ذات مساء في صورة حاصد الأرواح، فهوى على فتى السراب بالمنجل فشطره نصفين، لكن أبى أن يترك الخيط الذي يربطه بملاك الرحمة، ثم ضربه مرة أخرى فسقطت يداه وظل ممسكا الخيط بأسنانه، ثم هوى عليه ثلاثة ففاضت روحه والخيط ففي فمه.
بيد أن ملاك الرحمة لم تر لا الضربة ولا المنجل ولا حتى حاصد الأرواح، ولكن رأت أن فتى السراب هان عليه الود، ونسي الوعد، فطردته من جنة قلبها وطلقته ثلاثا، فصار أشعث أغبر لباسه الوبر وفراشه المدر، يبيت في الطرقات ويتسول الصدقات، يسبح مع كل الموجات ويختنق بأدخنة كل الأهواء، يلهث في الصحراء كبعير شارد وقد جففت الشمس آخر دمعة من مآقيه، وصار طعامه بعد المن والسلوى بقلا وقِثَّاء، ولا من أشفق عليه أو رش وجهه ببعض نفحاتها.
عزاؤه الوحيد هدايا الزمن الجميل : رسائل ، صور ، قصص، أعمال دراسية مشتركة، كتب، ساعة يد ... مهلا قلت ساعة يد؟ ألم يعلم صاحبنا أن الهدية التي تكون على شكل ساعة هي ذات نحس وشؤم وشقاء؟ فالساعة في قاموس الحب تعني أن العلاقة مؤقتة، أو أنها على وشك الانتهاء.
يتسور صاحبنا كل ليلة شجرة اللوز المنتصبة أمام حجرته المعزولة، يقطف النجوم أزهارا والقمر إكليلا ثم يرمي به اتجاه بلاد ملاك الرحمة قائلا : تبارك الصلب الذي أتى بك والرحم الذي احتضنك والثرى الذي استقبلك، وطوبى للحضن الذي سيضمك.
ثم ينتظر الإجابة فلا يسمع شيئا، عدا صياح ديك أو نباح كلب أو عواء ذئب ... فينزل هادئا غاضبا، وراضيا ساخطا، ومطمئنا مرتبكا.
بقلم محمد بوعنونو
في ذلك الصباح كانت القداسة تكسو محياها البهيّ، والجلال ينساب عبر عنقها العاجي، والنور ينبعث من حدقتيها المتوردتين ...هيئتها مشيتها نظراتها كل ما فيها يشعرك بالجلال والاحترام، ويجعل قلبك نشوان بخمرة التجليات، وسكران بإكسير الفيض النسوي والجمال الأنثوي.
في ذلك الصباح، عند شجرة الصفصاف الواقعة جنوب المكان المقدس من أرض زيري بن عطية، قرّر صاحبنا أن يكشف المحجوب ويفرغ مكنونات فؤاده المكلوم، ويقدم قلبه قربانا إزّاء مذبح روحها، ويحرق روحه بخورا عند أخمص قدميها، فكانت المشاهدات.
بدأت حكايتهما كخيال من سراب، أو كسراب من خيال، ربّما لهذا بالذات كانت تناديه بفتى السراب، وأحيانا بفتى الأحزان أو الغريب ... وتكتب إليه تحت عنوان : ( أمواج المحيط ) أو ( جزيرة الأحلام ) وأحيانا بلا عنوان. ترى ما علاقة السراب بفتى الأحزان؟ وما الرابط بين الغريب وجزيرة الأحلام؟ وما شأن أمواج المحيط؟ تلك أسرار غابت بغيابها، وبقي صاحبنا أجهل الناس بها.
ثم مضت الأيام كأنها يا سادتي الدقائق بل الثواني بل اللحظات القصار، وقد ذاب بعضهما في بعض، وصارا واحدا بعد ما كانا اثنين، وفؤادا واحدا ينبض لكلا الجسدين...
في ظل الصنوبر والصفصاف نسجا معا خيوطا من أمل، وبنيا قصورا من أوهام، وأحلاما من أحلام، اتخذا من سهوب الأقحوان وشقائق النعمان أشهادا على صدق علاقتهما ونقاء سريرتهما.
تأملها يوما وقد عكس صفاء وجهها شمس الأصيل، فوجد لها من القمر هالاته، ومن الشمس جلالها، ومن النجوم بهاءها، ومن الأزهار عبقها، ومن الجواهر بريقها، ومن الآلئ صفاءها، ومن الغزلان جيدها، ومن العصافير رقتها، ومن الحمام هديلها، ومن العنادل عندلتها، ومن الفراش خفتها، فكانت بحق ملاك رحمة.
كان الصدق وساما يزين علاقتهما، وحده الماضي البئيس كان يهدد هذه الآصرة، ويقض مضجع تلك الرابطة المقدسة، لكن مع ذلك نسجا خيطا رقيقا يجمع بينهما، ووترا مباركا يشد بعضهما، وبين الفينة والاخرى تهب رياح الأشواق فتداعب ذلك الوتر فيجود هو بأعذب الألحان، فلا تتمالك نفسها حتى تغني لفتى السراب : أصلح الأوتار قلبي عاد يهفو للغناء لقد جاءت الأشواق حلما سائرا هذا المساء ...
فلا الجبال كانت قادرة على دك علاقتهما، ولا الدهر كان يستطيع التفريق بينهما، لكن الماضي البئيس ماضي فتى السراب كان أقوى من حبهما، فقد جاء ذات مساء في صورة حاصد الأرواح، فهوى على فتى السراب بالمنجل فشطره نصفين، لكن أبى أن يترك الخيط الذي يربطه بملاك الرحمة، ثم ضربه مرة أخرى فسقطت يداه وظل ممسكا الخيط بأسنانه، ثم هوى عليه ثلاثة ففاضت روحه والخيط ففي فمه.
بيد أن ملاك الرحمة لم تر لا الضربة ولا المنجل ولا حتى حاصد الأرواح، ولكن رأت أن فتى السراب هان عليه الود، ونسي الوعد، فطردته من جنة قلبها وطلقته ثلاثا، فصار أشعث أغبر لباسه الوبر وفراشه المدر، يبيت في الطرقات ويتسول الصدقات، يسبح مع كل الموجات ويختنق بأدخنة كل الأهواء، يلهث في الصحراء كبعير شارد وقد جففت الشمس آخر دمعة من مآقيه، وصار طعامه بعد المن والسلوى بقلا وقِثَّاء، ولا من أشفق عليه أو رش وجهه ببعض نفحاتها.
عزاؤه الوحيد هدايا الزمن الجميل : رسائل ، صور ، قصص، أعمال دراسية مشتركة، كتب، ساعة يد ... مهلا قلت ساعة يد؟ ألم يعلم صاحبنا أن الهدية التي تكون على شكل ساعة هي ذات نحس وشؤم وشقاء؟ فالساعة في قاموس الحب تعني أن العلاقة مؤقتة، أو أنها على وشك الانتهاء.
يتسور صاحبنا كل ليلة شجرة اللوز المنتصبة أمام حجرته المعزولة، يقطف النجوم أزهارا والقمر إكليلا ثم يرمي به اتجاه بلاد ملاك الرحمة قائلا : تبارك الصلب الذي أتى بك والرحم الذي احتضنك والثرى الذي استقبلك، وطوبى للحضن الذي سيضمك.
ثم ينتظر الإجابة فلا يسمع شيئا، عدا صياح ديك أو نباح كلب أو عواء ذئب ... فينزل هادئا غاضبا، وراضيا ساخطا، ومطمئنا مرتبكا.