الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

فُسحةُ الأملِ بقلم:عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2020-06-10
فُسحةُ الأملِ  بقلم:عادل بن مليح الأنصاري
فُسحةُ الأملِ

( عادل بن مليح الأنصاري )

أعــــــللُ النــفــس بالآمــــال أرقــــــــــــــبــها ما أضــــــــيق العــيــش لولا فُســـحــة الأمل
من منا لا يعرف هذا البيت ؟
فكلما ضاقت على الخليقة ذات زمن سُبل عيشها , وتقاذفتها المحن بين دفتيها , تجد البشرية نفسها تتمسك في أمل يخبئه الغد , فلو تخيلنا ذلك الياباني في هيروشيما أو ناجازاكي , والذي عايش كارثة لم تشهد لها البشرية مثيلا في حجم الأسى والعبث البشري , وكأنه وجد نفسه فجأة في وسط جهنم التي كان يقرأ عنها , فلنتخيله وهو ينظر عن يمينه ويساره ولا يرى إلا أبشع صور الموت والدمار , ورأى مالا يمكن أن يتصوره عقل بشري من بشاعة الإنسان نحو أخيه الإنسان , هل كان يدور في خلده أن يرى العالم جميلا مرة أخرى ؟
لا شك أن أنقى العقول خيالا لا يمكن لها أن تستحضر مشاعر ذلك الياباني بشكل أقرب للحقيقة , فنحن نجلس أمام الشاشة وربما نعيش لحظات تصور تلك المشاعر عبر فلم ما , ونغرق في مشاعر هائلة من الدهشة والغصة لما نراه من بشاعة لا نتصور أن نعيشها ذات يوم , فالأبخرة السامة واللحوم المتقطعة والأشلاء البشرية ترسم لوحة مأساوية لعبث الإنسان على مساحة من الأرض ينبغي أن تكون مسكنه وملاذه ومرتع للعب أطفاله , تشاركه الأرض نقاء هوائها وجمال سمائها ورقة نسيمها , وتراقص أشجارها , وصوت أمواجها , وروعة جبالها , كيف تختفي تلك السمفونية الخلابة التي صاغها الرب للبشر لتحل محلها تلك البشاعة التي لا يقدر الإنسان على تصورها أو الإحساس بها إلا لمن عايشها ؟
لا شك أن هناك عدد لا يحصى من تلك الحالات البشعة التي عاشها الإنسان عبر تاريخه الطويل وعبر كل أرض وفي كل زمن , وفي حاضرنا ربما تقتحم خيالاتنا بعض المدن السورية مثلا , والتي كانت مدنا حالمة تغرق بين خرير المياه وتراقص الأشجار , وتناغم النسيم مع روح الإنسان , فكيف نراها بعد كل ذلك الدمار والبشاعة التي تطالعنا عليها وسائل الإعلام كل يوم ؟
ربما فرضت صورة هيروشيما ونجازاكي وجودها على المشهد كأبشع لحظات تغير يشهدها المكان والزمان , فما هي إلا دقائق معدودة واختصرت تلك المدينتان تاريخ البؤس والبشاعة الإنسانية , لتتحول تلك اللوحات الجمالية من تناغم وديع مع الطبيعة والبيئة والإنسان , إلى أتون جهنمي قلب المشهد الجمالي الرباني إلى قطعة من جهنم في ثواني معدودة , كانت رسالة إلهية لذلك الإنسان الذي (قتل كيف قدر) ليعيش تلك اللحظات الفاصلة بين النعيم والعذاب في ثواني معدودات , لقد عايشها وصورها وصلبها على صفحات التاريخ , لربما حركت في عقله المغرور شيئا من الحكمة والخوف من ضياع النعم , ولكنه تجاوزها كما تجاوز عشرات الكوارث التي تسبب فيها ورعاها وخلقها وعايشها , ثم انتقل من كارثة إلى أخرى وكأنه لم يتألم ولم يبكِ , ويقتل وينشر التعاسة ذات يوم , كلنا يدرك أن تلك القمبلتان تعتبر أداة بدائية اليوم , فما أعده ذلك الإنسان من أنواع الموت والدمار لم يعد يمكن تصوره كما وكيفا , ومازال يهدد ويتوعد وينتج المزيد منها بما يكفي لفناء الأرض عشرات المرات , فما الذي ينتظره هذا المخلوق العبقري ليفني الأرض التي يعيش عليها ؟
البشر اليوم ربما يمتلكون من أدوات الدمار ما يكفي لتدمير المجرة كاملة وليست الأرض وحدها , وكلما أشرقت شمس يوم زادت تلك الأدوات تراكما وقوة من جميع النواحي , فهل ننتظر مجنونا يبدأ الضربة الأولى ؟
هي كارثة لن يسلم منها أحد , بل أن أول ضحاياها هم أصحاب ترسانات الموت تلك , فهم المالكون لأدوات الفناء , وحريصون على تسليط نيرانها على أنفسهم قبل غيرهم , ولا يملك من بينهما من الضعفاء سوى مشاركتهم الشرب من تلك الكأس المميتة , سواء رغبوا في ذلك أم لم يرغبوا , ومن المؤكد أن شبرا من الأرض لن يسلم من تلك النار النووية الحارقة .
وبالرغم من هذا الستار الكئيب الذي تلقيه علينا وسائل الأخبار صبح مساء من حروب ودمار وفناء للبشر وهلاك للمدن وبؤس يكتوي به الناس , نعود لنفتح صفحات الذكريات لذلك الياباني الذي خرج من جحيم هيروشيما و ناجازاكي , وبعد الفاصلة الزمنية الأولى من مشاهدته لذلك الجحيم , ربما لن نجد في ذاكرته إلا البؤس والإحساس بنهاية الكون , وبداية لمرحلة من العذاب والجوع والخوف والفقدان وما لا نهاية للأسى , وربما في صورة أخرى نجده ينظر فيما حوله ويتمتم " هي لحظات وتنتهي" , وربما تنطبق تلك الصورة على الكثير ممن يعانون اليوم كما عانى غيرهم بالأمس من شعور السقوط في النهاية , والاستعداد لمرحلة الشقاء والنعاسة الأبدية , ولكن التاريخ يكتب بين صفحاته أن أسوأ تلك الصور تنتهي لتحل محلها صورا أجمل ذات يوم , وربما تعود تلك الصور الجميلة لتنتهي بمآسي أخرى لتعود ذات يوم جميلة , إنه التاريخ لا يحب المكوث طويلا عند حدث , وعجلته في حركة دائمة , ولا ثبات لصوره ولكنها تتجدد ولا تطلب من بني البشر إلا أخذ الدروس والعبر للوقاية من السقوط في حفره العميقة والعديدة .
إن النجاة من أسوأ مزالقنا ومحاولة استحضار الطمأنينة في أحلك المواقف , هو الأمل في الغد الأفضل , فكم من كارثة صنعها الإنسان أو صنعتها البيئة أو الطبيعة بإرادة الله سبحانه وتعالى تسببت في كمٍ هائل من التعاسة للبشر , ولكن الأيام كانت كفيلة باضمحلالها وطي صفحاتها , وكم من الأوبئة والأمراض التي اجتاحت البشر ذات أزمان عديدة وحصدت ما حصدت من الأرواح ثم طوتها صفحات الأيام لأن البشر مازالوا يعتقدون أن الأمل باق في حياتهم لتجاوز تلك المحن , فكلما تجددت الكوارث والمحن والأوبئة تطويها الأيام بقوة الأمل الذي جعله الله حبل النجاة من تقلبات الدهر .
لولا الأمل عند الكوارث بغد أفضل لضاقت الحياة بنا , ولولا الأمل في لحظات الحزن لانكسرت قلوبنا واعتراها الصدأ , ولولا الأمل بعفو ومغفرة من الله لجرنا اليأس للكفر المبين , ولولا الأمل بأن الله مع المستضعفين لداستهم أقدام الجبارين , ولولا الأمل برحمة الله , لقنط الناس من رحمته تعالى :
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53] .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف