الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/26
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

تشكيل التراث الشعبي في رواية "صفحات من سيرة المبروكة" لمحمد نصار

تاريخ النشر : 2020-06-06
تشكيل التراث الشعبي في رواية "صفحات من سيرة المبروكة" لمحمد نصار
تشكيل التراث الشعبي في رواية "صفحات من سيرة المبروكة" لمحمد نصار.

بقلم د. عبد الرحيم حمدان

 يمثل التراث بمصادرة المتنوعة مورداً خصباً, ومعيناً دائم التدفق بإمكانات الإيحاء ووسائل التأثير؛ لما يحويه من فكر إنساني, وقيم فنية خالدة, ومبادئ إنسانية حية؛ "لأن عناصر هذا التراث ومعطياته لها من القدرة على الإيحاء بمشاعر وأحاسيس لا تنفد، وعلى التأثير في نفوس الجماهير وعواطفهم، ما ليس لأي معطيات أخرى يستغلها الشاعر, حيث تعيش هذه المعطيات التراثية في أعماق الناس، تحف بها هالة من القداسة والإكبار؛ لأنها تمثل الجذور الأساسية لتكوينهم الفكري والوجداني والنفسي"( ). 

 ويشكل التراث الشعبي رافداً مهماً من روافد الأدب الفلـسطيني، إذ اسـتمد الأدباء من حكاياته وأغانيه وأمثاله وتعبيراته ما مكَّنهم مـن اسـتغلال طاقاتـه الدلالية، واستلهام معطياته المعروفة. 

 ويقرِّب توظيفُ هذا التراث في الأدب المبدعَ من الجماهير، بحكم صـلته الوثيقة بهم؛ لأنه - أصلاً - تعبير عن روح الجماهير، ونبضهم ووجدانهم. 

   يختار الأدباء من التراث الشعبي العناصر المتوهجة، التي تعبر عن رؤيتهم، وتتواءم مع تجاربهم الإبداعية، بحيث تصبح مكوناً أساسياً من مكونات العمل الأدبي، منـسابة فـي كيانـه، وليست مقحمة عليه، كما يستطيع الأديب أن يعيد بلورة وتشكيل معطيات التراث الشعبي لتتفق مع رؤيته ولإثرائها بدلالات جديدة(  (.

لقد تعمد الاحتلال الصهيوني محاربة التراث العربي الفلسطيني، والقضاء على ما يتضمنه من عناصر ثقافية تؤكد أصالته ومكانته من التاريخ والحضارة، وقد أدرك أدباء فلسطين هذه الأهمية للتراث الشعبي، ودوره الفاعل في إيقاظ الشعور الوطني والقومي وإبقائه حياً، لهذا كان اتكاؤهم على هذا التراث؛ الأمر الذي كفل التجاوب الأوسع مع أدبهم، وقدم شهادة على الاعتزاز بالموروث المشترك( ). 

يعد الكاتب محمد نصار( ) من الأدباء الفلسطينيين الذين شيَّدوا علاقة متينة بالتراث، وأكثروا من استلهامه، ومَدُوا جسوراً متينة معه؛ الأمر الذي أكد أن عمله هذا لم يكن عملية عشوائية اعتباطية، وإنما هي عملية واعية ومدركة لكنوزه المعرفية، وحقوله الدلالية، وما يحمله من ثقافات شعبية، وخبرات جماعية، وصيغ تعبيرية قادرة على الإثارة والتشويق والنهوض بالعمل الفني ومنحه عمقاً دلالياً، وأصالة فنية وإقبالاً شعبياً وأبعاداً حضارية( ). 

فالأديب محمد نصار مسكون بتسجيل الذاكرة الشعبية، ومشغول بإحياء تراثنا الشعبي وبعثه؛ لأن هذا التراث يمثل ذاكرة الفرد والجماعة في قرية من قرى فلسطين؛ لذا عمد إلى توظيف معطيات التراث الشعبي التي اكتسبت صبغة فلسطينيتيه محلية بفضل هذا التوظيف الفني للتراث الشعبي دون أن يفقدها هذا التوظيف مكانتها في الوسط الأدبي، فالطابع المحلي في أي عمل فني أصيل لا يحول دونه ودون الانتشار القومي والعالمي، بل – ربما- زادته هذه المحلية أصالة، وبعداً إنسانياً أرحب.

أما رواية المبروكة، فهي متوالية روائية تتكون من ثلاث روايات تبدأ برواية(صفحات من سيرة المبروكة)( )، تليها رواية (سوق الدير)( )، والرواية الثالثة (ليل المخيم)( ). 

تحمل رواية (صفحات من سيرة المبروكة) اسماً مستعاراً لقرية من قرى جنوب فلسطين, تعيش على هامش مدينة غزة, يعتمد أهلها أساساً على الإنتاج الرعوي والزراعي الموسمييْن، وقد" تأسس وعيها الجمعي على الإيمان الفطري والموروث القيمي والهجوع أمام قوى الطبيعة الفاعلة في الإنتاج الرعوي الزراعي الموسمي الذي يعتمد كليا على مياه الأمطار"( ).

تعرض الرواية تفاصيل مسهبة عن حياة قرية ريفية وادعة في الفترة التي عالجتها من أواخر العهد التركي إلى قبيل النكبة (1948م)، ويشي دال (المبروكة) بمحمولات دلالية ثرة, فالقرية مبروكة؛ فهي بلدة الخير والبركة والمحبة، نَعِمَ أهلها بالأمان والخير حقباً من التاريخ، وساد بينهم الود والتلاحم, ويبدو أن الروائي يروم من وراء هذه التسمية القول: بأنها أرض مباركة تحمل دلالات منفتحة، فهي ترمز لكل قرية من قرى فلسطين، وربما رمزت لفلسطين بأسرها، باركها الله من فوق سبع سموات، فهي تحمل دلالة القداسة والطهر، بجانب أنها تفيض بالبركة والخير العميم على أهلها وعلى القرى التي تجاورها. 

حاول الخطاب الروائي إنجاز صورة بانورامية روائية لشخصية القرية الفلسطينية بعناصرها التقليدية والمتوارثة. إذ اهتمت الرواية الفلسطينية اهتماماً واسعاً برصد صور الحياة في مكانها الروائي وتسجيله على نحو جعل منها عملاً روائياً قادراً على التعبير عن واقع القرية تعبيراً فنياً, وأبعدها عن التحول إلى أن تكون مجرد تاريخ للواقع، فثمة صور ومشاهد نقلتها الروايات تعبر من خلالها عن مكونات الوعي الجمعي الفلسطيني من عادات القرية وتقاليدها وطبيعتها ومواسمها وأغانيها وأفراحها وأتراحها( ).

تعددت المنابع التي استدعى منها الروائي إشاراته الشعبية في رواية (صفحات من سيرة المبروكة) وتنوعت مضامينها،  وتقف هذه القراءة عند أهم المكونات الشعبية في الرواية: كالحكاية الشعبية الخرافية، والأغنية الشعبية، والمثل والعبارات الشعبية، والمعتقدات والعادات والتقاليد، وعند طريقة توظيفها في روايته للتعبير عن قضايا وطنية وإنسانية، والكشف عن أبرز دلالاتها وأبعادها الفنية، وسيتم تناولها بالدرس والتحليل على النحو الآتي:

أولاً – الحكاية الشعبية:

 تعد الحكاية الشعبية من أهم فنون الأدب الشعبي وأكثرها شيوعاً؛ لما فيها من خصائص فنية واجتماعية ممتعة ساعدت في انتشارها بين أوساط الناس، وتعرف  الحكاية الشعبية بـــ" أنها الخبر الذي يتمثل بحدث قديم ينقل عن طريق الرواية الشفوية من جيل إلى جيل( ).

   ولم تتعدَ الخرافة في المجتمع الفلسطيني القصص البسيطة ذات الكلام العادي في بعض الأحيان، بيد أنها كانت تحتوي على عدد  من عناصر التشويق والإثارة.

ومن الحكايات الشعبية التي أوردها الكاتب واستقى مادتها الأصلية "الهيولي" من حكايات شعبية تراثية، حكايةُ الضبع الخرافية، وكان للخيال الشعبي نصيب وافر في بنائها، وهي خرافة مشهورة في فلسطين، جاءت بسيطة في بنائها الفني؛ لبساطة من يقوم بروايتها، وهي تختلف من راوٍ إلى آخر.

 والمعروف في التراث الشعبي عن الضبع أنه يبول على ذيله، ويرشق به طريدته من بني البشر، فيسلبه إرادته وقواه العقلية فيتبعه مستسلماً منادياً:" ياما.. يا ابا.. يا أخوي.. وقّف لي"، ويكرر هذه العبارة عير مرة، وهو يركض خلف الضبع؛ حتى يبلغ المغارة، فيفترسه داخلها، يصف الكاتب حكايةُ (أبي يونس والضبع) الخرافية، فيقول: 

"دارت على الألسنة حكايا الضبع الذي يقطع الطريق على الآتين من خارج البلدة .. يكمن لهم بقرب الوادي , ثم يستفرد بمن ضلت خطاه.. يرشه بالبول فيضبعه, لم أفهم المغزى وحين سألت أبي قال : يضبعه .. يعني أن يسلبه إرادته .. أن يجعله تبعا له وفي أحيان كثيرة يهيئ للمضبوع بأنه يتبع أمه أو أباه, وربما يناديهما بالاسم , ثم يقتاده إلى مغارة في سفح الوادي حيث تكون نهايته .."( الرواية ص 44) .

   المتأمل في حكاية الضبع يجد أن حضور هذه الحكاية الشعبية في فضاء النص الروائي بهذه الكيفية يفرض مستويين من التلقي: مستوى حقيقي واقعي، ومستوى ترميزي

 أما المستوى الحقيقي الواقعي، فيتمثل في افتراس الضبع لـ (يونس) ابن الشيخ مسعود، وقيام أبيه الشيخ ذي الستين عاماً بما يمتلك من شجاعة وجرأة بالانتقام من الضبع وقتله، وتقطيع جثته أمام أهل القرية،  

وجاء أسلوب سرد الحكاية الشعبية باللغة السهلة التي تشبه في سلاستها وتدفقها لغة السارد في الحكايات الشعبية والعربية ، فضلاً عن اهتمامها بالتركيز على ذكر التفاصيل الدقيقة بما يتوافر فيها من إدهاش وإثارة؛ ليؤكد للقارئ حقيقة تلك الحادثة ومصداقيتها.  وقد تنوعت مواضيعها بين تصورات الناس عن بعض الظواهر الطبيعية والنفسية، والتقرب إلى الأولياء الصالحين، وتفسير الأحلام؛ أي ارتبطت بكل ما هو موجود في العالم الخفي، وليس هذا فحسب، بل حظي الطب الشعبي – أيضاً- بنصيبه منها، يقول الراوي واصفاً حادثة مقتل الضبع:

"يومان وعاد الرجل يجر الضبع جثة هامدة.. تحلق الناس حوله مذهولين .. لم يصدقوا أن شيخا في الستين من عمره يقدر على فعل ذلك ، غير أن البعض أبدى تفهمه، معللا ذلك بما في الانتقام من قوة، تدفع صاحبها إلى ما هو أبعد مما حصل مع الشيخ، ترجل الشيخ عن فرسه.. تدافع الناس لتهنئته .. أشار عليهم بالانتظار قليلا ، ثم أشهر سيفه .. رفعه إلي ما فوق رأسه وهوى به على عنق الضبع ففصلها عن جسده .. كبر الناس فرحين .. تكرر الأمر مرة وأخرى ، إلى أن أصبح الضبع قطعا متناثرة ، صاح فيهم بنشوة مجنونة : ارموه للكلاب و قيموا العزاء" (الرواية ص٤٧، 48).

وتشير الروايات إلى أن مَنْ يقتل ضبعاً يعد بطلاً في نظر أهل القرية وأبناء عائلته وعشيرته، ويتعدى محيطها؛ كي يعلم القرى والبلدات المجاورة أن فلاناً ابن فلان قتل ضبعاً؛ ولكي تُروى عنه الروايات، وتتداول بطولاته على الألسن؛ ليغدو قاتل الضبع بطلاً أسطورياً، ومن يومها سُمِّي الرجل أبو يونس بـ (الضيع)، وسميت عائلته إلى الآن بـ (عائلة الضبع)، إذ التصق الاسم بهم في دوائر القيد والنفوس؛ لأنه جدهم قتل الضبع وخلص القرية من شره، يقول الراوي:

"اختلف الناس في رواياتهم، لكنهم اتفقوا على شيء واحد وهو اللقب الذي حمله أبو يونس، الضبع حل محل العائلة، كان الأمر مثار فخر في البداية، لكنه أصبح حملا على من جاءوا من بعدهم .. لم يستسيغوا التسمية .. لم تعنهم بطولة جدهم بشيء ، بل رأوا فيها عارأ يطاردهم .. فإن كان جدهم من قتل الضبع، فإن خالهم من أكله الضبع، وهذا في رأيهم أشد وأنكى، لكنهم ظلوا أعجز من أن يغيروا واقعاً ضرب أطنابه حولهم واستكانوا له"( الرواية 50).

 ولإبراز رغبة الكاتب في تأكيد أن حكاية الضبع حكاية واقعية حقيقة عمد إلى تطعيم حكايته بذكر حكاية أخرى عن الضبع وطرائق افتراسه للناس مستخدماً تقنية تناسل الروايات وتوالدها؛ لتسجيل أوسع مساحة من السرد الشفوي في الرواية وأرحبها، فذكر قصة (خديجة) التي (ضبعها) الضبع الذي يتردد إلى عين الماء في القرية، وكاد أن يفترسها لولا أن تداركها أهلها في اللحظة الأخيرة، وأنقذوها من براثنه دون أن يتمكنوا من اللحاق به، يقول الراوي: 

"... حَدَّق (ابوها) في العتمة, فلمح الضبع عائداً من عين الماء .. كان يركض بضع خطوات , ثم يتريث قليلاً ويلتفت إلى الوراء، تأكد الرجل أن ما يراه ضبعا وليست خيالات.. صوت الصراخ المقترب بدا أكثر وضوحاً.. اندفع الرجل نحو الفتاة .. أمسكها .. تفلتت منه .. ظلت تصيح بملء فيها: يا با والرجل يضمها إليه وهو يردد بهلع: أنا أبوك .. أنت معي، والفتاة تتفلت موجهة أنظارها صوب الضبع المتربص على مقربة من المكان.. خرج أهل البيت على صوت الصراخ .. تدافعوا متسلحين بعصيهم وسيوفهم .. صاح الرجل حينها: الضبع .. اقتلوه .ركضوا إلى حيث أشار، فكان الضبع أسرع منهم .. حاولوا اللحاق به، فلم يحظوا بغير ضراطه، رموه بالطوب، وعادوا يجرون ذيول الخيبة.. حملوا الفتاة التي مازالت تصرخ وتتفلت محاولة اللحاق بالضبع" (الرواية ص45 ). 

وقد عرف عن الكاتب شغفه البالغ بعوالم الحكايات الشعبية وتقنياتها السردية القائمة على توالد الحكايات وتناسلها( )، ففي الرواية توالدت حكاية (خديجة والضبع ) من رحم الحكاية الأصلية الكبرى، حكاية (يونس والضبع)، ودارت الحكاية الفرعية الصغرى في فلك الحكاية الأصلية، وارتبطت معها بعلاقة توضيحية داعمة للحكاية الأصلية.

ولما كان الضبع في الذاكرة الشعبية شيئاً مخيفاً له قدرات خرافية، ولا يمكن للشخص الذي يسحبه الضبع أن يؤوب إلى رشده إلا إذا سال منه الدم نتيجة ضربةٍ يتلقاها من شخص أو جرح من حجر أو شجر أو شوك، ولذلك يجد المتلقي أن أبا خديجة جرحها بالخنجر وسال الدم من جبهتها فاستفاقت، يقول الراوي:   

 قال الأب : هاتوا خنجراً . 

فارتسمت علامات الدهشة على الوجوه .. صاح مكرراً الطلب ، فاستل أحدهم خنجره وأعطاه.. وخز به جبين الفتاة .. سالت قطرات من الدماء ، فسكتت .. راحت تحدق في الوجوه من حولها بذهول ، زاد من مثيله على الوجوه المقابلة .(الرواية ص 45).

أما المستوى الترميزي، فمن المعلوم أن الحكاية الشعبية تحتوي على عدة رموز مهمة ، إذ عادة تُستخدم الرموز للدلالة على أفكار ومعانٍ تختلف عن المعاني الحرفية، وتكون أكثر عمقاً وأهمية،  فقد أضفى الكاتب على الضبع رمز الشر والقتل والمخاتلة وغرس الرعب والخوف في النفوس، وانفتح الرمز عنده؛ ليأخذ أبعاداً رحبة، فالضبع الآدمي هو (الميجر) الإنجليزي قائد  الكمب، والخواجا (يعقوب) مختار الكوبنية (المستوطنة اليهودية)، واللذان منعا أهل القرية من رعي أغنامهم بالقرب من كمب الإنجليز، وحرموهم من مصدر رزقهم الأساسي، يقول الراوي على لسان الخواجا يعقوب في حوار مع الرعاة من أهل القرية:  

- اسمعوا يا شباب, من اليوم وطالع لا رعي ولا مرعى في هذا المكان .

- ليه ؟ 

- أوامر الميجر . ( الرواية 41).

ويكرر مختار القرية في موضع آخر القول على لسان الميجر الإنجليزي:

" لا مرعى بعد اليوم قرب الكمب"( الرواية ص٥١(.

 ويتسع الرمز عند الكاتب الذي أخذ يعقد مقارنة بين الضبع الحيواني والضبع الآدمي وموقف أهل القرية منهما، ويطرح تساؤلاً بحاجة إلى إجابة، هل يستطيع أهل القرية أن يتخلصوا من الضبع الآدمي كما تخلصوا من شر الضبع الحيواني؟؟

ظل السؤال مفتوحاً يحتاج إلى إجابة؛ حتى اتضحت قدرة الميجر على المخاتلة والخداع، وإقناع الناس بترك مهنة الرعي والعمل في الكمب، يقول الراوي على لسان المختار مخاطبا أهل القرية:   

" وعدني الجنرال خير، تعهد قدام إخوانكم بتشغيل خمسين منكم داخل الكمب، ونفس العدد من النسوان إن شئتم"(الرواية ص ٥١ ، 52). 

ويبدو أن الكاتب استعان بالحكاية الخرافية؛ لتصوير الواقع والتعبير عن الراهن المعيش، وأنه في  تعامله مع الحكاية الخرافية، لم يقلد التراث أو ينسخه، ولم يطابقه، وإنما كتب نصاً جديداً، حاور فيه النص القديم وتجاوزه، وامتلك رؤية خاصة، تنبع من ضرورات هذا الواقع. 

لم يقف الكاتب عند مفردات الحكاية الخرافية التي ملخصها في التراث الشعبي: أن الضبع يخدع فريسته الإنسان، بأن يضربه بذيله" فيضبعه"، فيشرع يجري وراءه إلى مغارةٍ في جبل، وهناك يفترسه،  ولكن الضبع وإن كان نجح في افتراس (يونس) ابن الشيخ مسعود، فإنه لم ينجح في افتراس (خديجة)؛ ليقظة أهلها، إنها حكاية مسرودة بطريقة مغايرة قليلاً للحكاية الأصلية، على مستوى الشخصيات والنهاية، ومحملة بالدلالات والرموز، على مستوى السارد، وعلى مستوى الشخوص، وعلى مستوى الوحدات السردية.

ويمكن للمتلقي أن يستنتج مما سبق أن الكاتب أجرى تغييراً على الحكاية الأصلية على مستوى الأحداث، وأن هذا التغيير أدى إلى إنتاج دلالة مفارقة لدلالة الحكاية الأصلية، وموافقة لطبيعة الواقع الذي ترصده الرواية.

ثانياً - الأغنية الشعبية:

تعد الأغنية الشعبية أحد عناصر التراث الفلسطيني، وهي شكل من أشكال التعبير في التراث الشعبي وهي صورة معبرة عن المشاعر الاجتماعية والوجدان الجمعي للشعب، إذ إنها ترتبط بأحاسيس الناس، وتتواصل مع مشاعرهم؛ وهي تعكس أصالة الشعب وتجسد قضايا المجتمع المعيش، ورسالتها حمل أصالة هذا التراث وترسيخ هويته الوطنية.

تحفل الأغنية الشعبية بعدد "من الظواهر الاجتماعية المختلفة وهي أصدق من الشعر الفصيح في التعبير عن هذه الظواهر لقربها من المجتمع الشعبي من ناحية؛ ولأنها ترتبط في تعبيرها عن مناسبات متعددة بالعادات والتقاليد والعرف الاجتماعي الشعبي مباشرة" ( ).  

ولا شك في أن الوقوف عند بعض نصوص الأغنية الشعبية التي وظفها الروائي محمد نصار، سيبين أنها من الظواهر الأسلوبية والبنائية ومن الصور اللغوية المختلفة في نصوصه الروائية. 

فمن الأغاني التي جاء توظيفها في الرواية توظيفاً جزئيا، أغنيةٌ رائعةٌ يقول الراوي واصفاً غناء أحد شباب القرية(ابن فهيمة):"... عندما أدرك أن الفتيات بدأن بالورود على عين الماء القريبة .. اعتدل في جلسته ورفع عقيرته( ) بالغناء، وأخذ يردد غناء شعبياً:

                  مع طير السما لبعث سلامي

                 للي سهـرني وطيّـــــــــر منـامي

                  دخلك يا ولف ظلك قدامي

                  تيموت العدا أو يرحــلونا  ( الرواية ، 8).

 يصور المقطع السابق الحالة النفسية التي آل إليها (ابن فهيمة)، والتي عكست صراعاً قوياً بين طموحاته وأحلامه، وبين واقعه المرير بسبب همومه العاطفية ومشكلاته التي يعانيها في القرية، فقد كان هذا وصفاً قريباً من الواقع يسعى "الكاتب" من ورائه إلى وصف وضع اجتماعي واقتصادي في عهد الحكم التركي. 

 تعد الأغاني الشعبية جزءاً رئيساً من تراثهم الشعبي، فالغناء تعبير صادق عن العاطفة، يعبر فيه المغنى عن الوجدان الجمعي, وكثيراً ما تكون كلمات الأغنية أو الموال مستوحاة من واقع المجتمع الفلسطيني المعيش؛ ونظراً لكون أهل قرية المبروكة ريفيين، فقد انعكست في أغانيهم مفردات ودوال تدل على حياة القرويين( ).

 وهكذا, أبدع الشعب الفلسطيني أغانيه الشعبية بلغته الدارجة الناعمة المستمدة من واقـع حياتـه المليئـة بالأحداث، والمعبرة عن أفراحه وأحزانه وحالات انتصاره وانكساره، وعن عمق تجاربه وتفاعلاته مع الأحداث التي مرت به، وعن أصالته وهويته الوطنية، وكذلك عن ذوقه العام، فالأغاني الشعبية "لا تعرف لها مؤلفا، وإنما تتغنى بها الجماهير الشعبية ( ) .

 إن هذه الأغاني الشعبية ما هي إلا ثمرة للبيئة المحلية وأهازيجها الشعبية في مواسم البيادر أو مناسبات الأفراح، وقد تأتي أحيانا ترويحاً عن النفس، وابتهاجاً بالمناسبة الحلوة، وقد تأتي للتوجع والذكريات المؤلمة أحيانا أخرى.

 وفي موضع آخر يذكر الكاتب الأغنية الشعبية التي يرددها أهل القرية عند استقبال الأحباب الغائبين، يقول الراوي على لسان ابن فهيمة الذي يرحب بعودة أخي المختار 

أهلا وسهلا باللي جاي …. 

صبوا القهوة وصبوا الشاي

 أهلا وسهلا بالأحباب …… 

طاب الملقى بعد غيـــــاب           ( الرواية ص 79 ).

     ويوظف الكاتب الموال الشعبي، وهو لون من الغناء الشعبي الشائع في المجتمع الفلسطيني، يقول على لسان ابن فهيمة:

" أوف يا قلب من ظلم الخوالي

 وعشق الحسن وسهر الليالي .. 

قلت لك يا قلب خليني لحالي

ولا تشمت بي العـــــــــــــــدا .

صدحت الزغاريد من جديد، وتعالت صيحات الإعجاب بالتهليل والتصفيق، ملهبة جذوة الحماس التي استعرت بعلي( ابن فهيمة)، فأعاد الكرة مرة أخرى: 

إحنا اللي زرعنا الصحرا دوالي، 

وبنينا فيها قصـــــــور بالعالي،

 وعشانك يا ولف قتلنا الوالي، 

ولو كان الحكم حبل المشنقة " . ( الرواية ص 22 ).

لقد أكسبت الأغنية الشعبية الرواية بعدها المحلي على الصعيد الجمالي الفني، فضلاً عن كونها ساهمت في بناء النص الروائي، وفي إضفاء مسحة شعبية عليه.

ويعزف ابن فهيمة على وتر الفرح والسرور موالاً شعبياً آخر بمناسبة شجاعة أبي يونس وجرأته وقتله للضبع:

 "ومن بعيد كان يصل إلى مسامعه( أبو حسين) صوت أحد الرعاة العائدين بغنمهم وهو يصدح بالغناء منتشياً :

 غنى الحادي وقال بيوت .. بيوت غناها الحادي ..   

  طل السبع بالبارود والهجمة ع الأعادي"  ( الرواية ص 48 ).

ومن الأغاني الشعبية التي تتردد في الأعراس لاسيما في مناسبة حمام العريس وزفته قولهم:

"عريسنا دخل الحمَّام.. دخل الحمام عريسنا.. 

عريسنا عنتر عبس .. عنتر عبس عريسنا "  ( الرواية ص 102 ).

ومن الأغاني الشعبية التي شاعت على ألسنة النساء في الأعراس والتي تأتي ممتزجة بالأهازيج والزغاريد ما أوده الكاتب من أغانٍ شعبية في قوله:

من هو قايدنا.. من هو دليـــــلنا             أبو حسين قايدنا  وحسين دليلنا 

جبنا الكسوة يا ناس لفات لفات ..            للحلوة ست الكل زينة البـــــنات    ( الرواية ص 154).

وفي موضع آخر ينقل الكاتب مقطعاً غنائياً تردده النسوة في الأعراس، يقول:

" تراجعت النسوة .. دخل المختار ومن خلفه والد العروس وأخوتها، يتبعهم عدد من أعمامها وأخوالها، جاءوا جميعا لنقوط العروس، فاستقبلتهم النسوة بالدور المعهود في هذه اللحظة :

          عدي رجالك عديها يا نشميه ..       رجالك صاروا قدامك ألف وميه "   ( الرواية ص 186).

إن اشتغال الكاتب بتسجيل الذاكرة الشعبية في القرية ومن بينها الأغاني لدليل قوي على حرصه على أداء رسالته الوطنية في الحفاظ على هذا التراث من الضياع أو التغيير أو السرقة أو الطمس على أيدي الأعداء الصهاينة.

جاء توظيف الروائي (محمد نصار) لأغنياته جزئياً؛ لأنه لم يضمن الأغنية كاملة في نصه الروائي؛ بل عمد ليعبر به عن ظرف نفسي لأحد شخصيات الرواية، ويلحظ المتلقي- أيضاً- أن الروائي قد أبقى على لفظ الأغنية العامي (الدارجة)؛ حتى يحافظ على دلالتها الإيحائية وطاقتها التعبيرية؛ لأن الأغنية في الأصل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالذاكرة الجمعية الشعبية، فالروائي له معرفة بالمعاني التي تحملها الأغنية الشعبية وبمدى التأثير الذي تحدثه في الملتقى، إضافة إلى ذلك جاءت معظم توظيفاته للأغاني الشعبية على شكل مقاطع تتنوع بين الأغنية تارة والموال القصير تارة أخرى، تماشياً مع ما يخدم أحداث الرواية وما يعكس بوضوح حضور التراث.

المتأمل في الأغاني الشعبية السابقة يجد أن الموال الشعبي يتسم بسمة المرونة التي تساعده على الديمومة؛ لذا يظل محفوراً في ذاكرة الناس ويتعدل باستمرار لمواجهة الأنماط المتغيرة.

وبنظرة متأنية يدرك المتلقي أن غنى النصوص الروائية بالمقاطع الشعبية أكسبها ثراءً دلالياً وايحاءً جمالياً، لقد استطاعت هذه الأغاني الشعبية بفعل ما تتوافر عليه من قدرات إبداعية خلاقة من أن تمتزج بنسيج الخطاب الروائي، وتصبح بفعل مرونتها مكوناً جوهرياً من مكوناته، وأن تلونه بلغتها الخاصة التي تمتاز بشعريتها ودلالتها المكثفة.

ثالثاً - الأمثال الشعبية:

تشكل الأمثال والحكم نمطاً من الأنماط التعبيرية التي تتخلل النصوص الروائية، وتحضر في سياق السرد والحوار المتبادل بين الشخصيات، وقد شغلت الأمثال والحكم حيزاً واسعاً في الخطاب الروائي عند الكاتب (محمد نصار) بشكل لافت للمتلقين.

وتمكن الكاتب من الإفادة مما يتوافر عليه المثل من طاقات رمزية، وشحنات بلاغية؛ الأمر الذي أضفى على الخطاب الروائي مساحة جمالية من خلال تنوع مواضيعها وتشعبها والتي تضمنتها حسب مجالات الحياة العامة للناس.

تنوعت موضوعات الأمثال والحكم التي استدعاها الكاتب وتعددت مضامينها ما بين أمثال عامية، وأمثال أخرى فصيحة، وجميعها مستوحىً من البيئة الريفية القروية، وبخاصة من حياة قرية المبروكة، وجاءت لتؤدي أغراضاً فنية أو فكرية، إلى جانب كونها" تؤدي وظيفة أسلوبية وموضوعية، يراها المؤلف ضرورة أو مناسبة أو منسجمة مع السياق الذي يقدمه"( ). 

ففي سياق التنويعات اللغوية يعمد الكاتب إلى استدعاء جملة من الأمثال العربية الفصيحة، والأمثال الدراجة، والأقوال المأثورة، التي تتردد على ألسنة الناس؛ بوصفها وثيقة لخبر ما أو موقف معين، وقد تكون ردة فعل حاسمة ومعبرة إزاء الأحداث التي تواجه الناس، ومنها: 

"الصبر مفتاح الفرج"، "السكوت علامة الرضى"، "من لا يرحم لا يرحم "، "ما يمنع حذر من قدر"، "الحي أبقى من الميت"، "الأيام دول"، "إكرام الميت دفنه"، "الليل ما إلو صاحب"، "يخلق من الشبه أربعين"، "النهار له عيون" .

ومن الأمثال التي وردت باللغة الدارجة المحكية من قبيل: "كل ما حك الكوز في الحرة"،"يوم لك ويوم عليك"، ما عاش أبو قلب ضعيف، " اللي تزرعه بتجنيه"، "قبل ما تغيص قيس"، "اللى بتطلع فوق بتنكسر رقبته" ،"من المحال دوام الحال "، "وقف الحال وضاع المال"، "الكفر ملة واحدة"، "اللي ما ينفع مع العبد ينفع مع الله".

  ورد المثل الشعبي الأخير في أحد المشاهد الحوارية التي دارت بين الزوج أبي حسين وزوجه حليمة، صارحها ذات يوم معترفاً لها بحق زوجه قائلا : 

- أنت عظيمة يا حليمة .

- "اللي ما ينفع مع العبد ينفع مع الله" .

- ظلمتك يا حرمة. 

- ربنا يسامحك . ( الرواية ص  27).

ينفتح الخطاب الروائي في هذا الحوار على أحد الأمثال العامية الدارجة، وهو: "اللي ما ينفع مع العبد ينفع مع الله"، وقد جاء هذا المثل منسجماً مع السياق الروائي والرؤية التي يقدمها الكاتب، مبيناً موقف التسامح والمحبة بين الزوجين، والاعتراف من الزوج بحق زوجه. 

ويتجلى موقف الكاتب بوضوح عن طريق استخدام المثل الشعبي وما يحمله من دلالات سياسية من الواقع المعيش في المجتمع الفلسطيني آنذاك، إذ يوضح العلاقة القائمة بين الإنجليز وكلٍ من العرب واليهود بقوله:" عاملين بالمثل اللي يقول لاعبوا سعاد يا أولاد، إن ضربتكم سعاد، العبوا سوا يا أولاد، وإن ضربتم سعاد، هجوا وارحلوا من البلاد، لمّا اليهود يعربدوا الإنجليز ما معهم خبر، ولما العرب يدافعوا عن حالهم، غراب البين ساعتها يصيبهم من الإنجليز"( الرواية ص  195). 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن توظيف المثل الشعبي في العمل الروائي" يُحكى في العادة بطريقة تلقائية  تنم عن خبرة في تكثيف المعاني, وهو عنصر أساس في نسيج السرد، وعادة ما يزداد في البيئات الشعبية"( ). 

ومن الأمثال التي أخذت طابعاً سياسياً ووطنياً المثل القائل "وقع بين المطرقة والسندان"( ) ، وقد وظف الكاتب هذا المثل؛ ليجسد معاناة الناس في قرية المبروكة، والذين أخذوا يستشعرون مرارة الواقع الذي يعيشونه في ظل الانتداب البريطاني، والوجود اليهودي في المستوطنات المحاذية للقرية؛ أي أنهم وقعوا بين أمرين كليهما شر وسيِّئ بين أمرين أحلاهما مر،  فلم يعد بمقدورهم الاقتراب من حدود المستوطنة أو الرعي في الأراضي التي تحدها، وأن بعض الذين كانوا يعملون داخل المستوطنة قد تم الاستغناء عن عملهم.

وإذا كان الكاتب قد توسل المثل الشعبي الذي صيغ بلغة عامية دارجة للتعبير عن واقعه المعيش ورؤيته الإنسانية، فإنه في مواطن أخرى يستثمر أمثالاً مصاغة بلغة عربية فصيحة ترتقي في تراكيبها وصياغتها إلى مستوى الحكم والمقولات المأثورة، يقول السارد في حوار خارجيي على لسان الشيخ إبراهيم مع أخي مزيونة:

"- الرحمة واجبة يا يوسف "من لا يرحم لا يرحم " رد عليه الشيخ ابراهيم بشيء من الرجاء(الرواية ص 78 ).

أصل هذا المثل حديث نبوي شريف: "فعن أبي هريرة  قال: قبّل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبّلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم"(  ).

وبسبب إيجاز الحديث النبوي، وكثافة المضمون الفكري الذي يحمله غدا مثلاُ، فهو يحث على الشفقة والحنو والرحمة واللطف والإحسان، بعيداً عن القسوة في المعاملة، وهي جميعاً أخلاق حميدة يتحلى بها أهل قرية المبروكة، وعليه جاء المثل منسجماً مع سير الأحداث، ومتسقاً مع ثقافة الشخصيات ومعارفهم الدينية.

وهكذا اتضح للمتلقي من استخدام الأمثال والحكم أن أهم ما تتسم به أنها جمل موجزة، غنية الدلالات، تلخص خبرات حياتية، تصاغ في قواعد مطلقة ذات جماليات أسلوبية مؤثرة، وغالباً ما تأتي محملة بطاقات إيحائية وتعبيرية مكثفة. 

    أدرك الكاتب ما للمثل الشعبي من قيمة موضوعية وفنية؛ لما يحمله من دلالات رمزية وشحنات تعبيرية،       ساهمت إلى حد كبير في التخفيف من رتابة السرد، وعمقت من لغة الحوار الدرامي بنوعيه الخارجي والداخلي، محاولاً استثمارها بمهارة فائقة للتعبير عن أفكاره ومناقشة قضاياه. 

الواقع أن استلهام الكاتب النصوص الدينية والأدبية والأمثال يعد عنصراً أساسياً في البناء اللغوي لروايته، ومظهراً من مظاهر التعدد اللغوي فيه، فقد جلبت تلك النصوص معها بعض المعاني، وخلقت صلة بينها وبين العمل الجديد؛ الأمر الذي شكل تعزيزاً للغة في هذه الرواية، وإضافة جديدة لها.

رابعاً -  المعتقدات والعادات والتقاليد:

يقصد بالمعتقدات الدينية والشعبية ما كان يؤمن به أهل قرية المبروكة من أفكار ورؤى ومعتقدات دينية وشعبية. إن التفاصيل التي تطرق إليها الروائيون سواء في ذكرهم المعتقدات أو العادات والتقاليد أو المناسبات الاجتماعية المرتبطة بأجواء القرية وبيئتها أو طريقة القرويين وأحاديثهم كلها؛ تكاد تكشف عن وجود كتاب روائيين متغلغلين في واقع المجتمع ومشاعر الناس، عارفين بأجوائهم، وكأنهم يؤرخون لما أغفله التاريخ( )، وسيتم مقاربتها على النحو الآتي: 

1 – المعتقدات: وهي تشتمل على المعتقدات الدينية، والمعتقدات الشعبية على النحو الآتي:

أ -  المعتقدات الدينية: 

من المعتقدات الدينية التي كان يؤمن بها أهل القرية تعلقهم بالأولياء الصالحين، إذ إن القروي الفلسطيني يعتقد أن لهؤلاء الأولياء شفاعة عند الله – عز وجل – فيحاولون التقرب منهم، والتماس البركة عندهم.

ويتمثل نصيب أهل القرية من هذا المعتقد في إيمانهم بأولياء الله الصالحين، وما يمتلكونه من قدرات وكرامات خاصة مثل: إشفاء المرضى ودرء الخطر عن الناس، وهذا يرجع إلى بساطة الناس في التعاطي مع الحياة في القرية، من خلال شخصية أحد أولياء الله الصالحين وهو (المبروك).

 ويقصد بالولي في المعتقد الشعبي، ذلك الشخص الصالح الذي وهبه الله قدرات خارقة يتميز بها عن باقي البشر، نظراً لورعه وتقواه) )، وللولي تعاويذ خاصة به وكرامات، ودائماً ما يردد كلمة "حي" ، وهي مفردة غالباً ما يرددها الأولياء والدراويش. 

إن الموروث الشعبي القديم في فلسطين يزخر بحكايات غريبة تتناول أولياء الله الصالحين، ويتجلى ذلك في تعامل ولي الله (المبروك) مع الأفعى التي كمنت في حطب الفرن، فحرمت النساء من الاقتراب منه، يقول الراوي:

"...وقد سبق أن شاهدت المبروك ذات مرة وهو يحوط بالتلاوة والتعاويذ ، حول كومة حطب خلف دار أبي محفوظ ، اختبأت بداخلها أفعى ، فحرمت نساء داره من الاقتراب ناحية الفرن، إلى أن جاء المبروك وتمكن من إخراجها بلا عناء، حذر الصبية الذين تحلقوا حوله من الاقتراب إليها، أو قذفها بأي من الطوب الذي تسلحوا به ، بينما ظل يسوسها بتجلٍ غريب وهو يردد قائلاً : سيري يا مبروكة. ، مشيرا بيده ناحية صريف الصبر على الجهة المقابلة والأفعى تزحف ببطء ودلال دون أن يرهبها شيء"(الرواية ص15 ).

ويرسم الكاتب للمتلقين صورة أخرى عن التداوي في حينه، حيث يصور شخصية ) المبروك)؛ بوصفه الطبيب الشعبي الذي يستعمل وصفات طبية شعبية غريبة في علاجه لدغة الأفعى التي تعرضت لقدم أبي حسين يقول الراوي: " بعد أن بصق الدم الذي مصه من قدم أبي ولفها بخرقة، صاح في أمي كما لو كانت ملك يمينه: زغلول !، فردت مندهشة: أيش! زغلول، كرر الاسم بحدة وامتعاض، ناولته فرخا وبحركة سريعة نزع رأسه عن جسده، ثم شقه نصفين ووضعه فوق الجرح، ثم لفه بخرقة أخرى، يتكرر الأمر لثلاث أيام ويبرأ بعدها الجرح" ( الرواية ص 15). 

استغل الكاتب ما يمتلك من مهارات تعبيرية وقدرات فنية في تصوير ملامح شخصية( المبروك)؛ معالمه الخارجية والداخلية؛ بوصفه أحد أولياء الله الصالحين الذي يمتلك قدرات عجيبة وفائقة في تسيير أمور أهل القرية، ويمارس مهنة الطب الشعبي، ويحوز ثقة الناس كافة واعتقادهم فيه، فرسم لوحة متكاملة الملامح لشخصية (المبروك) وأبعادها ودوره في القرية، فـــ "المبروك يعيش بصفاء سريرة حالة بين البداهة والبلاهة, فيرى ما لا يراه الناس, يختفي متى أراد ويعود محملاً بالحكايات والنبوءات والكرامات, مكشوف له الغيب, يحمل همَّ الناس في المبروكة, ويتسرب في تشكيل وعيهم وقيمهم( )". 

يقول الكاتب في وصف معالم شخصية المبروك ومعالمها:"  ...لم يكن لديه بيت بعينه، تارة يبيت في المسجد، وأخرى في ديوان جدك، وأحيانا في المقبرة وربما تجره قدماه في بعض الأوقات إلى خارج القرية ، كأنما أمره مسير بقوة ما .. تعرفه القرية بصغيرها وكبيرها ، لكنهم لا يعرفون له نسباً .. بعضهم قال: إنه جاء مع الحجيج الآتين من بلاد المغرب وتاه عن ذويه، فظل من يومها في القرية، والبعض قال: إنه من بلاد الحجاز، غير أن أبي قال ذات مرة: عجيب هذا المبروك.. من يوم ما وعيت ع الدنيا وأنا أشوفه على هذا الحال، لا تبدل ولا تغير. ذكرت يوم أن جاءنا المبروك قبل عام ونيف، شيخ في الستين من عمره طويل من دون انحناء، ممتلئ بدون ترهل، ذو لحية بيضاء تلامس صدره وتتخلل في كثير من الأحيان حبات الخرز التي تزين أكثر من عقد يتدلى من عنقه.. بشوش الوجه رغم العصا التي تلازمه ويوظفها في أحيان كثيرة لتهديد الصبية الذين ينغصون عليه أحياناً، فيهددهم بقلبها أفعى تلدغهم تارة و تارة أخرى عفريتاً يمسخهم"( الرواية ص 16) .

تجلت منزلة المبروك ومكانته؛ بوصفه صاحب قدرات ومهارات جعلته يقوم على العلاج والطبابة في القرية، وأخذ يحظى باحترام أهل القرية وتقديرهم، فازدادت حظوته عندهم، ويتضح ذلك في وقوفه مع (حمدة) التي لا يستقر حمل في رحمها، فيشير عليها أن تقيم خارج القرية عند شجرة الجميزة على أطرافها, تعمل (حمدة) باقتراح المبروك، وتنجب البنين، وتعمر المكان المهجور تحت الجميزة، وتصبح (حمدة) سيدة مباركة كما الجميزة التي عرفت بجميزة حمدة، فشجرة الجميز من معالم القرى المهمة في فلسطين، فلا تكاد تخلو مدينة أو قرية إلى وقتنا هذا من شجرة جميز كبيرة، فبها يُعرف المكان إذ تعد منارةَ الاهتداء والوصول إلى القرى والبلدات المختلفة، يقول الراوي راصداً الحوار الذي دار بين المبروك وحمدة:

- لا زم ترحلي عن الدار. 

-  لوين أرحل، راح تلحقني( القرينة) في كل مكان مادامت عينها على زوجي ؟

 - اتركي الموضوع إلي .. أشاور أسيادي و إن شاء الله نلاقي حل .

من يومها وقع الاختيار على هذه البقعة، بل جاء القول صريحا بها ، عليها أن تركن إلى شجرة الجميز الواقعة عند طرف البلدة وتتخذ لها بيتاً بقربها، فهي شجرة مباركة لا يحاذيها شر ولا أشرار، احتار الناس في هذا لاختيار العجيب، البعض رأى فيه ابتلاء للمرأة والبعض اعتبره تعجيزاً من المبروك أراد أن يختبئ خلفه، لكن أتباع المبروك لهم إلى أن جاء الولد الأول، رفع من أسهمه لدى أهل البلدة وزاد من حظوته عندهم، من يومها حملت الجميزة اسم المرأة، وبات الناس يتباركون بها، فما من مار إلا عرج وسلم على الدار وأهلها، بعضهم كان يضع الهدايا وبعضهم يكتفي برفع أكفه بالدعاء) الرواية ص 154).

  يتبين من المجتزأ السابق أن الكاتب استثمر ما تكتنز به بعض المفردات من طاقات إيحائية من قبيل مفردة (الجميزة) التي أشار إليها، فهي شجرة مباركة ترتبط ارتباطاً وثيقا بسياق الحدث والشخصيات في الرواية، فإذا كانت (حمدة) يموت أولادها في أثناء الحمل،  فإن شجرة الجميزة  ترمز لتعدد الولادات، إذ ورد في الموروث الشعبي أنها تحمل سبعة بطون؛ أي سبع مرات في العام ( )، وهي فضلاً عن ذلك ترمز الى التجدد والحيوية والاخضرار طوال العام، وقد أضفى عليها الكاتب صفات إنسانية، إذ غدت شجرة الجميزة من الأماكن المباركة بسبب بركة (حمدة)، وبذلك رفع المبروك الولي الصالح من مكانته وحظوته بين أهل القرية.

ب - المعتقدات الشعبية: 

    إن نظرة فاحصة للمعتقدات الشعبية لأهل القرية، تهدي إلى القول بأنها معتقدات متعددة ومتنوعة، فقد شكلت جانباً مهماً من جوانب حياة المجتمع الريفي، وأدت دوراً حيوياً في توجيه الحياة الروحية والنفسية لأفراد القرية توجيهاً يتماهى مع طبيعة الحياة فيها؛ لذا تطرق الروائيون إلى جانب من تلك المعتقدات الشعبية، والتي ارتبطت بعالم القرية، ذلك أن الوجدان الشعبي المتصل بالقرية يزخر بالتكوينات النفسية والاجتماعية المتباينة والمتغلغلة في الكثير من قيمه: تقاليده ومعتقداته الشعبية، والتي منها الإيمانُ بالأفاعي التي تتحول إلى صورة من صور الجن، يقول الراوي: "... والفضل في ذلك يرجع إلى أفعى كانت تفح في مكان ما من ثنايا السطح الطيني الذي أرقد تحته ، كنت أسعى جاهدا للإمساك بغفوة تريحني من حالة الأرق التي أطبقت علي من دون داع ، فوصلني فحيحها .فوصلني فحيحها.. حاولت أكثر من مرة تجاهلها ولكن أحاديث أمي عن مردة الجن الذين يسكنون البيوت على شكل أفاع وقطط سوداء ، طيرت النوم من عيني وأشعرتني بالكثير من الخوف والتخيلات : ماذا لو عادت هذه الأفعى إلى هيئتها الأولى وانتصبت عفريتا قدماه في الأرض ورأسه في السماء ..؟ ماذا لو تواطأت مع روح رحمة وجاءت تمارس طقوسها في الانتقام؟( الرواية ص 14).

   ومن المعتقدات الشعبية التي يؤمن بها أهل القرية، ظاهرةُ "المارد أو العفريت الذي يظهر مكان مقتل شخص ما في القرية؛ أي ظهور الإنسان المقتول في مكان ما على هيئة مارد أو عفريت، يقول الراوي: 

"كان أهل القرية يعتقدون أن روح الميت تتحول في المكان الذي قتلت فيه مثل روح رحمة ، "وراح الناس يتحدثون عن روح رحمة التي تتمثل ماردا في ذلك المكان "( الرواية ص 14).

وقد رسم الكاتب لوحة متكاملة عن هذا الاعتقاد رابطاً إياه بحضور ( المبروك) الولي الصالح ، يقول الراوي:

 " وحين رأى الجثة (المبروك) ممدة على قارعة الطريق، صاح مرة أخرى: حيّ، فاستدعى بها من كان قد سبقه إلى المسجد ، جاء المؤذن والشيخ إبراهيم.. تحلقوا حول الجثة وانحنى المبروك واضعا أذنه قرب أنف الرجل ، ثم صاح ثالثة : حيّ. 

تململ الشيخ ، فأتبعها المبروك برابعة ارتعد الشيخ .. اصطكت أسنانه ، ردد بفزع واضح : عفريت .. عفريت

- حيّ. 

انتشر الخبر في البلدة .. تحدث الناس عن عفريت يظهر في المكان بين فترة وأخرى .. يصول ويجول ولا يرحم من يقابله، لا لشيء سوى الانتقام لروح صاحبته ، التي قتلت ظلما في نفس المكان" (الرواية ص 11 ، 12  ). 

وفي موضع آخر من الرواية يقول الراوي:

"...إلى أن صحا الناس ذات يوم فوجدوها ميتة في نفس المكان، من بعدها سرت الحكاية في البلدة وراح الناس يتحدثون عن روح رحمة التي تتمثل ماردا في ذلك المكان"(الرواية ص 12 ، 13  ) .

وربما يرجع اعتقاد الناس بمثل هذه الأمور إلى بساطة حياتهم وبساطة تفكيرهم؛ ذلك أن تلك الخرافات ناتجةٌ عن بساطة الناس في ذلك الزمن، وقلة الوعي العلمي أو لأن الناس تحتاج إلى شيء غريب أو أن النفس البشرية تعشق عالم الغرائب.

    استثمر الكاتب تقنية الاستباق أو الاستشراف التي تعد عمليةً سردية تتمثّل في إيراد حدث آتٍ أو الإشارة إليه سابقاً ( )، إذ كان المبروك الولي الصالح يستشرف المستقبل، يعلم أكثر مما يعلمه الناس، يقول الراوي على لسان المبروك في حوار مع الشيخ إبراهيم:

-"  اللي جاي نار وموت .. نار وموت .. نار وموت .. حيَّ ، ثم انتفض كما لو أصابه مس وراح يدور حول نفسه دورات متتابعة، حتى خشيت أن يسقط بيننا، لكنه انطلق كالهارب من شيء طارده، وهو يصيح بأعلى صوته: يا خلق الله استعينوا ع اللي جاي بالله.

 - ربنا يكفينا شر اللي جاي. همس الشيخ بتأثر بادٍ" ( الرواية ١٩٤ ، ١٩٥).

إن الأحداث التي تنبأ المبروك بحدوثها، قد وقعت فعلاً، ومن تلك الأحداث ما حلَّ بالشعب الفلسطيني من نكبة سنة 1948م. 

أما عن معتقدات أهل القرية الشعبية الأخرى، فإنها تتجلى في اعتقادهم في (البشعة) وهي: أن يلحس النار الإنسان المتهم، وهي تكشف الأمين من الخائن والبريء من المتهم. إذ غالباً ما يقصد الريفيون (البشعة)، حيث الشيخ صاحب البشعة هو الذي يوقد النار ويدس فيها حديدة أو سيخا من حديد؛ ليقوم الإنسان المتهم بلحسها، فالمتهم إذا كان بريئاً يلحسها ولا يتضرر، أما إذا أحرقت الحديدة المحماة في النار فمه، فيكون هو المتهم الحقيقي.

فــ (مزيونة) المرأة المطعونة في عرضها تقبل لحس البشعة من أجل إثبات براءتها، في حين ينهار زوجها الذي اتهمها في عرضها دون أن يستطيع أن يقوم بهذا العمل، يقدم الراوي وصفاً تفصيلياً ودقيقا لهذا المعتقد، ولعلها الرواية الوحيدة على - حد علم الباحث- التي تطرقت إلى ظاهرة (البشعة) بالتفصيل والوصف الدقيق، يقول الراوي في حوار بين الشيخ العجوز والمتهم زوج مزيونة:

-  أقبل يا رجل. قالها العجوز، وقد أطبقت يده على طرف السيخ الذي يليه بقوة لم تظهر في المرات السابقة، ثم راح يحركه بقوة ما بين الجمرات.

 - تقصدني أنا ؟ ! قالها بصوت أجش، بالكاد وصل إلى مسامع العجوز 

-  وفي غيرك بيننا؟

حاول الوقوف، لكن الأمر تعذر عليه.. اتكأ على كتف جاره.. سار بضع خطوات .. تعثرت قدماه، فسقط على وجهه يجوح كثور مذبوح، هرع إليه البعض.. رفعوه، ثم رشوا على وجهه بعض الماء، وقبل أن يجلسوه في مكانه صاح أخو المرأة بصوت جهور:

- الله أكبر.. الله أكبر.. عرضنا أبيض يا جماعة، وحقنا لازم يصلنا اليوم قبل بكره .

- أصبر يا شيخ .

 كانت مفاجأة ألجمت الجميع، حتى أخوتها لم يتوقعوا دخولها بهذه الطريقة.. اندفعت المرأة كالسهم صوب العجوز وهبطت على ركبتيها أمامه، معلنة تحديها الذي أذهل الجميع: 

- بدي تبر بوعدك اللي قطعته قدام هذا الشاب– وأشارت بيدها ناحية الشاب الذي رافقه – قبل ما تدخل هان. 

- ما عاد له حاجة يا ابنتي . قال العجوز بنبرة هادئة .

- لا يا عم .. أنا مصرة على لحس البشعة، حتى أبرهن لبعض الناس، أن عرضي أطهر من لحاهم" ،  ( الرواية ص 76 ) .

صور الكاتب مشهداً من مشاهد اعتقاد الإنسان الفلسطيني القروي بمعتقد البشعة، وذلك في مشهد حواري درامي  يتخلله السرد الروائي، وقد جسد دلالات الخوف ومشاعر الفزع والدهشة التي اعترت الحاضرين، حتى أبان حقيقة الموقف، وكشف الستار عن المتهم الحقيقي. 

ومن المعتقدات الشعبية التي يؤمن بها أهل قرية المبروكة الارتكان إلى العرافين ونبوءاتهم، وقدرتهم على كشف المستقبل، فقد تنبأ أحد العرفين بأنه سيكون للشيخ مسعود مكانة مرموقة ومنزلة كبيرة في قومة، يقول الراوي:

"تحدث الناس يومها عن نبوءة العراف .. استعادوا تفاصيل الحكاية من جديد، لكنها في هذه المرة لم تثر حساسية أحد، بل على العكس من ذلك تماماً، فالمختار بدا مرتاحا إنْ لم يكن سعيدا بهذه النبوءة التي شهدت له بالرفعة والمكانة رغم أنف الحاقدين، والعروس(مزيونة) رأت فيها براءة أخرى ولكن في هذه المرة أرسلتها السماء". (الرواية، ص 105).  

وقد تحققت نبوءة العراف هذه ، ووقعت بالفعل حين اختار أهل القرية الشيخ مسعود؛ ليكون مختاراً للقرية، وتأكدت نبوءة العراف، وهنا استثمر الكاتب في تصوير هذه الحادثة تقنية الاستباق أو الاستشراف التي عملت على خدمة السرد، وإثارة المتلقي، وتحفيز ذهنه.

2 - العادات والتقاليد الشعبية: 

تعد العادات والتقاليد الشعبية من أكثر عناصر التراث الشعبي شيوعاً ورواجاً لدى كتاب الرواية في فلسطين؛ فهي تمثل جزءاً مهماً من التراث العربي، وهي ظاهرة من ظواهر الحياة الاجتماعية، لكلٍ منهما جذور تاريخية عريقة تتوارث خلفا عن سلف، وترتبط بسلوك الجماعة، وتكتسب مع الزمن توسعاً ورسوخاً يضفي عليها في أغلب الأحيان طابع القاعدة المكسوة بثوب القانون والعرف.

احتلت العادات والتقاليد مكانة مهمة في رواية (محمد نصار)، حيث تمكن من خلالها التوغل في عمق المجتمع الشعبي الذي يوحي بواقعية النماذج النابعة من قريته الريفية وبعمق إحساسه الذي نلمسه في الموضوعات المطروحة.

تضمنت الرواية لوحات وصوراً تشير إلى العادات والتقاليد الشعبية التي كانت سائدة في القرية، والتي منها عادات الأفراح، وعادة الأخذ بالثأر، والحسد، وإعداد الطعام في المناسبات المختلفة.

لقد اعتاد أهل القرية أن يجتمعوا ويتسامروا في ليالي القمر المضيئة، ويقيموا حلقات الرقص الشعبي، والدبكات، ويغنوا الأغاني الشعبية التي تعد جزءاً رئيساً من تراثهم الشعبي. 

إن هذه العادات والتقاليد ما هي إلا ثمرة للبيئة المحلية وأهازيجها الشعبية في مواسم البيادر أو مناسبات الأفراح، وقد تأتي أحيانا ترويحاً عن النفس، وابتهاجاً بالمناسبة الحلوة، وقد تأتي للتوجع والذكريات المؤلمة أحيانا أخرى.

تحدثت الرواية – أيضاً- عن عادات الزواج، وما يصاحب العرس من أهازيج وأغانٍ تعطي للشباب حيزاً واسعاً من الفرح والسرور؛ لكي يمارسوا حياتهم ونظرتهم إلى الحياة، فمنهم من يمارس هواياته في الدبكة والأغاني الشعبية ولعبة الحطب. وقد وصف الكاتب الأعراس في القرية وأجواءها، وزفة العريس، وطعام العرس وشرابه، والأغاني والأهازيج، ومشهد السباق على الخيول الأصيلة، وتجلت صورة العرس كما رسمها الكاتب في المشهد الآتي، يقول الراوي:

" أصبح القمر بدرا، فأضفى على الكون نورا أزال عتمته وحجب عن ليله وحشته، انطلق السامر، فامتشقت أم العريس سيفا مرصعا يقال أنه لأحد أجدادها الذين حاربوا مع صلاح الدين، كانت في العقد الرابع من عمرها، فارعة الطول، ناصعة البياض، يزنرها حزام ذهبي أضفى على ثوبها المطرز بريقا خاصا وألقت على شعرها الفاحم منديلا موشحا بخيوط الذهب، فعجز عن إخفاء خصلاته المنسقة على نحو لافت، التهبت الساحة لمرآها وعلا الغبار من الأقدام المتراقصة بالشمالي حينا وبالدلعونة حينا آخر والمرأة تتمايل على إيقاعها ملوحة بالسيف تارة وموهمة بالإغارة تارة أخرى". ( الرواية ص21 ، 23 ).

  رسم الكاتب في المقطع السابق لوحة رائعة وجميلة للعرس ومعطياته التراثية، من رقص وغناء، جلبت المسرة للجميع الذين شاركوا أهل الفرح فرحتهم. 

  وفي موضع آخر يرسم الكاتب لوحة أخرى للمرأة النورية الراقصة( ) التي ترقص أمام الحاضرين في الأعراس جالبة الفرح والسرور لأهل العرس، ولا يجدون في الرقص والغناء في الأعراس عيباً يقول:

"كان الأمر مستهجناً في البداية, إذ لم يستوعب الناس وجود امرأة شبه عارية ترقص أمامهم والأغرب من ذلك أن يكون الأب أو الزوج قائد مسيرتها الفاضحة.. يوجه تموجات جسدها وانثناءه علي وقع إيقاعه , دون أن يعنيه شيء من العيون المنغرسة في الجسد المعروض أمامها, تنهش منه بلا إحساس بالشبع, أو بالأيدي التي تمتد أحيانا لتلمس جانبا منه, غير أن الأمر يختلف نوعا ما، حين تند عن الغجرية صرخة تشبه إلى حد كبير غنجا ولكن بصوت مرتفع"  ( الرواية ص 33 ، 34).

   وترصد الرواية ألواناً من صور التكافل الاجتماعي بين أفراد القرية، إذ إن روح تكافل الجماعة تظهر في قمة تجلياتها في حادث حريق بيت الشيخ "أبو إبراهيم" حيث تهب القرية لإطفاء الحريق ولإعادة ترميم البيوت التي طالها الضرر.    

  ومن جانب آخر رصد الكاتب نماذج متعددة لصورة المرأة الريفية في القرية، وبيّنوا أثر المكان/ القرية في رسم معالم شخصيتها وأبعادها، فالعملُ الذي يمارسه جلّ سكان القريةُ هو الزراعة والفلاحة؛ الأمر الذي جعل المكان ينعكس في الملامح الخارجية والجسدية للشخصية، 

  وثمة نماذج نسائية لها علاقة بالموضوع الاجتماعي والموضوع النفسي والاقتصادي، ومن هذه النماذج: نموذج المرأة الزوجة والأم الحنون المتجسد في شخصية حليمة زوج أبي حسين، والتي جاءت مثالا للمرأة الحريصة على بيتها، الساعية لتوفير أسباب الراحة فيه رغم شظف العيش وضيق الحال، فكانت هي الأم والأب حين اعتقل زوجها على يد قوات الانتداب البريطاني وكانت الساعد الأيمن لزوجها لحظة خروجه من السجن وذلك من خلال سعيها معه لكسب قوت يومهم بعدما منع من الوصول إلى أرضه، وكانت صاحبة الرأي الذي يستنير به برغم تمرده الظاهر بحكم العادة والموروث السائد من أن الرجل له الكلمة وهو الذي له الرأي.

لم تعش قرية المبروكة بالرغم من كونها قرية ريفية زراعية حدودية عالماً مغلقاً أو شبه مغلق تحكمه العزلة والجهل والتخلف، ولم يكن إيقاع الحياة فيها إيقاعاً سكونياً نمطياً متكرراً؛ وإنما كانت قرية منفتحة على الآخرين، وكان الاختراق هو عنصر الحركة الرئيس الممثل لإمكانية إحداث التغيير. 

اتخذ أهل القرية من مهنة الرعي وسيلة عيش لهم، وغدت مصدر رزق لأبنائهم، فقد تعودوا على تربية الماشية، فهي حجر الزاوية في مناحي حياتهم في الأفراح والأتراح والمناسبات المختلفة، يقول الكاتب عن هذه المهنة:

" كنت أرعى الغنم وقتها ، نصحو مع خيوط الفجر الأولى، وأحيانا كثيرة قبلها، يلازمني صوت أبي متقاطعا مع صوت المؤذن : يا حليمة، نبّهي الولد.. الشمس بتقلي البيض والشمس تطل على استحياء من خلف التلال الرابضة شرقي البلدة.. ترسل خيوطها الذهبية؛ فتكسو الأجساد الذابلة دفئا سلبه الفقر وأبقى لها خرقا بالكاد تستر عوراتها "، ( الرواية، 6 ).  

وعندما ضاقت الحال بأهل القرية اتجهوا للعمل في القرى والمدن المجاورة يقول الراوي على لسان أحد الشخصيات واصفاً حال القرية، وتفشي البطالة بين أهلها:"... يوم المبروكة بسنة في غيرها، أكثر أهلها رحلوا ع ملبس ويافا وواد حنين ليوفروا قوتهم ... البلد ما ظل فيها حد يبيع ويشتري..."( الرواية ،67 ).

يرسم الأديب مشاهد متعددة لشباب من القرية انطلقوا لتلقي العلم في القرى والمدن المجاورة، وعادوا يحملون شهادات العلم والمعرفة, وانطلق آخرون منهم لنهل العلم والحصول على الدرجات العليا في الدول العربية المجاورة، يقول الراوي:"... خرجت المبروكة عن بكرة أبيها، لاستقبال مسعود شقيق المختار الأصغر، كان من بين قلة  محظوظة، أنهت تعليمها على يد شيخ الكتاب، قبل أن  يغادرنا  بثلاث سنين، انتقل بعدها إلى المدرسة الأميرية في مدينة بربرة المجاورة، ثم ارتحل من هناك إلى مدينة القدس، حيث درس في معاهدها سنوات أهلته لنيل شهادة الماتريك"( الرواية ،67 ). 

ومما لا شك فيه أن ما قامت به كلٌ من شخصية "مسعود" و"أبو إبراهيم" و"إبراهيم الشاهد" تمثل عبر حركتها من القرية إلى خارجها ثم العودة إليها العنصرَ الفعال في السعي إلى إحداث التغيير، وبدءَ إدراك ووعي بأن ثمة عوالم أخرى مختلفة ذات ملامح جغرافية وثقافية لما يسود عالم القرية؛ الأمر الذي وضع القرية على عتبة مرحلة جديدة من التغيير والتطور والانفتاح. 

استثمر الروائي معطيات المعتقدات والعادات والتقاليد؛ ليرسم صورة صادقة لتراث شعبي توارثته الأجيال خلفاً عن سلف، يحدد ملامح الهوية الفلسطينية، فقد استدعاها الكاتب في عمله الروائي؛ لتدل هنا على حقيقة الواقع المعيش، وما يعود به من ضغوطات على الفرد الناشئ في وسط اجتماعي تحكمه العادات والتقاليد. 

وتمكن الكاتب من خلال توظيفه للعادات والتقاليد من التوغل في عمق المجتمع الشعبي، الذي يوحي بواقعية النماذج النابعة من قريته الريفية وبعمق إحساسه الذي يلمسه المتلقي فيه .

وظف الروائي المعتقدات والعادات والتقاليد توظيفاً فنياً، فيه من الإبداع ما ساهم في رقيها، وجعل منه مكوناً مساعداً في إبرازها، كما أن أنها تعكس بوضوح البيئة الطبيعية والبيئة الجغرافية. - التعرف إلى المستوى المعيشي البسيط في الوسط الريفي الفلسطيني؛ من خلال تصوير حي ورائع في هذا الفضاء الروائي، ليوميات الفرد الفلسطيني في حضوره إلى مثل هذه المعتقدات والعادات والتقاليد.

خامساً - المكان التراثي :

  ليس المكان الروائي مجرد مسرح للأحداث، وحيزاً مكانياً تطورت من خلاله هذه الأحداث؛ وإنما هو إلى جانب ذلك عنصر رئيس محرك للأحداث والشخصيات، يشارك في نموها وتطورها، ويمدها بالحيوية والحياة، فتكتسب بفعله فاعليتها التي تمنح العمل الروائي قوة وطرافة وجدة. 

إن المكان في الرواية المعاصرة يعد عنصراً أساسياً، يتداخل مع العناصر الأخرى، ويشارك في إنتاج المعنى داخل عالم الرواية،  حيث التماسك الفني الناتج من تضافر المكونات الروائية وتعاضدها( ). 

وعلى هذا الأساس طرح الروائيون المكان التراثي في عالم الرواية، فأصبح قضية أساسية، يعرض من خلالها الروائي جملة من الأسئلة، والمشكلات التي تتعلق براهن الإنسان، والحاضر المعيش، استثمر الكاتب في هذا النص الأمكنة التراثية التي كان لها دور فاعل في تحريك الأحداث، ورسم الشخصيات 

 من المعلوم أن المكان في الرواية ليس هو المكان الطبيعي؛ لأن الروائي يخلق عن طريق الكلمات مكاناً خيالياً له مقوماته الخاصة وأبعاده المميزة، وهو حامل المعنى لحقيقة أبعد من حقيقته الملموسة، وبهذا الصدد يمكن التمييز بين المكان الروائي الذي تصنعه اللغة والمكان الواقعي، فالمكان الروائي هو" الذي صنعته اللغة انصياعاً لأغراض التخيل الروائي وحاجاته، وبهذا فهو مختلف عن المكان الطبيعي الذي يمثل الموضع الحقيقي الثابت والجامد الواقع خارج النص( ).

وانطلاقاً من خصوصية المكان، فقد برزت في رواية (صفحات من سيرة المبروكة) التي قاربت قرية المبروكة أماكن متعددة، كشفت عن حياة القروي الفلسطيني، وتفاعلت معها الشخصيات وتشابكت بها الأحداث، ومن تلك الأمكنة: الجرن، والسدرة وعين الماء، والكمب، والمغارة، والجميزة وغيرها. وستقف القراءة عند المكانين الأولين؛ لأنهما من أكثر الأمكنة حضورا في الرواية. وهما: (جرن البلد)، و(السدرة). 

أ - جرن البلد : 

 وهو مساحة واسعة تقع في وسط البلد، وهو ملك لأهل القرية جميعهم، ويحمل الجرن دلالات متنوعة ومتعددة, كشفت واقع القرية وملامحها الاجتماعية والوطنية والاقتصادية، فبعد أن يتم جمع المحصول, ينقل على الحيوانات, ويوضع في الجرن لتبدأ عملية درس القش وما يتبعها من استخدام الأدوات من ألواح وتذرية لفصل الحبوب عن التبن ثم يُعّبَّأُ التبن والحبوب في زكائب وتخزن في صوامع( ) .

 استثمر الكاتب معطيات المكان المتمثلة في (الجرن)؛ بوصفه مكاناً يحمل طابعاً إنسانياً وطنياً، ويتميز بالطهارة والقداسة، إنه مكان مقدس يستقبل فيه أهل القرية الشهداء الذي يسقطون في الدفاع عن حياض القرية وحرمتها، ومن ثمَّ تشييعهم إلى مثواهم الأخير في مقبرة البلدة المجاورة للجرن, فقد صور الكاتب في لوحة إنسانية معبرة تجمع أهل القرية لاستقبال جثمان الشهيد "الشيخ إبراهيم" الذي استشهد في معركة قطع الإمدادات عن المستوطنة اليهودية، يقول السارد واصفاً هذا المشهد الإنساني المؤثر: "...عند سماع الخبر خرجت المبروكة عن بكرة أبيها، جموع من الناس راحت تزحف لاستقبال الجثمان العائد متلفعاً بالدماء وأخرى تدافعت من بين الأزقة والحارات، فالتقت حشودها عند جرن البلدة الذي بدا من بعيدٍ كبحر متلاطم الأمواج"(الرواية، ص5).

والراوي برصده لهذا المشهد، إنما يرمز لوحدة القرية وتكاثفها وتكافلها الاجتماعي وتعاونها وترابط علاقتها، إنه يحمل دلالات وطنية جهادية, ورمز للوحدة الاجتماعية وتآلف الناس وتجمعهم.  ينفتح الجرن – أيضاً- على دلالات غنية موحية، إذ اتخذه أهل القرية ميداناً لسباق الخيل، وإبراز مهارات الفروسية والشجاعة بين فرسان البلد، يصف الراوي واحداً من تلك السابقات، فيقول:"...خرجت الخيل للسباق .. تجمع الناس ضحى  في جرن البلدة، واعتلى الفرسان صهوات جيادهم.. اصطفوا علي صعيد واحد تصاحبهم الأهازيج والزغاريد, انطلقت إشارة البدء، فاندفعت الخيل كالريح المرسلة.. تدافع الناس ليتابعوا (السباق)عن قرب.."(الرواية ص49،50).

ينفتح جرن القرية وما يحتويه من مكونات مكانية على دلالات متنوعة: إنسانية ووطنية واجتماعية ذات طابع جماعي من جهة، وطابع فردي من جهة أخرى، فالجرن يأخذ بعداً إنسانياً حين يغدو ملتقى الأحبة العاشقين في القرية، فيبوح كل منهم بعواطفه للآخر، ويرسم الراوي لوحة مترعة بالعواطف الإنسانية، يشكل فيها الجرن بؤرة مكانية مهمة:"...المكان ساحة البلدة بما حوت من أجران قمح، الزمان موسم الحصاد، الشخوص أصحاب الأجران من أهل البلدة رجالا ونساء، ترفع الستارة، فيسطع القمر بدراً في كامل التمام وبقرب أحد الأجران فتاة تضاهيه حسناً وجمالاً ، بدت في السادسة عشرة من عمرها .. لكن قوامها الممشوق تحت ثنايا الثوب المطرز يشي بأكثر من ذلك،...ابتسمت لمرآه فأصابه السحر، توقف من فوره .. ارتجف الحصان تحته .. صهل وارتفع بجذعه إلى الأعلى.. قفز عن ظهره، وعيناه مأخوذتان إليها.. دنا منها، وقف بقربها مشدوها، فأطرقت خجلا وحياء.." (الرواية ، 49 ، 50).

استحضر المبدع الأحداث التي مرت به في الماضي على شكل شريط تضمن ذكريات متعددة، وقد اعتمد في هذه اللوحة على استخدام الأسلوب المشهدي في توظيف الثقافة الشعبية، فرسم في هذا المقطع لوحة فنية رائعة لمعطيات المكان، تعاون في تصوير معالمها وأبعادها جملة من مكونات المعمار الفني للرواية من: تحديد لمعطى الزمان، والشخصيات، والأحداث، ورصد للتوتر الذي يعتمل في نفوس المحبيْن، وتمتزج هذه البنيات الأساسية المكونة لبناء المشهد الروائي بالمكان (الجرن) وما يحمله من بعد نفسي، وما يرمز له من مشاعر وأحاسيس إنسانية تجسد مدى التعلق بالمكان والاعتزاز به؛ بوصفه مصدر السعادة والمحبة والود والعلاقات الإنسانية العميقة بين أهل القرية.

  استثمر الكاتب في المقطع السابق تقنية الاسترجاع، أو العودة إلى الوراء، ويقصد بها "كل عودة للماضي، حيث يحيلنا على أحداث سابقة عن النقطة التي وصلتها القصة، وتحتل الروايّة نصيبًا كبيرًا من بين الأنواع الأدبية التي تحتفل بالماضي وتستدعيه لتوظيفه بنائيًا"( )، وكانت وظيفة الاسترجاع هنا التذكير بأحداث ماضية، وقع إيرادها فيما سبق في السرد؛ بهدف إثارتها من جديد؛ لإعطاء دلالات جديدة قد تطغى على الدلالة السابقة.

 ب – السدرة: 

    تردد ذكر مكان (السدرة) في الرواية غير مرة؛ بوصفة مكاناً تراثيا في القرية، و(السدرة) مفردة مكانية تراثية، إذ نبتت الشجرة في القرية منذ عشرات السنين، يقول الراوي:" تسابقنا الأغنام إلى الربوع المفروشة بالكلأ المندى بالطل.. تتقافز.. تتناطح معلنة عن فحولة مبكرة، ونحن نتابع المشهد من تحت سدرة هي الوحيدة في المكان.. نفترش الأرض تحتها، نفرد صرراً أعدتها أمهاتنا على عجل..." ( الرواية، ص  6 ). 

يتبين من النص السابق أن للسدرة أهمية كبيرة في حياة أهل القرية، إذ يستظل تحتها الرعاة وحيواناتهم، وهي ترمز للصلابة والقدرة على البقاء في مواجهة الطبيعة وإفرازاتها، وتشي بالعطاء والحيوية، إذ تظل أوراقها خضراء يانعة في فصل الصيف الحار، والتي تشكل مع الثمار الجافة مصدراً غذائياً ذا قيمة للرعاة ولحيواناتهم في أوقات الصيف بحرارته اللافحة.

ويشير الكاتب إلى أن رعاة الغنم كانوا يتخذون من السدرة مكاناً للاستراحة من تعب النهار، ومحطة لمراقبة ما يطرأ على القرية من أمور الداخلين اليها والعائدين منها، يقول الراوي بداية نصب كمب الإنجليز في القرية: "إلى أن كنا ذات يوم جلوساً تحت السدرة, نتابع باهتمام حركة دؤوبة في الخيام المقابلة, عربات تأتي وتروح.. خيل تدور حول الخيام.. نساء بملابس قصيرة، وأحيانا تماثل الرجال.. خيام ترفع وأخرى تنقل .. نداءات تعلو وأخرى تجيب..." ( الرواية    ).

 وصفوة القول، فقد أبانت القراءة أن الكاتب اتَّجه الى تشكيل معطيات التراث الشعبي وتجسيدها في صورة متكاملة للحياة في إحدى قرى فلسطين بكل أبعادها وفئاتها، وهي قرية المبروكة، مبرزاً فيها علاقة أهل تلك القرية بحرفة رعي الغنم والزراعة، وتعلق أهلها بها، مصوراً حقيقة معاناة القرويين في بيئتهم المحلية وحياتهم؛ بقيمها وهمومها ونظرة أهلها إلى الحياة وارتباطهم بقريتهم ارتباطاً وجدانياً عميقاً ، وإن وضوح الملامح الشعبية وطغيانها في الرواية يؤكد انتماء الروائي محمد نصار إلى جذوره الشعبية الفلسطينية، وانتماءه إلى البسطاء وحياتهم. 

 وقد وظف الروائي التقنيات الفنية بمكوناتها المختلفة وأشكالها المتنوعة في النسيج الدرامي لعمله الروائي من: رصد للأحداث، ورسم للشخصيات، وتناول لعناصر اللغة والسرد، وتوظيف لتيار الوعي، وتداعٍ للأفكار، واسترجاع، واستباق، وأحلام، وحوار درامي، في التعبير عن واقع الإنسان الفلسطيني في القرية، ومعاناته اليومية في ظل المحتلين على اختلاف أصنافهم، وما نجم عن ذلك من ممارسات واعتداءات: من حصار وقتل وتشريد واعتقال للشباب والأطفال والنساء وسقوط للشهداء والجرحى من خلال رؤية الكاتب المثقف الذي جسد جوهر المعاناة وروحها، إذ تمتد همومه من دائرة الذات لتصل إلى دائرة الهم الجماعي.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف