الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

التغييرات الفلسطينية في رواية "اغتراب" أسامة المغربي بقلم:رائد الحواري

تاريخ النشر : 2020-06-02
التغييرات الفلسطينية في رواية "اغتراب" أسامة المغربي بقلم:رائد الحواري
التغييرات الفلسطينية في رواية
"اغتراب"
أسامة المغربي
الأدب مرآة الواقع، وتكمن ميزته أنه يكشف الحقيقة والعورات دون تجميل، ويطرح الأسئلة، الأسئلة التي نحاول الهروب منها وتجاهلها، هناك العديد من الروايات والأعمال الأدبية تحدث عن الفساد، ولكن ليس هناك روايات تحدثت عن التغييرات في بنية ورؤية المجتمع الفلسطيني، بمعنى أننا نتغير/ننحرف كمجتمع/كشعب وليس كسلطة/كمؤسسات/كأحزاب/كأفراد فحسب، من هنا تأتي أهمية رواية "اغتراب"، فهي (تدق جدران) اجتماعية وسياسية، حتى أنها تُوصلنا إلى الحقيقة المطلقة ـ بعد أن خرجنا من الجنة/النضال، وأخذنا تغطي عورتنا بالعمى.
فكرة الرواية تتمحور حول دراسة يعدها الطالب "سعيد" في أحدى الجامعات الامريكية حول (العنف) في فلسطين، ودراسة أخرى تعدها "جين" في أمريكا، ويتم التركيز على مهمة "سعيد" الفلسطيني، والذي قتل والده بتهمة العمالة وتسريب أرضي للمستوطنات، تقسم الرواية إلى أربعة فصول، يبدأ الأول بمجرد وصوله إلى الأردن، التي يغادرها مباشرة إلى أريحا، ثم إلى القرية "الني صالح"، والفصل الثاني يتحدث عن مخيم بلاطة تحديدا، والفصل الثالث عن رام الله، والفصل الرابع عن القدس ويافا، بمعنى أن السارد يتحدث عن تغييرات في القرية، والمخيم، والمدينة/الضفة الغربية، والقدس وأراضي فلسطين ال48، وهذه التغييرات لا تتعلق بالمكان فقط، بل في المجتمع أيضا.
القرية
السارد يأخذنا إلى قرية "النبي صالح" ويمكننا اسقاطها على بقية القرى الفلسطينية الأخرى، بعد أن وصل يجد: "انتشرت الدكاكين، والتي تحمل يافطات جميلة، وأصبح الدكان يسمى سوبر ماركت، أصبح الخبز سلعة تشترى بشكل كبير، وكفت النساء عن الخبز في البيوت، الريف فقد معناه الحقيقي، ترك الناس الأرض، وخلدوا إلى الكسل والأعمال الوظيفية والتجارة، والسيارات الخاصة انتشرت بشكل كبير.
الأعداد التي تلبس اللباس التقليدي من الرجل والنساء تناقصت بشكل كبير" ص42، يبدو المشهد عادي، فنحن نراه في قرانا ونمر عليه يوميا، فما الجديد فيه؟.
عندما تحدث السارد عن القرية والريف، أراد به القول أن البنية الأساسية في الانتاج الزراعي تدهورت، ولم تعد قائمة، بمعنى أن المجتمع فقد أهم وسيلة انتاج، الغذاء، واتجه نحو الوظيفة، التي أثرت عليه سلبا، فأصبح "الكسل" هي حال المجتمع.
وإذا عدنا إلى التحولات في اسماء الدكاكين "سوبر مارت" نجد انزلاق وتدهور يطال حتى الأسماء، بمعنى أننا تخلينا عن أسماءنا، "دكان"، واستبدلناها بأسماء غربية، "سوبر ماركت"، قد يعتقد بعضنا أن هذا الامر غير مهم وعادي، لكنه في الحقيقة، يعد تدهورا وانحرافا، فالأسماء لها مدلولها الوطني والشخصي، ومن يرد أن يعرف (معنى/أهمية) الأسماء فليتقدم من مقال فراس حاج محمد، الذي بين أن الله علم آدم الاسماء قبل أي شيء.
وأيضا التحولات في اللباس له مدلوله السلبي، بمعنى أننا ابتعدنا عن تراثنا، وأخذنا (الأسهل) الأحدث، دون أن نراعي أننا نتعرض لاحتلال يعمل على أزالتنا ومحو هويتنا ووجودنا، أجزم أن هذا التغييرات خطرة وتمس الكيانية الفلسطينية، كحال التوسع الاستيطاني تماما، فهي تسهم وتمهد لقبولنا بما هو كائن/حاصل، فهي تنسينا أننا شعب محتل، وعلى أنه يجب أن نعتمد في قوتنا وعلى انتاجنا؟، السبب الرئيس في قوتنا، فإذا لم ننتج طعامنا سنكون تحت سياط الاحتلال، يجوعنا لنكون كما يريدنا أن نكون.
المخيم
المخيم تعرض لتغييرات لا تقل خطورتها عن القرية، هناك العديد من المفاهيم/القيم فقدها المخيم، من هذا التغييرات سماع أغاني عبرية: "...وبدأ المغني في غناء أغنية عبرية (لاما لو)، والتي جعلت الراقصين يعودون إلى الانخراط المجنون في الرقص.
... ـ أليس ذلك معيبا، كيف تغني أغاني عدوك؟
ـ رأيي مطابق لرأيك، ولكن هناك قائل ما إن اليهود أنفسهم يغنون أغاني عربية في احتفالاتهم.
ـ لا أرى في ذلك مبررا هناك فرق بين أن تكون منتصرا وبين أن تكون مهزوما.
ـ رائع كيف؟
ـ عندما تكون منتصرا، وتغني أغاني عدوك، يكون نوع من التبجح، وأنت تملك حتى أغانيه، وتراثه وإحساسه، أما عندما تكون مهزوما، فأنت بذلك تقر بالهزيمة" ص77و78، بهذه الرؤية يرد "سعيد" على كل من يحاول (أن يقنع نفسه) بأنه يتساوى/يتماثل مع المحتل، فهناك مهزوم وهنك منتصر، ولا يمكن أن يتساويا.
يكشف لنا الراوي ما تخفيه المخيمات، وكيف اصبحت المدارس (وكر) للمنحرفين: "ضحك المدير: سأريك شيئا، فتح الدرج العلوي من مكتبه، وكان مليئا بالمطاوي والسكاكين، والرصاص، هذا كله مصادرات يومية من الطلاب، يجب أن لا تغفل عينك عنهم، جيل غريب لا يخاف، ولا يتحمل أي مسؤولية" ص90، الانحدار الثاني أكثر هولا من الأول، فهو يمس فئة الطلاب، الذين من المفترض أن يكون مهذبين، أليسوا أطفال!، لكن بيئة المخيم جعلتهم بالصورة السابقة، من هنا تكمن أهمية الكشف مثل هذا العورات، فلم تعد المخيمات مركزا للثورة والنبل والعطاء والتضحيات، بل تحولت إلى مركز نقيضة، فقد (خانت) ماضيها وتخلت عن دورها.
ويكمل حديثه عن مشاهدته للمؤسسات التربية والتعليم فيقول: "الصفوف مكتظة، الزي المدرسي الموحد ليس موحدا، الشغب رائحة المدرسة، والأساتذة الذين ما عدت تعرفهم من لباسهم وأناقتهم، بعد أن تمادوا بالتقشف إلى درجة التوفير في شفرات الحلاقة"ص93، الهيئة التعليمية بمجملها مختلة وتعاني، إن كان على صعيد الطلاب أم على صعيد المدرسين، السارد يكشف هذا الخلل، وبه أراد أن يشير إلى خطورته على المجتمع ليس الآن فحسب، بل على المستقبل أيضا، فهو يحذرنا مما هو آت.
يؤكد السارد مشاهدته لأحوال المخيم، من خلال شهادة "ماهر" ابن المخيم: "المخيم حكاية ابتدأت من فلول اللاجئين الأولى، طوابير تنتظر المؤن، فقر ومأوي غير ملائم، أول من يشعل الثورات، وأكثر من يودع الشهداء، وخرج منه كنفاني وناجي العلي، ولكن المخيم اليوم، حصان عجوز يجر خيباته الطويلة، هاجر منه الثوريون إلى مكاتب أنيقة وبيوت في الضواحي، انتشرت فيه الجريمة والمخدرات والسلاح، لم تسعفه الجغرافيا وتتساقط عنه السنين وثمة أجيال تتوالى في أزقة لا تتغير... سيتردد الناس في أن يصاهروا أهل المخيم" ص113، ما يحسب لهذه الشاهدة أنها جاءت موضوعية ومحايدة، وصادرة من صاحب الشأن، وتكشف حقيقة الانحدار الذي وصل وخطورته، وما ستؤول أليه الأحوال في المستقبل، ليس على المخيم وساكنيه فحسب، بل على المحيط، إن كان على القرى أو على "نابلس المطوقة من كل الجهات بالمخيمات" ص121.
وعن علاقة السلطة بالمخيمات وبالمسلحين فيها، جرى هذا الحوار مع "راعش" أحد المطلوبين:
"ـ لماذا تشتبكون مع السلطة؟ خلاف سياسي؟
ـ لا، نحن ننتمي إلى حركة فتح، ولكن المخيم خط أحمر، لن نسمح للسلطة بدخوله"ص125، وهذا الحوار يشير إلى أن هناك مجموعة تعتبر المخيم خارج حدود فلسطين، ولا يجوز/يحق للسلطة أن تدخله وتمارس سيادتها عليه، أو أتمس أي مطلوب في أي قضية، مهما كانت خطورتها، فهناك سلطة خارج السلطة، دولة داخل دولة، بهذه العقلية يفكر مسلحين المخيم، ومثل هذا التفكير يعكس بؤس (اعضاء فتح ومسلحيها) والطريقة التي ينظرون فيها إلى المخيم.
في حوار آخر مع "عدوي" يطرح "سعيد" سؤال وجودي بالنسبة للفلسطيني: " ـ هل يقبل اللاجئون التعويض، بدلا من العودة؟
ـ تنهد العدوي: لو قلت لك لا هل ستصدقني؟ ولو قلت لك نعم هل ستثق بإجابتي؟.
عندما يتأكد اليهود أن اللاجئين سيقبلون التعويض، سينتهي الأمر صديقي، ولكن لا أحد يجرؤ أن يخون" ص130، السؤال يمس المقدس/المحرم، ومع هذا السارد يطرح السؤال، وبما أن هناك تغييرات جوهرية حدثت في المخيم وعلى أهل المخيم، أعتقد أن السؤال مثير للاهتمام، وبحاجة إلى التوقف عنده، من هنا جاءت اجابة "عدوي" غير حاسمة أو مؤكدة، وتحمل الوجهين، رغم أنه حاول أن ينهي/يختم الاجابة بالنفي.
رام الله
من التغييرات الخطرة ما جرى في رام الله، (عاصة) فلسطين، أو العاصمة المؤقتة لفلسطين، فالسطلة ومقراتها وقيادتها موجودة فيها، يحاور "سعيد" "بهاء" الذي يعمل في جهاز الشرطة عن المدينة:
"ـ رام الله قديما كانت تكتسب أهميتها باقترانها بالقدس بحكم الوحدة الجغرافية، ولأن القرار السياسي لا يستطيع الاقتراب من القدس مسافة أكثر من وجوده في رام الله، تحولت بحكم الواقع إلى المدينة التي تدير الحكم والشأن الفلسطيني.
ـ وتم استثمار المليارات فيها، من خلال جذب رؤوس الأموال وتجار العقارات، وتحولت المدينة الصغيرة الهادئة الجميلة إلى مدينة عملاقة من الأبنية والاستثمارات والوافدي الجدد من الوطن كافة، مدينة الموظفين وجال الدولة"ص171و172، هذا الحور يكشف عورة المدينة والعاصمة، بداية هي فرضت على السلطة لتكون بديلة ـ حتى لو مؤقتا ـ كما أن التضخم يمثل ورم (سرطاني)، بمعنى أنها مدينة من الموظفين وللموظفين، مدينة بدون انتاج، أو بدون روافد انتاجية، فهل يمكن أن تكون (العاصمة) بدون مقومات؟.
بما أنها مدينة للموظفين ومن الموظفين، فأنهم مجبولين، على تنفيذ الأوامر والالتزام بالتعليمات الصادرة يحاور "سعيد" العميد "عمر" مبينا خطورة هذا الأمر بقوله: "...لأنني وضعت في ظروف يصبح فيها أمن المستوطن أهم بكثير من أمن المواطن الفلسطيني، ويصبح أمن المستوطنين فعليا قضية أمن قومي فلسطيني!
... ـ بلا شك أنا صحيح أتقاضى راتبي من السلطة، ويجب أن أدافع عنها في كافة المواقف، ولكن صديقي نحن في سعة من أمرنا، نستطيع أن نقول ما نريد ولكن بمنطق المسؤول.
... ـ يجب أن يستعيد أصحاب القضايا الكبيرة للبدائل الصعبة دائما، هكذا تعلمت...الحروب تخلف ضحايا، وتعيدنا للفوضى، تبدأ بالشرفاء الذي سرعان ما تحصدهم القبور أو السجون، ويبقى السفلة وقطاع الطرق، ويبدأ الناس بالتشكك بالثورة وأهدافها، وهكذا مع تكرار المشهد يفقد الناس إحساسهم الوطني، أو على الأقل يفقدون حماستهم للمشاركة.
..ـ النتيجة النهائية، إن المستقبل السياسي غامض، ولا أحد يستطيع التنبؤ به، وإن المشروع الوطني يقف في منطقة لا يعود فيها ولا يتقدم" ص175-178، من هنا تتفاقم المشكلة، رأس الهرم مريض ويعاني، فنعكس مرضه وضعفه على بقية الجسم، وبما أن السارد بدأ حديثه عن الأعضاء، القرية والمخيم، فإنه بهذا يستكمل الانهيار الذي أصاب فلسطين والفلسطيني، بحيث أصبح الجسم بكامله مصاب بالمرض يفقد حيويته، بمعنى أنه آيل إلى الموت والانتهاء، والفقرة الأخيرة "لا يعود ولا يتقدم" أكدت على حالة الفناء والنهاية البائسة، ليس للسلطة فحسب بل وللمجتمع أيضا.
القدس ويافا
تكمن أهمية القدس في أنها الحلم/رمز فلسطين، وعندما تكون الروافد ضعيفة منهارة، فإن الحلم/الرمز يصبح كابوسا وحقيقة، يحدثنا السارد عن مشاهدته لمحيط القدس، فيبدأ من "كفر عقب" بقوله: " بنيات إسمنتية معلبة، لا مساحات خضراء، ولا ساحات للأطفال، استغلال شره للساحات، للحصول على أكبر عدد من المربعات السكنية، وبيعها بثمن باهظ" ص195، وهذا المشهد نتاج عن (وضع السلطة في رام الله) فقد قبلت أن تكون في مكان (مؤقت وبديل) فكان المركز/القدس مشاع ومتاح للآخرين أن يشهوه كما يحلو لهم ودون وجود رادع أو مانع.
وعندما يسأل "سعيد" عن سبب هذه الفوضى يجيبه سائق العمومي: "...إن هذه المنطقة الممتدة من هنا وحتى أبو ديس والعيزرية، تنظمها إداريا السلطة، وأمنيا تخضع لإسرائيل، لا توجد بها مخافر شرطة، أنها ربما تخضع لسلطة العشائر والمخاتير، والتنظيمات..,
ـ أنها منطقة الممنوعات، وفيها كل عصابات سرقة السيارات والبضائع الإسرائيلية وتجار المخدرات أيضا، هنا تتكون الثروات بسرعة للمغامرين، والذين يفهمون قواعد اللعبة" ص195و196، إذا كانت الضواحي بهذا الشكل، فكيف سيكون عليه المركز، قلب المدينة؟.
يجيبنا صاحب مطعم في القدس قائلا:"ـ الأمور تضيق علينا يوما بعد يوم، العقارات تتسرب إليهم، استفزازات المستوطنين والمتدينين، الناس هنا تضيق عليهم المساحة، بدأوا يبنون بيوتا لهم في رام الله وأريحا...تكاليف ترخيص بناء شقة يكلف أكثر من مليون شيقل" ص203، المصيبة أن المكان المؤقت "رام الله" أصبح دائما، ويتفشى فيه مرض الورم والتضخم الأجوف، من خلال هجرة أهل القدس، فبدلا أن تستوعب القدس القادمين، تصدر/تهجر ابنائها.
أما يافا فلم تكن حالتها أفضل من القدس/ سائق التكسي يحدث "سعيد" عنها بقوله: "إنها جزء من تل أبيب، لم يبقى فيها إلا جزء صغير من المدينة القديمة، الذي يؤمه الرسامون والفنانون اليهود والأجانب...نحن الذي أصبحنا غرباء عن المكان، العرب لا يشكلون إلا نسبة ضئيلة، زحفت إلى المدينة ومقابرها ومساجدها وكنائسها البنايات والفنادق والأسماء العربية، تطمس وتخفي ما تبقى من آثار عربية"ص207، فالخراب والاستيطان يعم كل فلسطين التاريخية، ولم يبقي على شيء إلا ونال منه أو قضى عليه، فأين فلسطين التي يُطالب بها؟، الضفة ضاعت، والقدس تهودت، وأراضي الثماني والأربعين إسرائيلية.
في المقابل نجد أبنية راقية وجميلة: "تساءل سعيد عن مالكي القصور والمسابح، وإن كانوا ما زالوا يحملون شيئا من ولاء إلى هذا الوطن" ص229، هذه اشارة مبطنة إلى أن من أحدث وسبب الخرب الاجتماعي والاقتصادي هم اصحاب هذه القصور، فالخراب الهائل قابله (عمار) محدود ولفئة معدودة، وفي مكان محدد.
المكان
الفلسطيني يتعامل مع المكان كجزء منه، فهما كالروح والجسد، لهذا لا يتوانى عن ذكره وتمجيده، في بداية دخول "سعيد" إلى فلسطين يحدثنا السارد عنه بقوله: "لم يمكث في عمان، استقل سيارة أجرة أقلته إلى معبر الكرامة، وبعد إجراءات التفتيش الطويلة على الجانب الأردني والإسرائيلي، وصل أخيرا إلى أريحا، وتنسم بملء رئتيه هواء وطنه" ص35، فرغم طول الرحلة من أميركيا إلى الأردن، إلا أن "سعيد" لم يتوقف للراحة في الأردن، وفضل الاستمرار ليصل إلى أريحا.
وبعد أن وصل قريته: "لا زال جزء عميق في روحه يشده إلى المكان، برغم ما يحمله من أسى، تجول رفي الأزقة والحواري" ص41، من هنا نقول أن المكان يشكل روح الفلسطيني، ولا يمكنه أن يكون/يحيى بعيدا عنه أو بدونه.
قتل الأب
يأخذ "سعيد" على عاتقه مهمة البحث عن قتلة الده، والأسباب الحقيقية وراء عملية القتل، ففي الفصل الأول، الباب السابع يقابل "عساف" قاتل والده، ويجري هذا الحوار: "ـ المعلومات التي وصلتنا، كانت تؤكد بصورة واضحة وبالتفاصيل، أن والدك كان ضالعا بتسريب أرضي لليهود بالقرب من مستوطنة حلميش، حيث شارك في إتمام صفقة كبيرة، من خلال شرائه الأرض من عائلة أو مالك، ونقلها إلى ملكية جمعية استيطانية
ـ كيف وصلتكم المعلومات؟
ـ وصلتنا صورة الوكالة الخاصة التي اشترى بموجبها والدك الأرض؟" ص48 و49، وهنا يُوضع "سعيد" في زاوية ضيقة، ولكنه لا يكتفي بهذه الشهادة، ويستمر في البحث عن مزيد من الأدلة والأشخاص، يتصل شقيقه "جاسر" بالمحامي "راجح" الذي بدوره يتوصل مع المعتقل في سجون الاحتلال "إبراهيم كنعان" وأحد الشهود على عملية إدانة والده، يأتيه الرد كالتالي: "...مصدر المعلومات وصلتهم من عميل هارب يدعي مازن الحسن، كان يزودهم بمعلومات مقابل عدم التعرض لأسرته، ولم يكونوا يثقون بمعلوماته دائما. في هذه القضية بالذات زودهم بالوثيقة، التي وضعها لهم في مظروف لدى إحدى الصيدليات في رام اله، وتأكدوا أنها أصلية وصادرة عن كاتب العدل في رام الله" ص108.
الإصرار على كشف الحقيقة والبحث عنها، جعل "سعيد" يتواصل مع العميل "مازن الحسن" الهارب من منطقة السلطة إلى يافا، التي يجد فيها الأمان، يبدأ اللقاء بعدم قبول مصافحة "مازن" ولكن الحوار بينهما يتم:
"...(غمز بعينه) أحاول أن أغويه، ويحاول أن يهديني...كما أسلفت كانت طريقانا مختلفان، وجاءت الانتفاضة اللعينة... ونحن الذي كنا نأمر وننهى ويتملقنا الناس، نصبح خائفين من التنقل، ودائمي الهرب من العيوب.
...كان لنا صديق مشترك أنا ووالدك، وتربطنا ذات العلاقة القوية، ولنقل أن اسمه (محمود) وكان يعمل إلى صفي مع المخابرات الإسرائيلية.
هاجم الملثمون ذات ليلة بيت محمود وهرب في آخر لحظة، ولم يسعفه الهرب إلا إلى بيت والدك، استقبله والدك على مضض، وبدافع الصداقة القديمة، استضافه في عرفنا ك(دخيل) وليس كصديق... وقال له: أنسى أمر صداقتنا، أنت لم تستمع إلى نصيحتي، أنت اخترت هذا الطريق، فلا تتعجب من النهايات.. ظلت هذه العبارة القاتلة تؤرق محمود في يقظته ونومه، فسرها (كما قال لي فيما بعد) إنها شماتة صديق، شماتة الصديق تؤلم ألف مرة من شماتة العدو. من تلك اللحظة لم يصبح هدفا لمحمود في هذه الحياة إلا الإيقاع بوالدك وجعله يتجرع من الكأس ذاتها.. قام بإصدار وكالة خاصة حقيقية باسم والدك دون أن يعرف، ... وقام بنقل ملكيتها لصالح اليهود وزود الثوار بالوكالة الخاصة الحقيقية الصادرة باسم والدك، وهكذا تبين أن والدك هو من قام بتسريب الأرض لليهود" ص212-214، وهكذا تنكشف حقيقة اللعبة التي مارسها العميل "مازن"، الذي سيكشف لنا حققته، فلا يوجد شخص اسمه "محمود"، بل هناك "مازن" فقط. وبهذا يكون "سعيد" قد أتم المهمتان، اعداد التقرير عن واقع الناس في الضفة الغربية، وكشف حقيقة براءة والده.
لكن يستوقفنا حجم الأبواب التي تحدثت عن والده، ففي الفصل الأول جاءت الحديث عن والده في الباب 7 بثلاثة صفحات فقط، وفي الباب 8 بصفحتين فقط، وفي الفصل الثاني نجد عدد الصفحات في الباب 6 صفحتين أيضا، وهذا يشير إلى أن السارد كان يحجم عن تناول موضوع مقتل والد "سعيد"، وهذا أمر يحسب له، فحاثة القتل مؤلمة وموجعة، لهذا كان يتجاوزها/يتهرب منها قدر الامكان، وجاء في القصل الرابع في الباب 7 بعدد أربع صفحات ـ وجعله أخر فصل في الرواية ـ والذي ظهر فيه براءته وأنه تم خداع (الثوار) الذين وثقوا بمصدر معلومات مشبوه.
وهذا مؤشر إلى انحياز السارد إلى الضحية، وإلى عدم قناعته بقتل الناس، تحت أي تهمة، من هنا نجده يتحدث عن الطفل الذي لم يبلغ السابعة عشر من عمره، كيف تم انتحاره بعد عذب بوحشيه من قبل (المناضلين) والذي كتب على ورقة "أنا مظلوم، ...سلاما إلى أمي وأبي...وليغفر لي ربي" ص67، وهناك قول ل"سعيد" يؤكد على رفضه للقتل: " ليس من العدالة أن ندين الأشخاص بإحساسنا" ص64.
التباين بين مهمة "جين وسعيد"
رغم أن "سعيد" كانت مهمته في مكان محفوف بالمخاطر، الاحتلال والعملاء، والمناضلين الذين يجودنه ابن عميل، إلا أنه حقق انجازا على صعيد التكيف الجامعي، وعلى صعيد شخصي، ونجح فيهما معا، ودون أي اصابة أو أذى، بينما "جين" تتعرض لهجوم وتصاب وتمكث في المستشفى، رغم أنها في دولة كبيرة وعظيمة، الولايات المتحدة، وهذا يشير إلى أن فلسطين ـ رغم ما فيها ـ تبقى أكثر حنان وأمانا على الفلسطيني من أي مكان أخر.
عنوان الرواية
"اغتراب"، يشير إلى وجود الإنسان في وطنه، في بلده، لكنه لا ينسجم مع المكان أو مع الناس، بينما "الغربة" متعلقة ومرتبطة بالمكان، السارد ذكر الاغتراب في أكثر من موضع في الرواية: "الحداثة والتكنولوجيا الجديدة قفزت بالمرء وافقدته لذة التفاعل مع الاشياء الواقعية والمحسوسة، إنها قادتنا إلى الاغتراب السايبيري، وأفقدتنا حتى الهوية الشخصية"ص102، وهذا القول ينسجم مع حالة "سعيد" بطل الرواية الذي يعاني الاغتراب في وطنه، ولم يتحدث عن (الغرابة) في اميركيا، فصراعه/توتره وعدم انسجامه مع شعبه وناسه، الذين قتلوا والده، وليس مع الآخر، الأمريكي، وهذا ما أكد السارد حيث قال عن سعيد: "لم يكن يشعر بالغربة في امريكا، ولكنه لميكن يشعر أنه في بيته في تلك الحجرة، بمثل شعوره الآن في غرفة الضيوف في مخيم بلاطة" ص121، وهذا ما يجعل عنوان الرواية منسجم مع حالة "سعيد".
خاتمة الرواية
في آخر صفحة في الروية (يلخص) السارد رؤيه للأحداث من خلال مجموعة فقرات: "رام الله يغيب الياسمين أمام زحف البنايات... ويضيع أنين الياسمين أمام هيبة رأس المال.
أريحا الهنود الحمر يعيشون في ظل قصور المهاجرين الجدد
ونابلس .. الكنافة تثبت هويتها
...المخيم يغني اعراسه باللغة العبرية!
أنزل صورة والده عن الجدار، قبلها وضمها إلى قلبه، وأخرج من حقيبته إطارا جديدا وضعه في الموقع ذاته.
فتح النافذة الوحيدة، ولمعت أشعة الشمس في واشنطن على قباب القدس" ص234، اللافت في الخاتمة أن السارد يتناول المكان "أريحا، رام الله، نابلس، المخيم، القدس" وهذا يشير إلى أهمية المكان وقوة حضوره، كما أنه تطرق إلى حالة "سعيد" وإلى التحول الذي اجراه على (إطار) صورة والده، والذي يبدو أنه أخذ ينظر إليه بطريقة جديدة، رجل قتل ظلما، ولم يكن خائن لوطنه أو لشعبه، وهناك رمزية في فتح النافذة، والتي تؤكد على العلاقة الحمية التي تجمع "سعيد" بوطنه، بالقدس، فرغم بعد المسافة بين واشطن وفلسطين، إلا أن "سعيد" رأى الشمس تشرق على قباب القدس، وهذا تأكيد آخر على مكانة القدس وفلسطين عند سعيد.
الرواية من منشورات السكرية للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، القاهرة، الطبعة الأولى 2020.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف