الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

أطول رحلة لعائلة حمّوده في زمن الكورونا بقلم: منجد صالح

تاريخ النشر : 2020-05-24
أطول رحلة لعائلة حمّوده في زمن الكورونا  بقلم: منجد صالح
أطول رحلة لعائلة حمّوده في زمن الكورونا

منذ أيّام ونحن "نهمّ" بالسفر خارج مدينة رام الله، بعد حوالي شهرين ونصف من "البيات الشتوي" الكوروني الإجباري، دون مغادرة المدينة بسبب إجراءات الوقاية الإحترازرية في زمن الكورونا.

نسافر لزيارة العائلة، العائلة الكبيرة، في الشمال وفي الجنوب. فالشمال بالنسبة لحمّودة يعني مدينة نابلس وضواحيها وحتّى مدينة سلفيت، وبلدة كفل حارس، وضواحيها ومدينة جنين وضواحيها حيث أقارب حمّوده، عائلته وتفرّعاتها من جهة والده.

أما الجنوب فيعني الخليل وضواحيها وبعض بلداتها المحيطة بها، بيت أمّر وسعير والشيوخ وحتى بيت لحم، حيث عائلته من جهة الأم، وحتى الخضر. "ويا خضر الاخضر ويا نبي داوود، تحفظلي الأسمر، أبو عيون السود"، حسب الأغنية "الاهزوجة" الشعبية الفلسطينيّة التي كانت تصدح في المناسبات الشعبية  والاعراس.  

وقع الإختيار الأول على الجنوب، ربّما بفعل الثقل الذي تعنيه الأم ومن ورائها الجدّة والجدّ في رمضان. ولان سفرة الجنوب أطول وتحتاج الى إستعدادات أكثر فالموضوع يتعلّق بزيارة عائلة كبيرة لم تتقابل مع بعضها البعض منذ اكثر من عشرة اسابيع.

صباحا يوم الجمعة إمتطى حمّوده وأفراد عائلته السيّارة من أمام بيتهم في شارع الشجر في مدينة رام الله. وشارع الشجر هذا من أجمل شوارع مدينتي رام اللة والبيرة التوأم، وقد تم تشجيره بداية من عام 2002 بجهد شخصي ومجتمعي من سكّان الحي أو نفر منهم. واليوم الشارع "تُحفة"، تحفّة الاشجار الباسقة على الجانبين، ويصل إرتفاع بعض أشجاره الى عُلو أربعة طوابق من طوابق العمارات المحيطة.

كان أفراد العائلة يبدون وكأنّهم "روّاد فضاء"، فالكمّامات على أنوفهم وأفواههم والنظّارت الشمسيّة على عيونهم والطواقي السود والزرق على رؤوسهم والقفّازات البيضاء يتربّع فيها اصابعهم وأكفّهم، مع العلم أن موجة الحرّ الاولى في هذا الصيف المُتأخّر جدا كانت قد بدأت ترخي بظلالها وتبثّ إشعاعاتها الحارّة الجافة التي تتعدّى قوّتها ال 37 درجة مئوية.

انطلقنا بالسيّارة بيمن الله ورعايته قبل منتصف النهار بساعة أو تزيد، مع "همهمات" حمّودة بضرورة ولزوم وإجبارية أن نُعرّج على مول بلازا ليشتري "الزواكي" لأترابه من أبناء خالاته وأخواله، وإلا فإنّه "هدّد" بأننا سنُجبر على المرور من "البيت الثلاث"، بيت ساحور وبيت لحم وبيت جالا، في طريق الذهاب، من أجل ان "نًميّل" على حلويات حنظل في بيت لحم لشراء حلو "الإكلير" الفرنسي، بدل زواكي المول التركيّة.

سرنا في شارع الإرسال شبه الفارغ من السيّارت ومن المارّة. المحلّات التجاريّة مغلقة، فنحن في يوم الجمعة وفي زمن الكورونا. إنحرفنا يمينا لنترك محل قهوة ابو رشيد الموصد خلفنا ونحن نستقبل على نفس الجهة محل الشنكليش المقفل ومكتبة "شو بدّك" المقفلة ومدرسة فلسطين الأمريكية الموصدة ابوابها وشبابيكها والمُعطّلة أدراجها وغرف صفوفها منذ إعلان حالة الطوارئ منذ ثلاثة أشهر، يقابلها ميني ماركت "كزعان" المُقفل، الذي كان أيّان الدوام المدرسي "ينعف" بالطلّاب الباحثين عن الشيبس والبوظة والشوكولاته والكوكا كولا والميرندا والسّبرايت وغيرها.  

قبل الكورونا كان هذا الشارع من امام المدرسة الأمريكية "مُتخم" ويعُجّ بالمركبات الى درجة انّ شرطة السير حوّلته الى شارع ذي إتجاه واحد فقط.

إنحرفنا يسارا ويمينا ومررنا من امام مطعم نور المقفل. في رمضان من الاعوام السابقة كان يتوجّب عليك إذا رغبت في إفطار رمضانيّ عائلي في مطعم نور أن تتصل مسبقا بالمطعم وأن تحجز لك دورا على قائمة الإنتظار. هذا الرمضان لا احد ينتظر لا في المطعم ولا أمامه ولا حتى أمام الهاتف للاتصال لحجز طاولة، وربما العديد من الزبائن لم يعودوا يتذكّرون رقم هاتف المطعم.

يا إلهي ماذا فعل فيروس الكورونا بالعباد وبالبلاد؟؟ مطعم نور يقع على بعد أمتار من محيط "مستوطنة بيت إيل" التي تحتوي في أحشائها قيادة جيش الإحتلال في الضفة الغربية. فالإحتلال ما زال جاثم في جميع مسامات مدننا ومخيّماتنا وقرانا. وفي هذا الموقع ، اي في مدخل البيرة الشمالي، كانت تدور اشدّ وأعنف الإشتباكات بين قوات الإحتلال والشباب الفلسطيني الملثّم من جامعة بير زيت ومن المدينتين التوأم رام الله والبيرة وضواحيهما.

وكان الإحتلال يقذف المئات من قنابل الغاز المسيّل للدموع و"السّام" من مقذوفات جنوده ومن طائرات صغيرة مسيّرة تطير فوق المتظاهرين. وكانت رائحة الغاز القويّة النفّاذة تصل الى داخل مطعم نور وطاولاته وحتى مطبخه، وتزكم أنوف روّاده وتُدمع عيونهم، وتنزلق مع الكباب في حلوقهم، فيضطرّون للمغادرة على مضض، وأحيانا يستمرّون في التمترس وإنهاء وجباتهم "المخلوطة" بالغاز، لُقمة "مُغمسة بالغاز". لكن مفعول كورونا كان أشدّ من مفعول الغاز، فأقفل المطعم أبوابه. فيروس كورونا يُنافس كورونا الإحتلال على إقفال مطعم نور!!!

مررنا من أمام فندق السيتي إن، الخاضع لعملية تجديد وترميم وصيانة شاملة، الموقع الاقرب الى نقاط "الإشتباك". فندق السيتي إن إستثمار من مغترب فلسطيني عاش في امريكا، وعمل وكدّ وجدّ ورجع بثروة، ويحمل الجنسية الأمريكية. ومع إنطلاق إنتقاضة عام 2000 إحتلّه جنود الإحتلال الإسرائيلي وإتخذوا منه ثكنة و"قاعدة" متقدّمة لقمع وتكسير عظام الشباب الفلسطيني الثائر على ظلم وبطش الإحتلال وإحتلاله. وقد رابط فيه الجنود سنوات فحطّموه وكسّروه وجعلوه خرابا خاويا على عروشه.

وعندما غادروه مع نهاية الإنتفاضة وجد صاحبه الفلسطيني الأمريكي نفسه في ورطة ونكبة ومصيبة، فقد تبخّر "شقاء العمر"، فاقام دعوى قضائية ضد جيش الإحتلال مطالبا إيّاهم بالتعويض عن خراب الفندق، متسلّحا بجنسيّته الأمريكية "المُبجّلة" العابرة للقارّات والحدود والسدود. لكن جنسيّته الأمريكية هذه عندما يتعلّق الأمر بجيش الإحتلال لا تسود ولا تعود بمردود ولا "تسمن ولا تُغني من جوع" ولا "تُصرف" ولا في أيّ بنك. وإضطر الرجل أن "يبُلّ جنسيته الأمريكية وأن يشرب ميّتها"!!!

إخترقنا "المنطقة الحرام" التي تُزنّر مستوطنة بيت لإيل، معبر المحكمة العسكرية المعروف بأسم حاجز ال "دي سي أو". في هذه المحكمة الإحتلالية الظالمة، الخارجة عن القانون والبعيدة عن العدالة، فعدالة الإحتلال كعدالة الذئب مع الحمل، حوكم آلاف الفلسطينيين الذين زُج بهم في السجون على مجرّد رمي حجر على جيب عسكري مصفّح، حتى لو كان الرامي، "لقنّاص"، فتى فلسطينيّا بعمر عشرة زهرات.

لحسن حظّنا كان الحاجز خاليا من الجنود، على غير عادته، فهم عادة يتمترسون عليه ويصوّبون أسلحتهم الرشّاشة مباشرة نحو المواطنين الفلسطينيين العابرين بسيّاراتهم، فقطع الحاجز مشيا على الأقدام ممنوع ويعني ضربا من ضروب الجنون و"الإنتحار" لأن الجنود سيطلقون النار على كل من يتجرّأ  ويحاول تجاوز الحاجز سيرا على الأقدام. ومن يفعل ذلك فيتحوّل في لحظات من سائر على الأقدام الى محمول على الأعناق.

سرنا في الطريق الإلتفافي المتعرّج الذي سيفضي بنا الى الشارع الرئيس القادم من الشمال للجنوب. قبل الولوج في الشارع الرئيس الذي جعل الإحتلال مؤخّرا من تقاطعه مع الشارع الرئيس دوّارا كبيرا بتفريعات متعددة. قبل الوصول الى الدوّار تقابلك من جهة اليسار محطة باصات إحتلالية مدرّعة بمكعّبات الباطون المسلّح لحماية المستوطنين. في هذه المحطة وقبل اكثر من عام أوقف فلسطيني سيّارته في الطريق وترجّل وفي يده رشّاش وأطلق النار على الجنديين الذين يحرسان المحطة وارداهما قتلى ورجع الى سيّارته وركب فيها وإبتعد عن الانظار وكأن شيئا لم يكن.

أما تفرّع الطريق المهجور بفعل إجراءات الإحتلال فكان يقودك الى قرية رافات رام الله، لكن الطريق مقفل ويجب عليك ان تلفّ وتدور "وتقطع الفيافي والسبع بحور" حتى تدخل من "عبّارة" اسفل الشارع الرئيس لتصل الى بلدة رافات.

وفي بلادنا يوجد "رافاتتان"، إذا جاز التعبير. رافات هذه المحاذية لمدينة رام الله. أما رافات الثانية فتقع في محافظة سلفيت متاخمة للخط الاخضر بجانب دير بلّوط والزاوية، وهي مسقط راس المهندس يحيى عيّاش، الذي إغتالته المخابرات الإسرائيلية في غزّة بتفجير هاتف نقّال "مُفخّخ" خلال تحدّثه فيه مع أبيه.

إنحدرنا في الطريق العريض المستقيم المغري للسرعة حيث من الممكن أن تبلغ أحيانا إذا لم تخففها بدوسك على فرامل السيّارة إلى 160 كيلومترا في الساعة، وهي سرعة مرتفعة جدا ولا تتناسب مع طبيعة الطرق في بلادنا. ثمّ صعدنا المنحدر إستمرارا للمقطع المُغري للسرعة، وخفّفنا السرعة حين بدأ الإنحدار التالي المتفرّع منه شارع مخماس والشارع المؤدي الى أريحا والأغوار. وزدنا تخفيف السرعة حين لاحظنا على يمين الطريق "سربا" من خمسة غزلان صغار "تتمخّتر" في قفزاتها الهادئة الرتيبة وكأنها "أمّنت" على نفسها تماما من أي "إزعاج" يمكن أن يسببه لها بني آدم.

وعلى ذكر مدينة اريحا والأغوار فإن سلطات الإحتلال وبوحي من صفقة القرن تقوم بضم منطقة الغور والمستوطنات الى السيادة الإسرائيلية، كي تشكّل سدّا منيعا حصينا أمام "أية هجمات مباغتة عليها من جهة الشرق"، ربما من الشيشان او إيران أو من مغول بلاد القوقاز وآسيا الصغرى!!! حجج واهية سخيفة لإستدامة الإحتلال وترسيمه وتوسيمه، بمباركة الطاووس الاشقر ترامب وتحت حراب سطوته. كي نحصل في نهاية المطاف على حكم ذاتي إداري محدود في قطعة أرض "مخردقة" مقصقصة، قطعا من جلد النمر أو بيوتا من النمل، على نسبة عشرة بالمئة من أرض فلسطين الطبيعية، أرض الرسالات السماويّة، مولد سيّدنا المسيح ومسرى ومعراج سيدنا محمد (ص) في الأرض المقدسة المباركة التي باركنا حولها.

صعودا الى مفرق "جبع" حيث الدوّار الكبير والنفق الذي أقامه الإحتلال وإستغرق بناؤه مدّة طويلة. كنت كلما مررت من هذا الموقع وهو قيد الإنشاء ورؤية الإمكانيّات الكبيرة التي يضعها الإحتلال في بنائه وإنجازة، أتذكّر مقولة للأخ حكم بلعاوي، سفير فلسطين في تونس في حينه وعضو قيادة فتح والمنظمة، حين كنّا نتحضّر في تونس لمغادرتها للعودة الى ربوع الوطن، بحسب مقتضيات وتبجيلات إتفاقات اوسلو.

قلت له: "أعتقد بأن الإحتلال سيُجمّعما ويضعنا في فك التمساح". فأجابني باسما ومستنكرا ومستهجننا ومؤكدا: " لا لا. همّ الإسرائيليين ولمّا نضع رجلنا على الشريعة (نهر الأردن)، هُمّ طالعين طالعين طالعين".

لكن تبيّن أنهم نازلين نازلين نازلين وليس طالعين!!!

ولم يُغادروا و"يطلعوا"، مثلما كان يتمنّى ويعتقد، وإنّما أقاموا ما بين مدينة وأخرى من مدن بلادنا المحتلّة حدودا دوليّة، ووسّعوا الشوارع وضاعفوا عددها اضعافا مضاعفة وبنوا الجسور وحفروا الأنفاق، أنفاقا لحركة السير وراحتهم وليست للتهريب!!!

على رأس التلّة المقابلة أمامنا تشمخ بلدة حزما، في فم مدخل الحاجز المؤدي الى مدينة القدس المحتلّة. لقد حوّل جنود الإحتلال بلدة حزما الى سجن محاط بالاسلاك الشائكة والجدار، والى ثكنة عسكرية يتواجد جنود الإحتلال على مداخلها خلال الليل والنهار.

في بلدة حزما تُطالعك المتناقضات وعشوائيات محطات بيع السولار والبنزين "خارج القانون"، "السولار المُهرّب"، بسعر أقل من سعره الحقيقي في السوق ولكن ايضا بجودة اقل. فموقع حزما الملاصق لحاجز القدس الإحتلالي يجعلها خارج نطاق سلطة السلطة.

ولحزما أيضا ذكريات جميلة، قادمة من اقاصي الأرض، من فنزويلا، من أمريكا اللاتينية، توأم الوطن العربي. ففي امريكا اللاتينية يوجد أكثر من 12 مليون من اصل عربي، جاليات متجذّرة منذ نهايات القرن قبل الماضي، هاجرت ونجحت وساهمت في بناء حضارة وثقافة وإقتصاد البلدان التي إستضافتهم واصبحوا جزء لا يتجزأ منها ومن نسيجها الاجتماعي والوطني، والعديد منهم أصبحوا من علّية القوم ومن اسياد البلاد.

في فنزويلا ذات المناخ المداري الحار توجد مدينة بحرية صغيرة تسمّى "توكاكا"، كافة المغتربين الفلسطينيين فيها ينحدرون اصلا من بلدة حزما، لهذا أطلقت عليها اسم "حزما تاون"، على غرار "تشاينا تاون" في مدن الغرب.

على رأس الجالية المهذّب عبد الكريم من أب حزماوي وأم فنزويلية، لكنه بخلاسيّته الفلسطينية الفنزويلية، شديد الإلتصاق بفنزوليّته وشديد الإلتصاق بنفس الدرجة بفلسطينيته وحزماويّته. عبد الكريم يملك في توكاكا فندقا شعبيّا، ربما نجمتين أو ثلاثة، لكنه نظيف ومرتّب ويملك محال تجاريّة.

 في إحدى زياراتي الى توكاكا للقاء الجالية، ففي فنزويلا جالية فلسطينية كبيرة هاجرت إليها في الخمسينيات من القرن الماضي، أي انها من الهجرات الحديثة نسبيا مقارنة مع هجرات بيت جالا وبيت لحم تجاه التشيلي وهندوراس والسلفادور في عهد الدولة العثمانية.

في هذه الزيارة فاجأني عبد الكريم وبعض من صحبه من الشباب الحزماوي بترتيب رحلة بحرية من خلال "لانش" يتّسع لثمانية أشخاص.

مخرنا باللنش في عباب البحر لمدة تزيد عن ثلاثة أرباع الساعة، حرص خلالها "الشباب" أن يمكّنوني من قيادة اللنش. لاول مرّة اقود لنشا. كانت التجربة مُشجّعة فقد بدا لي أن قيادة اللنش عملية سهلة، لا تحتاج الى "رخصة قيادة"، فالمياه أمامك فسيحة قليلة الأمواج. لا توجد لا مطبّات ولا حفر ولا "سائقين" مجانين يزاحمونك في حقّك وفي باطلهم.

وصلنا الى ثلاث جزر صغيرة لصيقة مع بعضها البعض تتكوّن من رمال بيضاء ناصعة وبعض الشجيرات. لا اثر لإنس ولا جنّ فيها. شعرت بنفسي وأنا "اهبط" على رمال الجزر الصغيرة وكأنني "روبنسون كروزو" في الجزيرة النائية.

قضيّنا النهار بطوله وبشمسه المُشعّة نسبح في مياه دافئة نظيفة زرقاء صافية تميل الى الخضرة بفعل قلة عمق المياه على ضفاف الجزر الثلاث، "جزر روبنسون كروزو الجديدة".

تجاوزنا حزما وبقيت ذكرياتها، صعودا الى مفرق بلدة عناتا، ومنه في الطريق الطويل المستقيم الملاصق للجدار. "لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصّنة أو من وراء جُدُر"، صدق الله العظيم. وصولا الى "حاجز الزعيّم" الإحتلالي المشرف على مستوطنة "معاليه أدوميم"، وهي الى جانب مستوطنة آرئيل في محافظة سلفيت، من أكبر المستوطنات في الضفة الغربية.

تركنا مستوطنة معاليه أدوميم وراءنا لتستقبلنا بلدة العيزرية والمنحدر المؤدي الى التلُة التي تقود الى أطراف بلدة أبو ديس وحاجز الكونتينر الإحتلالي البغيض، حيث أعدمت قوات الإحتلال العديد من الشبّان على هذا الحاجز بدعوى محاولات طعن أو دهس.

شبابنا يُقتلون على الحواجز لمجرّد الإشتباه بالطعن أو الدهس وأحيانا لمجر التفكير في ذلك، يُعدم شبابنا بدم بارد على الحواجز لمجرّد الإعتقاد أو النوايا!!!

إجتزنا بلدة العبيدية الممدودة على عدّة تلال و"المدروز" في شارعها الرئيس الذي يخترق البلدة، ستة وعشرين مطبّا بأحجام وإرتفاعات متعددة. إنحرفنا يسارا قبل جسر دار صلاح لنأخد الطريق الإلتفافي الخارجي وتفادي إختراق "البيت الثلاث"، وخاصة وأن حمّودة كان قد إشترى الزواكي من مول بلازا رام الله، ولا داعي لتنفيذ تهديده.

سرنا سريعا في الطريق الإلتفافي الطويل الى أن إجتزنا في نهايته مستوطنة إفرات وأشرفنا على دوّار عصيون اللئيم الخطر، حيث كثافة المستوطنين وكثافة رجال الأمن والجيش الإحتلالي المُتأهبين المصوّبين رشاشاتهم تجاه الفلسطينيين المسافرين جنوبا. يخال لك أنّهم من الممكن أن يطلقوا النار تجاه السائق الفلسطيني حتى لو إرتكب حادثة سير بسيطة من الممكن حدوث مثلها في سويسرا او الارجنتين او موزمبيق، وتمرّ كحادث سير بسيط. أما هنا، على حاجز عصيون، فإن أي هفوة صغيرة ستعني وابلا من الرصاص من إتجاهات متعددة.

إجتزنا عصيون "بسلام" نحو العروّب، كليّة العروب الزراعية، على اليمين، التابعة لجامعة الخضوري في مدينة طولكرم، بأراضيها الزراعية الخصبة الممتدة باشجارها المثمرة. يجاورها "مستشفى اللمبي القديم" بمحاذاة الطريق، كان مؤسسة تبشيرية مسيحيّة يقدّم خدماته لسكّان المنطقة، إستولى عليه الإحتلال مؤخّرا وسيّجه ورفع عليه أعلامه البيضاء الزرقاء الممهورة بنجمة داوود السداسيّة. وعلى يسارك يجثم مخيّم العرّوب قلقا من تحرّش جنود الإحتلال المرابطين على أبوابه بصورة دائمة.

لم يبق لنا إلا سير "خبط العصا" حتى نصل مدخل بلدة بيت أمّر، وجهتنا ومقصدنا ومحطّتنا الأخيرة. أوقفنا السيارة أمام "مجمّع بيوت جدّ وأخوال حمّوده"، ونحن ما زلنا بعدّتنا "الفضائية" من كمّامات ونظّارات وطواقي وقفّازات واقية.

كان في بالي ان نحافظ على السلام "المُتباعد" في زمن الكورونا. السلام بالإبتسامة أو الغمز بالعين أو "بترقيص الحواجب" أو بالتلويح باليد "هاي، باي" أو بالإنحناءة الصينية أو بضم الأكف والإنحناءة الهندية أو بلمس قبضات الايدي أو بلمس الأكواع مع بعضها.

لكنني وجدت نفسي فجأة "مثل الشاة البرقة"، وأنا أشاهد وأراقب، عن قرب، أفراد عائلتي الصغيرة وقد غاصوا في بحر متدفّق من العناق والقبل مع أفراد العائلة الكبيرة ... ووداعا كورونا.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف