الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

بأيِّ أرض تموت بقلم: عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2020-05-18
بأيِّ أرض تموت  بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
بأيِّ أرض تموت

( عادل بن مليح الأنصاري )

عندما ظن أحد الملوك في الأزمان القديمة أن السعادة مرتبطة بالمال سأل أحد الحكماء عن حقيقة ذلك , وكان اسمه" صولون " , فقال له ( لا يمكن اعتبار أي إنسان سعيدا حتى يموت ) , وكان يقصد طبعا أن الإنسان يمكن أن يكون سعيدا ولكن الأقدار قد تتغير في أي لحظة وتنقلب سعادته لشقاء , ولن يتأكد أنه أمضى حياته سعيدا حقا حتى يموت ويضع الموت نهاية لعبث الأقدار بسعادته , وفي هذه القصة كثير من المنطق , فمهما بلغت سعادة الإنسان لن يضمن تغير الحال وانقلاب المآل , حتى تنتهي مخاوفه من نهاية سعادته بنهاية الحياة ذاتها , وقال أحدهم ( من لم يكن له الموت واعظ , فلا فائدة له من كل المواعظ ) , وهذه أيضا حقيقة منطقية , فمن لم يخفه الموت لن يخاف شيئا في الحياة , وقصص الموت وما تنطوي عليه من حكم كثيرة وعميقة ومؤثرة أكثر من أن تُحصى , ولعل الموت كلمة نمر بها مرور الرهبة والعجل وكأنها لا تعنينا إلا إذا نال من قريب أو صديق , عندها ننظر إليه بنظرة مفاجئة وكأننا نشعر به لا نسمع به , وبينها فرق كبير في الشعور والتعامل .
ومنذ أقدم العصور تساءل البشر عن سر الموت , وهل يمكن الفرار منه , وهل يمكن أن نمل الحياة الأبدية لو تمكنا من تحقيقها وسنتمنى الموت ذات يوم ؟

يُحكى في أسطورة (تيثونوس) الطروادي , أن حبيبته طلبت من كبير الألهة زيوس أن يمنحه الخلود , ولكنها نسيت أن تطلب منه الشباب الدائم مع خلوده , يقول (هوميروس) "أن الشيخوخة الكريهة جثمت بكل ثقلها على تيثونوس" , فصار خَرِف بلا نهاية , والمغزى هنا أن الحياة الأبدية بدون الشباب وصحة العقل والبدن تتحول إلى شقاء تام , ويبقى السؤال , ماذا لو تحقق الخلود مع الشباب وصحة العقل والبدن , هل يتسلل السأم والملل والضجر إلى حياتنا ويحيلها إلى جحيم , مالذي جعل زهير بن أبي سلمى يقول :

سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ

قصة الهروب من الموت والبحث عن إكسير الحياة قديمة قدم البشرية , وظل البشر يبحثون عن ذلك الخلود بالطب تارة , وبالسحر تارة , وبالخرافات أحيانا , فكان (جلجامش) يلتمس الحياة الأبدية في صورة نبات خرافي , ثم ظهرت خرافة إكسير الحياة والكأس المقدسة , وطحين قرن الحصان أحادي القرن الخرافي , وحجر الفلاسفة , وكلها كانت محض خرافات طواها الزمن وبقي الموت صاحب الكلمة الأخيرة .
ورغم محاولات الطب الحديث , ومحاولات الباحثين والعلماء لإيجاد طريقة تطيل الحياة على الأقل لسنوات عديدة , لم يتمكنوا إلا بتحسين الصحة العامة وتأخير أعراض الأمراض وزيادة بسيطة في معدلات الأعمار لم تتجاوز أل120 سنة في أقصى الحالات .

إن تسابق العلماء في البحث عن حقيقة الموت وطريقة عمله في السنوات الأخيرة , عن طريق الكيمياء الحيوية , مكنتهم من قطع شوط كبير في فهم ومحاولة علاج أمراض خطيرة يعاني منها البشر , ومازالت أبحاثهم تجري على قدم وساق في فهم تلك الأمراض مثل , الزهيمر والخَرَف , والسرطان والسكري وغيرها من الأمراض , وحتى مقولة (فايسمان) أن العمر والشيخوخة أو تقدم العمر هي مكتوبة في الشفرة الوراثية للإنسان , مجرد خيالات حتى الآن .
ولكن الوعد الإلهي لا مفر منه :

( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )

ربما يكون الموت في ظاهره الفناء , ولكن في الحقيقة قد يكون حلا لكثير من مشكلات البشر , وحتى على الصعيد الشخصي , فرغم مرارة الفراق على المحبين له , إلا أنه ترك مشاكل الحياة ورغباتها واللاهاث خلف مادياتها , والتخلص من الألم والشيخوخة والمرض والفقر والعداوات والتفكير في الغد والتخطيط للمستقب , ورمى الهموم عن كاهله للأبد , ربما يتخلص من الحزن ذاته على موته ويتركه لمن يحيطون به وهو راقد في سلام وطمأنينة .

ولكن إذا ما للموت من بدّ , ألا نتمنى حُسن الخاتمة , وميتةً كريمة ؟
من السهل على الإنسان البحث عن الحكمة , أو التشدق بها , أو المباهاة بها أمام الغير , أو حتى مجرد التفكير بها , ولكن البشر يكادون يتنافسون في عدم الأخذ بها , فالكل يتمنى موتة كريمة وأن يكون الله تعالى راضٍ عنهم عند حضور ملك الموت , ولو ناقشت أيا كان لما تمنى غير ذلك , ولكن الواقع المر أننا نقترف الخطايا والذنوب ليل نهار, وكأننا نأمن زيارة ملك الموت أثناء اقتراف إحداها , ومن نعمة الله على البشر النسيان , فهو ينسى هذه النهاية الحتمية والتي لا فرار منها بتاتا , ولا تفرق بين عظيم وبسيط , ولذلك يغفل عنها أغلب البشر أثناء ممارسة أي خطيئة , ولكن الخطيئة مهما كانت يمكن فلسفتها بواقعية ومنطق , أنها لحظات تنتهي لذتها ويبقى وزرها ليوم القيامة في ميزان أعمالنا , قاعدة بسيطة ندركها ونتجاهلها في نفس الوقت , (قتل الإنسان ما أكفره ) .
إن الإنسان مخلوق مفكر , ولكن قد يخطئ في تفكيره وتقديره ,

( إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ .فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ) .

وهذا فرعون ينقل لنا صورة بينة عن معرفته بسوء الخاتمة وندمه على الوصول لتلك المرحلة بعد فوات الآوان , فهو طغى وتجبر وظن أن الموت منه بعيد ولم يتفكر في لحظات وقوعه تحت سلطانه , فتبع موسى طغيانا وتجبرا ولما اشرف على الغرق أدرك سوء خاتمته وقال : ( آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ) .

إن النجاة من ميتة السوء أو سوء الخاتمة مرتبطة كليا بمن تعلق قلبه بالله وجعل الخوف من لقائه نصب عينيه , وهي نعمة وهبها الله تعالى لبعض خلقه , فهؤلاء يضمنون حُسن الخاتمة ومواجهة الموت برضى وإيمان , حيث لا يتركون أنفسهم في مزالق الضلال ولو للحظة واحدة , خوفا من وقوع الأجل في تلك اللحظات , تلك المزالق التي يقول أصحابها عن أنفسهم :
( وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ) .
وهناك الكثير من الآيات التي تحدثنا عمن حضرتهم الموت وهم يدركون أن خاتمتهم سيئة , فيتمنون من الله أن يعيدهم للحياة أو يطيل أعمارهم ليعملوا صالحا بعد أن أدركوا أنهم مغادرون للحياة , فيقول الله تعالى على لسانهم :
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ .
وقال تعالى على لسانهم أيضا :

( وأنفقوا من ما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ) .

ربما الحقيقة كالتالي : أن الموت ليس مرضا عارضا يصيب المخلوقات كما يأمل الباحثون في تحقيقه , أو جين موجود سيتم التحكم فيه ذات يوم , فالإنسان قد تصيبه كل الأمراض المعروفة , ويصبح مقعدا ومشلولا شللا كاملا , وتصاب أعضاؤه جميع بالضمور , ويبقى كجسم جامد تماما كأنه قطعة حديد أو خشب , ولكن الروح تدب فيه ولم يدخل في عالم الموتى , لماذا ؟
لأن الموت والروح أمران بيد الله وليست بيد البشر وأبحاثهم مهما طال الزمن وتطور العلم , وقد أنهى الله تعالى البحث في هذه المسألة فقال تعالى :

( وَيَسْـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ ۖ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا )
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف