الأنا في قصيدة " أراك عصي الدمع"
لأبي فراس الحمداني
د. أحمد جبر
حظيت هذه القصيدة بالكثير من الدراسات، وكانت محور العديد من الأبحاث والمقالات، وقد ذاع صيتها وانتشرت بين الناس، أضف إلى ذلك أنها قد دخلت عالم الأغاني والموسيقى الذي زادها حضورا وتأثيرا، كما أنها القصيدة التي تظهر شخصية أبي فراس الحمداني على حقيقتها وهي شخصية الفارس الأبي المغوار الذي لا يستسلم بسهولة ولا يذعن لعدو أو توقفه الصعاب والمغامرات والعقبات لدرجة يمكن القول فيها بان هذه القصيدة تمثل الأنا المطلق وكأنه يحاكي المتنبي في قوله عن الخيل والليل والبيداء وعن نظر الأعمى إلى أدبه وإسماعه للصم.
وإن كان أبو فراس الحمداني عصي الدمع، في قصيدته ، وشيمته الصبر، فإن القارئ لقصيدته سرعان ما يهتدي لمفاتيح الصبر، وتفكيك رموز العصيان ؛ ليلج إلى نص يزخر بالانفعالات ، وبالمشاعر، وبالصور الفنية المعبرة ، وليجد نفسه في دائرة تتجاذبه فيها تلك الأساليب اللغوية والفنية ، التي وظّفها أبو فراس الحمداني للتعبير عما يجول في نفسه وخاطره ، وهو الذي عانى مرارة أسرين كلاهما مر: أسر السجن ، وأسر الحبيب الذي أكثر من عتابه ، ومن إلقاء اللوم عليه بسبب هجرانه وجفائه، وعدم التفاعل معه في حالته الوجدانية التي عاشها.إن فعلا أقدم عليه المتنبي في مقدمة قصيدته اللامية التي مدح بها سيف الدولة الحمداني ، يمكن أن ينسحب على مقدمة أبي فراس في رائيته ، إذ يتبادر لذهن قارئ اللامية أن المتنبي يتحدث عن محبوبة ظعنت كبدر أخفته الليالي الشكول وقد راحت تظهر له بدرا آخر ما إليه سبيل ، فليل المتنبي الطويل يذكّر بليل امرئ القيس لكنه سيصاب بالرقة وبالنحول إن هو رأى عيني الحبيبة كما يراهما المتنبي ، وإذا بالبدر سيف الدولة الحمداني ، وكذلك الأمر في رائية أبي فراس التي يعاتب فيها سيف الدولة ، ويبذل فيها قصارى جهده لاستمالتة و لتخليصه من الاسر الذي وقع فيه، مستخدما كل ما نسجه خياله وانغمست فيه عواطفه وانفعالاته ، ومتنقلا بين الفخر والغزل والفروسية والحكمة وعارضا لسجاياه وخصاله التي يتصدرها الإباء والصبر على المكاره، وكل ذلك جاء به الشاعر متنقلا بين أساليب اللغة المتنوعة ، التي صاغها بمفردات معجمه الذي يتناغم والغرض الذي يتحدث عنه. لقد كانت الحرية شغل أبي فراس الشاغل وغرضه الذي حرّك فيه مواجعه وآلامه لتفيض بها روحه الشاعرية أنفة وعزة وكبرياء.
يطل علينا أبو فراس الحمداني بقصيدة هذه وقد وجه( الخطاب لنفسه على طريقة التجريد كأنه جرد من نفسه شخصا آخر )ويحلّق الحمداني في قصيدته بفضاءات ملونة، تعج بالمشاعر، وبالانفعالات التي رسمها معنى ولونا، وحدد لها الأوساط الناقلة لها، في مناخ مفعم بالهيجان العاطفي ، ومكلل بأبيات الفخر التي تفيض عزة وأنفة ومنعة، تشي بتضخم نفسية الشاعر ،وعظم فروسيتها، وبيان قدرها ورفعتها وعلو مكانها.فالشاعر يقدم لقصيدته بأبيات انتظمها خيط من الحزن، وتصدرها ذكر دمعه الذي كان عصيا ممتنعا، وهو متمسك بجلده وبصبره ، فهو مشتاق، وملتاع، مكابر لا يفشي بسر عشقه واشتياقه لأحد .ومع كل ذلك الصبر ، وتلك الأنفة والإباء ، فإن لليل في حال أبي فراس ما له في حال غيره من العشاق والشعراء الذين تحدثوا عنه ووصفوا فيه لوعتهم واشتياقهم وتوهج نيران بين ضلوعهم وهم يفكرون في المعشوق وقد تقاطر الدمع من عيونهم وهم بين تعلّل بالوصل أو الموت وقد راحوا يحافظون على المودة والعهد الذي ضيّعه غيرهم .وفي البيت السابع يتحدث الشاعر عن الأيام التي شبهها بالصحائف التي يكتبها الانسان ويقدم لها بأحرفه وبأعماله التي ينبغي أن تكون مبشرة وكأنه بذلك يستدر عطف عشيقته وحنانها لتقدم له شيئا من الوصال والبشرى ولذلك نجده يعود مرة أخرى للحديث على الغادين وفيهم غادته الحسناء التي أحبها فهجرته ولم تصله وكأن حبه لها ذنب اقترفه يستحق العقاب عليه وتلك المحبوبة تعرض عنه وتميل الى كارهيه والى الواشين به في الوقت الذي تأبى أذنه الاستماع الى أية وشاية أو نميمة.ثم يبين الشاعر في البيت العاشر وحشة المكان حين هجرته المعشوقة وكيف ارتحل الى البادية وهام على وجهه في الوقت الذي يقيم اهله في الحاضرة وقد حاربهم في هوى المعشوقة وخاصمهم من اجلها وهم بالنسبة اليه جرعة الماء التي تحييه وشربة الخمر التي ينتشي بها . لقد خاصم الشاعر أهله وحاربهم من اجلها وقد اطرقت بسمعها للوشاة الذين استهدفوه ولاحقوه لذلك يحذرها منهم رغم انه لا يتأثر بما يقوله الوشاة عنه وان صدقت قولهم فان حبه لها يقضي على اقوالهم تماما كما يهدم الايمان ما بناه الكفر والشاعر وفي لمعشوقته الغادرة فالوفاء خصلة حميدة ولكن منها ما تعتريه المذلة أحيانا حين يكون الغدر شيمة المحبوبة مع انها تتحلى بالوقار الا ان ريعان الصبا واول الشباب يستثيرها فتجمح كالمهر الصغير وتبطر وتنشط .وفي البيت الخامس عشر يلجأ الشاعر الى حوارية بين السؤال والجواب بلهجة الاستهجان والاستغراب ذلك ان المحبوبة تتساءل عنه باستنكار وهي تعرفه حق المعرفة مردفا باعترافه بأنه قد وقع قتيلا في عشقها شأنه في ذلك شأن الكثيرين الذي قضوا في حبها وكانوا قتلى لعشقها وهي بذلك فتاة جميلة حسناء يسعى الكل وراءها ويعملون على لفت نظرها وان يحظوا بحبها وهي المتعنتة مع الشاعر رغم علمها ومعرفتها الاكيدة به وبحاله وفوق كل ذلك فهي تحقره وتنقص من قدره وتلقي بذلك على الدهر .ان كل ما سبق ذكره يجعل للاحزان مسلكا في نفس الشاعر فقد كانت المعشوقة السبب الرئيس في تلك الاحزان التي عاشها وعاناها وجعلت قلبه يئن منها ويتأوّه وكأن تلك الرزايا والاحزان قد عبرت الى قلبه ونفسه واستوطنت فيهما عبر جسر الهوى والمحبة ، هكذا يكون الحب جسرا للاحزان والهموم ويمهد لكل ما تضج به النفس البشرية جراء الهجران والنأي للدرجة التي تهلك فيها النفوس والمهج بين جد وهزل ، هنا يفصح الشاعر عن تلك الحالة المزرية التي يصلها العاشق والتي يفقد من خلالها العز والاباء وبخاصة حين يخرج من حالة العشق صفر اليدين .وفي البيت الثاني والعشرين يقلب الشاعر أمره ويتفقد حاله الذي لم يجد فيه الراحة والسكينة وأنى له بالراحة وقد وقع فريسة للبين والهجر ثم يعود الشاعر الى حكمه وقوله لعشيقته بأنها كانت السبب في حاله الحزين وكذلك في تحقيره فهو معذور في حبها وهي المذنبة بحقه . وكأنه ينادي من فوق رابية ظبية جميلة رقيقة الجفون اصابها الخوف والفزع لذلك فهي تجفل حينا وتدنو حينا آخر وكأنها تنادي صغيرها الموجود في الواد ولم يستطع اللحاق بها .وكأن الظبية محبوبته وكأنه صغيرها .وفي البيت السادس والعشرين ينكر الشاعر على ابنة عمه فعلها واقدامها على التنكر له و يطلب منها عدم التنكر له فمثله لا ينكر فهو معروف لدى البدو والحضر والفارس القائد جرار الكتائب والجيوش المنتصرة دائما وهو الذي يخوض غمار المكاره والمخاوف دون خشية ولا خوف في الوقت الذي يحجم الكثيرون عن فعل ذلك وينظرون اليه نظرة الخوف والهلع وكيف لا والشاعر ترتوي قبله بيض السيوف والرماح وتشبع قبله الذئاب والنسور وهو عزيز كريم النفس جواد فارس لا يهاجم الاحياء الامنة ولا الاحياء التي خرج منها رجالها وبقيت النساء فيها كما انه لا يقدم على فعل الهجوم على الجيوش الا بعد الانذار والتحذير والتخويف وهو كذلك يروم كل صعب وكل منيع ليهاجمه ويغزوه فجرا يرافقه الموت والردى دونما سبي للنساء ولا هتك لخدورهن ويحسن معاملة الفتيات الجميلات المنعمات بدون غلظة ولا جفاء ويرد ما حازه من غنائم لهن حينما يطلبن ذلك دون هتك لسترهن او ابتزازهن.وفي البيت السادس والثلاثين يستمر الشاعر بنفس النفس الفروسي صاحب اللواء والاباء متحدثا عن عفة نفسه وعن سخائه وكرمه فهو فارس لا يكترث للمال وللغنى كما لا يثنيه الفقر عن البذل والعطاء وعدم حاجته للمال بالقدر الذي يحرص فيه على حماية عرضه وصونه.ثم ينتقل الشاعر الى قصة الاسر مع رفاقه وهو الفارس الشجاع الذي يمتطي صهوة فرس جواد قوي مدرب ومع ذلك فانه يستسلم للقضاء الذي لا يفر منه احد ولايحميه منه البر ولا البحر وفي هذه الاجواء يطلع عليه اصحابه الذين استصغرهم وهم يقولون له : الفرار أم الردى؟ فيجيب انهما امران أحلاهما مر مختارا المضي في طريقه والصمود في وجه الاعداء وان عاتبه الاخرون بذلك حيث فضل القتال والاسر على الفرار وهو بذلك الرابح الذي لم يخسر شيئا فالموت لن يتأخر عنه اذا ما انتهى أجله كما يبعده عنه الاسر او الضرر ذلك ان الموت لا يهرب منه انسان لذلك على الانسان ان يقدم من الاعمال والفعال العظام ما يخلد ذكره في العالمين وان لا يكون "كعمرو بن العاص حين نازل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث كشف عن سوءته امامه حتى يتهرب من منازلته وينجو بنفسه" وفي البيت السادس والاربعين يتحدث الشاعر عن آسريه " وقد بلغه أن الروم قالت: ما أسرنا أحد لم نسلب سلاحه غير "أبي فراس "ديوان أبي فراس الحمداني –جمعه ونشره سامي الدهان بيروت 1944 ص209) وقد عدوا ذلك منا منهم عليه في الوقت الذي ترك فيه الشاعر أثوابهم ملطخة بالدماء الحمراء من كثرة القتل وضربات سيفه التي كانت تندق وتنزرع في اجسادهم وطعنات رمحه التي حطمت صدورهم .يعود الشاعر مرة اخرى وكما عودنا للحديث عن نفسه التي انتظمت كل ابيات القصيدة وحلقت فيها تاركة اثارها في كل كلمة و جملة وبيت حيث يجعل الشاعر من نفسه قمراً ينير في الليلة المظلمة فهكذا تكون حالته عندما يذكره قومه ساعة الخطوب فقد كرس الشاعر حياته للطعان والنزال بالرماح والسيوف وهو يمتطي صهوات الخيول الضمّر الشقراء كما انه يقرّ بعد ذلك بان الانسان سيموت حينما ينتهي اجله فمهما طالت الايام وامتد بالانسان العمر سيواجه الموت لا محالة , إلا ان الشاعر يتمتع بمكانة كبيرة في قومه حيث لا يسد محله احداً ولا يأتي بفعاله احدٌ وشتان بين الذهب والنحاس .في ختام قصيدته هذه يعلن ابو فراس الحمدانيّ شعاره وشعار قومه واهله اذ ختمَ القصيده بابيات تزخر بمعاني العزّة والانفه , فهو واهله لا يعرفون الحالة الوسطية وهم دائماً يتصدرون الاقوام الاخرى لا يهابون الردى ويبذلون كل غالٍ ونفيس في سبيل المجد والعزة والكرامة وكأنهم يخطبون حسناءَ تستحق كل مهرٍ ثمين فهم اعز الناس واعلى الناس واكرم الناس وكل من هو فوق التراب .
يقف قارئ القصيدة منذ الإطلالة الأولى عند أول إحساس يبوح به الشعر وهو الاحساس بالحب ترجمه الشاعر من خلال بثه لاشواقه واعترافه بها منتظرا أن يلقى معشوقته وهو يحترق حبا ولوعة ، لكنه لا يستسلم بسهولة فهو عصي الدمع ولا يذاع لمثله سر وكيف لا وهو الفارس المغوار عزيز النفس والجانب.ثم يلجأ الى لغة العتاب في البيت السادس والحديث عن حفاظه على المودة
لأبي فراس الحمداني
د. أحمد جبر
حظيت هذه القصيدة بالكثير من الدراسات، وكانت محور العديد من الأبحاث والمقالات، وقد ذاع صيتها وانتشرت بين الناس، أضف إلى ذلك أنها قد دخلت عالم الأغاني والموسيقى الذي زادها حضورا وتأثيرا، كما أنها القصيدة التي تظهر شخصية أبي فراس الحمداني على حقيقتها وهي شخصية الفارس الأبي المغوار الذي لا يستسلم بسهولة ولا يذعن لعدو أو توقفه الصعاب والمغامرات والعقبات لدرجة يمكن القول فيها بان هذه القصيدة تمثل الأنا المطلق وكأنه يحاكي المتنبي في قوله عن الخيل والليل والبيداء وعن نظر الأعمى إلى أدبه وإسماعه للصم.
وإن كان أبو فراس الحمداني عصي الدمع، في قصيدته ، وشيمته الصبر، فإن القارئ لقصيدته سرعان ما يهتدي لمفاتيح الصبر، وتفكيك رموز العصيان ؛ ليلج إلى نص يزخر بالانفعالات ، وبالمشاعر، وبالصور الفنية المعبرة ، وليجد نفسه في دائرة تتجاذبه فيها تلك الأساليب اللغوية والفنية ، التي وظّفها أبو فراس الحمداني للتعبير عما يجول في نفسه وخاطره ، وهو الذي عانى مرارة أسرين كلاهما مر: أسر السجن ، وأسر الحبيب الذي أكثر من عتابه ، ومن إلقاء اللوم عليه بسبب هجرانه وجفائه، وعدم التفاعل معه في حالته الوجدانية التي عاشها.إن فعلا أقدم عليه المتنبي في مقدمة قصيدته اللامية التي مدح بها سيف الدولة الحمداني ، يمكن أن ينسحب على مقدمة أبي فراس في رائيته ، إذ يتبادر لذهن قارئ اللامية أن المتنبي يتحدث عن محبوبة ظعنت كبدر أخفته الليالي الشكول وقد راحت تظهر له بدرا آخر ما إليه سبيل ، فليل المتنبي الطويل يذكّر بليل امرئ القيس لكنه سيصاب بالرقة وبالنحول إن هو رأى عيني الحبيبة كما يراهما المتنبي ، وإذا بالبدر سيف الدولة الحمداني ، وكذلك الأمر في رائية أبي فراس التي يعاتب فيها سيف الدولة ، ويبذل فيها قصارى جهده لاستمالتة و لتخليصه من الاسر الذي وقع فيه، مستخدما كل ما نسجه خياله وانغمست فيه عواطفه وانفعالاته ، ومتنقلا بين الفخر والغزل والفروسية والحكمة وعارضا لسجاياه وخصاله التي يتصدرها الإباء والصبر على المكاره، وكل ذلك جاء به الشاعر متنقلا بين أساليب اللغة المتنوعة ، التي صاغها بمفردات معجمه الذي يتناغم والغرض الذي يتحدث عنه. لقد كانت الحرية شغل أبي فراس الشاغل وغرضه الذي حرّك فيه مواجعه وآلامه لتفيض بها روحه الشاعرية أنفة وعزة وكبرياء.
يطل علينا أبو فراس الحمداني بقصيدة هذه وقد وجه( الخطاب لنفسه على طريقة التجريد كأنه جرد من نفسه شخصا آخر )ويحلّق الحمداني في قصيدته بفضاءات ملونة، تعج بالمشاعر، وبالانفعالات التي رسمها معنى ولونا، وحدد لها الأوساط الناقلة لها، في مناخ مفعم بالهيجان العاطفي ، ومكلل بأبيات الفخر التي تفيض عزة وأنفة ومنعة، تشي بتضخم نفسية الشاعر ،وعظم فروسيتها، وبيان قدرها ورفعتها وعلو مكانها.فالشاعر يقدم لقصيدته بأبيات انتظمها خيط من الحزن، وتصدرها ذكر دمعه الذي كان عصيا ممتنعا، وهو متمسك بجلده وبصبره ، فهو مشتاق، وملتاع، مكابر لا يفشي بسر عشقه واشتياقه لأحد .ومع كل ذلك الصبر ، وتلك الأنفة والإباء ، فإن لليل في حال أبي فراس ما له في حال غيره من العشاق والشعراء الذين تحدثوا عنه ووصفوا فيه لوعتهم واشتياقهم وتوهج نيران بين ضلوعهم وهم يفكرون في المعشوق وقد تقاطر الدمع من عيونهم وهم بين تعلّل بالوصل أو الموت وقد راحوا يحافظون على المودة والعهد الذي ضيّعه غيرهم .وفي البيت السابع يتحدث الشاعر عن الأيام التي شبهها بالصحائف التي يكتبها الانسان ويقدم لها بأحرفه وبأعماله التي ينبغي أن تكون مبشرة وكأنه بذلك يستدر عطف عشيقته وحنانها لتقدم له شيئا من الوصال والبشرى ولذلك نجده يعود مرة أخرى للحديث على الغادين وفيهم غادته الحسناء التي أحبها فهجرته ولم تصله وكأن حبه لها ذنب اقترفه يستحق العقاب عليه وتلك المحبوبة تعرض عنه وتميل الى كارهيه والى الواشين به في الوقت الذي تأبى أذنه الاستماع الى أية وشاية أو نميمة.ثم يبين الشاعر في البيت العاشر وحشة المكان حين هجرته المعشوقة وكيف ارتحل الى البادية وهام على وجهه في الوقت الذي يقيم اهله في الحاضرة وقد حاربهم في هوى المعشوقة وخاصمهم من اجلها وهم بالنسبة اليه جرعة الماء التي تحييه وشربة الخمر التي ينتشي بها . لقد خاصم الشاعر أهله وحاربهم من اجلها وقد اطرقت بسمعها للوشاة الذين استهدفوه ولاحقوه لذلك يحذرها منهم رغم انه لا يتأثر بما يقوله الوشاة عنه وان صدقت قولهم فان حبه لها يقضي على اقوالهم تماما كما يهدم الايمان ما بناه الكفر والشاعر وفي لمعشوقته الغادرة فالوفاء خصلة حميدة ولكن منها ما تعتريه المذلة أحيانا حين يكون الغدر شيمة المحبوبة مع انها تتحلى بالوقار الا ان ريعان الصبا واول الشباب يستثيرها فتجمح كالمهر الصغير وتبطر وتنشط .وفي البيت الخامس عشر يلجأ الشاعر الى حوارية بين السؤال والجواب بلهجة الاستهجان والاستغراب ذلك ان المحبوبة تتساءل عنه باستنكار وهي تعرفه حق المعرفة مردفا باعترافه بأنه قد وقع قتيلا في عشقها شأنه في ذلك شأن الكثيرين الذي قضوا في حبها وكانوا قتلى لعشقها وهي بذلك فتاة جميلة حسناء يسعى الكل وراءها ويعملون على لفت نظرها وان يحظوا بحبها وهي المتعنتة مع الشاعر رغم علمها ومعرفتها الاكيدة به وبحاله وفوق كل ذلك فهي تحقره وتنقص من قدره وتلقي بذلك على الدهر .ان كل ما سبق ذكره يجعل للاحزان مسلكا في نفس الشاعر فقد كانت المعشوقة السبب الرئيس في تلك الاحزان التي عاشها وعاناها وجعلت قلبه يئن منها ويتأوّه وكأن تلك الرزايا والاحزان قد عبرت الى قلبه ونفسه واستوطنت فيهما عبر جسر الهوى والمحبة ، هكذا يكون الحب جسرا للاحزان والهموم ويمهد لكل ما تضج به النفس البشرية جراء الهجران والنأي للدرجة التي تهلك فيها النفوس والمهج بين جد وهزل ، هنا يفصح الشاعر عن تلك الحالة المزرية التي يصلها العاشق والتي يفقد من خلالها العز والاباء وبخاصة حين يخرج من حالة العشق صفر اليدين .وفي البيت الثاني والعشرين يقلب الشاعر أمره ويتفقد حاله الذي لم يجد فيه الراحة والسكينة وأنى له بالراحة وقد وقع فريسة للبين والهجر ثم يعود الشاعر الى حكمه وقوله لعشيقته بأنها كانت السبب في حاله الحزين وكذلك في تحقيره فهو معذور في حبها وهي المذنبة بحقه . وكأنه ينادي من فوق رابية ظبية جميلة رقيقة الجفون اصابها الخوف والفزع لذلك فهي تجفل حينا وتدنو حينا آخر وكأنها تنادي صغيرها الموجود في الواد ولم يستطع اللحاق بها .وكأن الظبية محبوبته وكأنه صغيرها .وفي البيت السادس والعشرين ينكر الشاعر على ابنة عمه فعلها واقدامها على التنكر له و يطلب منها عدم التنكر له فمثله لا ينكر فهو معروف لدى البدو والحضر والفارس القائد جرار الكتائب والجيوش المنتصرة دائما وهو الذي يخوض غمار المكاره والمخاوف دون خشية ولا خوف في الوقت الذي يحجم الكثيرون عن فعل ذلك وينظرون اليه نظرة الخوف والهلع وكيف لا والشاعر ترتوي قبله بيض السيوف والرماح وتشبع قبله الذئاب والنسور وهو عزيز كريم النفس جواد فارس لا يهاجم الاحياء الامنة ولا الاحياء التي خرج منها رجالها وبقيت النساء فيها كما انه لا يقدم على فعل الهجوم على الجيوش الا بعد الانذار والتحذير والتخويف وهو كذلك يروم كل صعب وكل منيع ليهاجمه ويغزوه فجرا يرافقه الموت والردى دونما سبي للنساء ولا هتك لخدورهن ويحسن معاملة الفتيات الجميلات المنعمات بدون غلظة ولا جفاء ويرد ما حازه من غنائم لهن حينما يطلبن ذلك دون هتك لسترهن او ابتزازهن.وفي البيت السادس والثلاثين يستمر الشاعر بنفس النفس الفروسي صاحب اللواء والاباء متحدثا عن عفة نفسه وعن سخائه وكرمه فهو فارس لا يكترث للمال وللغنى كما لا يثنيه الفقر عن البذل والعطاء وعدم حاجته للمال بالقدر الذي يحرص فيه على حماية عرضه وصونه.ثم ينتقل الشاعر الى قصة الاسر مع رفاقه وهو الفارس الشجاع الذي يمتطي صهوة فرس جواد قوي مدرب ومع ذلك فانه يستسلم للقضاء الذي لا يفر منه احد ولايحميه منه البر ولا البحر وفي هذه الاجواء يطلع عليه اصحابه الذين استصغرهم وهم يقولون له : الفرار أم الردى؟ فيجيب انهما امران أحلاهما مر مختارا المضي في طريقه والصمود في وجه الاعداء وان عاتبه الاخرون بذلك حيث فضل القتال والاسر على الفرار وهو بذلك الرابح الذي لم يخسر شيئا فالموت لن يتأخر عنه اذا ما انتهى أجله كما يبعده عنه الاسر او الضرر ذلك ان الموت لا يهرب منه انسان لذلك على الانسان ان يقدم من الاعمال والفعال العظام ما يخلد ذكره في العالمين وان لا يكون "كعمرو بن العاص حين نازل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حيث كشف عن سوءته امامه حتى يتهرب من منازلته وينجو بنفسه" وفي البيت السادس والاربعين يتحدث الشاعر عن آسريه " وقد بلغه أن الروم قالت: ما أسرنا أحد لم نسلب سلاحه غير "أبي فراس "ديوان أبي فراس الحمداني –جمعه ونشره سامي الدهان بيروت 1944 ص209) وقد عدوا ذلك منا منهم عليه في الوقت الذي ترك فيه الشاعر أثوابهم ملطخة بالدماء الحمراء من كثرة القتل وضربات سيفه التي كانت تندق وتنزرع في اجسادهم وطعنات رمحه التي حطمت صدورهم .يعود الشاعر مرة اخرى وكما عودنا للحديث عن نفسه التي انتظمت كل ابيات القصيدة وحلقت فيها تاركة اثارها في كل كلمة و جملة وبيت حيث يجعل الشاعر من نفسه قمراً ينير في الليلة المظلمة فهكذا تكون حالته عندما يذكره قومه ساعة الخطوب فقد كرس الشاعر حياته للطعان والنزال بالرماح والسيوف وهو يمتطي صهوات الخيول الضمّر الشقراء كما انه يقرّ بعد ذلك بان الانسان سيموت حينما ينتهي اجله فمهما طالت الايام وامتد بالانسان العمر سيواجه الموت لا محالة , إلا ان الشاعر يتمتع بمكانة كبيرة في قومه حيث لا يسد محله احداً ولا يأتي بفعاله احدٌ وشتان بين الذهب والنحاس .في ختام قصيدته هذه يعلن ابو فراس الحمدانيّ شعاره وشعار قومه واهله اذ ختمَ القصيده بابيات تزخر بمعاني العزّة والانفه , فهو واهله لا يعرفون الحالة الوسطية وهم دائماً يتصدرون الاقوام الاخرى لا يهابون الردى ويبذلون كل غالٍ ونفيس في سبيل المجد والعزة والكرامة وكأنهم يخطبون حسناءَ تستحق كل مهرٍ ثمين فهم اعز الناس واعلى الناس واكرم الناس وكل من هو فوق التراب .
يقف قارئ القصيدة منذ الإطلالة الأولى عند أول إحساس يبوح به الشعر وهو الاحساس بالحب ترجمه الشاعر من خلال بثه لاشواقه واعترافه بها منتظرا أن يلقى معشوقته وهو يحترق حبا ولوعة ، لكنه لا يستسلم بسهولة فهو عصي الدمع ولا يذاع لمثله سر وكيف لا وهو الفارس المغوار عزيز النفس والجانب.ثم يلجأ الى لغة العتاب في البيت السادس والحديث عن حفاظه على المودة