الأخبار
الولايات المتحدة تفرض عقوبات على مقررة الأمم المتحدة الخاصة للأراضي الفلسطينية(أكسيوس) يكشف تفاصيل محادثات قطرية أميركية إسرائيلية في البيت الأبيض بشأن غزةجامعة النجاح تبدأ استقبال طلبات الالتحاق لطلبة الثانوية العامة ابتداءً من الخميسالحوثيون: استهدفنا سفينة متجهة إلى ميناء إيلات الإسرائيلي وغرقت بشكل كاملمقررة أممية تطالب ثلاث دول أوروبية بتفسير توفيرها مجالاً جوياً آمناً لنتنياهوالنونو: نبدي مرونة عالية في مفاوضات الدوحة والحديث الآن يدور حول قضيتين أساسيتينالقسام: حاولنا أسر جندي إسرائيلي شرق خانيونسنتنياهو يتحدث عن اتفاق غزة المرتقب وآلية توزيع المساعدات"المالية": ننتظر تحويل عائدات الضرائب خلال هذا الموعد لصرف دفعة من الراتبغزة: 105 شهداء و530 جريحاً وصلوا المستشفيات خلال 24 ساعةجيش الاحتلال: نفذنا عمليات برية بعدة مناطق في جنوب لبنانصناعة الأبطال: أزمة وعي ومأزق مجتمعالحرب المفتوحة أحدث إستراتيجياً إسرائيلية(حماس): المقاومة هي من ستفرض الشروطلبيد: نتنياهو يعرقل التوصل لاتفاق بغزة ولا فائدة من استمرار الحرب
2025/7/10
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الفصل الخامس من كتاب "مآلات التطرف في إسرائيل"

تاريخ النشر : 2020-05-11
الفصل الخامس من كتاب "مآلات التطرف في إسرائيل"
بقلم:اللواء د. محمد المصري-   د. أحمد رفيق عوض


الفصل الخامس

ذعـــر الضحيـــة

يعتقد المفكر الكيني علي الأمين مازوري أن "قوة فكرة العودة إلى إسرائيل والالتزام المتعصب للاحتفاظ بالقدس كعاصمة، واختيار اسم إسرائيل للدولة القومية في القرن العشرين، هي كلها مؤشرات أساسية على الاندماج بين الحنين التوراتي والقومية اليهودية داخل الروح الصهيونية"[1].

ويتوقع هذا المفكر أن تنشأ حركة نازية يهودية جديدة بسبب أن الكارثة التي تعرّض لها اليهود في ألمانيا النازية ذات تأثير مستمر على "أولئك الذين يسيطرون على آلة الدولة، فالدولة قاعدة من القوة والسلطة، والأمة هي أساس الهوية، والأسوأ من الدولة هو إصرارها على أن تصبح الدولة – الأمة (النقية) – وان تبلغ تجانساً عرقياً أو ثقافياً داخل جيل وحيد، ويؤدي هذا بعقدة الهولوكوست إلى عقلية الطائرة التي تعزز الخصوصية العرقية بالمقابل"[2].

ويخلص مازوري أن هذه العقلية، التي سيطرت على المجتمع والدولة بشكل ملحوظ منذ الثمانينات من القرن الماضي، أوصلت إسرائيل إلى أن تكون "الدولة – الأمة الأكثر عنصرية قبل ألمانيا النازية"[3]. وتجد هذه النزعة تعبيراتها في "تطهير إسرائيل الحالية من العرب إلى أبعد حد، وقد أخذت الحياة العسكرية للدولة ضريبتها من التسامح اليهودي، وأدى أكثر من عقدين من الاستعداد العسكري إلى زيادة حدة الشعور اليهودي والتعصب الإسرائيلي"[4].

هل هذه العقلية تؤدي إلى ظهور حركات نازية داخل إسرائيل؟ وهل تسمح الدولة – الأمة بمثل هذا التطور المُضر بالتأكيد بمستقبلها وعلاقاتها وتحالفاتها؟

المفكر الكيني يرد على هذا التساؤل أن ميلاد مثل هذه الحركات في إسرائيل "مستحيل ولكنه غير مستبعد، ذلك أن عقدة الضحية قوية حالياً بين الإسرائيليين، مثلما كانت بين الألمان خلال فترة ما بين سنوات الحرب، ويمكن لهذه العقدة أن تنحط إلى الذعر، ونحن نعرف حالياً أن محبي الديموقراطية من السكان الألمان قبل الحرب، استخفّوا بخطر التيار النازي، غير أن العالم كله دفع ثمناً باهضاً للجنون الألماني، واليهود مثل الألمان مساهمون مؤثرون في الحضارة العالمية، والشعبان من بين البشر، وبالتالي فهم غير محصنين نفسياً، وخطر المتطرفين أمر حقيقي"[5].

وقد مرّت مراحل التطرف التي عبّرت عنها الروح الألمانية بما يلي:

·       عقدة الضحية.

·       الذعر.

·       التطرف القومي والخصوصية العرقية.

·       العسكرة والعسكرتاريا.

·       التوسع الإقليمي.

وبرأينا فإن هذه المراحل المشار إليها قد لا تنطبق على الحالة الإسرائيلية، وذلك للأسباب التالية:

أولاً: أن الشخصية اليهودية ذات إرث تاريخي متراكم وذات طبقات، الأمر الذي نجد معه اجتهادات كثيرة ورؤى قد تبدو ظاهرياً متناقضة، الشخصية اليهودية لا تبدو وكأنها أنجزت حدودها ومرجعياتها الأخيرة، هي قلقة وغير مستقرة.

ثانياً: هذه الشخصية تتمحور حول ذاتها، باعتبارها ذات مقدّسة بشكل أو بآخر، ولهذا فإن علاقتها بالذات الإلهية من جهة، وبالكون من جهة أخرى، وبالتاريخ من جهة ثالثة، علاقة فيها تعقيد كبير، فمن جهة، فإن هذه الشخصية متشظّية وغير مكتملة، ومن جهة ثانية، فإن هذه الشخصية ضرورية لاكتمال العالم وإسباغ القداسة الكاملة على الجماعة وعلى مكانها.

ثالثاً: هذه الشخصية – وبسبب من تراكم تاريخها وطوله ونكباته وكوارثه – ارتبطت "بالنص" الذي اجترح الحبكة الكبرى حول "الجماعة" و"المكان"، وبالتالي فإن اليهودي يحمل جماعته دائماً، وربما هذا ما يفسر أن التكفير – كما نفهمه في الثقافة الإسلامية – غير موجود في الديانة اليهودية، لأنها ديانة جمعية أكثر منها فردية، ومما زاد في ذلك ورسّخه على مدى قرون كثيرة، العزلة والانعزال الطوعي والإجباري الذي مارسته الشخصية اليهودية.

وإذا كان ما نقوله فيه قدر من الصحة، فما هو الواقع في إسرائيل؟ وما هي مرحلة التطرف التي وصلتها إسرائيل بالمقارنة مع ما اقترحه مازوري؟

نحن نعتقد أن إسرائيل وصلت قبل الذروة بقليل في تطور مراحل التطرف، فقد تجاوزت عقدة الضحية بعد إقامة الدولة وامتلاك الأسلحة غير التقليدية وسيطرتها على مراكز الإعلام والمال في معظم مدن الاستعمار الغربي، وفي قدرتها على التحكم بسياسات دول كبرى، على الأقل فيما يخص سياساتها في الإقليم العربي، وكذلك في سيطرتها الأمنية والاقتصادية على مساحات شاسعة من العالم، لم تعد فكرة أنهم الضحية أو احتكار دورها وبكاءها مقنعاً بعد سبعين سنة من إقامة الدولة، ونعتقد أن إسرائيل الآن تقدم نفسها نموذجاً متقدماً للتكنولوجيا و"للديموقراطية الخاصة"، كما أنها تقدم نفسها كدولة ومجتمع فريد في إقليم مضطرب وغير مأمون، يعني هي الآن تقدم نفسها باعتبارها "الفريدة" و"المتميزة" أكثر مما تقدم نفسها كضحية مستقبلية على الأقل.

كما نعتقد أنها تجاوزت الذعر الحقيقي على الأقل، أما الذعر المتخيل الذي تبتز به العالم فهو أُسلوب دعائي من أجل تبرير مهاجمة جيرانها من الشعوب والدول، فوبيا الأمن الذي تريد إسرائيل إلصاق نفسها بها حتى لو بدت دولة ومجتمعاً مريضين فهو أسلوب مفيد وما يزال يأتي بنتائج، لهذا السبب، فإن إسرائيل تدّعي أنها تخاف من كل شيء، وحتى لا يبدو كلامنا متناقضاً فإن إسرائيل التي تُعد من أقوى دول المنطقة تتصرف وكأنها أكثرها ضعفاً وانكشافاً، وفي ذلك ما يُميّز الشخصية الإسرائيلية اليهودية صاحبة الطبقات والتراكم والتناقض أيضاً، وهذا الأمر لا يُفسّر إلا من خلال تلك السيكولوجية التي تخلّقت على مدى قرون، انعزالاً وتوجساً وتوهجاً وإحساساً بالتميز واشتباكاً مع الآخر على إطلاقه، السيكولوجية اليهودية – رغم خطورة التعميم وعدم علميته – أعقد من أن توضح في جملة أو فقرة، برأينا أن ما اقترحه المرحوم المسيري حول "الحوسلة" – أي استخدام الجماعات اليهودية كوسيلة من وسائل النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي – وقد ينطبق على حالات كثيرة، ولكن ألا يمكن القول أيضاً أن جماعات اليهود أيضاً استخدمت الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبقاء تلك الجماعات والحفاظ على "نقائها المفترض" أو "تميزها المدعى"، يعني مفهوم الحوسلة يفترض أن جماعات اليهود عوملت كضحية، ولكن أليس من أخص خصائص اليهودي هو الاحتفاء بالكارثة باعتبارها دليل على المحبة والامتياز والاختيار والطريق إليها، تماماً كحبة الزيتون التي لا يمكن إخراج الزيت منها إلا بالهرس[6].

نخلص من هذا إلى أن الجماعات اليهودية في إسرائيل في معظمها تخطّت عقدة الضحية لأنها تمارس دور الجماعة المصطفاة – وفي هذا اختلاف كبير عن إحساس الألمان خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية – فشعور الاصطفاء العرقي، ليس وليد لحظته لدى جماعات اليهود بل هو شعور ممتد في مجاهيل التاريخ، ونرى أن جماعات يهودية كثيرة – بما فيها المستوى الرسمي أيضاً – تتطرف للأسباب التالية:

أولاً: قيام دولة اليهود ليس مجرد حدث سماوي، وبالتالي يجب تهيئتها لما يليق باستقبال المشيح المخلص، قيام "الدولة" على "الأرض" وتجميع "الشعب" هو حق إلهي كما يراه الغلاة والمتطرفون في إسرائيل، فالدولة مقدسة والأرض مقدسة والشعب مقدس، ومن يمسي بهذه القداسة فهو في خطر حقيقي، ومنذ انطلاق هذا الفكر الحلولي في السبعينات من القرن الماضي وحتى انتشار الفكر الشعبوي الديني على أيامنا هذه، فإن جماعات كثيرة يهودية تتطرف بشكل مطرد ومعمق[7]. الفكر الحلولي ينتهي عادة إلى امتشاق السلاح، ليس للدفاع عن ذاته، وإنما لفرض رؤيته.

ثانياً: التغيرات البنيوية عميقة الأثر التي تأخذ مجراها في المجتمع اليهودي في إسرائيل من حيث تدهور القيم وانعدام الأمن وازدياد هوامش الفقر والبطالة والجريمة والفساد وعدم تحقيق التسوية مع الفلسطينيين وتأجج الصراعات الدينية والأثنية واللاتساوي في التعامل مع قطاعات الجمهور وتغير وظيفة الحزب وغياب الشخصيات الكاريزمية.

ثالثاً: عدم قدرة إسرائيل، وبعد أكثر من سبعين سنة، على حل صراعها مع الفلسطينيين أو العرب أو المسلمين، لا بالحروب ولا بالتسويات، وهو أمر محبط ويدفع إلى اليأس والغضب أيضاً، ولهذا ليس من الغريب أن تجد أن جماعات التطرف ظهرت وإسرائيل في كامل قوتها، ولم تظهر عندما كانت إسرائيل أضعف من ذلك بكثير، لم تعد إسرائيل الرسمية قادرة على أن ترد على أسئلة جمهورها[8].

رابعاً: انفجار الهويات الفرعية في العالم كله وليس في إسرائيل، كانت العودة السريعة والعنيفة إلى الهويات الفرعية جزءاً من الرد على آليات العولمة وإنكارها للتمايز والخصوصيات، وهو ما حصل في الغرب والشرق معاً، ولهذا ليس من المستغرب أن يكون معظم المتطرفين اليهود هم من المهاجرين الأمريكيين أو الاستراليين، وهو ما يُذكّر بأن كثيراً ممن انتسب إلى داعش وحارب في صفوفها كان يعيش في أوروبا ناعماً وهانئاً.

خامساً: توحّش النظام الرأسمالي، الغربي والاستعماري، ومحاولاته في السيطرة النهائية على السوق العالمي من خلال أذرعه الكبرى في البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والشركات المتعددة الرؤوس، ومن خلال ضرب مفهوم الدولة السيادة الوطنية والفخر القومي، على خلفية فكر استعلائي ولاهوتي، وهما عمليتان متناقضتان ولكنهما يتفاعلان بطريقة تدعو إلى الدهشة، وبما أن إسرائيل هي جزء عضوي من المنظومة الرأسمالية الإمبريالية، فإن ما يجري فيها يتماثل تماماً مع ما يجري في دول الغرب الاستعماري، حيث يتغير الأعداء وطبيعة الصراعات، فالنظام الغربي الاستعماري يعود إلى كلاسيكياته الفكرية لتسويغ الاستعمار من جديد للسيطرة على الشعوب وثرواتها من خلال ادعاء الأهلية والأفضلية والرفعة الثقافية، فيما الشعوب الأخرى متدنية ثقافياً ولا يمكن إصلاحها وهي مصدر الشرور والأمراض والإرهاب، وبرأينا فإن الجديد في الصورة الجلية هو أن الاستعمار الجديد يتسلّح برؤى لاهوتية ليس إلا، فيما يُذكّر بالحروب الصليبية التي كان سببها الأساسي الفقر والحاجة وتصدير الأزمة، فيما ارتدت ثوب الصلاح والتقوى وإنقاذ "قبر" المسيح عليه السلام، الذي لم يكن في يوم من الأيام إلا نبياً يحظى بإيمان وتقدير كل مسلم في المنطقة فضلاً عن مسيحييها[9].

وفي إسرائيل فإن التطرف فيها يترافق مع قوة ساحقة وتعصب قومي كبير ومتعاظم وسيطرة أمنية متزايدة وتحالفات قوية تدعو إلى الثقة، كل ذلك مقابل محيط عربي وإسلامي ضعيف ومتفكك.

لهذه الأسباب مجتمعة فإن البحث عن سبب هذا التطرف يدفعنا إلى البحث في جذر الثقافة اليهودية، وهي كما قلنا ذات مصادر متعددة وطبقات متراكبة واجتهادات مختلفة متجاورة ومتناقضة، وهي ثقافة لا تخفي ميلها إلى التطرف والتشدد، على العكس من ذلك، فإن هذه الثقافة تعتقد أن التشدد علامة الصدق والتقوى، وكما قيل إذا وجدت يهودياً متشدداً فستجد بالتأكيد يهودياً أكثر تشدداً منه.

وهناك العديد من الباحثين العرب والفلسطينيين والأجانب وحتى اليهود الذين أشاروا إلى هذا الدافع الكبير للتطرف، ونقصد به الثقافة اليهودية ذات الطبقات والمراحل[10].

إن التطرف الإسرائيلي على أيامنا هذه، وكما كان في الماضي، لن يوجّه إلى العرب الفلسطينيين فقط، بل إن التطرف هو أحد عوامل خراب المجتمعات، فالتطرف مرض يرتد على المجتمع الذي أنتجه لا محالة، والمسألة مسألة وقت، لا يمكن لمجتمع أن يحمي ظاهرة متطرفة ثم لا يحترق بنارها، إن الدولة التي ترعى أو تدعم جماعة تعمل خارج القانون لتحقيق مكاسب معينة أو لتحقيق سياسة ما في مكانٍ وزمانٍ ما، إنما تقوم بتربية الوحش الذي سينقض عليها في نهاية الأمر، ومثل هذه الدول تُعرف بأنها الدول الفاشية، تلك التي تدير نظامين قانونيين متجاورين، وتتعامل مع قطاعات السكان لديها بسياسات تمييزية، وهذا من مبادئ السياسة الأساسية[11].

بسبب ذلك كله، فإن المجتمع اليهودي في إسرائيل طوّر في العقود الأخيرة مظاهر للانعزال الشعوري والمادي، وهي مقدمات ونتائج للفكر المتطرف – سلوكاً ووعياً – وذلك من خلال ما يلي[12]:

أولاً: أحياء منعزلة داخل مدن يهودية أو مختلطة، وكذلك سياسة رفض إسكان أو تأجير فلسطينيين بيوتاً أو مصالح تجارية في بلدات أو أحياء يهودية، والغريب أن مثل هذه السياسات تُحمى وتُدعم من قِبل السلطة الرسمية، إن الانعزال بهذه الطريقة هو إعلان عملي على الرغبة في الانعزال عن الحياة العلمانية أو الدنيوية المرفوضة، وغني عن القول أن كثيراً من المواجهات جرت بين أولئك المنعزلين وخصومهم من العلمانيين.

ثانياً: هناك حركات متطرفة منعزلة، خارج القانون وخارج المدن، وتتحرك في تلال ووديان الضفة الغربية المحتلة، وتحاول أن تعيش تحقيقاً لرغبة أو إرادة الرب كما يفهمونها، وهذه حركات خطيرة ولكنها تجد دعماً سرياً أو حتى عطفاً ما من قِبل جماعات في الجيش والحكومة وحتى الصحافة، هذه الحركات – التي سنعرض لها بعد قليل – وإن كانت تعلن نواياها الإرهابية، إلا أنها لا تلاحق من قِبل جهاز مخابرات متوجس ونشط مثل الشاباك الإسرائيلي، الأمر الذي يطرح كثيراً من الأسئلة.

ثالثاً: هناك الكثير من المستوطنات المنعزلة المتناثرة على رؤوس الجبال البعيدة والفظّة في الضفة الغربية، في شمالها وجنوبها، وهي مستوطنات متقشفة ولكنها تضم غلاة المستوطنين الذين ينتظرون قدوم المشيح لحظة بلحظة، نعتقد أن هذا الانعزال المادي الذي يؤدي بالضرورة إلى انعزال شعوري قد يؤدي ضمن أمور أخرى إلى إرهاب حقيقي ليس ضد الفلسطينيين بالضرورة.

رابعاً: يمكن القول إن المجتمع الإسرائيلي يذهب إلى خيار عزل القطاعات السكانية عن بعضها البعض، لدواعي الأمن والديموغرافيا وللفصل الديني والعرقي، أكثر من ذلك، فإن الطوائف والأعراق فيه تتقوقع أكثر فأكثر على نفسها وتنظم قواها ومواردها بشكل أكثر فعالية للحصول على امتيازات اقتصادية من المؤسسة الرسمية، وبرأينا أن تلك القطاعات السكانية من طوائف وأعراق تتقوى وتشتد كل ما تقدم الزمن.

إذ لماذا تتكاثر الجماعات والمنظمات الإرهابية والمتطرفة دينياً وقومياً كلما زادت إسرائيل من قوتها وزاد عدد حلفاءها وضعف أعداؤها، إجابة هذا السؤال بالضبط هو ما نحاول الإجابة عليه من خلال إدراج هذه القائمة من تلك الجامعات المتطرفة:

أولاً: الحركات الدينية الصهيونية

1.    حركة غوش ايمونيم (كتلة الإيمان): لا يُنظر إلى غوش ايمونيم وتأسيسها على أنه تعبير ديني عن موجة عارمة وشاملة من الاستياء التي عمّت إسرائيل بعد حرب عام 1973، بل يُنظر إلى تأسيسها كنوع مغاير ارتبط بقدرتها على تقديم تحليل خاص لمأزق إسرائيل واقتراح حلولٍ للخروج منه عبر الاستيطان في أرض إسرائيل الكبرى والتواصل مع ذلك الاستيطان، وذلك لرؤيتهم أن حرب 1973 هي تعبير عن آلام المخاض التي تسبق قدوم المشيح، ذلك القدوم الذي يعني أمراً واحداً هو إقامة ملكوت إسرائيل، ويبدو أن حركة الاستيطان اليهودي حققت نجاحاً جغرافياً وسياسياً هائلاً، ولم يكن بالإمكان نمو هذه المستوطنات لولا المساعدة المكثفة التي تلقّاها المستوطنون من مؤسسات الدولة المختلفة وبأوقات مختلفة[13].

إذاً غوش ايمونيم هي مجموعة أيديولوجية لم تنتظم في حزب سياسي، وإلى حدٍ ما نجحت في تحقيق وجودها كحركة أيديولوجية ذات أهداف دينية استيطانية، واستطاعت خلال ثلاثة عقود بعد حرب عام 1967 أن تخلق واقعاً معقداً وكتل استيطانية منتشرة في الأراضي المحتلة، إلا أن أهداف نشطاء غوش ايمونيم ومنطلقاتهم الأساسية مستمدة من عالم المفاهيم الدينية، وحسب وجهة نظرهم فإن "طرفي النزاع في إسرائيل – المعسكرين السياسيين الكبيرين – قد صاغا على السواء طابعاً غير مقبول للدولة"[14]. وعليه ينادي نشطاء الحركة بما يسمى "الأفكار الكاملة" ورفض المساومة، وهذا جعلهم يرفضون فكرة الانتخابات والأحزاب أو أي إطار يهذّب التطرف، إن القراءة المتأنية لمسيرة غوش ايمونيم طوال أربعة عقود وما حققته من إنجازات على صعيد الاستيطان من جانب وإعادة التوازن للدين ورموزه في المجتمع الإسرائيلي من جانب آخر، يضعها في مصاف أهم الحركات الصهيونية الدينية منذ قيام إسرائيل على أرض فلسطين حتى هذا الوقت، وذلك لأنها تميّزت بصفتها حركة استيطانية استعمارية وقوة سياسية دينية قومية[15]. عن باقي الحركات والأحزاب الدينية.

عارضت غوش ايمونيم الانسحاب من مستعمرة ياميت، وقد اضطر أريئيل شارون، رئيس الحكومة وقتئذٍ إلى الاعتذار لتأييده في حينه فكرة الانسحاب من ياميت وإلى إعلان التوبة عن تكرار ذلك، واعتبرت الحركة الاستيطانية هذه أن متابعة التوسع الإقليمي مشفوعة بإقامة السيادة اليهودية على كامل أرض إسرائيل، كونها جزءاً من تطبيق الاسترداد المشياحي المقدر إلهياً، واعتبرت أنه حتى بوجود سلام، يجب إثارة حروب تحرير من أجل الاستيلاء على أجزاء إضافية من أرض إسرائيل، ويعطي العديد من حاخامات غوش ايمونيم توجيهاتهم السياسية إلى أنصارهم وأتباعهم من عتاة المستوطنين من أجل طرد العرب الفلسطينيين من أرضهم تحت شعار "اليهود آتون والعرب ذاهبون" لتحطيم نفسيتهم نهائياً، كما كان لهم تأثيراً على سلوك قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين[16].

2.    حركة كاخ "هكذا": جماعة صهيونية سياسية إرهابية صاغت شعارها (يد تمسك بالتوراة وأخرى بالسيف)، وكتب تحتها كلمة "كاخ" بالعبرية، بمعنى أن السبيل الوحيد لتحقيق الآمال الصهيونية هي التوراة والسيف، وهي أصداء لبعض أقوال جابوتنسكي، واسم كاخ مأخوذ من شعار "المنظمة العسكرية التصحيحية" والتي كان شعارها يداً تحمل بندقية فوق خريطة فلسطين وشرق الأردن، مع شعار "راك كاخ" أي "هكذا فقط"[17]. وقد تأسست هذه الحركة على يد الحاخام مائير كهانا عام 1973[18]. كامتداد لرابطة الدفاع اليهودية التي أنشأها كهانا في الولايات المتحدة عام 1968 وتحمل نفس أيديولوجيتها ومبادئها، والتي عبّر عنها كهانا من خلال أفكار وكتابات متشددة وعنصرية متطرفة صاغها على أُسس دينية[19]. وانطلاقاً من هذه الأيديولوجية راحت حركة كاخ تمارس نشاطها الإرهابي من خلال عمليات إرهاب وتهديد قام بها نشطاء الحركة وأنصارها عن طريق تنظيم تظاهرات عنصرية ضد الفلسطينيين وإنشاء تنظيمات سرية مسلحة تستقطب فتيان لنشاطات عسكرية، كتنظيم (لجنة الأمن على الطرق) لحماية سيارات المستوطنين ونحو ذلك، ورغم أن نشاطها وأيديولوجيتها موجهة ضد العرب الفلسطينيين تحت شعار القتل والطرد والترحيل من خلال أفكار عدوانية متطرفة، إلا أن علاقتها بالدولة اتسمت بالتوتر، حيث تم حظر مشاركتها في الانتخابات عام 1988 بسبب أفكارها العنصرية، وفي أعقاب مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل عام 1994، والتي نفّذها باروخ جولدشتاين، أحد نشطاء حركة كاخ، تم حظر نشاط حركة كاخ وكهانا حاي المتولدة عنها وإعلان أنهما منظمتان إرهابيتان[20].

ولئن اعتبرت حركة كاخ متطرفة داخل الشارع الإسرائيلي، إلا أنها لا تعتبر شاذة في أوساط المتدينين الصهيونيين، فقد تلقّت الحركة التأييد والدعم من الحاخامين وعلى رأسهم الحاخام تسيفي كوك، وقد لوحظ خلال التصويت لحظر مشاركتها في انتخابات 1988 أن حزب المفدال قد صوّت إلى جانبها، ورغم نشاطات حركة كاخ الداعية لقتل الفلسطينيين وترحيلهم إلا أنها لم تُشكّل محوراً رئيسياً وهاماً كالذي مثّلته غوش ايمونيم في السياسة والفكر الإسرائيلي، وفي العلاقة الجدلية بين الدين والدولة في إسرائيل، عموماً، تتكون قاعدة كاخ الشعبية والحزبية من الشرائح الاجتماعية الفقيرة قليلة التعليم المتذمرة والناقمة على المؤسسة الحاكمة، وتبرز في قياداتها ونواتها الصلبة العناصر المهاجرة من الولايات المتحدة مدفوعة بتعصبها وعدائها للأغيار وحلمها بالخلاص[21]. وربما تركيبها هذا هو الذي جعلها قليلة التأثير في السياسات الدينية للحكومات الإسرائيلية.

يُعتقد أن أيديولوجيا حركة غوش ايمونيم وحركة كاخ "دينياً وسياسياً" أفرزت تنظيمات يهودية غاية في التطرف، وتُعبّر في الوقت ذاته عن ديناميكية التيار الديني القومي، كإطار عام يوجه النزعة الأُصولية.

ثانياً: التنظيمات الإرهابية القومية[22]

1.    التنظيم السري اليهودي: يُعد أخطر هذه التنظيمات، تشكّل بهدف المس بالقيادات السياسة الفلسطينية، (عمل بين 1980 – 1985)، استخدم أُسلوب زرع العبوات الناسفة وعمليات إطلاق النار.

2.    تنظيم الأمن على الطرق: تشكّل مطلع التسعينات من القرن الماضي، نشط في الجيوب الاستيطانية داخل مدينة الخليل ومحيطها بحجة حماية المستوطنين على الطرق التي تخترق الضفة الغربية بالتنسيق مع جيش الاحتلال الإسرائيلي، ولكنه بعد ذلك انتقل لتنفيذ عمليات انتقام إرهابية ضد الفلسطينيين.

3.    تنظيم بات عاين: انطلق مطلع عام 2000، معظم عناصره كانوا يقطنون في مستوطنة بات عاين (جنوب شرق القدس)، نجح التنظيم في فترة وجيزة في تنفيذ عدد كبير من العمليات الإرهابية.

4.    تنظيم كهانا حاي: تشكّل عام 2002 في أعقاب مقتل الحاخام بنيامين كهانا (نجل الحاخام مئير كهانا)، جاء تشكيل هذا التنظيم بدافع الانتقام لمقتله، جميع أعضائه يقطنون في مستوطنة تفوح (جنوب مدينة نابلس).

5.    تنظيم فتية التلال: يُعتبر هذا التنظيم الوحيد الذي تشكّل بتكليف حكومي رسمي لخلق حقائق استيطانية على الواقع، يعمل بدافعية دينية كبيرة للتعامل بشكل وحشي مع الفلسطينيين.

6.    تنظيمات لم يتم تفكيكها: حسب معطيات جهاز الشاباك هناك عدد من التنظيمات لا تزال تعمل دون أن يتم تفكيكها.

7.    إرهاب بمبادة فردية: اعتداءات نُفّذت بشكل فردي من قِبل أتباع التيار الديني، وتُعد مجزرة المسجد الإبراهيمي في الخليل (15 شباط 1994) أهمها، وتُظهر السيرة الذاتية لباروخ جولدشتاين، منفذ تلك المذبحة، تأثير التعبئة الدينية التي يتلقاها أتباع هذا التيار في تحديد نمط السلوك تجاه الفلسطينيين وتجاه كل من هو غير يهودي[23]. كما يمكن الاستشهاد بمجزرة عيون قارة (20 مايو 1989) التي نفذها عامي بوبر، وعلى الرغم من الحكم بالسحن المؤبد على بوبر إلا انه سرعات ما تبين أنه يحظى بظروف سجن مخففة جداً، وقد تشكّل لوبي من أعضاء الكنيست لإصدار عفو عنه[24].

 

 

ثالثاً: الحركات (التيارات) المنادية بتدمير المسجد الأقصى

كانت نقطة التحول ذات الدلالة البارزة في فكر الحركات الأُصولية اليهودية هو القرار الذي اتخذه مجلس حاخامات المستوطنات في عام 1996 بإصداره فتوى دينية تُجيز دخول اليهود للصلاة في الحرم القدسي، وذلك لأسباب وعوامل من بينها تحوّلات في التيار الديني الذي أصبح منفتحاً أكثر وقابلاً، إلى حدٍ معين، لإجراء تغيرات لاهوتية، لعبت دوراً كبيراً في تغيير العلاقة ما بين هذا التيار وبين الدولة والمجتمع على حدٍ سواء[25].

هذه التحولات اللاهوتية كانت مرجعية أكثر تعصباً لحركات مثل جبل الهيكل وما يشبهها من حركات، استندت إلى أفكار أصولية غيبية بالغة التطرف، رأت في هدم الأقصى موضوعاً جوهرياً يمس صورة الصهيونية الدينية بشكل خاص، وحيث حركات جبل الهيكل المشيحانية متصلة بمنظومة يهودية أخرى أكبر منها[26].

هناك عدد من الحركات تطالب بتدمير المسجد الأقصى بزعم إقامته على أنقاض الهيكل، أهمها:

1.    أُمناء جبل الهيكل: يقودها جرشون سولمون، تميز عملها بمحاولات اقتحام المسجد الأقصى بين الفينة والأخرى، بالإضافة إلى تجنيد الأموال (جمع التبرعات من اليهود في الولايات المتحدة وكندا واستراليا)، وتدعي الحركة أن الأماكن المقدسة للمسلمين تتواجد في مكة، وأنه لا يوجد لهم أي حق في القدس، وقد أعدّت الحركة خطة مفصلة لبناء الهيكل الثالث، وهي تحتفظ بصك التابوت الذي يحفظ ملكية الأرض لليهود[27].

2.    معهد الهيكل: يرأسها الحاخام إسرائيل أرئيل، أبرز حاخامات التيار الديني القومي، وتتخذ من البلدة القديمة في القدس مقراً لها، وتختص هذه المنظمة في (التأصيل الفقهي) المطلوب لإضفاء شرعية دينية على المحاولات التي يقوم بها اليهود للمس بالمسجد الأقصى، ولعبت دوراً كبيراً في إحداث تغيير في التعاطي الفقهي مع قضية صلاة اليهود في المسجد الأقصى[28].

3.    حاي فكيام: تنبع خطورة هذه المنظمة من طبيعة الشخص الذي يرأسها، وهو (يهودا عتصيون)، المسؤول عن تنفيذ عدد من عمليات القتل ومحاولات الاغتيال التي استهدفت الفلسطينيين والشخصيات الاعتبارية مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، علاوة على ذلك فإن أعضاء هذا التنظيم قطعوا شوطاً كبيراً في التخطيط لتدمير المسجد الأقصى، ويعني اسم المنظمة أن الهيكل (حي وموجود) ويتوجب إعادة بنائه[29].

4.    الحركة من أجل إقامة الهيكل: منظمة تضم حاخامات من مستوطنات الضفة الغربية، ومن الولايات المتحدة، وتعمل بشكل خاص على تعزيز الوعي اليهودي بضرورة العمل على إعادة بناء الهيكل، باعتباره أهم التكاليف الشرعية لكل يهودي حيثما كان، وهذه الحركة تنظّم ندوات وتصدر مطبوعات للحث على إعادة بناء الهيكل، كما تحاول استقطاب يهود علمانيين، بالإضافة إلى شخصيات من اليمين المسيحي في الولايات المتحدة، والاعتماد عليهم في تجنيد الأموال اللازمة لتمويل أنشطة المنظمة، وتحرص هذه المنظمة كل عام على تنظيم مسيرة يشارك فيها عشرات الآلاف من اليهود والمسيحيين (الأنجليكانيين) باتجاه المسجد الأقصى.

5.    أنصار الهيكل: حركة أسسها البروفيسور هليل فايس، من مفكري التيار الديني الصهيوني، وقد ضمّت قيادة الحركة ثلاثة وعشرين من المؤسسين الذي يلتقون بصورة سرية، وهي تشدد على ضرورة إيجاد بديل ديني لقيادة الدولة القائمة، وتطالب بتدمير المسجد الأقصى.

6.    القيادة اليهودية: بخلاف التنظيمات السابقة، فإن هذا التنظيم هو تنظيم سياسي حزبي، حيث تعتبر القيادة اليهودية أحد المعسكرات الهامة في حزب الليكود الحاكم، ويرأسها موشيه فايغلين[30].

القاسم المشترك بين جميع هذه التشكيلات اعتقادها أن تدمير المسجد الأقصى وإقامة الهيكل الثالث على أنقاضه يمثل متطلباً مسبقاً لخلاص اليهود ومجيء المسيح المخلص، من هنا، فقد شرعت بعض النخب في الدعوة إلى تدمير المسجد الأقصى عام 1974، وعلى الرغم من أن هذه التنظيمات والمجموعات لا تخفي مخططاتها لتدمير المسجد الأقصى، وعلى الرغم من إدراك إسرائيل الرسمية خطورة هذا الأمر وتداعياته الإقليمية والعالمية، إلا أن مستويات رسمية تتعاون مع هذه التنظيمات وتتضامن معها[31].

رابعاً: حزب البيت اليهودي (المفدال الجديد)

يُعد حزب البيت اليهودي الممثل الرئيس لليمين المتشدد بشكل عام، والأحزاب الدينية الصهيونية بشكل خاص، بعد أن ائتلفت فيه جميع الأحزاب والحركات اليمينية المتشددة، وذلك انسجاماً مع التغيرات التي طرأت في البيئة السياسية، وللتخلص من الخلافات الداخلية التي ظهرت على السطح نتيجة التصادم الفكري بين الجيل القديم المسيطر على هذه الأحزاب والذي سعى للإبقاء على الموروث الثقافي والعقدي في مواجهة جيل الشباب الذين طالبوا بتطوير أحزابهم وتوحدها بما يتلاءم مع الظروف والمستجدات، وبهدف وقف شلال الخسائر والتراجع الذي لحقت بالأحزاب اليمينية المتشددة في ظل بيئة سياسية واجتماعية ينزاح في المجتمع الإسرائيلي باتجاه اليمين.

ويعتبر حزب البيت اليهودي – من حيث البناء الداخلي – من أكثر الأحزاب تعقيداً وتنظيماً وفق معايير التسلسل الإداري، وتحديداً للصلاحيات والمسؤوليات بداخله، حيث تتعدد البنى المكونة للحزب (أحزاب تندمج في إطارها جماعات متباينة فكرياً وسياسياً واجتماعياً)، فإلى جانب مؤسسات الحزب الرسمية هناك المؤسسات الدينية والاجتماعية لوظائف مختلفة، ووحدات سياسية وحزبية وديموغرافية (أُطر طلابية وشبابية، وحدات استيطانية منتشرة في الضفة الغربية والجولان والجليل، وأحياء خاصة بالمتدينين في المدن الإسرائيلية)، كما تتعدد الأدوار والنشاطات التي يؤديها أفراد هذا الائتلاف الحزبي (استيطانية، جماهيرية، شبابية، طلابية، اجتماعية، ودينية).

تتكون قاعدة الحزب في الأساس من المتدينين الصهيونيين (الأشكناز)، ويحظى بتأييد كبير في أوساط المستوطنين اليهود في الضفة الغربية وبين الشباب المتدينين الذين يخدمون في الجيش، وبتأييد لا يستهان به في المدن، بالإضافة إلى أعضاء المفدال سابقاً وأحزاب وقوائم يمينية استيطانية صغيرة وداعمة للمشروع الصهيوني[32]. وإذا ما فصلنا المستوطنات الكبيرة عن باقي المستوطنات في عمق الضفة الغربية، حيث معاقل اليمين الديني المتشدد، فسنجد أن للحزب مرتكزاً جغرافياً قوياً، وقوته متزايدة بفعل التكاثر السنوي للمستوطنين بنسبة تفوق 5.3%، نصفها تكاثر طبيعي والباقي تدفق الإسرائيليين إلى المستوطنات[33].

يُعرّف الحزب إسرائيل في برنامجه السياسي بانها دولة اليهود وفقاً للوعد الإلهي، كما ويرتكز البيت اليهودي إلى أيديولوجيا دينية تتمسك بمبدأ الصهيونية الدينية،: أرض إسرائيل ملك للشعب اليهودي بحسب التوراة، وستسعى لتجسيده كاملاً، والحزب يرى في ذلك: "إن إسرائيل دولة يحكمها نظام ديموقراطي تتعزز فيه الصفة اليهودية الإسرائيلية، ويقف الحزب أمام كل محاولة تهدف إلى تحويل إسرائيل إلى دولة لجميع مواطنيها، ولا يتنكّر الحزب لحقوق الأقليات"[34].

يبين التصنيف التالي تركيبة حزب البيت اليهودي، والذي يُعد ائتلافاً دينياً قومياً قوياً متماسكاً[35]:

1.    الاتحاد الوطني (هئيحود هلئومي): تحالف عدد من الأحزاب اليمينية، يُعد حزباً عنصرياً شديد التطرف، يدعو إلى التمسك بأرض إسرائيل الكبرى وعدم التخلي عن أي شبر فيها، وإلى تكثيف الاستيطان وتوسيعه، وهو حزب شديد العداء للفلسطينيين، تأسس عام 1999 من ائتلاف ثلاثة أحزاب صغيرة تمثّل أقصى اليمين، موليدت وتكوما وحيروت الجديد، وذلك إثر توقيع اتفاقية واي ريفر مع السلطة الفلسطينية، بهدف منع أي انسحاب من المناطق الفلسطينية أو تفكيك مستوطنات، ويتركب الاتحاد الوطني من:

أ‌.       موليدت (الوطن): حزب يميني متطرف قومياً شديد العداء للفلسطينيين، أسسه رحبعام زئيفي سنة 1988 تحت شعار الترانسفير، وظلّ رئيساً له حتى مصرعه عام 2001.

ب‌.   تكوما (النهضة): تأسس سنة 1999 على يد حنان بورات وتسيفي هندل (انشقا عن المفدال لعدم انسحابه من الحكومة)، بعد ابرام اتفاق مع السلطة الفلسطينية يتم بموجبه الانسحاب من معظم أجزاء مدينة الخليل، يتميز بأيديولوجيا متطرفة جداً، معظم أعضائه من المستوطنين في الضفة الغربية وأعضاء سابقين في المفدال.

ت‌.   حيروت الجديد: تأسس سنة 1998 على يد بنيامين بيغن بعد انسحابه من الليكود لسوء إدارته والتنازلات التي قدمها للفلسطينيين، يتميز بأيديولوجيته المتطرفة حيال الفلسطينيين، ويرى أنه يجب ألا تقوم دولة فلسطينية، وأقصى ما سيحصل عليه الفلسطينيون في تسوية سلمية هو الحكم الذاتي في قراهم ومدنهم.

2.    حركة أحي (الحزب الديني المتجدد): أسسه عام 2005 عضو الكنيست إيفي إيتام والحاخام يتسحاق ليفي (انسحبا من حزب المفدال) لبقائه في حكومة شارون بعد إقرارها خطة الانسحاب من غزة، وتعني (أحي) الأحرف الأولى من كلمات عبرية هي: (أرض، مجتمع، يهودية).

3.    هتكفا (الأمل): يترأسه المتطرف أرييه ألداد، ويَعتبر الحزب الصراع مع الفلسطينيين حرباً دينية، لذلك فهو يعارض تقسيم أرض إسرائيل ويعارض حل الدولتين ويرى ان قيام دولة فلسطينية غربي نهر الأردن سيعرض وجود إسرائيل للخطر وأن وطن الفلسطينيين الحقيقي هو الأردن وحل قضية اللاجئين الفلسطينيين هو توطينهم فيها وفي الدول العربية التي استوعبت لاجئين في أعقاب حرب 1948، وأن إسرائيل لابد وان تكون ذات سيادة على كل أراضيها غربي نهر الأردن (الضفة الغربية المحتلة).

4.    حركة أرض إسرائيل الآن: تأسست نواة هذه الحركة سنة 1984، ولا يختلف فكرها عن أفكار غوش ايمونيم، بل إنها تطالب بالاستيطان في لبنان أيضاً، كما تطالب بضم الضفة الشرقية للأردن ومضاعفة النشاط لاسترجاع سيناء وضمها.

تمثل البرامج السياسية والمشاريع المرفوضة فلسطينياً وعربياً وربما دولياً التي تطرحها الأحزاب الدينية الصهيونية المتحدة في حزب البيت اليهودي رؤية استراتيجية وحقيقية لأصحابها، وقد تكون هذه المشاريع غير قابلة للتنفيذ في الوقت الحاضر، لكنها تمثّل خطراً استراتيجياً في المدى المنظور، خاصة في ظل تنامي اليمين المتشدد والذي أصبح اكثر براغماتية في سياسته الداخلية من حيث توسيع آفاق الحزب ليشمل الجميع، ولا يقتصر على فئة المتدينين، وهو الامر الذي يُعجّل في وصوله إلى سدة الحكم، ورغم التباين الأيديولوجي، وحتى الديني والاثني، فإن هؤلاء جميعاً التقوا على مجموعة من الأفكار أهمها: العداء للعرب، وأرض إسرائيل الكبرى، ويهودية الدولة، والاستيطان، والقدس عاصمة موحدة لإسرائيل.

قدم حزب البيت اليهودي نفسه باعتباره حزب الصهيونية المتجددة، تقوم دعائمه الأيديولوجية على افكار العودة واستحضار الإرث الصهيوني الماضي في مواجهة طروحات ما بعد الصهيونية التي تشير إلى انحسار الأيديولوجية الصهيونية ودخول المجتمع الصهيوني عصر ما بعد الأيديولوجيات التي اطلقها عدد من المفكرين والسياسيين في إسرائيل، ومعهم أيضاً (المؤرخون الجدد).[36] الذين ذاع صيتهم خلال العقد الأخير، كذلك قدرة الائتلاف على التكيف التنظيمي والتوجه نحو الديموقراطية.

خضعت هذه الأحزاب المؤتلفة داخل حزب البيت اليهودي لعملية تكيف فكري وأيديولوجي، فقد عمل نفتالي بينت، رئيس الحزب، على تغيير الصورة النمطية التقليدية للمستوطنين، التي ظلّت تعكس انطباعاً دينياً محضاً، وذلك بإقامة أذرع دبلوماسية (دائرة سياسية) بهدف تغيير الانطباع حول المتدينين الصهيونيين بانهم جماعة من المتزمتين دينياً، وضمّ بينت إلى حزبه أجيالاً شابة وحاخامات متطرفين وعلمانيين ونساء وفتيات ناشطات[37]. ففي تقرير نشرته يديعوت أحرنوت بعنوان "الوجه الجميل لمجلس المستوطنات" جاء فيه: "لم يعد هنالك مستوطن مع ذقن ويحمل السلاح يأخذك إلى جولة بين الهضاب، لقد ضمّ الحزب لصفوفه شابات علمانيات وجميلات ستقوم بتحطيم الآراء المسبقة عن المستوطنين من خلال الجولات التي تنظمها مع مجلس المستوطنات"، وأهم ما يميز حزب البيت اليهودي قدرته على التماسك من خلال استيعابه لخلافاته الأيديولوجية والتنظيمية.

تتوزع الشخصيات القيادية للحزب إلى مجموعات، بحسب انتماءاتهم الأيديولوجية أو وفق أُصولهم: جيل الشباب، الحاخامات، الموظفون والمستوطنون، العلمانيون، القوة النسائية، وفي انتخابات 2019، تعرض الحزب لانشقاق آخر في صفوفه، وهو انشقاق يؤكد الطبيعة الدائمة للحياة الحزبية في إسرائيل القائمة على كثرة الانشقاق وكثرة التحالفات.

ما سبب كل هذه الجماعات المتطرفة في ظل دولة؟

لا يمكن للمراقب إلا أن يسأل هذا السؤال، إذ لماذا تتكاثر مثل هذه الجماعات المتطرفة رغم أن السياسات الرسمية لا تختلف – في الأهداف البعيدة على الأقل – مع هذه الجماعات، وحتى لا نستسهل الإجابة أو نُسطّحها فإن أسباب ذلك تعود برأينا إلى ما يلي:

1.    التشدد المعروف في اليهودية كدليل على الصدق والالتزام، التشدد جزء من سيكولوجية عميقة وضاربة في التاريخ، فإذا أضفت إلى التشدد التسرع والرغبة في الشقاق والانشقاق – وهي صفة أصيلة لدى الجماعات اليهودية أيضاً – كما يمكن إضافة أن هذه الجماعات تأمن الحساب أو العقاب، فإن تشكيل مثل هذه الجماعات خارج القانون تصبح مسألة متاحة ومفهومة.

2.    سبق وأن قلنا في كتابنا "الظاهرة التكفيرية .. وماذا بعد".[38] أن التكفير عارض تاريخي، ويمكن اعتباره باروميتر لقياس صحة وعافية كل مجتمع وكل نظام سياسي، ولهذا فإن التكفير باعتباره موقفاً عصابياً، على المستوى السيكولوجي والسيسيولوجي وصولاً إلى المستوى السياسي، سيتكرر ظهوره كلما لحق بالمجتمع الضعف أو المرض أو التراخي، وكلما فشل النظام السياسي في اجتراح مقولة سياسية وفكرية قادرة على الرد والتحدي والإشباع.

ونعتقد أن هذا الكلام ينطبق على الحالة الإسرائيلية التي نحن بصددها، فإن تكاثر هذا التطرف وهذه الجماعات ما هي إلا تجاوز للمجتمع والدولة، لأنهما لا يعودا قادرين على تقديم البدائل، إن كل جماعة متطرفة إنما هي إشارة أو دليل على عدم صحة المجتمع الذي نشأت فيه، وقد يسأل سائل: فما هو الفشل أو العطب الذي تعاني منه إسرائيل كدولة وكمجتمع؟

وإجابتنا المتوفرة والجاهزة هي أن إسرائيل لم تستطع أن توفر الأمن ولا السلام ولا الحياة العادية لرعاياها، وأنها تنحدر في مستوى خدماتها وديموقراطيتها وانشقاقاتها وشروخها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ولم تستطع أن تتوصل إلى تسوية مع الشعب الفلسطيني أو المنطقة العربية، وأنها لم تستطع أن تقدم إجابات على مستوى اليهودية أو الإسرائيلية أو الهوية الجمعية، جماعات التطرف والإرهاب هي جماعات تستعجل الإجابات أو تسرعها أو تقترحها، وقد يأتي يوم تتحول فيه تلك الجماعات إلى معاول هدم للدولة وللمجتمع في حالة أن يتدهور الحال بهما أكثر.

3.    المتطرف ذو سيكولوجيا معينة، وهو عادة ما يعتبر نفسه جندياً في رسالة مقدسة، وفي الحالة الإسرائيلية فإن التطرف ليس سيكولوجياً فقط، وإنما عقدة ثقافية دينية في ذات الوقت، لهذا فإن المتطرفون اليهود يُنفّذون أفعالهم الفظيعة – قتلاً أو حرقاً أو سرقة للأرض – من منطلق مرجعيات لا تقبل النقاش أو الجدل، ولا بأس هنا من مناقشة هذه الفكرة، فالمتطرف اليهودي، وخصوصاً المتدين، هو شخص محصن فكرياً وعقائدياً، إذ يعتبر أمثاله أن الاحتلال عودة إلى أرض الأجداد، وأن قتل الفلسطيني لا يترتب عليه ذنب ديني أو دنيوي، أي أن المتطرف اليهودي لا يناقش نفسه ولا يحاسبها، بالعكس من ذلك تماماً، فهو يعتقد أن السياسيين الإسرائيليين منافقون وجبناء لأنهم لا يصارحون الأمم أو الأغيار بشكل عام بحقيقة الأهداف النهائية، وهذا هو أصل الخلاف بين المتدينين وبين الصهاينة، إذ يقوم الخلاف على استعجال دولة المشيح، وهل تكون بجهود بشرية أم يجب انتظار اليد الإلهية[39].

التطرف اليهودي هو عقدة ثقافية – دينية – سيكولوجية، ولهذا فإن مثل هذه الجماعات المتطرفة تستمر وتتواصل ولا تنتهي، ولا نعتقد أنها ستنتهي من المشهد قريباً.

نعتقد أن مثل هذه الجماعات ستكثر أيضاً بسبب أن دولة إسرائيل ستفشل أكثر على مستوى تحقيق الأهداف العسكرية وعلى مستوى القدرة على سد الفجوات التي تتسع في أوساط الجمهور الإسرائيلي، كما أن مؤسسات رسمية أخرى أصبحت أكثر تقبلاً واحتضاناً للظاهرة المتطرفة[40].

4.    ديناميكية المجتمع الإسرائيلي وحركته العالية ومبادراته الكثيرة، فالمجتمع الإسرائيلي مجتمع نشيط وقادر على التنظيم والضغط داخل القنوات الرسمية وخارجها، يساعده في ذلك طوائفه وتعدد أصوله ومرجعياته والتنافس الشديد بينهم للحصول على مزيد من السلطة والثروة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ومن خلال إرث طويل، فإن اليهودي تعوّد أن يتعامل مع السلطة الحاكمة بكثير من الحذر والتوجس، وقد حمل ذلك معه إلى "إسرائيل"، فنجد المجتمع الإسرائيلي من أكثر المجتمعات سرعة في تنظيم المظاهرات والاحتجاجات والاضطرابات واستخداماً للإعلام المتعدد وقدرة على توظيف جماعات الضغط واللوبيات الظاهرة والخفية، ولا يمكن فصل الجماعات المتطرفة أيضاً عن مجمل هذه الصورة، وبالمناسبة، فإن معظم أفراد هذه الحركات المتطرفة – بما فيهم من اجرم وتمت إدانته – قد تم استيعابهم في مناصب حساسة وهامة[41]. كما أنهم لا يتعرضون للنبذ الاجتماعي أو الرسمي، كما أنهم يحصلون في معظم الأحيان على مصادر علنية أو خفية للرزق أو الحصول على مصادر للعيش.

5.    ضعف الطرف الفلسطيني وتخامد ردودهم الميدانية والسياسية والقانونية من جهة، ومن جهة ثانية تراخي القضاء الإسرائيلي في محاسبة هؤلاء أو ملاحقتهم أو معاقبتهم كما يجب، كما أن المنظمات الدولية لم تحاول أن تتابع أمثال هؤلاء أو تلاحقهم وتعلن عنهم مطلوبين دوليين.

6.    توفر شخصيات قادرة وملتزمة بالهدف ومستعدة للتضحية والمخاطرة، فإقامة مستوطنة على رأس جبل بعيد عن الشارع الرئيسي والكهرباء والماء مخاطرة كبيرة، كما أن تنفيذ عمليات قتل أو حرق في القرى الفلسطينية تحتاج إلى كثير من الشجاعة، وما يزال هذا النوع من الأشخاص متوفر، وبعيداً عن تمتعهم بحماية جيش الاحتلال إلا أنهم أثبتوا أنهم قادرون على تقديم نموذج لصهيوني متدين مختلف عن صورة الصهيوني العلماني قبل مائة عام، بمعنى آخر، فإن هؤلاء يرون في أنفسهم تجديداً للصهيونية بمحتوى ديني.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف