#ركوة المعنى
من ديوان (نقيضان على إدراج المعنى) للشاعر محمد أحمد موعد، منشورات الأهلية للنشر والتوزيع (2017 )، نص (إملاق الأمل).
***
(إملاقُ الأمل)
إسرافيل يَقرعُ الرجوجَ
حتّى الهزيع ما قبل الأخير
والبسيطةُ واقفةٌ على جُرحٍ ما
تُحاولُ تفسير فقهِ حاخامٍ أخير
شهقةُ الرّيح في رحم التُّراب
تمنحُني بعضَ التّذاكي
ثم تروي ظمأ اللّيل برشفةِ تِحنانٍ علقميّة
أنا مُحبُّ الأنثى عندَ التماع الشّهوةِ
أنا كارهُ الحال عند انطفائها
ذهَب أدراج السّواد بياضي
بُعيْد صعود الأنبياء سلالم الأثير
حِجابٌ من حُجابِ الإنس يَحجُبُ نوركَ الإلهيّ
أبعدهُم بحقّ حَقِّك لكي أراك
بكاملك على قدرِ بصيرتي وحصيرتي البسيطتين
في فهمِ الدُّنيا وفهمِكَ
ها أنا قد برّأتُ نفسي
من أحلامي لعلَّ الغيب يُهديني من غامضهِ
فرحًا عبثيًّا يَسُدُّ إملاقَ الحاضرِ
عند التماع نصالِ الأمل في أفقٍ غريب
يا أيُّها الصامتون عن ملح الوطن
اهربوا من نفاقكم خلف صحارى النّفس
يا أيّها العائدون من حلم الضّحيّة
اجمعوا أوراقكم وأعيدوا النّظر
لأنّ
إسرافيل يَقرعُ الرجوج
حتّى الهزيع ما قبل الأخير
والبسيطةُ واقفةٌ على جُرحٍ ما
تُحاولُ تفسير فقهِ حاخامٍ أخير
.................
كيف لنا أن نصف شمعة بأنها منطفئة؟ أو قمراً مضيئاً بأنه معتم؟ أو حتى سهما منطلقاً بأنه بطيء؟!
هكذا يكون وصف عنوان الديوان(إملاق الأمل)، فكيف للأمل أن يكون فقيراً؛ ذليلاً حسيراً، وهو أيقونة الارتقاء من حالة الأزمة وإرهاص نحو الانفراج؟
من خلال متن القصيدة نرى أنه يقسم لعدة حركات سنحاول فك رموزه العميقة.
* الحركة الأولى
إسرافيل يَقرعُ الرجوجَ
حتّى الهزيع ما قبل الأخير
والبسيطةُ واقفةٌ على جُرحٍ ما
تُحاولُ تفسير فقهِ حاخامٍ أخير
تبدأ الحركة الأولى بنمط معتاد في وصف المشهد المشهور ليوم الحشر، فإسرافيل هو المَلك المكلف بنفخ الصور؛ إيذانا لنهاية العالم، إلا أن النص هنا يستعيض عن النفخ بالقرع؛ بما يلائم كلمة "الرجوج "، وهو إيذان بحركة طبول الحرب ما قبل عهد الإسلام، وكأن الشاعر أراد بهذا أن القرع ليكون بشمولية الجمع الكوني منذ بدء الخليقة ولا يقتصر على عصر معين، وهذا ما عناه من مفردة الرجوج.
لكن لنتساءل لمَ يكون القرع حتى الهزيع ما قبل الأخير؟! هل كان التقييم لحالة العتمة شيئاً إلهياً خفياً؟ هل يكون إحياء الموتى حسب المثوى الأخير لكل فئة بما يختصهم بإجابة الدعاء في الثلث الأخير من الليل في قيامهم؟! بنفس الوصف التراثي في الحديث الشريف (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجب له، من يسألني فأعطه، من يستغفرني فأغفر له). وكأن التمازج في الحركة يقترب من المعنى المجازي للحديث الشريف.
هذا حال السماء، فكيف حال الأرض؟
حيث ينتقل الشاعر لوصفها بالبسيطة واقفة على جرح ما، وهنا يحضرني المثل القائل(...على قدم وساق) إلا أنه اختار "جرح ما"، حيث الجرح انشقاق عن اللُّحمة، وجعله مجهولاً، ليكون تحديد مكان الجرح سرا؛ لا يُعلم متى ينضح منه أو بمعنى أدق ينفجر، فمعنى أن تكون البسيطة كلها على جرح، هو انتظار الامتلاء ما قبل تحقق النزف.
وبمكر معلن؛ يقرع الشاعر حرفه ليعيدنا إلى أكبر الصراعات العقدية الممتدة عبر عصور ما بين تجاذبين معتنقي الدينين، فرمز لرجل الدين المسلم ب "فقه"، و "حاخام" نسبة لرجل الدين اليهودي.
ولننظر إلى مفردة "حاخام" التي تلاصقت مع مفردة "فقه"، لنرى أنها مختصة بالشق الديني للطائفة اليهودية ويقابلها من الطائفة المسلمة لقب "فقيه "، دون أن يلجأ الشاعر إلى لقب "حبر "والذي يقابله لقب "عالم "في الشق العلمي لمراتب الألقاب الاعتبارية.
وهذه إشارة إلى تغول السمة الدينية ما بين التجاذبين بين المتدينين، واللقبان مثيران للزوابع سواء من خلال التعاليم أو الفُتيا. فهل عنى الشاعر أبدية الصراع!
* الحركة الثانية
شهقةُ الرّيح في رحم التُّراب
تمنحُني بعضَ التّذاكي
ثم تروي ظمأ اللّيل برشفةِ تِحنانٍ علقميّة
من المعلوم أن حركة الريح حركة إخراج، بمعنى حركة إرسال لا استقبال، فمن الطبيعي أن يكون اللفظ المناسب لها هو الزفير لتكون حركة طردية كلائمة لما بعدها "في رحم التراب "، فما هو سبب الحركة الفيزيائية في النص والتي يتخفى عن القارئ والكاتب على السواء، ولفك الشيفرة ينبغي أن نتأمل قليلا في الباعث لحالة التحليق "شهقة الريح"، ولماذا كانت حركة إخراج وطرد من الداخل؟
إنني أرى أن "شهقة الريح" هي اختصار لفعلين متتاليين، يختص بهما الخالق تعالى وهما(كن، فيكون)، فرمز بـ "شهقة" لـ "كن"، وبـ "الريح" لـ "يكون" لأن الريح شيء متحقق له كينونة، فكانت "شهقة الريح" هي شيفرة "كن، فيكون"، ورمز بالسرعة الملائمة لتصور القارئ بـ "الريح".
ولأن هذا الرابط كان له ميزات التخفي، فقد كان الشطر القادم منساباً في المعنى "تمنحني بعض التذاكي" وما كان هذا التذاكي إلا نتيجة طبيعية للكينونة المكرمة للإنسان بقوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم) ونتيجة لانبلاج الفهم للشيفرة، وما نهاية الحركة إلا نتيجة لاكتمال الجسم الوقتي لليل؛ أي الحالة الكونية في نهايتها، ووصف ذلك بـ "تروي ظمأ الليل" وتم اكتمال أجزائه.
وعلى وقع انتهاء أجزاء الليل؛ يتخفف الشاعر منه، بطريقة يتصورها العقل، ويدركها القارئ بقوله "برشفة تحنان علقمية" فكأن انتهاء الحياة عبر قسمين من حياة البرزخ، والتي يكون طرفاها معبرين عنهما بمفردة "تحنان "بقول القسم الأول، وهو المؤمن: (رب أقم الساعة)، ومفردة "علقمية "بقول القسم الآخر، وهو الكافر: "رب لا تقم الساعة" ضمن الحديث النبوي المشهور عن عذاب القبر.
* الحركة الثالثة
أنا مُحبُّ الأنثى عندَ التماع الشّهوةِ
أنا كارهُ الحال عند انطفائها
ذهَب أدراج السّواد بياضي
والحركة هنا منفصلة عن الحركتين السابقتين، فهي تعبر عن قطفات نفسية في النص، فـ "أنا مُحبُّ الأنثى عندَ التماع الشّهوةِ" هي صورة طبيعية، فالشهوة مفتاح للقرب، ويستمر النص في إيضاح حال المحب بقوله: "أنا كارهُ الحال عند انطفائها" وهي سيرورة ثابتة.
لكنني سأفصل بين الشطرين؛ تاركاً الأنا الأولى في مستقر خاص، وما جعلني للسير في ذلك ؛ أن هناك - القارئ الفطن - من سيشير إلى وجود خلل بنيوي في قوله:
أنا كارهُ الحال عند انطفائها
ذهَب أدراج السّواد بياضي
ولأن الناقد يحاول استنباط التمازج اللغوي للنص؛ فإن اعتبار الحال إنما هو توهج الضنك بعد فصل الأنا الأولى عن الثانية، وهي الحالة المزرية للحياة، وعند انطفاء الضنك يصبح الحال ذهبياً؛ لتصبح البنية كالتالي:
أنا كارهُ الحال
عند انطفائها
ذهَبٌ
أدراج السّواد
بياضي
ولعلّ الخلل جاء من تنسيق السطور والكلمات، إلا أن المعنى تخلّق من تعدد إرهاصات الفهم العميق.
* الحركة الرابعة
بُعيْد صعود الأنبياء سلالم الأثير
حِجابٌ من حُجابِ الإنس يَحجُبُ نوركَ الإلهيّ
أبعدهُم بحقّ حَقِّك لكي أراك
بكاملك على قدرِ بصيرتي وحصيرتي البسيطتين
في فهمِ الدُّنيا وفهمِكَ
ها أنا قد برّأتُ نفسي
من أحلامي لعلَّ الغيب يُهديني من غامضهِ
فرحًا عبثيًّا يَسُدُّ إملاقَ الحاضرِ
عند التماع نصالِ الأمل في أفقٍ غريب
وتبدأ بمشهد ارتقاء طولي بين الأرض والسماء؛ وهو ما يعرف تراثياً بالمعراج أو العروج، لكنه ليس عروجاً في الجو، وإنما هو انتقال عبر السائل، بمعنى أن العروج تكون سائلة ممتزجة بأجساد الأنبياء والمجال المحيط بهم، وفي هذا تعبير عن الانتقال للحياة الأبدية، لكن لم كان السائل هو الغلاف الناقل "الأثير "وليس غلافاً جويا؟ أيكون هناك استحضار لفكرة الخلق من خلال أن تكوين الإنسان يكون من سائل(السائل المنوي)!!!
ولعلنا في هذه الحركة نبيّن أن تقنية الفلاش باك ليست مقتصرة على الرواية فقط ضمن الممارسة الكتابية، حيث نلمح ذلك في قوله: بُعيْد صعود الأنبياء سلالم الأثير
حِجابٌ من حُجابِ الإنس يَحجُبُ نوركَ الإلهيّ
فكيف لنا أن نتصور أن يكون ذلك بعد قرع الرجوج إلا باستخدام الفلاش باك؟
ويتسم هذا الجزء من الحركة بالمناجاة من حُجابِ الإنس؛ لنلمح تبياناً للمناجاة واقترانها بالمفهوم الصوفي في العلاقة بين العبد وربه، فرمز للحالة الصوفية بعدة إنارات كـ: "يَحجُبُ نوركَ الإلهيّ"، "لكي أراك"، "بكاملك على قدرِ بصيرتي وحصيرتي البسيطتين في فهمِ الدُّنيا وفهمِكَ"، وهنا ملمح لمصطلح الحلول في الصوفية، والفصل ما بين الرؤية الإنسية والقدرة الإلهية.
وخاتمة الحركة تحليق خارج الدائرة المعرفية، واستجلاب تراثي لاستراق الشهب للأخبار السماوية بقوله: "لعلَّ الغيب يُهديني من غامضهِ "، ودلّ على ذلك تأكيداً بالوصف "نصال الأمل"، ولننظر إلى اتساق حالة المناجاة بحالة الأمل؛ وتُبدلت مفردة الأمل في عنوان القصيدة إلى ظرف الزمان المتحقق لا لفظ التمني وهو الأمل، وجعلها مسبقة للنتيجة، وذلك بوصف الالتماع أو النتيجة المطلوبة بـ "فرحا عبثيا" وهو وصف يطلب الغزارة لا الانتقاء، فلعل فرحاً ما يصيب الهدف بدقة وتنتهب حالة العنوان "إملاق الأمل ".
* الحركة الأخيرة
يا أيُّها الصامتون عن ملح الوطن
اهربوا من نفاقكم خلف صحارى النّفس
يا أيّها العائدون من حلم الضّحيّة
اجمعوا أوراقكم وأعيدوا النّظر
لأنّ
إسرافيل يَقرعُ الرجوج
حتّى الهزيع ما قبل الأخير
والبسيطةُ واقفةٌ على جُرحٍ ما
تُحاولُ تفسير فقهِ حاخامٍ أخير
وهنا ينقلب النص في حركته الأخيرة إلى البعد الأرضي للنص، وهي بالمعنى النفسي الواقعي؛ طريقة خطابية درامية صوتية، وكأنها إفاقة من رؤيا في المنام، صارخاً في وجه الفجيعة التي يحياها في وطنه، لينخفض مستوى النص إلى نداءين بإدراك الوطن قبل فوات الأوان، وقبل . . . ، حيث تُحال "قبل" في البنية غير المكتوبة إلى التعليل المسترجع من النص من الحركة الاولى، وما حملته من دلالات بأن الصراع صراع سيطرة ليس أكثر.
الناقد: طلعت قديح
من ديوان (نقيضان على إدراج المعنى) للشاعر محمد أحمد موعد، منشورات الأهلية للنشر والتوزيع (2017 )، نص (إملاق الأمل).
***
(إملاقُ الأمل)
إسرافيل يَقرعُ الرجوجَ
حتّى الهزيع ما قبل الأخير
والبسيطةُ واقفةٌ على جُرحٍ ما
تُحاولُ تفسير فقهِ حاخامٍ أخير
شهقةُ الرّيح في رحم التُّراب
تمنحُني بعضَ التّذاكي
ثم تروي ظمأ اللّيل برشفةِ تِحنانٍ علقميّة
أنا مُحبُّ الأنثى عندَ التماع الشّهوةِ
أنا كارهُ الحال عند انطفائها
ذهَب أدراج السّواد بياضي
بُعيْد صعود الأنبياء سلالم الأثير
حِجابٌ من حُجابِ الإنس يَحجُبُ نوركَ الإلهيّ
أبعدهُم بحقّ حَقِّك لكي أراك
بكاملك على قدرِ بصيرتي وحصيرتي البسيطتين
في فهمِ الدُّنيا وفهمِكَ
ها أنا قد برّأتُ نفسي
من أحلامي لعلَّ الغيب يُهديني من غامضهِ
فرحًا عبثيًّا يَسُدُّ إملاقَ الحاضرِ
عند التماع نصالِ الأمل في أفقٍ غريب
يا أيُّها الصامتون عن ملح الوطن
اهربوا من نفاقكم خلف صحارى النّفس
يا أيّها العائدون من حلم الضّحيّة
اجمعوا أوراقكم وأعيدوا النّظر
لأنّ
إسرافيل يَقرعُ الرجوج
حتّى الهزيع ما قبل الأخير
والبسيطةُ واقفةٌ على جُرحٍ ما
تُحاولُ تفسير فقهِ حاخامٍ أخير
.................
كيف لنا أن نصف شمعة بأنها منطفئة؟ أو قمراً مضيئاً بأنه معتم؟ أو حتى سهما منطلقاً بأنه بطيء؟!
هكذا يكون وصف عنوان الديوان(إملاق الأمل)، فكيف للأمل أن يكون فقيراً؛ ذليلاً حسيراً، وهو أيقونة الارتقاء من حالة الأزمة وإرهاص نحو الانفراج؟
من خلال متن القصيدة نرى أنه يقسم لعدة حركات سنحاول فك رموزه العميقة.
* الحركة الأولى
إسرافيل يَقرعُ الرجوجَ
حتّى الهزيع ما قبل الأخير
والبسيطةُ واقفةٌ على جُرحٍ ما
تُحاولُ تفسير فقهِ حاخامٍ أخير
تبدأ الحركة الأولى بنمط معتاد في وصف المشهد المشهور ليوم الحشر، فإسرافيل هو المَلك المكلف بنفخ الصور؛ إيذانا لنهاية العالم، إلا أن النص هنا يستعيض عن النفخ بالقرع؛ بما يلائم كلمة "الرجوج "، وهو إيذان بحركة طبول الحرب ما قبل عهد الإسلام، وكأن الشاعر أراد بهذا أن القرع ليكون بشمولية الجمع الكوني منذ بدء الخليقة ولا يقتصر على عصر معين، وهذا ما عناه من مفردة الرجوج.
لكن لنتساءل لمَ يكون القرع حتى الهزيع ما قبل الأخير؟! هل كان التقييم لحالة العتمة شيئاً إلهياً خفياً؟ هل يكون إحياء الموتى حسب المثوى الأخير لكل فئة بما يختصهم بإجابة الدعاء في الثلث الأخير من الليل في قيامهم؟! بنفس الوصف التراثي في الحديث الشريف (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجب له، من يسألني فأعطه، من يستغفرني فأغفر له). وكأن التمازج في الحركة يقترب من المعنى المجازي للحديث الشريف.
هذا حال السماء، فكيف حال الأرض؟
حيث ينتقل الشاعر لوصفها بالبسيطة واقفة على جرح ما، وهنا يحضرني المثل القائل(...على قدم وساق) إلا أنه اختار "جرح ما"، حيث الجرح انشقاق عن اللُّحمة، وجعله مجهولاً، ليكون تحديد مكان الجرح سرا؛ لا يُعلم متى ينضح منه أو بمعنى أدق ينفجر، فمعنى أن تكون البسيطة كلها على جرح، هو انتظار الامتلاء ما قبل تحقق النزف.
وبمكر معلن؛ يقرع الشاعر حرفه ليعيدنا إلى أكبر الصراعات العقدية الممتدة عبر عصور ما بين تجاذبين معتنقي الدينين، فرمز لرجل الدين المسلم ب "فقه"، و "حاخام" نسبة لرجل الدين اليهودي.
ولننظر إلى مفردة "حاخام" التي تلاصقت مع مفردة "فقه"، لنرى أنها مختصة بالشق الديني للطائفة اليهودية ويقابلها من الطائفة المسلمة لقب "فقيه "، دون أن يلجأ الشاعر إلى لقب "حبر "والذي يقابله لقب "عالم "في الشق العلمي لمراتب الألقاب الاعتبارية.
وهذه إشارة إلى تغول السمة الدينية ما بين التجاذبين بين المتدينين، واللقبان مثيران للزوابع سواء من خلال التعاليم أو الفُتيا. فهل عنى الشاعر أبدية الصراع!
* الحركة الثانية
شهقةُ الرّيح في رحم التُّراب
تمنحُني بعضَ التّذاكي
ثم تروي ظمأ اللّيل برشفةِ تِحنانٍ علقميّة
من المعلوم أن حركة الريح حركة إخراج، بمعنى حركة إرسال لا استقبال، فمن الطبيعي أن يكون اللفظ المناسب لها هو الزفير لتكون حركة طردية كلائمة لما بعدها "في رحم التراب "، فما هو سبب الحركة الفيزيائية في النص والتي يتخفى عن القارئ والكاتب على السواء، ولفك الشيفرة ينبغي أن نتأمل قليلا في الباعث لحالة التحليق "شهقة الريح"، ولماذا كانت حركة إخراج وطرد من الداخل؟
إنني أرى أن "شهقة الريح" هي اختصار لفعلين متتاليين، يختص بهما الخالق تعالى وهما(كن، فيكون)، فرمز بـ "شهقة" لـ "كن"، وبـ "الريح" لـ "يكون" لأن الريح شيء متحقق له كينونة، فكانت "شهقة الريح" هي شيفرة "كن، فيكون"، ورمز بالسرعة الملائمة لتصور القارئ بـ "الريح".
ولأن هذا الرابط كان له ميزات التخفي، فقد كان الشطر القادم منساباً في المعنى "تمنحني بعض التذاكي" وما كان هذا التذاكي إلا نتيجة طبيعية للكينونة المكرمة للإنسان بقوله تعالى (ولقد كرمنا بني آدم) ونتيجة لانبلاج الفهم للشيفرة، وما نهاية الحركة إلا نتيجة لاكتمال الجسم الوقتي لليل؛ أي الحالة الكونية في نهايتها، ووصف ذلك بـ "تروي ظمأ الليل" وتم اكتمال أجزائه.
وعلى وقع انتهاء أجزاء الليل؛ يتخفف الشاعر منه، بطريقة يتصورها العقل، ويدركها القارئ بقوله "برشفة تحنان علقمية" فكأن انتهاء الحياة عبر قسمين من حياة البرزخ، والتي يكون طرفاها معبرين عنهما بمفردة "تحنان "بقول القسم الأول، وهو المؤمن: (رب أقم الساعة)، ومفردة "علقمية "بقول القسم الآخر، وهو الكافر: "رب لا تقم الساعة" ضمن الحديث النبوي المشهور عن عذاب القبر.
* الحركة الثالثة
أنا مُحبُّ الأنثى عندَ التماع الشّهوةِ
أنا كارهُ الحال عند انطفائها
ذهَب أدراج السّواد بياضي
والحركة هنا منفصلة عن الحركتين السابقتين، فهي تعبر عن قطفات نفسية في النص، فـ "أنا مُحبُّ الأنثى عندَ التماع الشّهوةِ" هي صورة طبيعية، فالشهوة مفتاح للقرب، ويستمر النص في إيضاح حال المحب بقوله: "أنا كارهُ الحال عند انطفائها" وهي سيرورة ثابتة.
لكنني سأفصل بين الشطرين؛ تاركاً الأنا الأولى في مستقر خاص، وما جعلني للسير في ذلك ؛ أن هناك - القارئ الفطن - من سيشير إلى وجود خلل بنيوي في قوله:
أنا كارهُ الحال عند انطفائها
ذهَب أدراج السّواد بياضي
ولأن الناقد يحاول استنباط التمازج اللغوي للنص؛ فإن اعتبار الحال إنما هو توهج الضنك بعد فصل الأنا الأولى عن الثانية، وهي الحالة المزرية للحياة، وعند انطفاء الضنك يصبح الحال ذهبياً؛ لتصبح البنية كالتالي:
أنا كارهُ الحال
عند انطفائها
ذهَبٌ
أدراج السّواد
بياضي
ولعلّ الخلل جاء من تنسيق السطور والكلمات، إلا أن المعنى تخلّق من تعدد إرهاصات الفهم العميق.
* الحركة الرابعة
بُعيْد صعود الأنبياء سلالم الأثير
حِجابٌ من حُجابِ الإنس يَحجُبُ نوركَ الإلهيّ
أبعدهُم بحقّ حَقِّك لكي أراك
بكاملك على قدرِ بصيرتي وحصيرتي البسيطتين
في فهمِ الدُّنيا وفهمِكَ
ها أنا قد برّأتُ نفسي
من أحلامي لعلَّ الغيب يُهديني من غامضهِ
فرحًا عبثيًّا يَسُدُّ إملاقَ الحاضرِ
عند التماع نصالِ الأمل في أفقٍ غريب
وتبدأ بمشهد ارتقاء طولي بين الأرض والسماء؛ وهو ما يعرف تراثياً بالمعراج أو العروج، لكنه ليس عروجاً في الجو، وإنما هو انتقال عبر السائل، بمعنى أن العروج تكون سائلة ممتزجة بأجساد الأنبياء والمجال المحيط بهم، وفي هذا تعبير عن الانتقال للحياة الأبدية، لكن لم كان السائل هو الغلاف الناقل "الأثير "وليس غلافاً جويا؟ أيكون هناك استحضار لفكرة الخلق من خلال أن تكوين الإنسان يكون من سائل(السائل المنوي)!!!
ولعلنا في هذه الحركة نبيّن أن تقنية الفلاش باك ليست مقتصرة على الرواية فقط ضمن الممارسة الكتابية، حيث نلمح ذلك في قوله: بُعيْد صعود الأنبياء سلالم الأثير
حِجابٌ من حُجابِ الإنس يَحجُبُ نوركَ الإلهيّ
فكيف لنا أن نتصور أن يكون ذلك بعد قرع الرجوج إلا باستخدام الفلاش باك؟
ويتسم هذا الجزء من الحركة بالمناجاة من حُجابِ الإنس؛ لنلمح تبياناً للمناجاة واقترانها بالمفهوم الصوفي في العلاقة بين العبد وربه، فرمز للحالة الصوفية بعدة إنارات كـ: "يَحجُبُ نوركَ الإلهيّ"، "لكي أراك"، "بكاملك على قدرِ بصيرتي وحصيرتي البسيطتين في فهمِ الدُّنيا وفهمِكَ"، وهنا ملمح لمصطلح الحلول في الصوفية، والفصل ما بين الرؤية الإنسية والقدرة الإلهية.
وخاتمة الحركة تحليق خارج الدائرة المعرفية، واستجلاب تراثي لاستراق الشهب للأخبار السماوية بقوله: "لعلَّ الغيب يُهديني من غامضهِ "، ودلّ على ذلك تأكيداً بالوصف "نصال الأمل"، ولننظر إلى اتساق حالة المناجاة بحالة الأمل؛ وتُبدلت مفردة الأمل في عنوان القصيدة إلى ظرف الزمان المتحقق لا لفظ التمني وهو الأمل، وجعلها مسبقة للنتيجة، وذلك بوصف الالتماع أو النتيجة المطلوبة بـ "فرحا عبثيا" وهو وصف يطلب الغزارة لا الانتقاء، فلعل فرحاً ما يصيب الهدف بدقة وتنتهب حالة العنوان "إملاق الأمل ".
* الحركة الأخيرة
يا أيُّها الصامتون عن ملح الوطن
اهربوا من نفاقكم خلف صحارى النّفس
يا أيّها العائدون من حلم الضّحيّة
اجمعوا أوراقكم وأعيدوا النّظر
لأنّ
إسرافيل يَقرعُ الرجوج
حتّى الهزيع ما قبل الأخير
والبسيطةُ واقفةٌ على جُرحٍ ما
تُحاولُ تفسير فقهِ حاخامٍ أخير
وهنا ينقلب النص في حركته الأخيرة إلى البعد الأرضي للنص، وهي بالمعنى النفسي الواقعي؛ طريقة خطابية درامية صوتية، وكأنها إفاقة من رؤيا في المنام، صارخاً في وجه الفجيعة التي يحياها في وطنه، لينخفض مستوى النص إلى نداءين بإدراك الوطن قبل فوات الأوان، وقبل . . . ، حيث تُحال "قبل" في البنية غير المكتوبة إلى التعليل المسترجع من النص من الحركة الاولى، وما حملته من دلالات بأن الصراع صراع سيطرة ليس أكثر.
الناقد: طلعت قديح