#ركوة الغجري
رواية جديدة للروائية الناقدة: نسرين بلوط، صدرت ضمن منشورات دار مدارك، مبتدأ العام 2020.
أن تقرأ لناقد يعني أن تمسك حواسك، كي لا يغفل عنك شيء، مما يعتمل في الخلد من تنويعات كتابية وتنويعات؛ فما بالك إن كانت ناقدة مهنية، مواظبة على القراءة والنقد المستمر!
لكن الأكثر ولوجا لمنطقة الالتحام؛ أن تقرأ لتنقد ما يكتبه الروائي الناقد، ومعنى أن تنتقد ناقدة يعني أن تدخل حقل ألغام، لن ينفك إلا أن تنفجر حولك إما ينابيع؛ فتنهل من عذبها، أو تصيبك شظايا الانشطارات الأنثوية، بما تخفى من معان ومفاهيم ورسائل أرادت الناقدة عدم إيصالها بالشكل الكامل، فهي ليست مُدرسة صِبية؛ فتشرح كي يعووا.
" سرير الغجري"
* المعلوم أن مفردة " سرير " دالة على العموم، تفتح أفق المعرفة في الإحاطة بالحالة له؛ فهو حالة للتأمل والتخيل، كونه مكانا للراحة، وبالتالي فإن إفرازات الهدوء؛ تعتبر فيتامينا طبيعيا للتأمل والتخيل والإبداع في التفكر، ناهيك على أنه مكان معروف للممارسة الجنسية، وتفرعاتها من مداعبة وكر وفر، ويمكن أن يكون مكانا لنسج المؤامرات أو حل الأزمات، وذلك لأنه محل إدارة في لحظة من الدّعة، إذن فالسرير إلهام في لحظة ما، وانتشاء لممارسات عدة، لا تقف عند حال الجنس.
وأما مفردة " الغجري " فقد عنت فيها الكاتبة الشاعر " فيديركيو غارثيا لوركا "، الشاعر الإسباني ذائع الصيت، والثائر في وجه الظلم.
* في هذه الرواية لم ترد نسرين بلوط أن تكتب رواية تقليدية بشكلها النمطي، فاتخذت من قدرتها الروائية والنقدية في تكوين خاص بها، فقد تبدو " سرير الغجري " رواية تاريخية محضة، إلا أن القارئ سيتفاجئ بأن المواضع التاريخية في الرواية لم يكن لها إثراء فعلي، مقارنة بحالة التقمص التي أحدثتها الكاتبة في كل شخصيات الرواية الأساس الذي ترتكز عليه الرواية!
* اختارت الكاتبة الطريقة الفرنسية لكتابة الرواية " الكانتونات "، لكنها لم تشأ أن تعبر عن ذلك بذكر أسماء الشخصيات كعنوان لكل جزء؛ بل جعلت الأفعال سابقة لاسم الشخصية مثل: ( فرك حميدان عينيه، تثاءبت اعتماد، أومات الجارية جوهرة، عقصت وردة ضفيرتها، هزّ الحارس مملوك، رأيت أن أتوقف ، عبس الوزير مهند، أحسّت أشرقت،.....الخ )، وفي نفس الوقت اختارت وبشيء من التمكن أن تبدأ روايتها في جزئها الأول بالقول: ( أنا فيديريكو غارثيا لوركا، شاعر إسباني يجوب أزقة قريته حائرا،...)، وهذا يؤشر للقارئ الحاذق باحتمالين لا ثالث لهما:
1- المرتكز للرواية قائم على الذاكرة، بتبيان " أنا ".
2- أساس الرواية في نسيجها هو مذكرات " لوركا "، وسواء هذا أو ذاك، فقد برعت الكاتبة في عدم إمساك القارئ بالأجزاء التاريخية الحقيقية، والأجزاء الروائية المتخيلة، وهذا يُحسب للكاتبة في تزاوج الخيال والتاريخ لإنتاج خليط متجانس، وكأنه نسيج متعدد الألوان لكنه واحد.
* اتبعت الكاتبة شكلا مطروقا من ذي قبل لبعض من كتّاب الرواية وهي طريقة الرواية المخطوط، باعتباره المحور الأساسي الذي تقوم عليه الأحداث، بيد إن نسرين بلوط تلقفت الشكل السابق، وعملت على إضفاء روح الرواية؛ وفتحت أفقا أخرى لتعدد الحبكات الدرامية، وصناعة شخصيات تُخلق من بيئتها بطريقة تنافسية، وهذا جلي في قصص " الجواري "د.
* تسليط الضوء بقوة على قضية المثلية الجنسية، واعتبارها سلوكا نحو جنس متماثل لا ينبغي النفور منه، فتلك طبيعة إنسانية، وإن اعتبرها البعض خروجا عن الفطرة السليمة، وفيه إشارة إلى التوجه الديني لهذه القضية، وتكشف الكاتبة أن المثلي قد يمارس الجنس مع الجنس الآخر، لكن هواه لجنسه المماثل، وكان لمثالين نصيب الأسد بذكرها وهما: علاقة العشق بين " لوركا " و " سلفادور دالي " بشقه الغربي، و الشاعر "أبو بكر بن عمار " و " المعتمد " بشقه العربي الإسلامي، وبدرجة أقل بين " حميدان " و " الإمام أبو حامد الغزالي " والتي التصقت بظاهرة متصوفة وهي المريد، وكحال التبريزي والرومي.
* أشارات الكاتبة لعدة ومضات بشيء من التأصيل من جهة من خلال إيقاد الأحداث أو من خلال السردي الفلسفي لها، وكان منها:
1- العلاقة الجدلية بين الشعراء والحكّام، أهي مصلحية متبادلة أم تكاملية، ومدى تأثيرها في الذائقة العربية، وعدم اقتصارها على الرجال، فالجواري كان لهن حظ فيه؟
2- شهوة الحكم للحاكم دون النظر لأية اعتبارات إنسانية، فالمهم هو الكرسي وفقط، وإن تحالف مع عدوه، وإن كان إنهاء أي خلاف بالدم، فلم لا!
3- نظرة حكّام الأندلس للجواري بشكل خاص، واعتبارهن ملكا لا حدود في العلاقة، وصراعهن في سبيل رضا الحاكم، ولم يغب في متن الأحداث؛ منابع الفتنة في المرأة متمثلة في " الجواري ".
* لم ترد نسرين بلوط أن يكون دور الجواري دورا ثانويا يتسم بالخنوع وتنفيذ الأمر فقط، لكنها استفادت من تراث تاريخي لكينونة المرأة في الإدارة إلى اقتناص سمة " الكيد النسائي "، فبدا متجليا في صور مختلفة من فعل الجواري: ( جوهرة، أشرقت، وردة وغيرهن ).
* ناورت الكاتبة في مسألة رأي الدين في المثلية الجنسية، فاتجهت إلى تأصيل الشكل الإنساني لها، باعتبارها شأنا خاصا، لا يخضع لدين أو لفتية علم، ولذلك نحّت في روايتها شخصية الإمام " أبو حامد الغزالي " عن هذا المسلك، وحصرته في ركن إعطاء الفتوى، وإسناده بقوته الدينية ليوسف ابن تاشفين للبطش بالمعتمد بن عباد، ظنا بما وصله من أخبار فساد المعتمد، وقد كان.
وبهذا أفلتت من مواجهة رأي الغزالي في المثلية الجنسية.
* كان حضور الشعر طاغيا في الرواية، فالكتابة عند لوركا هي الطبيعة والإنسان والمشاعر، وتجلى ذلك في مقاطع شعرية ونثرية متعددة، تنوعت بين حب الطبيعة في بداية السرد الروائي، وحديثه بشكل شجي عن قريته، وطفولته، ومرضه إلى حديثه عن المشهد الشعري والفني الذي كان هو و" سلفادور دالي " وغيرهم الكثير، وقد استغل في إذكاء شمعة العشق المثلي بمداعب. الكلمات ونثرها، انتهاء بمشهد تراجيدي تعالت فيه شيئا فشيئا حتى وصلت ذروته في إعدام لوركا؛ رميا بالرصاص.
* اتخاذ نمط سردي، وفيه تتحدث الشخصية عن نفسها من خلال الحوار الداخلي، ورؤيتها للأحداث والشخصيات الأخرى، وهذا النمط يعطي زخما للقارئ في فتح الحلقات المفقودة بين الفعل وردة الفعل، ومسار الحدث ضمن رؤية الشخصية الخاصة به، بعيدا عن الصواب أو الخطأ.
وليس أدّل على استبصار لوركا بنهايته إلا بعض شعره، حيث يقول:
أصوات الموت دقّت،
بالقرب من الوادي الكبير
أصوات قديمة طوّقت،
صوت القرنفل الرّجولي
ثلاث دقات دموية أصابته،
ومات على جنب...
الناقد: طلعت قديح
رواية جديدة للروائية الناقدة: نسرين بلوط، صدرت ضمن منشورات دار مدارك، مبتدأ العام 2020.
أن تقرأ لناقد يعني أن تمسك حواسك، كي لا يغفل عنك شيء، مما يعتمل في الخلد من تنويعات كتابية وتنويعات؛ فما بالك إن كانت ناقدة مهنية، مواظبة على القراءة والنقد المستمر!
لكن الأكثر ولوجا لمنطقة الالتحام؛ أن تقرأ لتنقد ما يكتبه الروائي الناقد، ومعنى أن تنتقد ناقدة يعني أن تدخل حقل ألغام، لن ينفك إلا أن تنفجر حولك إما ينابيع؛ فتنهل من عذبها، أو تصيبك شظايا الانشطارات الأنثوية، بما تخفى من معان ومفاهيم ورسائل أرادت الناقدة عدم إيصالها بالشكل الكامل، فهي ليست مُدرسة صِبية؛ فتشرح كي يعووا.
" سرير الغجري"
* المعلوم أن مفردة " سرير " دالة على العموم، تفتح أفق المعرفة في الإحاطة بالحالة له؛ فهو حالة للتأمل والتخيل، كونه مكانا للراحة، وبالتالي فإن إفرازات الهدوء؛ تعتبر فيتامينا طبيعيا للتأمل والتخيل والإبداع في التفكر، ناهيك على أنه مكان معروف للممارسة الجنسية، وتفرعاتها من مداعبة وكر وفر، ويمكن أن يكون مكانا لنسج المؤامرات أو حل الأزمات، وذلك لأنه محل إدارة في لحظة من الدّعة، إذن فالسرير إلهام في لحظة ما، وانتشاء لممارسات عدة، لا تقف عند حال الجنس.
وأما مفردة " الغجري " فقد عنت فيها الكاتبة الشاعر " فيديركيو غارثيا لوركا "، الشاعر الإسباني ذائع الصيت، والثائر في وجه الظلم.
* في هذه الرواية لم ترد نسرين بلوط أن تكتب رواية تقليدية بشكلها النمطي، فاتخذت من قدرتها الروائية والنقدية في تكوين خاص بها، فقد تبدو " سرير الغجري " رواية تاريخية محضة، إلا أن القارئ سيتفاجئ بأن المواضع التاريخية في الرواية لم يكن لها إثراء فعلي، مقارنة بحالة التقمص التي أحدثتها الكاتبة في كل شخصيات الرواية الأساس الذي ترتكز عليه الرواية!
* اختارت الكاتبة الطريقة الفرنسية لكتابة الرواية " الكانتونات "، لكنها لم تشأ أن تعبر عن ذلك بذكر أسماء الشخصيات كعنوان لكل جزء؛ بل جعلت الأفعال سابقة لاسم الشخصية مثل: ( فرك حميدان عينيه، تثاءبت اعتماد، أومات الجارية جوهرة، عقصت وردة ضفيرتها، هزّ الحارس مملوك، رأيت أن أتوقف ، عبس الوزير مهند، أحسّت أشرقت،.....الخ )، وفي نفس الوقت اختارت وبشيء من التمكن أن تبدأ روايتها في جزئها الأول بالقول: ( أنا فيديريكو غارثيا لوركا، شاعر إسباني يجوب أزقة قريته حائرا،...)، وهذا يؤشر للقارئ الحاذق باحتمالين لا ثالث لهما:
1- المرتكز للرواية قائم على الذاكرة، بتبيان " أنا ".
2- أساس الرواية في نسيجها هو مذكرات " لوركا "، وسواء هذا أو ذاك، فقد برعت الكاتبة في عدم إمساك القارئ بالأجزاء التاريخية الحقيقية، والأجزاء الروائية المتخيلة، وهذا يُحسب للكاتبة في تزاوج الخيال والتاريخ لإنتاج خليط متجانس، وكأنه نسيج متعدد الألوان لكنه واحد.
* اتبعت الكاتبة شكلا مطروقا من ذي قبل لبعض من كتّاب الرواية وهي طريقة الرواية المخطوط، باعتباره المحور الأساسي الذي تقوم عليه الأحداث، بيد إن نسرين بلوط تلقفت الشكل السابق، وعملت على إضفاء روح الرواية؛ وفتحت أفقا أخرى لتعدد الحبكات الدرامية، وصناعة شخصيات تُخلق من بيئتها بطريقة تنافسية، وهذا جلي في قصص " الجواري "د.
* تسليط الضوء بقوة على قضية المثلية الجنسية، واعتبارها سلوكا نحو جنس متماثل لا ينبغي النفور منه، فتلك طبيعة إنسانية، وإن اعتبرها البعض خروجا عن الفطرة السليمة، وفيه إشارة إلى التوجه الديني لهذه القضية، وتكشف الكاتبة أن المثلي قد يمارس الجنس مع الجنس الآخر، لكن هواه لجنسه المماثل، وكان لمثالين نصيب الأسد بذكرها وهما: علاقة العشق بين " لوركا " و " سلفادور دالي " بشقه الغربي، و الشاعر "أبو بكر بن عمار " و " المعتمد " بشقه العربي الإسلامي، وبدرجة أقل بين " حميدان " و " الإمام أبو حامد الغزالي " والتي التصقت بظاهرة متصوفة وهي المريد، وكحال التبريزي والرومي.
* أشارات الكاتبة لعدة ومضات بشيء من التأصيل من جهة من خلال إيقاد الأحداث أو من خلال السردي الفلسفي لها، وكان منها:
1- العلاقة الجدلية بين الشعراء والحكّام، أهي مصلحية متبادلة أم تكاملية، ومدى تأثيرها في الذائقة العربية، وعدم اقتصارها على الرجال، فالجواري كان لهن حظ فيه؟
2- شهوة الحكم للحاكم دون النظر لأية اعتبارات إنسانية، فالمهم هو الكرسي وفقط، وإن تحالف مع عدوه، وإن كان إنهاء أي خلاف بالدم، فلم لا!
3- نظرة حكّام الأندلس للجواري بشكل خاص، واعتبارهن ملكا لا حدود في العلاقة، وصراعهن في سبيل رضا الحاكم، ولم يغب في متن الأحداث؛ منابع الفتنة في المرأة متمثلة في " الجواري ".
* لم ترد نسرين بلوط أن يكون دور الجواري دورا ثانويا يتسم بالخنوع وتنفيذ الأمر فقط، لكنها استفادت من تراث تاريخي لكينونة المرأة في الإدارة إلى اقتناص سمة " الكيد النسائي "، فبدا متجليا في صور مختلفة من فعل الجواري: ( جوهرة، أشرقت، وردة وغيرهن ).
* ناورت الكاتبة في مسألة رأي الدين في المثلية الجنسية، فاتجهت إلى تأصيل الشكل الإنساني لها، باعتبارها شأنا خاصا، لا يخضع لدين أو لفتية علم، ولذلك نحّت في روايتها شخصية الإمام " أبو حامد الغزالي " عن هذا المسلك، وحصرته في ركن إعطاء الفتوى، وإسناده بقوته الدينية ليوسف ابن تاشفين للبطش بالمعتمد بن عباد، ظنا بما وصله من أخبار فساد المعتمد، وقد كان.
وبهذا أفلتت من مواجهة رأي الغزالي في المثلية الجنسية.
* كان حضور الشعر طاغيا في الرواية، فالكتابة عند لوركا هي الطبيعة والإنسان والمشاعر، وتجلى ذلك في مقاطع شعرية ونثرية متعددة، تنوعت بين حب الطبيعة في بداية السرد الروائي، وحديثه بشكل شجي عن قريته، وطفولته، ومرضه إلى حديثه عن المشهد الشعري والفني الذي كان هو و" سلفادور دالي " وغيرهم الكثير، وقد استغل في إذكاء شمعة العشق المثلي بمداعب. الكلمات ونثرها، انتهاء بمشهد تراجيدي تعالت فيه شيئا فشيئا حتى وصلت ذروته في إعدام لوركا؛ رميا بالرصاص.
* اتخاذ نمط سردي، وفيه تتحدث الشخصية عن نفسها من خلال الحوار الداخلي، ورؤيتها للأحداث والشخصيات الأخرى، وهذا النمط يعطي زخما للقارئ في فتح الحلقات المفقودة بين الفعل وردة الفعل، ومسار الحدث ضمن رؤية الشخصية الخاصة به، بعيدا عن الصواب أو الخطأ.
وليس أدّل على استبصار لوركا بنهايته إلا بعض شعره، حيث يقول:
أصوات الموت دقّت،
بالقرب من الوادي الكبير
أصوات قديمة طوّقت،
صوت القرنفل الرّجولي
ثلاث دقات دموية أصابته،
ومات على جنب...
الناقد: طلعت قديح