
نساء الدانتيل ليسري الغول، وجع الحكايات والنهايات
د. عبد العزيز البطران
قبل سنة من الآن كنت أتجوّل بين طاولات الكتب المرصوصة في معرض الكتاب، سمعت بجانبي صوتاً لشخص يبدو أنه واثق مما يقول، كان الصوت مألوفاً لأذنيّ، فقد سمعته في لقاءاته وحواراته عن الأدب، نظرت إليه فإذ به هو، يسري الغول، صاحب "غزة87" الرواية الجميلة:
- أنت يسري الغول صح؟ قلت بكل فرحة.
- صحيح باستغراب أجاب
- أنا قرأتلك مجموعتين قصصيتين وروايتك الأخيرة وكانت بديعة.
- طيب الحمد لله انها عجبتك" وأخفى جزءاً من مشاعره التي بانت في ملامح وجهه.
جُلنا بين الكتب وتحدثنا كثيراً عنها وعن الكتاب وغزة، كم كان جميلاً ذلك اللقاء، يومها قال لي أنه يعمل على مجموعة قصصية اسمها "نساء الدانتيل" وأعجبني العنوان لأنه مختلف عما سبق من عناوين مجاميعه القصصية السوداوية "على موتها اغني" "خمسون ليلة وليلى" "الموتى يبعثون في غزة" "قبل الموت بعد الجنون"، وها انا اليوم أقرأ "نساء الدانتيل" وأكتب عنها..
"نساء الدانتيل" مجموعة قصصية من 17 قصة تُقَسّم برأيي إلى 3 أقسام، قصص تناقش همّ النساء في غزة، قصص تتناول قضايا غزة السياسية، وقصص تتأمل العلاقات العاطفية.
النساء في غزة ضحايا الرجال والاحتلال والحصار، و"لا مكان للانتصارات في مجتمع الضحايا"، في قصة(لقاء في يوم ماطر) يلتقي من يبحث عن السلام النفسي المفقود في هذه المدينة المتوجعة ومن تبحث عن أنوثتها التي ضيعها زوجها في تصرفه السيء وتمرده على كل شيء حتى صارت تكره كل الرجال، وقصتَي(شرفات عارية)و(نساء الدانتيل) أرامل يبحثن عن الجنس ولو كان مع جندي معركة في خيالهن أو حتى مع رجل دين معاق مهان نتن، فهن يبحثن عن الخلود والحياة ويتشبثن بذيولها وسط كل هذا الفناء والموت، وها هو الحرمان والجوع والفقر في قصة(إصبع أزرق) يجعل النساء تساوم على شرفهنّ والرجال لا يهمهم إلا الجنس واستعراض غرائزهم الحيوانية، أما في قصة(اغتيال منظم) تنتقم امرأة من الرجال الذين دمروا حياتها فتقول لفنانها المفضل: "أنتم رجال تستحقون الموت... أنا أكرهكم ".
لخّص يسري أوجاع غزة في 4 قصص، فها هو حاكم المدينة يتاجر بحرية الشعب ويحتكر بابها في قصة(باب عجيب)، أما في قصة(جرعة وقود) يعم الحصار البلدة فصار الكل يبحث عن وقود ليحيى والحاكم في صومعته متحصناً من الجوع والفقر هو وأحبابه، وقصة(صائد الآلام) الأقرب لقلبي التي يعتبر المستشفى الذي ينطق بوجع المدينة بطلها الأساسي، فكل من يقوم على خدمة المقهورين في غزة هو صائد للآلام مطبّباً لها، وإن بقي الحال كما هو يستشرف يسري الوضع في غزة في قصة (شيفرا غزة)سيختفي القمر خلف الغيم والأرض المغمسة بالدم، وسيكون الدمار في كل مكان وسنبحث عن العمار لنوثقه، فهناك حروب وموت وجوع واندثار عوائل وتقطع بلدان..
يسري مهووس بنسج قصصه في العالم الآخر متخذاً منه عالماً موازياً لعالمنا أو امتداداً له، لا تخلو مجموعة قصصية من مجامعيه من هذه الفكرة فهنا مثلاً قصة (برزخ) التي تتحدث عن مجموعة من المقبورين الذين يتمنون حياة هنا لم يعيشوها في عالمهم الأول فهذه التي تطلب منح المرأة حقوقها,"ألا يكفي أن يكون المجتمع ذكورياً بين الأحياء؟"، وقصة(أنقاض على واجهة الشمس) التي تحكي عن مجموعة صحفيين ينتظرون أسيراً شهيداً سيخرج من قبره يناقشون قضية هذا الرجل التي عبر عنها العجوز:"إنها ليست حرباً يا عزيزي، فكيف لقوم عزل أن يحاربوا من يمتلكون كل أدوات التطور؟، إنها عدوان..".
الوطن في قصص يسري كابوس، والغربة فردوس مفقود، حلم صعب المنال، مهرب لممارسة الحب والجنون والأحلام، تقول له حبيبته وهي تشير لنهر الراين: "يا ليت لنا مثله في المخيم" في قصة(صدفة رأيتها)، أما في قصة(سوريني)اللطيفة يلتقي غزاوي ودمشقية عاشقين للأدب على متن طائرة، كأن الحب لهؤلاء المعذبين معلق بين السماء والأرض كحال بلدانهم، و(عاشقان تحت المطر) يلتقيان في باريس هاربين من الوجع متمسكين بالحياة فلقد ماتت زوجته بالسرطان وانتحر صاحبها.
الأمل هو ما ميّز هذه المجموعة عن غيرها، فجاء على شكل تمرد على الظالم في قصة(باب عجيب) وأياد سماوية تحنو على أطفال غزة في قصة(صائد الآلام) ومطر هبة السماء في قصة(جرعة وقود) وعملية دهس لمستوطنين وطعن لجندي في قصة(مدينة عتيقة) وانتقام لمغتصب أمه في قصة(اصبع أزرق).
يسري يرسم الحدث كأنه أمامك؛ فهو يستحثّ حواسك للانتباه، تطرب لفيروز بينما تحزن على مصائر أبطال القصة، تفرح لجنون العاشقين بينما تسمع صوت استعلامات الطيارة، تروح بالزمن يومين قبل الحادثة وأعوام بعدها كفلم، تقرأ مخطوطات غريبة لعجوز ثم تسافر بالزمن للمستقبل.
التناصّات التي استخدمها يسري في نصوصه أضفت طابعاً بديعاً أصيلاً لقصصه، مرة تناصاً مع القرآن، ومرة مع فيروز، ومرة مع قصة(الحالة المحيرة للمدعو بنيامين بوتن)، ومرة مع قصة آدم وحواء، أما لغته فهي مطوّعة حسب ما تفرض عليها القصة، فهي مرهفة لطيفة الألفاظ في قصص الحب، وسوداوية مليئة بالوجع في قصص الواقع الأليم.
يسري، لن أقْوَ على انتظار ما ستكتب قادما، لكن في كل عمل جديد شيء جديد يستحق الانتظار.. يسري الغول
د. عبد العزيز البطران
قبل سنة من الآن كنت أتجوّل بين طاولات الكتب المرصوصة في معرض الكتاب، سمعت بجانبي صوتاً لشخص يبدو أنه واثق مما يقول، كان الصوت مألوفاً لأذنيّ، فقد سمعته في لقاءاته وحواراته عن الأدب، نظرت إليه فإذ به هو، يسري الغول، صاحب "غزة87" الرواية الجميلة:
- أنت يسري الغول صح؟ قلت بكل فرحة.
- صحيح باستغراب أجاب
- أنا قرأتلك مجموعتين قصصيتين وروايتك الأخيرة وكانت بديعة.
- طيب الحمد لله انها عجبتك" وأخفى جزءاً من مشاعره التي بانت في ملامح وجهه.
جُلنا بين الكتب وتحدثنا كثيراً عنها وعن الكتاب وغزة، كم كان جميلاً ذلك اللقاء، يومها قال لي أنه يعمل على مجموعة قصصية اسمها "نساء الدانتيل" وأعجبني العنوان لأنه مختلف عما سبق من عناوين مجاميعه القصصية السوداوية "على موتها اغني" "خمسون ليلة وليلى" "الموتى يبعثون في غزة" "قبل الموت بعد الجنون"، وها انا اليوم أقرأ "نساء الدانتيل" وأكتب عنها..
"نساء الدانتيل" مجموعة قصصية من 17 قصة تُقَسّم برأيي إلى 3 أقسام، قصص تناقش همّ النساء في غزة، قصص تتناول قضايا غزة السياسية، وقصص تتأمل العلاقات العاطفية.
النساء في غزة ضحايا الرجال والاحتلال والحصار، و"لا مكان للانتصارات في مجتمع الضحايا"، في قصة(لقاء في يوم ماطر) يلتقي من يبحث عن السلام النفسي المفقود في هذه المدينة المتوجعة ومن تبحث عن أنوثتها التي ضيعها زوجها في تصرفه السيء وتمرده على كل شيء حتى صارت تكره كل الرجال، وقصتَي(شرفات عارية)و(نساء الدانتيل) أرامل يبحثن عن الجنس ولو كان مع جندي معركة في خيالهن أو حتى مع رجل دين معاق مهان نتن، فهن يبحثن عن الخلود والحياة ويتشبثن بذيولها وسط كل هذا الفناء والموت، وها هو الحرمان والجوع والفقر في قصة(إصبع أزرق) يجعل النساء تساوم على شرفهنّ والرجال لا يهمهم إلا الجنس واستعراض غرائزهم الحيوانية، أما في قصة(اغتيال منظم) تنتقم امرأة من الرجال الذين دمروا حياتها فتقول لفنانها المفضل: "أنتم رجال تستحقون الموت... أنا أكرهكم ".
لخّص يسري أوجاع غزة في 4 قصص، فها هو حاكم المدينة يتاجر بحرية الشعب ويحتكر بابها في قصة(باب عجيب)، أما في قصة(جرعة وقود) يعم الحصار البلدة فصار الكل يبحث عن وقود ليحيى والحاكم في صومعته متحصناً من الجوع والفقر هو وأحبابه، وقصة(صائد الآلام) الأقرب لقلبي التي يعتبر المستشفى الذي ينطق بوجع المدينة بطلها الأساسي، فكل من يقوم على خدمة المقهورين في غزة هو صائد للآلام مطبّباً لها، وإن بقي الحال كما هو يستشرف يسري الوضع في غزة في قصة (شيفرا غزة)سيختفي القمر خلف الغيم والأرض المغمسة بالدم، وسيكون الدمار في كل مكان وسنبحث عن العمار لنوثقه، فهناك حروب وموت وجوع واندثار عوائل وتقطع بلدان..
يسري مهووس بنسج قصصه في العالم الآخر متخذاً منه عالماً موازياً لعالمنا أو امتداداً له، لا تخلو مجموعة قصصية من مجامعيه من هذه الفكرة فهنا مثلاً قصة (برزخ) التي تتحدث عن مجموعة من المقبورين الذين يتمنون حياة هنا لم يعيشوها في عالمهم الأول فهذه التي تطلب منح المرأة حقوقها,"ألا يكفي أن يكون المجتمع ذكورياً بين الأحياء؟"، وقصة(أنقاض على واجهة الشمس) التي تحكي عن مجموعة صحفيين ينتظرون أسيراً شهيداً سيخرج من قبره يناقشون قضية هذا الرجل التي عبر عنها العجوز:"إنها ليست حرباً يا عزيزي، فكيف لقوم عزل أن يحاربوا من يمتلكون كل أدوات التطور؟، إنها عدوان..".
الوطن في قصص يسري كابوس، والغربة فردوس مفقود، حلم صعب المنال، مهرب لممارسة الحب والجنون والأحلام، تقول له حبيبته وهي تشير لنهر الراين: "يا ليت لنا مثله في المخيم" في قصة(صدفة رأيتها)، أما في قصة(سوريني)اللطيفة يلتقي غزاوي ودمشقية عاشقين للأدب على متن طائرة، كأن الحب لهؤلاء المعذبين معلق بين السماء والأرض كحال بلدانهم، و(عاشقان تحت المطر) يلتقيان في باريس هاربين من الوجع متمسكين بالحياة فلقد ماتت زوجته بالسرطان وانتحر صاحبها.
الأمل هو ما ميّز هذه المجموعة عن غيرها، فجاء على شكل تمرد على الظالم في قصة(باب عجيب) وأياد سماوية تحنو على أطفال غزة في قصة(صائد الآلام) ومطر هبة السماء في قصة(جرعة وقود) وعملية دهس لمستوطنين وطعن لجندي في قصة(مدينة عتيقة) وانتقام لمغتصب أمه في قصة(اصبع أزرق).
يسري يرسم الحدث كأنه أمامك؛ فهو يستحثّ حواسك للانتباه، تطرب لفيروز بينما تحزن على مصائر أبطال القصة، تفرح لجنون العاشقين بينما تسمع صوت استعلامات الطيارة، تروح بالزمن يومين قبل الحادثة وأعوام بعدها كفلم، تقرأ مخطوطات غريبة لعجوز ثم تسافر بالزمن للمستقبل.
التناصّات التي استخدمها يسري في نصوصه أضفت طابعاً بديعاً أصيلاً لقصصه، مرة تناصاً مع القرآن، ومرة مع فيروز، ومرة مع قصة(الحالة المحيرة للمدعو بنيامين بوتن)، ومرة مع قصة آدم وحواء، أما لغته فهي مطوّعة حسب ما تفرض عليها القصة، فهي مرهفة لطيفة الألفاظ في قصص الحب، وسوداوية مليئة بالوجع في قصص الواقع الأليم.
يسري، لن أقْوَ على انتظار ما ستكتب قادما، لكن في كل عمل جديد شيء جديد يستحق الانتظار.. يسري الغول