الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

انتفاضة - مجموعة قصصية بقلم:نبيل عودة

تاريخ النشر : 2020-04-23
انتفاضة - مجموعة قصصية بقلم:نبيل عودة
ولد الكاتب نبيل عودة في مدينة الناصرة عام 7491 درس الفلسفة والعلوم السياسية في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو . يكتب وينشر القصص منذ عام7491.

عمل في مهنة الحدادة ) الصناعات المعدنية الثقيلة( 53 سنة ، منها 13 سنة كمدير عمل ثم مديرا للإنتاج..

.وواصل الكتابة الأدبية والفكرية ، ثم النقد الأدبي والمقالة السياسية. ترك عمله اثر إصابة عمل مطلع العام 1222 ..حيث عمل نائبا لرئيس تحرير صحيفة " الاهالي " التي صدرت مرتين ثم ثلاث مرات في الاسبوع بين 1222-1223 ، كانت تجربة صحفية مثيرة وثرية بكل المقاييس ، اذ لاول مرة تصدر صحيفة مستقلة تماما تحولت الى منبر سياسي وثقافي وفكري واجتماعي غير مهادن اثارت قلقا واسعا في اوساط سياسية مختلفة.. وبسبب ضغوطات مارستها مختلف التيارات السياسية على صاحب الجريدة  اوقفت هذه التجربة.. ولكنها كانت جامعتي الاعلامية الهامة التي اثرتني فكريا وثقافيا واعلاميا  واثرت لغتي الصحفية وقدراتي التعبيرية واللغوية . شارك باصدار وتحرير مجلة "المستقبل" الثقافية الفكرية، منذ تشرين اول 1272 استلم رئاسة تحرير جريدة " المساء" اليومية صدرت لنصف سنة بين 1272 - 1277.  صدرت للكاتب :

7- نهاية الزمن العاقر )قصص عن انتفاضة الحجارة( 7411

1-يوميات الفلسطيني الذي لم يعد تائها ) بانوراما قصصية فلسطينية ( 7442

5-حازم يعود هذا المساء -  حكاية سيزيف الفلسطيني )رواية( 7449

9 – المستحيل ) رواية ( 7443

3- الملح الفاسد ) مسرحية (1227

9 – بين نقد الفكر وفكر النقد ) نقد ادبي وفكري ( 1227

1 – امرأة بالطرف الآخر ) رواية ( 1227

1- الانطلاقة ) نقد ادبي ومراجعات ثقافية (1221

4 – الشيطان الذي في نفسي ) يشمل ثلاث مجموعات قصصية ( 1221

ومئات كثيرة من الأعمال القصصية والمقالات والنقد  التي لم تجمع بكتب بعد ، لأسباب تتعلق اساسا بغياب دار للنشر، تأخذ على عاتقها الطباعة والتوزيع.

منشورات مجلة إتح اد1 كتاب  الإنترنت المغاربية

الفهرس

- انتفاضـــــة

- الجســــــــــــر ..

- بطل من هذا الزمان

- الإخـــــلاص الأنانـــــــي

- كيف أصبح لله شعب مختار؟

- رجــل السياســة

- الزكــــام

- عجيبة بيت أبو بشارة

- صلاة القلب

- ثلاث كلمات حاسمة

- قليلات العقل وكاملو العقل..

- في انتظار جائزة نوبل

- ثــلاث قصص ليست قصيرة جدا

- الزوجة

- خمم الديوك أوطاني منَ الشّامِ لبغدان

منشورات مجلة إتح اد1 كتاب  الإنترنت المغاربية

 

الجســر ..!

)حكاية من هذا الزمان(


زار وزير أشغال عربي دولة اوروبية  ونظرا لأن الزيارة كانت على المستوى الاستراتيجي الأول ، فلن نستطيع تقديم معلومات تدل عن سعادة الوزير والدولة التي يمثلها ،حفاظا على أمن سعادته من مؤامرات صهيونية  وقوى معادية للعرب والاسلام.

بعد الاستقبال والضم والقبل  على الخدين، ثم برنامج العشاء حيث طلب من كل الصحفيين والمصورين مغادرة قاعة الطعام لسرية الأبحاث أثناء العشاء،  لأن الأمر يتعلق حسب البروتوكولات الملحقة ان لا تنشر بالصورة والكلمة شرب الانخاب لأنها محرمة في الوطن، إذ أن سعادة الوزير وحاشيته لا بد ان يصلوا الجمعة في مسجد اقيم بميزانية ضخمة تبرع فيها سيادة الرئيس من أموال الصمود.. لتقوية صمود المؤمنين على دينهم وسراطهم المستقيم حتى في دول الغرب الكافر.

نام الوزير منذ الساعة التاسعة مساء حتى الثانية عشرة من ظهر اليوم التالي ، مع ان الموعد مع الوزير الأوروبي كان في العاشرة صباحا .

لم تكن ضرورة قصوى تلزم المستشار لشؤون  العلاقات العامة كي يزعجه بنومه الهادئ ...واحتراما للضيف لم  ينبس الوزير الأوروبي ببنت شفة...وكتم امتعاضه من هذه الاستهتار بالوقت الذي قيده وعطل اعماله في رعاية شؤون وزارته .

تماما عند الثانية عشرة ظهرا استيقظ سعادة الوزير، تثائب وشكر العناية الإلهية التي سهلت نومه وأمنه.

عند سماع  صوت تثاؤبه التم حوله موظفي وزارته  المساعدون والمستشارون  وهم  على أتم الجاهزية لخدمته.

بعد ان تجشأ وقح وضرط  بحضورهم ) دون أن يسجل ذلك بالبروتوكول(  ارتدى بدلته بمساعدة الملحق الثقافي للوزارة، قام الحلاق النائب الثالث عشر للمدير العام في الوزارة بتمشيطه وقص الخصلات الزائدة وترتيب شعره المصبوغ بالأسود لإخفاء ما شاب من شعره ودهنه بالزيت ليزداد لمعانه الذي يشير الى شباب دائم . اختار له المستشار العسكري ربطة العنق المناسبة لهذا القاء الاستراتيجي الهام مع الوزير الأوروبي، ارتدى حذائه بمساعدة الموظف المسؤول عن التشريفات في الوزارة وقام مسؤول المشتريات برشه بعطر خاص للرجال ، يحتفظ به في الحقيبة الدبلوماسية ، من انتاج المستوطنات اليهودية ، رغم المقاطعة العربية  التي تجاوزت فتحاتها فتحة طبقة الأوزون  هو عطر الوزير المفضل ، المستورد عن طريق سمسار لبناني ، الذي طلب من مكتب الشركة المنتجة في تل ابيب  تغيير اسمه وموقع انتاجه على الارسالية المخصصة لشخصيات العالم العربي الهامة.

كامل الأوصاف تأخر اربع  ساعات، حسب التقليد القومي في موعده للقاء الوزير الأوروبي الذي كان يحوص في مكتبه ضاربا أخماسا بأسداس، شاغلا فكره بتأخر الضيف  لدرجة انه بات يظن ان ضيفة قفل راجعا الى بلاده، ربما بسبب تصرف غير لائق من أحد موظفي مكتبه.

كان في حيرة من أمره  قلقا من ان ذلك سوف يسبب أزمة دبلوماسية ومقاطعة الأجبان واللحوم والقمح والشعير للناس والحمير  التي تستوردها دولة سعادة الوزير العربي وسائر الدول الشقيقة، التي تراكمت ديونها مما يضطر دولة الوزير الأوروبي الى اجراء تعديل كل عدة سنوات  على قائمة الديون  وهذا يعني لمن لا يفهم لغة العلاقات السياسية بين الدول  شطب أغلبية الدين !

تحركت قافلة الوزير العربي نحو مبنى الوزارة متزامنا مع اللحظة التي كان فيها مدير مكتب الوزير الأوروبي قد وصل للفندق ليستفسر عن التأخر المقلق للوفد العربي برئاسة سعادة الوزير، وقد أطمأن عندما رآه بابهى ملابسه وسط حاشيته  فسارع لإبلاغ وزيره ان الوزير العربي ومرافقيه في طريقهم لمبنى الوزارة الأوروبية  لعقد لقاء عمل مع الوزير الأوروبي.

كان السجاد الأحمر قد فرش منذ ساعات الصباح ، من موقف السيارات حتى مدخل الوزارة . استعد حرس الشرف بملابسه الأنيقة مع الفرقة الموسيقية العسكرية وقد أرهقهم البرد في هذا الجو القارص انتظارا للوزير العربي  وحين جائتهم الاشارة بان الوزير بالطريق بدأوا عزفهم ببعض النشاز بسبب تجمد أصابعهم من السقيع .

وصلت القافلة ، تنفس الوزير الأوروبي الصعداء ، ترجل الوزير العربي  بعد ان فتح له مدير الاستيراد في وزارته باب السيارة .

وجه الوزير الأوروبي كان بشوشا ، بعد ان زال قلقه بسبب تأخر الوزير العربي. تعانق مع الضيف الكبير :

- آمل ان تكون قد نمت نوما هنيئا ايها الضيف العزيز ؟ ابتسم الوزير العربي وقال معتذرا :

- في الواقع لم اغف  الا  في ساعات الصباح ، كنت مشغولا طيلة الليل مع مدير عام الوزارة الذي بقي في الوطن لادارة أشغالنا الكثيرة ، العمل كثيرا والمشاريع لا تتوقف  اتلقى كل نصف ساعة تلفونا ، قررت أخيرا ابلاغه بالإمتناع عن الاتصال بي حتى لا تعرف الصهيونية أين أنا  ولكي أمنع المؤامرات على العلاقات الأخوية بيننا وعلى الصداقة الوطيدة بين دولتينا  ومن أجل توطيد العلاقات الاقتصادية بيننا وتبادل الخبرات .

- اوه بالتأكيد ... تفضل .

أجاب الوزير الأوروبي، الذي اعتاد هذا التوجس من مؤمرات يسمعها كلما التقى بوزير عربي ولكنه فضل السكوت  وقاد ضيفة الكبير الى مكتبه في الطابق الخمسين من مبنى الوزارة.

بعد تناول فنجان قهوة سادة أعدها المخطط الاستراتيجي للوزير العربي في مطبخ مكتب الوزير الأوروبي حسب بروتوكولات الزيارة المتفق عليها سلفا ، اعلن الوزير الأوروبي انه لم يستطب القهوة المرة ، مما جعل الوزير العربي يقول في سره : " مسكين ، رغم انه وزير الا انه متخلف".. ولكن الوزير الأوروبي لم ينبس ببنت شفة  لفترة ولكنه قال أخيرا:

- قبل ان نبدأ جلستنا الرسمية يا سعادة الوزير ، تعال سعادتك وانظر من شباك نافذتي الى هذا الجسر الجديد الذي افتتحناة قبل اسبوع ، لقد استغرق العمل فيه ثلاث سنوات. وكلفنا مليار ونصف يورو ،ويعتبر أهم انجاز لوزارتي في العقد الأخير .

انتقل الوزيران  مع الحاشية الى الشباك العريض ، فاذا هم امام منظر رهيب في جماله ، شوارع عريضة  نظيفة ، مئات السيارات تتحرك بدون توقف ، أبنيه تناطح السماء وجسر يمتد لمسافة عدة كيلومترات فوق النهر عريض يتسع لثلاث سيارات في كل اتجاه .

- جميل جدا  ) قال الوزير العربي (  بنيت في عاصمتنا جسرا شبيها له وكلف أيضا مليار ونصف يورو. آمل ان ترد لنا الزيارة قريبا لنأخذك لمشاهدته والمهم انه نفذ بجهود وطنية وبدون خبراء أجانب ، كان هذا فتحا في عملي منذ كلفت بالوزارة.

انتقل الوفدان الى طاولة المفاوضات ، كانت الأبحاث سرية  والغريب ان صوت اسرائيل بالعبرية ذكر في نشرته اثناء الاجتماع  ان الوزير العربي في زيارة لوزير اوروبي لطلب معونات  لترميم السوق القديم   وشق شارع جديد من بيت الوزير العربي الى الشارع الرئيسي حتى لا تتعثر السيارة الأولدزموبيل بالحفر والمطبات في شوارع البلد ، التي يُُحافظ عليها بدون صيانة لأسباب أمنية تتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي ... رغم معرفة اليهود بالزيارة السرية الا  ان الخبر ظل سرا للمواطن العربي  والوزراء العرب في الدول الشقيقة ، منعا للمنافسة على المكان الأول في قائمة المساعدات التي تقدم من وزارة الزميل الأوروبي لدولة سعادة الوزير العربي.

استمرت الزيارة الرسمية اسبوعا وشملت جولات وزيارات الى المنشئات التي بنتها الوزارة الأوروبية ، قضى الوفد اسبوعا رائعا في التجول على حساب الدولة الاوروبية  وتذوق افخر انواع الأجبان واللحوم والاسماك والنبيذ  ولكن بزجاجات كتب عليها عصير تفاح، كما اتفق في بروتوكول الزيارة ،  خوفا من انفضاح الأمر وصدور الفتاوى التي تحرم التعامل مع الوزير الذي يشرب الخمر سرا، مما قد يسبب عزل الوزير العربي من كرسي الوزارة وتعثر برامج الإنماء والتطوير، لذلك ينظم جهاز الوزير برناجا اعلاميا تلفزيونيا كبيرا لصلاة الجمعة في بلاد الكفرة ، تقليدا للتغطية الاعلامية الكبيرة لصلاة رئيس البلاد في الوطن.

القلب يفرح حقا لإن الأوروبيين ملتزمين دائما بنص الاتفاق ، الأمر الذي يبعث على التفاؤل بأن تمحى الديون المتراكمة على دولة الوزير العربي  دون نقاش طويل وهم ليسوا مثل الأشقاء العرب  ينقضون الاتفاق بعد ثوان من تحليق الطائرة في طريق العودة الى الوطن. بالطبع تبقى  حقيقة الخمر في زجاجات عصير التفاح سرا يحافظ عليه الزملاء الأوروبيين  رغم انهم يستصعبون فهم المنطق من عدم شرب كأس نبيذ فاخر يجعل للحياة نكهة طيبة  ويسمو بالنفس البشرية الى ارقى المشاعر !

تحققت كل الأهداف المرجوة من زيارة سعادة الوزير، هذا لا بد أن يعزز مكانته في قلب رئيس البلاد وقد يصبح رئيسا للحكومة اذا انتحر رئيس الحكومة الحالي كما جرت العادة غير المبررة حتى اليوم.

*****

بعد عدة أشهر وصل الوزير الأوروبي في زيارة  لصديقه الوزير العربي لإستمرار المفاوضات حول التعاون  وتبادل الخبرات .. وكان الوزير العربي قد عرض مثلا على زميله الاوروبي ان يرسل المخطط  الاستراتيجي  في وزارته لتقديم خبراته لحكومة الوزير الاوروبي حول طريقة اعداد القهوة العربية السادة ، لأنها تحتاج الى مهنية  تكنلوجية عالية وأباريق خاصة بدءا من اشعال الفحم حتى طريقة ابقائها ساخنة كل الوقت وجاهزة للتقديم من الأباريق النحاسية ، مما يقتضي تعيين موظف خاص أيضا في قسم التشريفات بالوزارة الأوروبية لشؤون القهوة السادة  يكون خبيرا في اشعال الفحم ايضا ،  لأنه قد يصل وزيرا عربيا بدون ان يرافقه المسؤول الوزاري عن شرب القهوة ،  وتقع مشكلة دبلوماسية وربما تقود الى طرد متبادل للسفراء !!

كالعادة ، استيقظ الوزير الأوروبي باكرا ، ولكن الوزير العربي لم يحضر لمكتبة ، الا بعد ساعتين من الموعد المتفق عليه . همس مستشار الوزير الأوروبي لشؤون العالم العربي ساخرا: " انه التقليد القومي لأصدقائنا يا سعادة الوزير، يجب ان تتعود عليه " !!

وأخيرا وصلت قافلة الوزير العربي لمبنى الوزارة. ترجل سعادته من سيارته بشوشا ومعانقا للوزير الأوروبي:

- اسف يا سعادة الوزير.. مشاغلنا مرهقة ، قضيت ليلتي أعالج مشكلة عويصة تتعلق بشبكة شوارع جديدة ستكلف الدولة ملياران ونصف المليار يورو ، ولا نعرف من سيقدم لنا الدعم المالي ، صندوق النقد الدولي يريد الإشراف على التنفيذ والدفع، ونحن لا نقبل ان يتدخل احد بشؤوننا الداخلية. هذه وقاحة استعمارية، أيدي الصهيونية الدولية ورائها .. ربما تقنعوهم الدفع بلا تدخل..؟ نأمل من حكومتكم بالطبع مساعدتنا لهذا المشروع القومي العظيم ، ونقترح ان نطلق على أحد هذه الشوارع اسم دولتكم الصديقة ، ليكون نصبا تذكاريا  للصداقة والتعاون ، سنتحدث عنه في جلستنا  .

قال الوزير الأوروبي :

- حسنا اعطونا تفاصيل المشروع لندرسه ، ستتلقون الجواب عن طريق سفيركم في عاصمتنا .

- بالطبع ، فكرة جيدة ، ولكن سعادتك يجب ان تتأكد بأن مبلغ المساعدة يجب ان يبقى سرا ، حتى لا  تظن اسرائيل اننا نبني فرنا ذريا ، وان تتأكدوا بان لا تقصف  طائرات العدو الصهيوني  الشوارع بعد ان ننهي تعبيدها بحجة انها مصانع نووية او لإنتاج أسلحة كيماوية وبيولوجية ، هذا ما يجعلنا نصر على عدم تحديث شوارعنا   وعدم ترقيع الحفر .

يبدو ان الوزير الأوروبي عجز عن فهم مخاوف الوزير العربي ، فهز رأسه علامة الموافقة، واصل الوزير العربي:

- خرائط  المشروع القومي العظيم جاهزة ، ساطلب من سكرتيرة مكتبي ، الفتاة الجميلة التي رأيتها قبل دخولك ، ان تعد لك نسخة من المشروع ، ربما نسخا من المشاريع الأخرى لنوسع التعاون الحضاري بيننا وعلى فكرة هل لاحظت ان سكرتيرتي أجمل من العجوز الشمطاء العاملة في مكتبك ؟ قال الوزير الأوروبي:

- سيدي دعنا نتحدث حول التعاون ، قلت لي انكم بنيتم جسرا كبيرا مثل الجسر الذي شاهدته من غرفة مكتبي؟

- أجل ، سنذهب الى مشاهدته ، ما رأيك أن نؤجل الجلسة الى ما بعد ساعات الظهر ؟ . وربما نتحدث بالطريق ونتفق ، وفيما بعد يسجل المعاونون البروتوكول حيث نوقعه باحتفال خاص يحضره رئيس الجمهورية.. ما رايك ؟

وقبل ان يجيب الوزير الاوروبي واصل الوزير العربي قوله :

- هلم يا سعادة الوزير الضيف ، السيارات جاهزة للبدء في الجولة  وستشاهد الجسر العظيم الذي  بنيناه وأطلقنا اسم رئيسنا المبجل!!

انطلقت قافلة السيارات تسبقها الموتورسيكلات  التي تطلق زعيقها المزعج . لم يطل الوقت ، ربع ساعة ووصلت قافلة السيارات الى ضفة  نهر لا يزيد عرضه عن خمسة وعشرين مترا يمتد فوقه جسر حديدي صدئ  بالكاد يتسع لسيارة واحدة في اتجاه واحد . . وعند عبور سيارتان ، تنتظر السيارة الأخرى حتى تعبر السيارة الأولى  . كما ويمنع عبور المركبات التي يزيد وزنها عن أربعة أطنان .

ترجل الوزير الأوروبي وحاشيته من السيارات ، أخذوا يتفحصون حولهم بحثا عن جسر يشبه الجسر الذي  بني في عاصمتهم .. وأخيرا ظنوا انها استراحة ليواصلوا بعدها السفر الى موقع الجسر .. ولكن الوزير العربي جاء ضاحكا ضحكة كبيرة تمتد من الأذن اليسرى الى الأذن اليمنى وقال مسرورا:

- سعادة الوزير الضيف .. هل رايت الجسر..؟

- أين الجسر ؟

- انه امامك .. سلامة نظرك ؟

- هذا ... هذا تسميه جسرا شبيها بجسرنا ؟

- من ناحية وقت العمل استغرق العمل فيه ثلاث سنوات ونصف أي أكثر من جسركم ، من ناحية الثمن كلف نفس الشيء ومن ناحية البناء بنته الأيدي الوطنية ورفض البنك الدولي الاستعماري ان يدعمنا الا بالقليل ، بنصف المبلغ فقط . وكان الحل ان نهرب الأفيون الى اوروبا والى أمريكا.. ونرفع الضرائب على المواطنين  ونحصل على دعم مالي من الأشقاء ..لننجزه.

- ولكنه لا يكلف مليار ونصف المليار يورو.. الا تبالغ في  تقدير التكلفة ؟

-هذا صحيح يا سعادة الوزير الضيف. . انت لم تأخذ بالحساب عاداتنا القومية  وقيمنا الأخلاقية .

- اذن أين ذهب المبلغ ؟

- سؤال وجيه جدا، نصف مليار وزعت على الوزراء وموظفي الدولة الكبار ليقروا المشروع بجلسة الحكومة بدون اثارة تساؤلات حول حجم الميزانية المقترحة للجسر ليجري تنفيذه على وجه السرعة . ربع مليار للمفاوضات والسفريات من والى البنك الدولي والدول المانحة، وللمحافظة على سرية المشروع اضطررنا للسفر بطائرات خاصة ، وتكلفة  011 مليون للمقاولين وتضمن تكلفة الجسر ، بالطبع هناك الهدايا والهبات للمؤثرين على القرار  وهناك الولائم و ..عصير التفاح الفاخر.. وهناك هبات لبناة الوطن ، لأنهم محسوبون على سيادة الرئيس ولا يمكن المساس بحقوقهم.

- وبقية المبلغ ، اين ذهب ؟

- لم يبق الكثير ، تقصد ال 051 مليون يورو ، 051 مليون على الموظفين الكبار في وزارتي لضمان ولاءهم  واخلاصهم  ، هم يستحقون ذلك أيضا على اخلاصهم للوطن ورئيسه العظيم  وجهودهم الكبيرة في تنفيذ المشروع على أكمل وجه، كذلك اعلاميا لا بد من تزويد الصحف الوطنية والعربية بأخبار تقدم البناء والإعمار في وطننا العظيم ودور الوزارة والوزير في التقدم الحضاري للدولة باصراره على  تنفيذ المشاريع الضخمة ، انت تعرف ان الصحف لا تنشر شيئا بالمجان.. وال 511 مليون المتبقية وظفت في  حسابي البنكي  في سويسرا  مقابل اتعابي  وعمولتي من تحصيل الأموال من الدول الشقيقة  والبنك الدولي ، الذي يرفض الأن دعمنا الا بالتدخل في شؤوننا الداخلية، بالطبع الهدف من الأموال في سويسرا هو هدف وطني قومي من الدرجة الأولى ، من أجل ضمان أمن الوطن والرئيس حبيب الشعب وقائد مسيرته النضالية ضد الاستعمار والصهيونية والإرهابيين والمتآمرين .

قبل ان يسال الوزير الأوروبي سؤالا لا حق له فيه ويعتبر وقاحة وتدخلا في شؤون دولة صديقة ، انطلق هتاف مستشار الوزير العربي  لشؤون الاعلام :

- يسقط البنك الدولي الاستعماري الصهيوني ..

وهتف الوفد المرافق للوزير العربي بصوت جهوري قوي أرعب الوزير الأوروبي ووفده:

- يسقط .. يسقط .. يسقط !!

لم يفهموا سببا لهذا الصراخ المرتفع... فخيم الصمت على الجميع !!



بطل من هذا الزمان

يمتلئ صدر الأميرال أحمد بالنياشين لدرجة انه وكل جندياً بترتيبها كلما استبدل البدلة العسكرية بأخرى ،كان الجندي يعتمد على صورة مكبرة تبين مكان كل نيشان على بدله الأميرال، حسب المقياس المليمتري.

لم يحصل الأميرال أحمد على نياشينه بسبب بطولاته العسكرية. فهو لم يخض معارك حربية حقيقية ولا أحد يعرف كيف يمكن أن يتصرف فيما لو واجه حرباً حقيقية، لا يبدو انه سيخوض معركة حربية في المستقبل، إلا إذا اعتبرنا التصريحات استعداداً لإنزال ضربة قاصمة بالمعتدين نوعاً من الحرب، في الحقيقة لو سئل المواطن: ضدَ من يتوقع حرباً؟ لضحك من غرابة السؤال. المواطنون لا يعرفون عدواً يهدد بلادهم... ولكن هذا الكلام الحربي، بات يردّده كثيرون منهم كما يردّدون النشيد الوطني في المناسبات السعيدة لجلوس سيد البلاد على رأس السلطة بحفظ الله وصونه.

ومع ذلك كان صدر الأميرال معرضا لكل النياشين التقديرية والبطولية، ويقال أن بعضها اقر خصيصا له، مع أن أحدا لا يعرف أي بطولة قتالية إجترحها الأميرال، إلا تصريحاته التلفزيونية.

كان قائداً للأسطول، وقريباً سيحتفل بمرور 03 سنة على قيادته للأسطول الحربي، وحتى لا يفهم تعبير أسطول خطأ نوضح انه ليس أسطولاً أميركيا مثًلاً، أو أسطولاً لدولة أوروبية.. وان أسطول الأميرال أحمد عبارة عن خمس قطع بعد أن غرقت القطعة السادسة بسبب هرمها والصدأ الذي فتك بحديدها.

القطع البحرية هي ثلاث  خفيفة التسلح والحركة مع حمولة محدودة من جنود البحرية لا يزيدون عن خمسة أفراد في كل قارب، تقوم بمهمات حراسة السواحل والمياه الإقليمية، معظم المتطاولين حتى اليوم كانوا من صيادي الأسماك من دول الجوار، عادة يجري حلُ الإشكال بتقاسم الأسماك، بين الجنود والصيادين.. لمنع وقوع أزمة علاقات دبلوماسية وحرب إعلامية عبر كل وسائل الإعلام من تلفزيونات وراديوهات وانترنت وصحافة مطبوعة بين الدول الشقيقة. بالطبع دائماً هناك حصة من أفخر الأسماك للأميرال أحمد.

إضافة لهذه القطع التي تؤدي دورها العسكري الوطني في ضمان أمن البلاد والمواطنين، هناك البارجة العسكرية  من موديلات الحرب العالمية الثانية، جرى تحديثها  بإضافة حمالات أعلام وبراويز لصور سيد البلاد. سعتها تسعون جندياً ولكنها تبحر دائماً بمائة وثلاثين عدا طاقم المطبخ المكون من خمسة وعشرين عامًلاً، هناك غواصة عسكرية  سعتها خمسة وستون جنديًاً، طبعا مع عشرة أفراد في المطبخ حرصاً على تغذية البحارة بما يليق بهم وبجهودهم العسكرية في خدمة الوطن. هناك ايضا مجموعة من خفر السواحل يستعملون القوارب المطاطية  ويقضون معظم نهارهم في صيد الأسماك ولا بد من إرسال أطيب أنواع السمك للأميرال أحمد، لأن حبه في القلوب هو جزء من حبهم الوطن. الأميرال أحمد قائدهم وراعيهم وصهرٌ لعشرةٍ من ضباط البحرية!! كان يختار المصاهرة حسب جمال الضابط، الأمر الذي يشير الى جمال مؤكد تتمتع به أخته، من يرفض مصاهرة ابن العائلة العظيمة التي تدفع مهراً يجعل الضابط وعائلته من أغنياء الدولة وذوي الكلمة التي لا تردُ في أجهزة الدولة.. وأخيراً يمكن إضافة فرقة الكوماندوز البحري، الذي يتميز نشاطهما الأساسي بالاستعراضات التي تلهب حماس الجماهير.

أكثرية معارك الأميرال البحرية جرت ضد أهداف وهمية  وبحضور مختلف الملحقين العسكريين الأجانب والعرب  وهو ما يردع بالتأكيد الأطماع الصهيونية والامبريالية من التفكير بغزو البلاد.

عادة تجري المناورات في قلب البحر، دون الخروج من المياه الإقليمية، إذ تبحر القطع الحربية، بقيادة الأميرال الذي يقود المناورة من مركز قيادته في البارجة، حيث يستضيف المراقبين العسكريين  ويقدم لهم شروحاً حول المناورة وأهدافها، يبدأ إطلاق النار على أهداف وهمية، تصاب كلها بالتأكيد دون خسائر في قطع الأسطول، طبعاً التلفزيون الوطني يبث الانتصارات بثاً حياً ومباشراً وتجرى المقابلات مع الأميرال أحمد، الذي يتحدث بمصطلحات عسكرية تسحر المستمعين مثل:

 طوقنا، ضربنا، لاحقنا، أوقعنا، التففنا وحققنا مفاجأة استراتيجية قاتلة للعدو، أخذنا المبادرة الإستراتيجية وطردناه خاسراً ذليلاً من مياهنا الإقليمية  بعد إن مزّقنا مخططه لاختراق دفاعاتنا البحرية وإقامة رأس جسر على سواحلنا.

لكن في الحقيقة أن صحفياً مدسوساً كتب أن ما يشغل بال المراقبين خلال كل المناورة هو                     حضور الحفل الشرقي الراقص  وتناول المشروبات الروحية، المحرمة حسب القانون في البّرّ، لكنها موجودة بوفرة في مقصف البارجة.. إلى جانب أفخر أنواع الكافيار  وأفخر أنواع السمك وفواكه البحر ،تقريباً لا يهتمون بتطور أحدات المناورة التي يشاهدونها كل سنة مرة، لكنهم في النهاية يقفون بالدور لتهنئة الأميرال أحمد على إنجاز مهام المناورة بكاملها  وأنهم سينقلون لوزراء دفاع بلادهم، انطباعاتهم عن الجاهزية العسكرية المرتفعة لجنود البحرية وأسطول البلاد.

ذلك الصحفي اتهم بالخيانة العظمى والتجسّس لصالح العدو الصهيوني  وهو في سجنه الآن ينتظر صدور قرار الحكم.

هذه المناورات وتغطيتها الإعلامية ترفع معنويات المواطنين، لدرجة الوهم أن بلادهم أصبحت دولة بحرية عظمى.. وأن نصر الله قريب ضد الصهيونية والاستعمار... ولكن لا أحد يعرف كم يستغرق من الوقت وصول بحريتهم لسواحل العدو من أجل مقاتلته وهزمه  ولا كيف سيخوضونها ضد الاستعمار ،الذي يستطيع إصابة كل قطع أسطولهم من مسافات بعيدة دون رؤيتها بالعين، بل عبر تحديد مواقعها عن طريق الأقمار الإصطناعية.

إثر كل مناورة وتغطية تلفزيونية وتصريحات أميرالية، يجري تكريم الأميرال في مجلس الشعب  وفي قصر سيد البلاد. عادة يمنح الأميرال هبة مالية، كانت سابقا بالدولار  واليوم مع هبوط قيمة الدولار صار اليورو أوجب لتكريم عظماء الأمة وحارسي الوطن، من المتوقع أن يهبه سيد البلاد مليون يورو اعترافًاً بدوره العسكري الوطني في ضمان أمن البلاد.

بعد انتهاء المناورة الأخيرة  وبينما البارجة تعود إلى قواعدها  والأميرال يستريح فوق مقعده العريض ،مغمض العينين، يفكر فيما سيحصل عليه من تكريم وهبات وشهرة، إذ بصوت مراقب البارجة يخترق أذنيه عبر الخط الأحمر الداخلي:

 سيدي القائد، هناك ضوء أمامنا لقطعة بحرية كما يبدو.. إذا واصلنا التقدم بهذا الخط سنصطدم بهم.

انتفض الأميرال واقفًاً، أسرع إلى مركز قيادته  وأمر المراقب أن يرسل إشارات إلى مصدر الضوء ينبّّههم إلى ضرورة تغيير مسارهم بعشرين درجة على الأقل  تفادياً للاصطدام.

نفّّذ المراقب الأمر... وتلقى جواباً وقحاً بالإشارة.. احتار هل ينقل الجواب الوقح أم يرسل إشارة أخرى؟ لكنه ملتزم بأوامر قائده.. فحسم أمره:

 سيدي الأميرال، ردوا على إشارتنا بوقاحة، يقولون لنا أن نغير نحن اتجاهنا بعشرين درجة.

غضب الأميرال أحمد، وصرخ بعصبية:

 سنقضي عليهم كما قضينا على الأعداء..

بعد أن تمالك أعصابه قال للمراقب:

 أرسل إشارة بأننا بارجة عسكرية يقودها الأميرال أحمد  وأننا في مسار تصادم مؤكد وعليهم تغيير  مسارهم فوراً بعشرين درجة.

نفذ المراقب الأمر وجاءه الجواب ونقله فورًاً للأميرال:

 سيدي جوابهم يفيد بما يلي: أنا بحار بسيط سيدي الأميرال، أنا أناشدك أن تغير مسارك بعشرين درجة.

كان من الصعب وصف غضب الأميرال، بحار بسيط يتحداه سوف يلقنه درساً لن تنساه البحرية خلال قرن كامل. قال للمراقب أن يرسل إشارة لذلك البحار الوقح بأننا سفينة عسكرية وأوامرنا يجب أن تطاع  وإلا سينزل بهم عقابًاً رهيباً.

وجاء الرد من البحار البسيط:

سيدي الأميرال أنا مطيع لأوامرك، انا مشغل الفنار، لا أستطيع تغيير مكان الفنار، أرجو أن تنحرف عشرين درجة حتى لا تتحطم بارجتك على الصخور أمام الفنار!!
 

الإخـلاص الأنانــي

أدركت أن أجلها اقترب وأن الأمنيات بحدوث تحول في وضعها الصحي قد تلاشى تماما، فاسْتَسلمت، أو خََضَعت بلا إرادة  وبلا شكوى  تنتظر، أو لا تنتظر، أن تغيب عن ذاتها ومحيطها، متسائلة كيف ستكون لحظة إغماض العينين للمرة الأخيرة في هذه الحياة التي لم تمهلها طويلا؟

زوجها كان يبدو لها أشد حزنًاً ما توقعته، مما أثار تفكيرها من مبالغة مقصودة. كان يجلس قرب سريرها ،ممسكًاً بيدها بطريقة تذكرها بأيام عشقهما الأولى، يوم كانت تفور بالحيوية والفرح والصبا والصبابة ،مطأطئا رأسه بحزن بارز، يرتسم الحزن والألم على محياه بطريقة تجعلها غير مقتنعة، لكنه للحقيقة لا يغادر مقعده قرب سريرها، يواصل بإلحاح عليها أن تحاول تناول بعض الطعام الذي تحبه، لكن نفسها لم تعد تطلب شيئًاً إلا انقضاء ساعات الألم الشديد حين يضعف مفعول الحقن المخدرة التي تجعلها نصف غائبة عن الوعي.

هذا الترابط بينهما، لفت انتباه الأطباء والممرضات، فرثوا لحاله بسرهم ولكن ما باليد حيلة.

كان زوجها يلّحّ على الأطباء بأسئلته واستفساراته عن وجود علاجات لم تطبق بعد  وهل بالإمكان تجريبها على زوجته؟ ويضيف انه جاهز لكل المصاريف.  كان دائمًاً يفعل ذلك حين تكون زوجته قادرة على السمع والانتباه لما يدور حولها. غير أن الأطباء يردون أن الوضع بات متأخراً  والأورام الخبيثة انتشرت وملأت جسدها  ولم يعد ما يمكن إنقاذه، إلا الطلب من الله أن لا يمد بعذابها.

كانت تقول له لا تقلق نفسك بي، أنا لم أعد اشعر برغبة إلا بإغماض عيني مرة أخيرة والانتقال للراحة الأبدية  ولكني قلقة عليك.

- لا اعرف كيف سأتصرف بدونك.. أنت حب حياتي الذي لا ينسى.

- الأيام كفيلة بعلاج الحزن، عشنا حياة سعيدة  وهذا ما سأحمله معي إلى القبر.

- خسارتي ستكون كبيرة، لا بد أن تحدث عجيبة طبية..

- لا تدخل نفسك بأوهام.. قابل الحقيقة بدون أوهام. برجولة.. وهل للرجولة قيمة بدون جرأة ورباطة جأش وضبط النفس؟

- وأين هي الرجولة أمام مأساة الفراق؟

- يا زوجي الطيب، كان أفلاطون يقرن الرجولة بفئة المحاربين، الفرسان  ويقرن الفضيلة بفئة الحكماء والفلاسفة، أنت تعشق أفلاطون وتكثر من قراءة الفلسفة، فأتوقع منك أن تكون رجلاً وحكيماً في مواجهة ما سيأتي، لأني احبك ولا أريد أن تدمر حياتك بالحزن.

- لا أعرف ما سأفعل بدونك.. ولا يبدو أن الفلسفة تملك الإجابات التي تريحني.

- هل حقا كنت تحبني كل فترة زواجنا بنفس القدر والقوة التي ابتدأنا بها؟

- كما لم أحب امرأة من قبلك.

- ومن بعدي؟

- لا أعرف إذا كنت قادرًاً على حب امرأة غيرك.

- ولكن الإنسان أناني يا عزيزي بطبيعته، أليس كذلك؟

- هذا في الفلسفة، في الواقع كل شيء مختلف.

- كنت دائماً تشرح لي نظريات ديمقريطس وابيقور، بقولهم أن الأنانية هي مذهب فلسفي عن طبيعة الإنسان  وأن الإنسان أناني بطبيعته وعليه فهو يتوخّى مصالحه، لكنك كنت تقول بما أننا زوجان متحابان ،فنحن نطبق أنانيتنا المشتركة. كيف سميتها؟ -     أنانية معقولة..

- هذا ما كان يقوله هيلفيتيوس.. بأن الإنسان يخضع أنانيته لخدمة المجتمع  وأنت كنت تخضع أنانيتك لخدمة بيتنا السعيد؟؟ هل نسيت؟ -     ليت الزمن يعود بنا إلى الوراء

- لا تتمنَ المستحيل، الألم يشتد

- سأستدعي الممرضة.

- لا تفعل... أريد أن أتحدث معك، كما كنا قبل مرضي.

- أريدِكِ أن تعودي إلى البيت تملئيه فرحاً وسعادة.

- ألا تظن أن حلمك هذا ينبع من الطابع الأناني للإنسان؟

- تتفلسفين وأنت في قمة ألمك؟

- هل ما زلت تحبني بنفس القدر.

- ولن يتغير حبي.

- كفى.. اكتِفِ بحبك حتى ساعة رحيلي.

- فقدانك سيجعلني أحبك أكثر... وهذا لا يتناقض مع فلسفة أفلاطون وأصحابه.

- ستحبني أكثر لأني سأغادر عالمك وأمنحك الراحة من الارتباط مع امرأة مريضة تغيب عن الوعي أكثر مما تصحو.

- كيف تفكرين بهذا الشكل؟ إني أتألم لألمك... وأمسك دموعي بالقوة؟

- آسفة لم أقصد إيذاءك.

مسحت بيدها على جبينه محاولة الابتسام رغم الألم الشديد الذي يأكل جسدها. سألته:

- صارحني.. ربما أموت اليوم أو بعد أسبوع على أكثر احتمال.. هل أحببت امرأة غيري..؟

- إطلاقاً، كيف أفعل ذلك وأنت تملئين علي حياتي؟

- وبعد وفاتي، هل ستحب امرأة أخرى؟

- لا أظن.. ليس من السهل الإجابة على سؤال لم يراود تفكيري إطلاقاً.

- ما زلَتَ شاباً، مثقفاً، متنوّرَ العقل، ترغب بك كل امرأة بالغة العقل.. هل ستعلن رهبنتك؟

- لا أعرف.. لا أستطيع التفكير بامرأة غيرك.

- ما زلت تنفي أفلاطون وفلسفته.

- لو واجه أفلاطون ما أواجهه كان غيّر من فلسفته.

- لا ليس صحيحًاً، كل الرجال الصغار في السن يتزوجون بعد وفاة زوجاتهم مرة أخرى.. هل ستكون الشواذ على القاعدة؟

- أنا لا أفكر بهذا الشكل، أنت تتعبين نفسك، سأظل على حبك لوقت طويل.

- وبعد الوقت الطويل.. صارحني؟

- حسنا.. ربما  ولكن ليس من السهل إيجاد امرأة مثلك. لا أعرف، ربما سأظل ابحث حتى يصيبني اليأس؟

- دعك من مراضاتي، اتفقنا ان الأنانية هي صفة إنسانية، والفلسفة منذ أفلاطون تنبّهتُ لهذا الظاهرة  ،أريد أن أطمئن عليك بعد وفاتي والموضوع لا يحزنني. أنانيتي سأدفنها معي.. هل تهرب من الجواب؟ -     حسنا، ربما يحدث أن أجد امرأة مثلك وأحبها ونتزوج، على أن تعرف انك سيدة البيت حتى بعد وفاتك.

- وهل ستسكنان في نفس منزلنا؟

- لا أعرف، حاليًاً لا منزل لي غيره، إذا كان يضايقك الأمر لن أفعل..

- لا يضايقني... أنت حرٌ بعد وفاتي، لكني أحب أن أعلم ما يطمئنني عليك.

- هذا إذا تزوجت..

- حسنا، هذا اتفقنا عليه.. ستتزوج... ولكن قل لي هل ستستعملان غرفة نومنا  وتنام معها بنفس سريرنا؟

- يبدو ذلك إذا لم أغّيّر المنزل... ولا تنسي انه منزلك وأنت سيدته دائمًاً، ما دمت أنا حياً.

- أريد لك طول العمر.. ولكن قل لي هل ستمارس مع زوجتك الجديدة الحب على سريرنا؟

- إذا تزوجت و..

- اتفقنا على انك ستتزوج. صارحني. ستمارسان الحب في غرفة نومنا وبسريرنا؟

- لنقل أن ذلك متوقع.

- ألم تفكر بامرأة غيري خلال فترة ارتباطنا؟

- لا.

- ولم تغريك أية امرأة جميلة بأن تمارس معها الحب؟

- حبك أغلق علي التفكير بنساء غيرك.

- تصّرّ على مناقضة أفلاطون وأصحابه.. ألم تقمع أية رغبة بمغامرة عابرة مثلا؟

- أنا ؟ إطلاقا. حبك كان يكفيني.

- إذن ستكون لك بعدي امرأة أخرى تسكنها منزلي، تضاجعها فوق سريري، أنا لست غاضبة. أنت تستحق ذلك.

- لماذا تشغلي فكرك بما لا يشغلني إطلاقا؟

- إنها ساعاتي الأخيرة، أريد أن أموت وأنا على يقين أن الرجل الذي أحببته سيعيش سعيدا من بعدي.

- سأكون حزينًاً لفراقك.. وربما لن أجد امرأة أحبها كما تتخيّلين لأني لن أقبل امرأة أقل شأنا منك.

- حسنا.. ستتزوج، تسكن وإياها منزلنا، تستعملان غرفة نومنا، تمارسان الحب على سريرنا، ولكن قل لي، هل ستعطيها ملابسي أيضا؟

- إطلاقا لا.. إنها أنحف منك وأطول قامة وألوان ملابسك لا تناسبها، و..

- أطلب الممرضات على عجل، الألم لم يعد محمولا...


كيف أصبح لله شعب مختار؟

اختلف اساتذة اللاهوت وممثلو الأديان من الشخصيات رفيعة المستوى حول اسباب حصول اليهود دون غيرهم من الشعوب على وصايا الله العشر والتي تعرف أيضا باسم "لوحات العهد" التي تسلمها النبي موسى، حسب قصة التوراة، منقوشة على الحجر من رب العالمين في جبل سيناء.

الخلاف حول هذه الأسباب زج المؤتمر الدولي للتفاهم بين الديانات في صراع جديد أشغل الإعلام الدولي وقاد الى تدخل الدول العظمى لتهدئة الخواطر ونقل بحث الموضوع الى الأمم المتحدة، حيث انها المنظمة المخولة لحل النزاعات بين الشعوب.

الأمريكيون كعادتهم، بررو ذلك بأن الله منح وصاياه لشعبه المختار من بين جميع شعوب الأرض، والمسمى بالتوراة باسم اسرائيل أيضا وأنه فضلهم على ألأمم وبالتالي أضحى هذا الأمر معيارا للمواقف والمناهج الأمريكية التي تحافظ على التماثل مع ارادة القدير ولا تخل بمشيئته، خاصة وان أمريكا اختارها الله بالتأكيد لتدير شؤون البسيطة بعدالة وديمقراطية وحرية فهل يليق بها ان تنقض ارادة السماء بسبب بضعة مشردين فلسطينيين أو محتجين او لاساميين او رافضين خيارات الله !!

أشار المندوب الأمريكي انه لا يمكن نقض الحجة السياسية الإلهية القوية التي نزلت في سيناء وذلك حين منح الله وصاياه لشعب اسرائيل.

اثار هذا الكلام امتعاض مندوبي الدول العربية والإسلامية وشريحة كبيرة من الدول التي ترفض تبرير سياسات عصرنا الراهن بقصص توراتية لا دليل علمي على صحتها ولا منطق باعتمادها وكأن العالم لم يتغير منذ ستة آلاف عام. العرب آثروا الصمت لضمان علاج الملوك والرؤساء العرب والشخصيات المرموقة من الدول  العربية في مستشفيات ألأمريكان او حتى في مستشفيات اسرائيل كما تقول بعض المعلومات دون أي اثبات عملي لها، لأن مستشفيات العرب الوطنية مخصصة كمحطة في الطريق للمنتقلين للسكن في المقابر.

الأوروبيون ترددوا في ألبداية وقالوا ان الموضوع مثير للاهتمام حقا، وبما انهم أقرب لمنطقة الحدث، سيناء وارض الميعاد، فلهم وجهة نظر مختلفة قليلا. اولا هم يقرون بأن الله أعطى ابناء اسرائيل اعترافا مميزا، برروا موقفهم بان للأب دائما ميول نحو بعض الأبناء أكثر من ألآخرين وهذا لا يعني انه يكره بقية الأبناء او يتنكر لهم، بل هي مسائل تتعلق ايضا بذكاء الأبناء ومدى استجابتهملتوجيهاته، حفاظهم على ميراثه،  ومواصلة التقيد بما اوصاهم به في التوراة.

هناك سؤال يضغط على الفكر... ما الفرق بين الموقف الأمريكي المبايع بدون تردد والموقف الأوروبي الذي يريد ضمان الهدوء في منطقة الشرق الأوسط القريبة منه. تساءل المتحدثون الأوروبيون: "هل من علاقة بين ابناء اسرائيل اليوم واؤلئك الذين تاهوا في صحراء سيناء اربعين عاما؟ الم يعاقبهم الله بسبب عقوقهم وعدم استقامتهم، تماما كما يعاقب الأب ابنه العاق؟ واضافوا بتردد ما، بان "الاستنتاج البديهي ان يهود اليوم ليسوا هم يهود الأمس"....

كما وجاء في تبرير الممثل الأوروبي ان الشعوب اختلطت، الديانات نقلت عن بعضها، تشابكت قصصها وتفسيراتها، لم يعد الفرز يشير الى تميز خاص وهذا يلزمنا بعدم تبرير كل ما يقوم به ابناء اسرائيل اليوم تحت غطاء مضى عليه ستة آلاف سنة بحساب ألدين ومليارات السنين اذا حسبنا تاريخ الأرض ونشوء الحياة فوقها حسب الأبحاث العلمية وتجربة الانفجار الكبير الذي اثبت كيف نشأت ألأرض.

الموقف الأوروبي المذكور اعلاه اثار زوبعة غضب صهيونية مما عرض الأوروبيين لنقد شديد اللهجة بلسان مسؤول كبير من بني اسرائيل جاء فيه :"لم يتخلص الساسة الأوروبيين حتى اليوم من لاساميتهم؟! ألم يتعلموا شيئا من الكارثة التي اودت بحياة ستة ملايين يهودي في اوروبا نتيجة العداء للسامية التي ميزت كل التاريخ الأوروبي ووصلت ذروتها في النظام النازي؟! أليست الشعوب أيضا على دين ساستها كما علمتنا التجربة التاريخية؟!".

الغضب الصهيوني دفع الخارجية الأمريكية الى طمأنة اسرائيل بأن التصريح الأوروبي ما هو الا زلة لسان غير مقصودة سيتم علاجها بسرعة بالطرق الملائمة!!

من جهة أخرى، اعتقد ان ادخال موضوع العلوم الغربية الصليبية الكافرة منع الدول الاسلامية والعربية من تبني التفسير الأوروبي، حيث قال ممثل احدى الدول الاسلامية انه من الناحية العلمية، الاسلام نسخ جميع الديانات ذلك لان شريعة الإسلام حسب علم الفيزياء الذي اكتشفه علماء الدين في كتابهم الكريم قبل علماء الغرب ألكافر هي آخر ألشرائع وهي ناسخة لما سبقها من الشرائع ومهيمنة عليها.

هنا قاطعه ممثل "ابناء اسرائيل" بان القرآن جاء معترفا بأن اليهود هم شعب الله المختار... لكن المتحدث الاسلامي أصر رغم المقاطعات الصهيونية والامبريالية والصليبية، ان المسلمين هم خير أمة اخرجت الى الناس وهذا ينسخ مقولة التوراة او ما ورد في القرآن عن شعب الله المختار.

قامالأمريكيون باستدعاء الممثلين الأوروبيين الى البيت الأبيض لتوبيخهم بسبب تفوهات لا تليق بمن ينتمي للعالم الحر الديمقراطي الذي يحترم حقوق الانسان. على اثر التوبيخ الأمريكي أستدرك ناطق باسم المجموعة ألأوروبية زلة اللسان مؤكدا ان اللاسامية محظورة حسب القانون ألأوروبي وقال ان القانون يعاقب كل من يتفوه بكلمة تفسرها اسرائيل عداء لها، وبسبب زلة أللسان هذه عوض الأوروبيين اسرائيل بغواصتين من الطراز ألحديث لتعود العلاقات الى طبيعتها.. ولكن رضاء اسرائيل لم يكن كاملا، لم يتوقف غضبها نهائيا إلا بعد أن تلقوا تعويضا آخر من ألأمريكيين لم تنشر تفاصيله، لكن تسربت معلومات صحفية تشير الى منح اسرائيل، ضمن صفقة إرضائها، عشر طائرات حديثة من نوع الشبح الذي لا تكتشفه الرادارات والمعروفة ب "اف-53" ايضا... يالإضافة تعهد أمريكي باستعمال حق النقض الفيتو ضد أي قرار يدين أي تصرف اسرائيلي مهما كان عدم توافقه مع القانون الدولي او حقوق الإنسان.

ممثلوا الكنائس المسيحية الشرقية والغربية اجتمعوا واتفقوا لأول مرة في تاريخهم منذ ايام ألمسيح وأصدروا بيانا، اختلفوا في البداية أي عنوان يكون على رأس البيان، ثم حلوا المشكلة بإصدار نسختين الأولى توقع من بابا الفاتيكان وعلى رأسها الصليب أللاتيني والثانية توقع من كبير بطاركةاليونان وعلى رأسها الصليب الأورتودوكسي. ترسل النسختان لجميع أعضاء الأمم المتحدة بمغلف واحد، تنص على عدم تجاهل ان المسيح ابن الله جاء ليكمل الدين ويغير ما لم يعد يلائم الحياة، لينقذ البشر من الضياع ويخلصهم من الخطيئة وان أتباعه كانوا من اليهود قبل ان ينتشر دينه بين الأمم  وان من لم يؤمن بالمسيح لا يمكن ان يكون ضمن شعب الله المختار... لأن المسيح هو ابن الله ومتوحد مع الله ومن يرفضه يخسر تصنيفه الديني المميز. لم يذكر بيانهم ان المسيحيين هم شعب الله المميز الآن  وأن المسيح حين يعود سيجعلهم فوق جميع الأمم. تركوا ذلك لحكمة الفرقاء، فعلوا ذلك بذكاء حتى لا يثيروا مزيدا من النقاش حول مسالة بديهية تؤمن فيها المسيحية... وعلى هامش النقاش في الجمعية العمومية همس ممثل الفاتيكان في الأمم المتحدة بأُذن المندوب ألأمريكي "ان المخلص حين يعود في نهاية العالم سينقذ اولا من آمن به وبأبيه وينقلهم الى ملكوت السموات".. هذا الأمر أسعد المندوب الأمريكي فردّ همساً بأذن ممثل الفاتيكان: "ان الانتخابات الأمريكية على الأبواب والصوت اليهودي يهم الرئيس.. وآمل ان يفهم بابا الفاتيكان حراجة الموقف ألأمريكي وان الموقف في الأمم المتحدة لا يعني تنازل أمريكا عن اولوية المسيحيين في ملكوت الله.. وان أمريكا لن تستعمل حق النقض الفيتو على قرار السماء بشمل اليهود أيضا بملكوت الله". المندوب الفنزويلي المؤيد للعرب علق بسخرية على بيان ممثلي الكنائس المسيحية بقوله: "هل صار المسيح صهيونيا او طالبا للهجرة الى أمريكا ؟".

على اثر ذلك احتد النقاش من جديد وعلت الأصوات بصخب ومقاطعات. رئيس الجلسة المندوب الروسي ضرب بقوة على الطاولة بالمطرقة لتهدئة النقاش الصاخب، فانكسرت يدها. اصابته الحيرة لوهلة، ثم فتح الله عليه بفكرة متذكرا زعيما سابقا لدولته اضطر الى فرض الهدوء على نقاش سابق في الأمم المتحدة فنفذها، خلع حذاءه واستعمله بدل المطرقة لتهدئة النقاش الصاخب، فساد الصمت...

ثم انفجر الجميع بالضحك والتصفيق الصاخب.

لم يصل البحث الى نتيجة. وقفت الصين ضد أي قرار دولي يعترف بأي طرف كصاحب مميزات أكثر من الآخرين لدى الخالق. قال المندوب الصيني ان المقياس يجب ان يكون العمل والإبداع  وليس الأساطير والغيبيات... وانه حتى الديانات الأقدم مثل الكونفوشية والبوذية قدمتا للبشرية اروع الأفكار وأفضل الحضارات وهو امر يتجاوز ما يسمى بالديانات ألتوحيدية التي هدمت حضارات سبقتها ولم تبن غيرها، كما ادعى، مما اثار غضب المسلمين لتجاهله حضارتهم ألعظيمة ولكنهم "جمطوها" لأن الموقف الصيني يخدم تطلعاتهم. أضاف مندوب الصين ان الحضارة الحديثة لم تنشأ إلا بعد ان انتفضت اوروبا على التعسف ألكنسي وان الديانات التوحيدية زرعت الأوهام الكبيرة وجعلت أتباعها خاملين منتظرين الخلاص من السماء ومن ترديد نصوص هي أشبه بالأفيون. لولا هذه الجملة الأخيرة واستهتاره بالديانات، لصفقت الدول الاسلامية للمندوب الصيني على موقفه ضد اقرار الأولوية لليهودية او المسيحية على سائر الديانات. كانت هذه من المرات النادرة التي لم ينجح المندوب الأمريكي بتمرير قرار يعلي شأن ابناء اسرائيل على جميع الأمم.

استهجن المسلمون العقلية الأمريكية الغبية التي تحتضن )53( مليون يهودي وتهمل )5.3( مليار مسلم ؟!

صحيح ان المندوب الروسي أصر على ان الكنيسة السلافية الأورتودوكسية هي الأصل، لكنه تنازل عن اثارة هذه المسالة الصعبة مقابل تعهد أمريكي بعدم نشر الشبكة المعروفة بدرع الصواريخ على مقربة من حدود روسيا، بذلك كسبت امريكا الصوت الروسي ضد الدول الاسلامية، لرؤيتها ان المسيحيين على مختلف كنائسهم وبدعهم هم يهود التاريخ وان أي اقرار أولوية أبناء اسرائيل لا يتناقض مع الايمان المسيحي بأنهم )المسيحيون( هم الأقرب الى قلب الله وابنه، لأنهم تاريخيا يهوداقبلوا المسيح الرب كمخلص لهم وُعُرفوا باسمه: "مسيحيين".

الأمين العام للأمم المتحدة اقترح امام هذه الاشكالية الصعبة ان تتشكل لجنة تقصي حقائق تراجع الكتب المقدسة، تبحث في سجلات التاريخ لكي تعطي الاجابة الشافية عن السؤال الجوهري لماذا اختار الله اليهود ليعطيهم الوصايا العشر وهل لهذه الحادثة التاريخية اسقاطات على واقعنا اليوم بحيث يعتبر شعب اسرائيل شعب الله المختار  وتبرر كل تصرفات منظماته ودولته؟  وهل ما جاء في التوراة قبل ستة آلاف سنة ما زال ساري المفعول في ايامنا؟ المضحك كما قال مقاطعا المندوب الصيني: "ان العالم الذي يقدر عمره بمليارات السنين تختصره التوراة الى ستة آلاف عام".  أضاف الأمين العالم للأمم المتحدة في تكليفه للجنة الدولية بعد ان طلب عدم مقاطعته، ان عليها ان تشرح أيضا كيف نفهم انشقاق المسيح عن اليهودية ورفضه لبعض تعاليمها الجوهرية، ألا ينهي ذلك مقولة الشعب المختار من الابن الذي يندمج مع الأب والروح ألقدس ليشكلوا إلهاً واحداً كما تقول المسيحية في أناجيلها؟

وبناء على مت تقدم طلب الأمين العام للأمم المتحدة من اللجنة ان تقدم تقريرها له بعد انتهاء عملها. كالعادة قاطع المندوب الاسرائيلي عمل اللجنة لأنها تشكلت من دول مارقة لاسامية، فاضطرت الولايات المتحدة لإعلان توقفها تمويل عمل اللجنة... فتبرع أمير نفط عربي بتمويل عمل اللجنة بإيعاز من الأمريكيين طبعا.

مفاجأة عظيمة كانت بانتظار اللجنة الدولية، مع بداية عملها حيث وجدت امامها جبال من التسجيلات والتفسيرات. قدر رئيس اللجنة ان مجرد قراءة عناوين المواضيع يحتاج الى عشرة ألاف ساعة قراءة على الأقل.

عضو اللجنة المندوب الصيني رفض ان يتعب نفسه بقراءة ما لا ينفع في النمو الاقتصادي للصين وفي توسيع التصدير الصيني الى دول العالم. قال ان وقتهم وجهدهم يذهب هباء، ان المعروف والمثبت ان كل قصص التوراة، هي ترجمة لأساطير بابلية وصينية وهندية وكنعانية وأشورية ومصرية ولا يمكن اعتمادها في عالمنا المعاصر الذي يعتمد على العلوم والتكنولوجيا والهايتك والفلسفة. قال أيضا مستفزا الجميع: ان الله نفسه تعرفه التوراة بأنه مجموعة آلهة، اذ جاء في التوراة اليهودية ان الآلهة )أي "الوهيم"( وليس الله )"ايل"( خلقت في البدء السموات والأرض، وذلك تمشيا مع الأسطورة البابلية التي ترجمها اليهود انفسهم اثناء سبيهم في بابل وتتحدث عن سبعة آلهة خلقوا السماء والأرض والإنسان والنبات وهلم جرا... هذا ينفي كل ما تلا ذلك من تطورات واختلافات وانشقاقات، بالتالي مهما بحثنا لن نصل الى تغيير الحقيقة الأولية، لا شيء من السماء بل كل شيء من الأرض.

أضاف المندوب الصيني ان الباحثين في جامعة شانغهاي توصلوا الى حل منطقي لهذه الإشكالية قد يرضي الجميع، لكن السؤال يبقى هل من حل يرضي اسرائيل؟ ما هو الثمن لرضائها هذه المرة؟ هل باستطاعة امريكا والدول الأوروبية دفع الثمن الذي يرضي اسرائيل كلما غضبت؟!

اهتم اعضاء اللجنة، قبل بحث ما يرضي إسرائيل بمعرفة الحل الذي توصل اليه علماء جامعة شانغهاي ذات الاسم الدولي والعلمي الراقي جدا.

ابتسامة المندوب الصيني اتسعت لترسم خطاً أفقياً بين الأذنين. فتح دوسيته وأخرج مستندا، تأملهم للحظة ثم قال بسخرية:

- هل تقرأوه ام أقرأه لكم؟

- لا نعرف الصينية نرجوك ان تترجم!!

- انتم لا تدرون كم تخسرون بجهلكم للصينية. من لا يعرف الصينية في ايامنا يعيش في ظلام دامس.

حسنا إن ما توصل اليه علماء الصين يحل اشكالية الخلاف. حسب المذكرة التي وصلتني أمس وضع علماء الصين تصورا رمزيا جاء فيه ان الله كلف الملائكة بحمل الوصايا العشر وتقديمها للبشر على الأرض وذلك كونه كما تقولون عادل ويحب كل ابنائه بنفس القدر.

وهذا ما كان. انطلق الملائكة الى شعوب الأرض قاطبة، وصل ملاك للعرب، سأل كبيرهم: "هذه وصايا من الرب، هل تريدونها؟" سال كبير العرب: "ماذا فيها؟" قرأ الملاك بنود الوصايا وعندما وصل الى "لا تقتل" قاطعة كبير العرب: "هذه لا تنفعنا، هل يقتلوننا ونقف نتفرج، هل نتنكر لعنترة الذي قال وددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم؟ هل نتنازل عن تراثنا المليء بالبطولات؟ ألم نجعل للسيف مئات الأسماء؟ ماذا ستفيدنا سيوفنا اذا تخلينا عنها؟".

جاء ملاك آخر الى الفرنسيين. عرض عليهم الوصايا. سأله كبيرهم: "ماذا بها؟". بدأ الملاك بقراءة البنود العشرة. وصل الى "لا تزن"، صرخ الفرنسي: "كفى كفى.. لا نريد الوصايا، نساؤنا جميلات ومغريات، فهل تريدهن ان يبحثن عن رجال خارج فرنسا ليلحق بنا العار والشنار؟"

وصل ملاك أيضا الى الرومان. وعرض عليهم الوصايا وبدأ يقرأ بنودها، وعندما قرأ "لا تسرق" غضب كبير الرومانيين وقال: "كفى، لا تنفعنا، الكل يسرقنا ولا بد أن نرد على السرقة بسرقة؟" وهكذا وصل الملائكة الى جميع الشعوب، حيث كان لكل شعب حجته ليرفضها. عادوا الى الله خائبين. زجرهم الرب على تقصيرهم في تسويق وصاياه وهددهم بطوفان جديد، ثم تذكر انهم لم يصلوا لبني اسرائيل: "لماذا نسيتم الشعب التائه في صحراء سيناء؟". قال أحدهم:" كنت في ارض كنعان ولم أجدهم". أمره الرب بالتوجه فورا الى سيناء.

التقى الملاك بعد جهد كبير من البحث بين رمال الصحراء وكثبانها مع بني اسرائيل. كانوا غاضبين متعبين جائعين وعطشى يؤلمهم الضياع الطويل بدون بارقة آمل. أخبرهم الملاك بما يحمله لهم من وصايا الرب. سألوه:" وهل تسدّ عطشنا وجوعنا؟" قال الملاك: "تنقذكم من عذاب جهنم وتروي أرواحكم وتشبع نفوسكم وتجعلكم اول شعب يقبل وصايا الله وبالتالي المختارون لديه". قالوا: "هذا غير مهم، موسى وعدنا بالخلاص وأضاعنا في سيناء". قال الملاك: "انا اتكلم باسم رب موسى، ووعود الله قاطعة". سألوه ليصرفوه: "كم ثمن هذه الوصايا؟". فاجأهم حين قال لهم: "انها هدية مجانية من الله". قالوا بصوت واحد فرحين: "هدية بلا مقابل؟! مجانية؟! حسنا هذا رائع، هاتها واجلب لنا عشرة أخرى مثلها!"




 

رجــل السياســة

طلب استاذ علم النفس من طلابه ان يعد كل منهم عملا حول فهمهم لشخصية الشباب الناشئين وخياراتهم المستقبلية ، وكيف يستطيعون عبر امتحان معين ، يحضرونه ويمتحنون به الشاب  ان يعرفوا خيارات المستقبل أمام هؤلاء الشباب!

أوضح انهم الآن في مرحلة متقدمة من فهم دور الانسان في الحياة وما يؤثر عليها ، وانه يريد ان يختبرهم في قدرتهم على معرفة خيارات ابنائهم في المستقبل مثلا. عمل الطلاب ، قرأوا المراجع ، استشاروا طلابا عبروا نفس الامتحان وأعد كل طالب ملفا تحليليا كبيرا عن نفسية الشباب وما الذي يتحكم بخياراتهم  واعتمدوا على تشكيلة واسعة من الأبحاث النفسية  ومن المدارس المختلفة في علم النفس والتربية .

في اليوم الموعود سلموا ملفات العمل للمحاضر.كانت كلها ملفات ضخمة مطبوعة ومرتبة بشكل جيد  الا ملف  واحد  لا يوجد فيها غير ورقة واحدة عليها مدون بخط يد نص قصير من قبل طالب اسمه سمير ..

- هذا ما اعددته ؟ تساءل الطلاب .

- وهل من الضرورة لملفات ضخمة ، لن يقرأها استاذ علم النفس؟

- ولكننا قمنا بتحليل علمي ؟ رد الطلاب .

- اصطلاحاتكم مضحكة .. "تحليل علمي" ، و "دراسة علمية" ، هل نعمل بمختبر ام  بعالم مفتوح مليء بالتراكيب ؟

- نحن طلاب علم .

- العلم بدون فهم اساليب تطبيقة ، يصبح سحابة دخان.

كان استاذهم ينصت للحوار وهو يبتسم . ثم قال :

- طلابي الأعزاء .. نحن ندرس العلوم لفهم أكثر التطبيقات ملائمة لعالم الانسان ، وليس لنحفظ نظريات  وابحاث ولا نعرف استعمالها وكيف يمكن تطبيقها في نشاطنا العملي.

وأضاف بعد ان تأمل الملفات الضخمة:

- تخيلوا ان مريضا دخل لعيادتكم يعاني من مشكلة نفسية ، هل ستحضرون ملفا ضخما لتحليل شخصيته واستعراض نظريات علم النفس عبر التاريخ ؟ ام ستكونون مؤهلين لفهم ما يعاني منه وتسجيل ملاحظات تفي بالغرض العلاجي؟

اصيب الطلاب بالصمت الكامل ، اختفت ابتساماتهم . سال أحد الطلاب :

- أذن هل تقول ان ما أعددناه كان بلا فائدة ؟

- نسختم ما جاء في الكتب ، هذا مؤكد ، وآمل ان بعضكم ابتكر فكرة عملية. القصد من التمرين المطلوب هو شرح فكرة تطبق لمعرفة ما قد يختار الشاب في المستقبل؟

- وهل ورقة زميلنا سمير تعرض خطة ؟

- لا أعرف .. ساراجع ملفاتكم  . في الدرس القادم  سنكون أكثر نورا بما أعددتموه .

بعد اسبوع دخل استاذ علم النفس وبيده ملف واحدة . سال أحد الطلاب اسناذ الفلسفة:

- لم تحضر ملفاتنا ؟

- نفعتني لمدفأة الحطب.  كان الطقس باردا كما تعلمون ، واضطررت لأستعمال الملفات بسبب نقص في الحطب.

كانت السخرية والمرارة واضحة في كلماته . وأضاف:

- فقط ملف سمير انقذ  نفسه من الإحتراق.

كانت الاشارة واضحة . فشلتم في الامتحان. لكن ما الذي يجعل ملف سمير بصفحتها الواحدة اليتيمة أفضل من عشرات الصفحات لطلاب سهروا الليالي يراجعون وينقلون ويطبعون وينقحون .. كان ملف سمير يشد انظارهم بنوع من الاستفزاز.

توجه المحاضر لسمير :

- اريد ان انوه بأن سمير لم يقدم أي تحليل ، بل قدم فكرة حول كيفية فحص شاب لمعرفة ما قد يختار مستقبلا. وطبيب النفس لا يكتب تحليلا بل يطور اساليب عملية لمعرفة ما يعاني مرضاه وكيفية معالجتهم. المادة العلمية هي ضرورة لتصبحوا مؤهلين في استعمالها وتطوير خبراتكم ، ليس لنسخها من الكتب .

- سمير تفضل واشرح لزملائك فكرتك التي صغتها بالصفحة اليتيمة .

تقدم سمير لمقدة الصف ، وقف وجال بنظره بزملائه الطلاب . قال:

- قلت في ورقتي انه لمعرفة ما يختار الشاب من مهنة في المستقبل ، نقوم بتجربة بسيطة . نطلب من والده ان يضع في غرفته ابنه اثناء غيابه عن البيت  كتاب دين ، ورقة مالية من فئة المائة دولار، منظارا فضائيا ، زجاجة ويسكي  ومجلة جنس ... ويراقب الأب ماذا يختار ابنه.

اذا اختار كتاب الدين سيكون في المستقبل رجل دين.

اذا اختار المائة دولار سيكون رجل أعمال .

اذا اختار المنظار الفضائي سيكون رجل علم .

اذا اختار زجاجة الويسكي ، سيكون سكيرا لا فائدة منه .

واذا اختار مجلة الجنس ستكون حياته مليئة بالخطايا ومطاردة النساء.

وصمت سمير . سال استاذ علم النفس :

- يظل ينقص اختبارك أجوبة كثيرة .

- ما هي ؟       تساءل سمير.

- اذا اختار الشاب  شيئان مثلا ؟   أجاب سمير :

- الأمر واضح اذا اختار كتاب الدين والمائة دولار فهََذا يعني انه سيجعل الدين تجارته المربحة. اذا اختار الدولارات ومجلة الجنس سيكون راعي بيتا للدعارة.. اذا اختار الويسكي وكتاب الدين فسيكون ملحدا بهيئة رجل دين واذا اختار المنظار وكتاب الدين  سيصاب بانفصام في شخصيته .

- ولكن لم تقل لنا ماذا سيكون اذا اختار الأشياء الخمسة   ؟  ضحك سمير وقال:

- اذا اختار كتاب الدين والمائة دولار والمنظار وزجاجة الويسكي ومجلة الجنس ، فهو بالتأكيد سيكون رجل سياسة !!

 

الزكــــام

جو الدراسة الجامعية أسعدها . لم تتوقع ان تجد نفسها في مثل هذا الجو من العلاقات الدراسية. الآن بدأت تشعر انها انتقلت حقا من جيل لا يملك حق القرار لنفسه الى جيل مسئول عن نفسه. ما حملته من تنبيهات أمها وجدتها عن خطر

الاحتكاك مع الشباب ، يبدو لها الآن  وبعد اقل من شهر على بدء الدراسة، مقطعا من مسرحية كوميدية ، او من عالم لم

يعد له وجود الا في مخيلات جداتنا. في البداية شعرت بالخوف وبعض الرهبة، شعرت بضعفها ، عقلها الواعي اعطاها القوة النفسية لتهزم مخاوفها وتضع حدا لحالة الضعف التي اعترتها في الأيام الأولى. الجو الجامعي المليء بحركة الحياة والحوار التعليمي بين الطلاب  ،اخرجها من العالم البيتي ، الضيق،المحصور بين واجبات محددة سلفا، الى عالم حدوده السماء.

كانت تتشوق لعلاقة صداقة خاصة وتتمناها،من ناحية تشعر ان جميع زملاء الصف هم بمثابة أصدقاء ولكن هناك فرق بين صداقة خاصة تربطها بأحلام وأماني مشتركة مع زميل .. وبين صداقة عامة بحكم الزمالة والتعاون الدراسي. ما يخيفها أن يكون خيارها متسرعا مدفوعة برغبة متأصلة في كل امرأة. فتندم حين لا ينفع الندم وقد يتناثر حلمها الكبير في مواصلة الدراسة الجامعية.

حتى في الحافلة تحايدت  الجلوس إلى جانب شاب.لم تجد تفسيرا لتصرفها . دائما تختار زميلة لتجلس بقربها. ليس خوفا، هي نفسها  لا تعرف تعليل تصرفها. في الجامعة داخل غرف المحاضرات والكافيتيريا والمكتبة تتحدث بطلاقة وبدون وجل. عندما تصعد الباص تشعر ان العيون تراقبها. لا تعرف مصدر هذا الشعور. هل هي  التربية المحافظة  تؤثر على تصرفاتها ؟ لا تعرف جوابا رغم ثقتها ان المنطق ان تعامل زملائها ندا لند.

شخصيتها ومستوى حديثها  وثقافتها من القراءات الكثيرة التي كانت تلتهمها أثناء دراستها الثانوية ، أضفت على شخصيتها وقدراتها التعبيرية واتساع معارفها جاذبية شدت اليها زملاء الدراسة، الطلاب والطالبات على حد سواء.  كانت مشاعرها تدغدغها بأحاسيس تبعث الثقة في نفسها أنها فتاة مرغوبة لجمالها وعقلها. يبدو لها بان تكون مرغوبة، فيه الكثير مما يشبع غرورها .

في السنة الثانية وجدت نفسها، بدون أن تعرف كيف جرى ذلك، تتواصل فكريا مع زميل لها في موضوع الأدب، ثم في موضوع الفلسفة، شعرت انه صاحب تفكير مبدع وقارئ واسع الاطلاع لا يقل بمعارفه عن معارفها، هذا الجانب سحرها. ربما جاذبيته تكمن في معلوماته واتساع آفاقه الثقافية، لا يقل عنها معرفة وإدراكا  ويبدو انه أحس بنفس الشعور، كان ممتد القامة تبدو رجولته المبكرة بارزة بقوة، خاصة بصوته الذي يميل للخشونة.

كانت فتاة قمحية اللون، تتميز بشرتها بصفاء نادر، ووجه يشد النظر بغمازتيه  وقامة ما دون الامتلاء..

وشعر أسود حريري رغم أنها تضبطه  بربطه كتلة واحدة  وتمنعه من التحرر فوق كتفيها ليتلاعب مع نسمات الهواء. ربما ليست جميلة بشكل خاص ، لكنها مريحة بوجهها وقسماتها للناظر. قدراتها التعبيرية عن آرائها وقدرتها على فهم المواضيع بسهولة نسبية  وشرح النقاط الصعبة لبعض الطلاب والطالبات ،هو ما جعلها أكثر أهمية من جمالها الوديع والهادئ.

زميلها لم يكن شابا مندفعا، كانت تلتقي بعينيه تلاحقانها، حين تصدمه بالنظر إلى عينيه يبتسم لها متورد الوجه  ويحني رأسه احتراما. هل هو خجول لهذا الحد؟ كثيرا ما شعرت باليأس منه وسالت نفسها: ما الذي يشدني اليه؟ صمته عن الخوض في حديث تتوقعه كلما تبادلا الحديث؟ ربما شدة خجله؟ ملاحقتها بنظراته ؟

بينها وبين نفسها اعترفت انه اخترق قلبها بقوة، بل باتت تخاف عليه من زميلة قد تكون أجرأ منها، لكنه يبدو قانعا بحبها من بعيد.. هل هذا ما ترغب به؟ لم تكن تملك اجابة واضحة، افكار مختلفة متضاربة تصطرع في راسها، فيها الرغبة وفيها الحذر  وقد أشغل فكرها ومشاعرها بشكل لم يسبق لها مواجهته في السابق.

لماذا لا تقطع الطريق وتتحدث معه الند للند حول مواضيع غير مواضيع الدراسة؟ عن الأماني الشخصية مثلا؟ عن المستقبل كما يفكران به؟ أن تبني بينها وبينه صداقة مميزة بين طالبين زميلين. ترى هل سيتجاوب؟ ماذا سيفكر لنفسه عنها اذا تجرأت وبدأت معه في حديث ذا شجون؟ هل سيصنفها بخانة سلبية؟ أم يعطيه ذلك دفعة جرأة ليفصح عن مشاعره ؟ وما الضمان ان لا تجد نفسها اقرب إلى علاقة حميمة معه

؟ تتمناها ولكنها تعرف ان عقلها سيردها ، ربما خوفا، وربما؟ .. هل تكون الغرائز أقوى من العقل؟!

مضت نصف سنة وهذه الحال لا تتغير، لولا ضغط الدروس لوجدت نفسها في قلق وتشتت عاطفي لم يسبق لها مواجهته. كانت أروع دقائق حياتها الفترة بين الاستراحات ، فترة الحوار المفتوح معه حول مواضيع الدراسة والثقافة عامة. كان يجب ان يشعر بما يدفعها لحواره والحديث معه دون ان تغير نهجها بحوار زميل او زميلة، الا اذا كان شريكا بالحوار   وذلك منذ شدهما اول حديث.

كان واضحا لكل الطلاب ان ما يجمعهما معا هو علاقة خاصة ، لذلك نادرا ما اخترق الحوار بينهما طالب آخر، وقد لاحظت بوضوح انه يبحث عنها بين الاستراحات ليتحدث معها، مبتعدا عن الجميع. فما باله لا يعبر عن مشاعره نحوها؟ هل في ظنه ان خصوصية ما بينهما تكفي للتعبير عما تتمنى ان تسمعه بكلمات مباشرة؟

من ناحية شخصية، بهرها بسعة اطلاعة على التراث العربي وخاصة عن الحب العذري عند العرب.

ترى هل بات متأثرا  بهذا الحب لدرجة تجعله لا يفهم ما يعتريها من مشاعر؟ ولا يحس بالدفء الخاص في حديثها معه؟ ولا يستوعب نداء العيون؟ ولا يعبق أنفه برائحة الصبا المتفتح مثل زهور الربيع ؟ وهل الحب العذري يجعل الإنسان جلمودا بلا أحاسيس؟! وماذا يضير الحب العذري اذا أضيف له اعتراف صغير بان  قلبه يخفق كلما التقى بها؟

تبحث بين كلماته عن تلميح ما يخصها. ولكنه لا يلمح بشيء بل يواصل النظر إلى وجهها بوداعة تشعرها بالألم حين تضع رأسها على الوسادة ليلا. حتى لمسة يده ليدها تشتهيها.

أحيانا تخاف من الاختلاء به بدون زميلاتها وزملائها،رغم انها تتمنى أن تكون لوحدها معه، في البداية كانت تصر على مرافقة زميلة او زميلتين، ولكن لكل واحده عالمها وأحلامها..وربما مواضيع الحوار بينهما لا يعني أي زملاء الدراسة بنفس القدر الذي يشدهما . او هو تصرف زملاء إنساني بإعطاء الفرصة لعاشقين للتعبير عن نفسيهما بدون حضور

غير مرغوب. وعلى الأغلب كانا بتحاوران لوحدهما. كم هو جاد في حواره لدرجة تشعرها برغبة بالبكاء. كانت تتمنى

ان يفاتحها بإعجابه .. لا تريد ان تقول، أن يفاتحها بحبه، ولكنها لا تعرف تعبيرا أقرب لحقيقة ما يعتريها... وربما يعتريه. ولكنه يكتفي بابتسامات خجولة تخترق قلبها وتزيد هواجسها.

في الفترة الأخيرة بدأ يتقرب منها ويحادثها عن نفسه وعن أهل بيته، هذا طمأنها. شعرت انها مقدمة لحديث ذو شجون. ولكنه لم يتجاوز الرسميات. اذا كان هذا هو التطبيق العملي للحب العذري فليسقط هذا الحب قبل ان يصرعها. لا تعرف سببا يمكن تحديده لرغبتها بأن تكون بقربه دائما. صارت، دون ان تدري ، تفضل لقائه وحيدة وبعيدا أكثر ما يمكن عن عيون زملاء الدراسة، لعل الجو المليء بنظرات الزملاء ، وربما توقعاتهم ان ما بينهما ليس مجرد حديث دراسي ، بل

حب ملتهب جعلهما يميلان للإبتعاد الى أكثر الزوايا فراغا وهدوءا من النظرات . يتحدثان عن مواضيع الدراسة،عن الثقافة ،عن التراث، وعندما يطرقان موضوع الحب العذري يتحدث بتدفق ودون توقف..

لدرجها تشعرها برغبة في ان تقول له ليذهب هو وحب العرب العذري الى الجحيم.

هل شوه الحب العذري نفسيته ورجولته؟! ام هي عقيدة دينية جديدة؟!

كانت تحدثه عن آخر قراءاتها ألروائية ، وتشدد الحديث عن لحظات الغرام بين أبطال الرواية  وقدرة الكاتب على توصيف لحظات الحب . قصدت ان يكون حديثها مليء بالتمثيل والدعوات الصريحة له إلى الإقدام .. كان إحساسها أن  اللقاء بينهما تشارك فيه رغبتين متحفزتين، ترى من يجرؤ ان يكون السابق في الاعتراف بما يعتمل في نفسه؟ تفكيرها يقول لها أن البادئ يجب أن يكون الشاب، وتطمئن نفسها ان طهارة نفسه  واوهامه العذرية، هي المانع، ولكنها لا تعشق هذه الطهارة وتتمناه جريئا مقداما  وتثق انه سيعبر هذه المرحلة... إنما متى؟ كيف تدفعه لذلك؟

في درس عن التراث العربي تطرق المحاضر لموضوع الحب العذري عند العرب،  اتسع الحديث حول مفاهيم الحب المختلفة، تحدثت هي مطولا مستعرضة الكثير من قصص الحب العذري عند العرب، كما حفظتها منه ،فاجأت الطلاب بسعة اطلاعها، وكانت عيناها اثناء الحديث لا تفارقان عينيه، كأنها تقول له هذه حالنا أيضا،  أليس كذلك ؟ ألا تفكر بما هو مختلف؟

بعدها ، تحدثت طالبة عن الحب وكيف صار في أيامنا مبتذلا. قالت أن الذكور حطموا مفاهيم الحب الإنساني بمبالغتهم وفهمهم أن الحب مجرد ممارسة جنسية  وأن الحب العذري مقدمة لحب حقيقي،إنساني ،عدا ذلك لا قيمة له. قد ينفع الشعراء ولكنه لا ينفع الإنسان.

زميلها الذي ترتجف له شغاف قلبها طلب حق الكلام، شعرت وكأنه  سيرد عليها  لأن نظراته هو الآخر لم تفارق عينيها.

قال ان المشكلة قد تكون ذكورية مجتمعنا الشرقي، الذي يعتبر المرأة حالة جنسية فقط  وينفي عنها عقلها ،لأن الحب العذري يسمو بالمرأة الى السماء. ارادت ان تقاطعه صارخة ان ما يهمها الواقع على الأرض  ولكنها أمسكت نفسها في اللحظة الأخيرة.

تابع يقول: الحقيقة أن المجتمعات المنفتحة الليبرالية تعاني أقل من مجتمعاتنا من الانحرافات الجنسية ،رغم انها لا تعرف الحب العذري ورغم فهمنا المغلوط أنها إباحية... وان الموضوع يتعلق بإعطاء المرأة مكانة متساوية للرجل.

هذا المقطع أعجبها.

واصل القول بحماس: ان مشكلتنا نحن الشرقيين ، اننا  نفهم الحب كسيطرة للرجل، هذا ليس حبا اطلاقا ،هذه صفقة شراء، الجانب المغموط الحق فيه هي المرأة، الرجل يبيعها وهما  وهذا ما يشكل قضية اجتماعية وإنسانية حارقة. ان أجمل حب هو حب لا يميز بين  الجانبين بسبب اختلاف الجنس.

ثم استفاض بالحديث عن مفاهيم الحب العذري ، بشكل جعل حتى المحاضر ينصت بلا مقاطعة أو إضافة ملاحظات، بل جلس مشدوها وكأنه طالب أمام أستاذه البارع.

سرها عرضه وكأنه يشرح لها مفاهيمه عن العشق  وعن رؤيته لمكانة المرأة. كانت على قناعة أن الحب العذري ينمي انسانية الشخص  والويل اذا صار نوعا من العبادة.

قال مواصلا بعد ان توقف لبرهة قصيرة: سأحدثكم بطرفة جنسية، رغم إني سألقى نقدا من البعض على جرأتي بقصها وهي عن عبثية الحب العذري، الذي أعتبره منميا لأجمل ما في الانمسان من خصال أخلاقية..

فاجأها بتعبير عبثية الحب العذري، موقف لم تتوقعه وأسعدها حقا.

قال: خرج عاشقان طالت بينهما سنوات الحب العذري ، لرحلة في الطبيعة. بعد ساعة من السير جلسا تحت شجرة وارفة الظلال.. كان الجو شاعريا ، سألته:" قل لي يا صديقي كيف يعرف القط أن القطة تريده؟" أجابها:" من رائحتها".ثم انتقلا إلى تلة مرتفعة تشرف على بساتين خضراء. سألته:" والكلب كيف يعرف أن الكلبة تريده؟" أجاب:" من رائحتها". وانتقلا إلى ضفة نهر . سألته:" وكيف يعرف الغزال أن غزالته اشتاقت له؟" أجابها:" من رائحتها". وصلا إلى حديقة زهور، جلسا متجاورين فوق احد البنوك وشاهدا أرنبان بريان يركضان هربا منهما. سألته:"افهم أيضا أن الأرنب يركض وراء الأرنبة بسبب رائحتها؟". أجاب" "هذا صحيح" . فقالت محتدة: "إلا أنتم معشر الرجال، مصابون بالزكام!!"

وضحكت كما لم تضحك في حياتها، بل الصف كله ارتج من قوة الضحك... وتمنت أن تقترب منه وان تضمه إلى صدرها بقوة وأن تبكي، هكذا بلا سبب بين ذراعية وفوق صدره.

مع انتهاء الدرس تعمدت أن تحاذيه، نظرا بعيني بعض طويلا، بادلها ابتسامتها بابتسامة عريضة ، كانت متشوقة لكلمة منه لهمسة، لتأوه  وها هي تنظر إليه نظرات ذات معنى ليتجرأ ويبدأ.. كانت مستعدة لكل المخاطر..لم تعد تطيق الصبر  ولكنه واصل الابتسام لها، كعادته عندما تفاجئه يلاحقها بنظراته، أراد أن  يعبر عنها ويمضي، لمست يده بيدها لمسة

ذات أكثر من معنى ودلالة، فنظر إليها متيقظا منفعلا، لا تعرف ما اعتراها  وجدت نفسها تسأله همسا وعيناها في عينيه:"هل أنت مصاب بالزكام؟"

عجيبة بيت أبو بشارة

- عجيبة، يا أم بشارة.. استيقظي.. القديسة العذراء الممتلئة بالنعمة... بارك الله اسمها... باركت بيتنا.

استيقظي يا أم بشارة.. !!

انطلق صوت أبو بشارة من المفاجأة غير المتوقعة، لم يصدق ما تراه عينيه  واخذ يردد مبتهلا:

- مريم العذراء يا اُمي الحنونة، كم من مرةٍ اخطأتُ وتُُسامحيني وكم من مرةٍ ابتعدتُ عنكِ وعندما أعوُدُ بكُلِ شوٍقٍ تستقبليني.

لم يُسمع قط ان احدًاً التجأ إلى حمايتِِك وطلب معونتِكِ ورُدّ خائباً

كان ينظر الى تمثال السيدة العذراء، المثبت في زاوية احد عمدان البيت، غير مصدق لما تراه عينيه من زيت يرطب قاعدته، في البداية لامس السائل بأصابعه،  خفض رأسه ليتأكد بالشم أيضا من نوع  الزيت الذي يرطب قاعدة تمثال السيدة العذراء التي اختارها الله لتلد ابنه المخلص، هو زيت الزيتون المقدس حقا، ويمتد من قاعدة التمثال حتى نصف متر على الأقل تحت القاعدة  حيث وضع تمثال السيدة العذراء داخل حفرة شقت خصيصا منذ أيام والده ليوضع فيها تمثال العذراء المكرمة.

كان الزيت يسيل ببطء شديد.. تأكد هذا حين جفف قاعدة التمثال بفوطة خوفا من ان يكون ما يراه خدعة بصرية.

هو حقا زيت الزيتون المبارك كنسيا، تأكد له هذا الأمر باللمس والشم  وأيضا بتذوقه لأطراف أصابعه.

ارتعشت قسمات وجهه، بانت السعادة على محياه من هذه المفاجأة في هذا الصباح الربيعي المشرق. كان متأكدا أن دعواته وصلواته هو وأهل البيت قد وجدت آذان صاغية وها هي الإشارة تجيئ في هذا الفجر الزاهي، دليلا ان الله يرعاه ورعى أهل بيته،لأن الله يعرف ما في القلوب والضمائر ولا تخدعه المظاهر ، ها هو التأكيد يجيء من حيث لم يتوقع بابلغ شكل واقوى صورة، زيت الزيتون المقدس يرشح من تحت تمثال السيدة العذراء ويرطب قاعدته وعمود البيت حيث حُفرت زاوية العامود المقابل لمدخل البيت ،ليتسع للسيدة أم المسيح ابن الله ليتبارك اسمها واسمه واسم الرب، تماما في مواجهة كل من يدخل بيت أبو بشارة.

لا يذكر إذا كان قد كرر ندائه لأم بشارة أكثر من مرة، فقد أيقظ انفعال صوته مما يرى والمرتعش من المفاجأة أهل البيت، فتجمعوا في الديوان الرحب، متثائبين من إيقاظهم ساعتين قبل الوقت، ومتوجسين من أمر غير مرغوب،لا يدركون كنهه قد يكون ألم بأب البيت، فهم لم يستوعبوا من صوته المتهدج إلا أنه حدث ما يثير التوجس من مكروه، أو مفاجأة لا يعلمون وقعها،جعلت أب البيت الذي يستيقظ قبل الجميع بساعتين على الأقل يطلق صوته المنفعل في ساعات مبكرة من ذلك الفجر الزاهي.

لم تمض إلا ثوان قليلة، حتى أصابهم ما أصاب أب البيت وعمدته من المفاجأة السارة لمشاهدة السيدة العذراء تبارك بيتهم بزيت الزيتون المقدس  وهي علامة لاستجابة الرب لأبنائه المخلصين  كما كان يقول بتهدج وتوتر من السعادة، عمدة العائلة أبو بشارة.

نساء الحارة هن اول من عرف بخبر العجيبة  والنساء لمن لا يعلم، أفضل جهاز إعلامي عرفته البشرية.

في ذلك الصباح أسرعت ام بشارة تدعوا جاراتها لتناول قهوة الصباح ورؤية عجيبة العذراء في بيتها ،جئن بشيء من الإستهجان، فزمن العجائب قد ولى  ولكن ما شهدنه بالعين ملأهم برهبة الإيمان وخشوعه ،فتمتمن بشكل جماعي صلاة "السلام عليك يا مريم"، وتباركن بقطع قطن مبللة بالزيت المريمي دليل قاطع لمكرمة العذراء لبيت ابو بشارة، وتيمنا وأملا بان قطعة القطن بما تحمله من زيت مريمي قداسته مؤكدة،هي أفضل مباركة للمنازل والأهل وكل من تطوله مسحة من زيتها.

كادت أم بشارة تفقد توازنها وهي تحدث نسوان الحارة عن العجيبة ومعناها والتي اختصهم بها الله، قالت كلاما عاقلا وكلام لا يدخل العقل ويصنف في ظروف أخرى "بكلام مجانين"، لكنها العجيبة التي أغلقت كل مسارات التفكير العاقل.. من شدة مفاجأتها وإثباتها بالرؤية واللمس والتذوق لمن أراد مزيدا من الإثبات العملي.. ها هن نساء الحارة قد شلت المفاجأة السنتهن، فلم يتحدثن عن فلانة التي خطفت  وابنة فلان التي لم تترك شاب من شرها  وزوجة فلان "المشلطة" وابو جعفر، الله يستر، الذي يصرف ما يربح على بنات الشوارع في المدينة المجاورة.. وقصص لا يعلم الا الله مصدرها وصحتها.

الزيت المقدس يتزداد ببطء شديد تحت قاعدة تمثال العذراء، وهو زيت فاخر مثل الزيت الذي يستعمل في الكنيسة في جميع المناسبات الدينية. زيت تثبت رائحته وطعمه انه من النوع الفاخر جدا مثل زيت كرم زيتونات أبو بشارة المعروف بجودة زيته. كل الدلائل العملية تبرهن إنها حقا عجيبة وإشارة سماوية إلى رعاية العذراء لأهل بيته، اعترافا بإيمانهم الطاهر وطاعتهم لتعاليم المسيح. كان قد شفي ابنه من مرض خبيث يقال أن عدد من يشفيهم الطب من ذلك المرض الملعون لا يتجاوزون ربع المرضى... وأن صلاتهم للعذراء والمسيح والإله في علاه قد استجيبت وها هي الإشارة الحاسمة تجيء دون توقع في فجر ذلك اليوم الربيعي.

نساء الحارة تباركن بقطع قطن رطبنها بالزيت الذي يرطب قاعدة التمثال، وكان هذا برهانا لا يمكن نقضه، يعتمد علية كمصدر إخباري موثوق لحقيقة العجيبة التي اختص الله بها جارتهم وحارتهم  وأضحى شعورا بالفخر لكل أهل الحار.

بدأت عملية انتشار تفاصيل العجيبة  بطريقة تعجز عنها حتى الدعاية الصهيونية والإمبريالية التي تسيطر على وسائل الإعلام العالمية، كما قال احد كفار البلد الذي يسكن لحظهم السيئ بجوارهم  ويلقب ب "سمير الكافر" حيث يدعي في كل مناسبة ان الصلاة هي مضيعة للوقت  ولا تخدم مطالب السكان من السلطات المسؤولة، بل تخدعهم بأوهام ان الفرج سيأتي من السماء، السماء كما يقول سمير الكافر، هي خدعة بصرية تفوقت على المنطق مما يضر بالوعي الاجتماعي وتنمي الخيالات والخرافات، قال كلمات من الصعب استيعابها زادت من الشك باتزانه العقلي، لكن من أين لكافر مثل سمير ان يغير حقيقة الإيمان ورعاية الله لأبنائه المؤمنين؟ لعله الآن امام هذه العجيبة المؤكدة سيلزم الصمت الى الأبد!!

أصبح حديث العجيبة حديث البلد الوحيد، بدأت تفاصيل العجيبة المثيرة تصل للبلدات المجاورة، بل ويشاع أنه تتوارد اتصالات تلفونية من خارج البلاد على الأقارب في البلد تستفسر حقيقة الخبر  وترجو تزويدها بالمعلومات الصحيحة، لانه إذا ثبت خبر العجيبة سيأخذون أول طائرة متاحة للوصول إلى البلاد وزيارة بيت أبو بشارة ليتباركوا بزيت العذراء المقدس، ان مصدر معلوماتهم يعتمد على ما بثته رويترز والبي بي سي وتلفزيون الجزيرة ووكالة الأنباء الفرنسية وغيرها من وسائل الإعلام الكبيرة. بعض وكالات الأنباء وشبكات التلفزيون  أرسلت طواقم من المراسلين والمصورين لتسجيل عجيبة العذراء في بيت أبو بشارة المبارك من السماء.

اثار نشر وسائل الإعلام لخبر أولي عن عجيبة العذراء في بيت أبو بشارة  اعتمادا علي مصادر موثوقة  تستند بالتأكيد على روايات نساء الحارة الحاصلات على قطع قطن رطبت بزيت العذراء المبارك ،

"هيصة" كبيرة قلبت كل الحياة الرتيبة في البلد والبلدات المجاورة.

كثرت الاتصالات التلفونية ذلك الصباح سببت ضغطا على شركات التلفونات، نشأ خوف حقيقي من انهيار شبكة الاتصالات التلفونية. غرق البريد الالكتروني لوسائل الإعلام بكم هائل من الاتصالات والمراسلات تستفسر عن حقيقة الحدث، فنشروا إعلانات تطلب من المتصلين التريث ومتابعة الأخبار على شبكاتهم التلفزيونية او مواقعهم على الشبكة العنكبوتية وأن طواقمهم تعمل جاهدة للوصول إلى مكان الحدث لتغطيته ونقل التفاصيل الكاملة للمشاهدين.

الازدحام في الشارع الحارة حيث منزل أبو بشارة فاق التصور،  امتد الازدحام الى الشوارع المحاذية، بل والبعيدة، بل شوارع البلد كلها ازدحمت وأصيبت حركة السير بانسداد في الشرايين. البعض بقول انه سمع في نشرة أخبار الساعة الثامنة أن الشرطة طلبت من  المواطنين عدم الدخول الى البلدة بسياراتهم، وانها اتفقت مع شركات الباصات لزيادة عدد الباصات التي تدخل الى البلد، حيث لا يمكن إيجاد مكان حتى لربط حمار في هذا الازدحام غير المتوقع.

في تمام الساعة السادسة صباحا أُُبلغ خوري الطائفة على وجه السرعة عن العجيبة في بيت أبو بشارة، فلم يكترث للأمر في البداية، لكن الشماس أبلغه أن المسالة حركت البلد كلها والمئات من كل الطوائف يتدفقون على الحارة،  بعض رجال الطائفة المحترمين تحققوا من الموضوع وأبلغوه بضرورة زيارة بيت أبو بشارة ليتأكد بحكمته ان الموضوع رباني حقا. صحيح ان النساء لسن مصدرا موثوقا للمعلومات  ولكن الرجال في الحارة أيضا يؤكدون صحة أخبار نساءهم  ولأول مرة يتفق الجانبان بدون نقر ونقير على رواية واحدة، بل وتحول الحدث إلى خبر دولي تتناقله وسائل الإعلام العربية والأجنبية  وانه ليس دعاية صهيونية إمبريالية معادية للعرب  أو خبر انتصار وهمي لنظام عربي على العدوان الصهيوني. حتى راديو إسرائيل أذاع الخبر بدون إضافة أو تزوير مدعيا ان هذه العجيبة هي انجاز  للديمقراطية الإسرائيلية وتنفيذا لوعود الحكومة في المساواة بين المواطنين العرب واليهود.!!

سارع الخوري  امام هذه الحقائق الواضحة، بعد ان أيقن من صحة ما نقله إليه الشماس، إلى ارتداء ملابسه الكهنوتية  والتوجه لبيت أبو بشارة ، أصابته الدهشة وهو في الطريق من هذا العدد الهائل من الناس أمام البيت وعلى مدخل الحارة وشل  حركة السير التي أغلقت الشوارع بالوقوف العشوائي .

أفسحوا الطريق للخوري ، فهرول شاعرا بأنه أمام حدث عظيم  وان الجميع ينتظر تأكيد حدوث العجيبة من مصدر روحاني موثوق، ان الله خصه بدور بالغ الأهمية قد يساهم في ترقيته من خوري بلدة صغيرة إلى مطران كبير الأهمية في إحدى المدن الكبيرة.

كل ما استطاع الخوري ان يقوم به أمام تمثال العذراء المبللة قاعدته بالزيت المقدس، انه التقط قطعة قطن صغيرة رطبها بزيت العذراء، شمها مرتين أو أكثر، مسح بها كفة يده، وشم كفة يده، وأشرق وجهه بابتسامة كبيرة ،"صلب" )اشار بعلامة الصليب( على وجهه ثلاثة مرات  وبدون مقدمات بدأ بصلاة قداس بارك فيها العذراء والسيد المسيح وأبيه الذي في السموات  وبيت أبو بشارة ،الأمر الذي اعتبر بمثابة اقرار رسمي من الكنيسة لحقيقة العجيبة وأهميتها المقدسة.

نظم أبو بشارة وأولاده الدخول إلى البيت  للتبارك بزيت العذراء، وفروا المئات من قطع القطن الصغيرة  وصندوق لوضع التبرعات كما أمر الخوري من أجل إقامة احتفال كبير يحضره سيادة البطريرك، ربما يتحمس الحبر الأعظم بابا الفاتيكان للحضور والوقوف على العجيبة بنفسه، حيث أن هدف الاحتفال كما شرح الخوري، تكريم السيدة العذراء على إشارتها الواضحة انها لا تهمل المؤمنين الذين ضحى ابنها بحياته من أجلهم وإنها راعيتهم وشفيعتهم عند الله.

الصحف وصفت ما يجري  بأنه أشبه بهزة أرضية من العيار الثقيل، وانه لو عاد ريختر الى الحياة لأضاف الى سلمه خمس درجات جديدة لتلائم الهزة الإنسانية الهائلة التي سببتها عجيبة الزيت في بيت ابو بشارة.

امتلأت المتاجر بالزبائن الراغبين بشراء تماثيل العذراء، أو تماثيل العذراء وابنها المخلص يسوع المسيح، أو صورا مقدسة، لنصبها في بيوتهم تيمنا بما حدث في بيت أبو بشارة، بل والكثيرين توجهوا الى الكنيسة ليبارك الخوري ما اشتروه من تماثيل وصور، ضمانا للطهارة والقداسة. يمكن القول ان تماثيل العذراء أصبحت أهم تجارة لمدة عدة أشهر ،

فاستوردت تماثيل العذراء من الصين الشيوعية البوذية الكافرة بواسطة تجار يهود لأن سعر الانتاج في الصين ارخص اربع مرات من التماثيل المصنوعة في ايطاليا المسيحية، ملأوا بها السوق ولكن بأسعار تزيد عشرة أضعاف على الأقل عن تكلفة استيرادها وتوزيعها في المحلات التجارية. بعض الفنانين العرب واليهود استغلوا الموقف ورسموا العذراء ، طبعوا رسوماتهم  وربحوا أضعافا مضاعفة عن أي لوحة فنية باعوها سابقا.

ابن أبو بشارة البكر ابتكر فكرة عبقرية، منع المراسلين من التقاط الصور داخل البيت، قام هو نفسه بالتقاط صور ملونة للعذراء بالكاميرا البيتية  والزيت واضح حول القاعدة وتحت القاعدة وهي أهم وثيقة عن العجيبة، طبع منها آلاف النسخ بحجم كبير، كرر الطباعة مرات عدة  وبرر ذلك بالحفاظ على كرامة العذراء من المصورين التجاريين حيث بيعت الصور بأثمان تكفل له ولكل أفراد العائلة جولة حول العالم في أفخر القوارب البحرية.. وهذا مكرمة من السيدة العذراء بدون ادنى شك.

الآف دخلوا لتلقي البركة والحصول على قطع قطن مبللة بزيت العذراء، تبرعوا بالمال والذهب.

انتشرت أخبار عن شفاء العديد من المرضى بعد مسح جبينهم بقطنة الزيت، مما شجع المترددين من زيارة التمثال والتبرك بزيته، والحصول على قطعة  قطن مبلولة بالزيت المقدس ولسان حالهم يقول:"اذا لا تفيد لا تضر".

امتلأ الصندوق أمام العذراء بالأموال وحلي الذهب، افرغ عدة مرات، همس بشارة الابن البكر لوالده انهم هم أجدر من الخوري بما يتبرع به الناس، لأن العجيبة حصلت في بيتهم وليس في بيت الخوري أو في الكنيسة. هذا شأن رباني نحن لا ندركه، ان طرق الله غير معروفة لنا نحن البشر، ويجب عدم "التفريط" بما يصل للعذراء من تبرعات، ان الكنيسة ليست فقيرة ليزيدوها غناء على غناء. وان ما طلبه الخوري ،رغم قداسته واحترامه، كان متسرعا بسبب المفاجأة، وانهم هم أهل البيت الذي خصه الله بعجيبة العذراء ،على استعداد لتبني الاحتفال ومصروفاته. كما كرمتهم العذراء فهم يكرمونها بأفضل قداس وأفضل احتفال.

الح أحد الأبناء على الحصول على مبلغ ليجدد سيارته. ولكن والده أشار عليه بالتمهل، إذا ليس من المناسب الآن والآلاف من عامة الناس ورجال الدين الأفاضل يتدفقون على البيت، والحكاية ما تزال في أوجها، ان يستغلوا التبرعات التي توهب للسيدة العذراء لأمورهم الشخصية، وأن الصبر مفيد في هذه الحالة.

الحكايات التي انتشرت بان قطعة القطن المبللة بزيت العذراء المقدس وهبت الشفاء لمرضى عجز الأطباء والمستشفيات عن علاجهم، وما قامت به بعض الصحف والمواقع الالكترونية، بنشر صور عشرات الأشخاص الذين يؤكدون ان قطنة الزيت شفتهم من امراض صعبة،بل وروى البعض حكاياتهم مع إمراضهم العصية عن الشفاء،وكيف اختفى المرض بعد مسح جبينهم بالزيت المريمي المقدس، كل هذا أحدث تدفقا لزيارة بيت أبو بشارة وعذرائه التي لا يجف زيتها، بل وفي بعض الأحاديث ان التبرع للعذراء واجب من أجل ضمان الشفاء، لأن الذي لم  يتبرع لا يشفى مريضه.فتكررت زيارات الكثيرين من الزوار ليتبرعوا وللحصول على قطعة قطن تساعد في شفاء أعزائهم.

كل ليلة كان أبو بشارة ، بعد ان يستأذن العذراء، يفرغ الصندوق من الأموال وقطع الذهب والفضة وغير ذلك من الأحجار الكريمة. وقد قر رأيه ان لا يعطي الخوري أي شيء. امتعض الخوري، ولكنه لم يتفوه بأي كلمة. ويبدو، حسب معلومات غير مؤكدة، ان الخوري بدأ بحملة مضادة لإقناع الناس ان وراء حكاية العذراء والزيت سر لم يكشف بعد. "تمهلوا ولا تصدقوا الشائعات عن الشفاء من الأمراض فلا شيء مثبت"،  كان يهمس للمقربين له.

مضت أيام وخف القادمون للتبرك بزيت العذراء المقدس. بدأت الحياة تعود الى مسارها السابق، رغم ان الزيارات للعذراء لم تتوقف.

لكن، المجد لله في علاه، الزيت لا يتوقف، بل انتشر حول قاعدة التمثال ومن جانبيه بلا توقف وامتد نحو الأرض، وهو عمود لعقد قديم واسع مقسم إلى عدة غرف، والعمود نفسه مليء بالتراب الذي لا يرتوي بسهوله ويكاد يكون متر ونصف المتر عمقه من كل جانب. والعقد لارتفاعه الكبير، أقيمت فيه علية حيث تخزن مؤونة البيت، وفي وقتنا لم يعد استعمال للعلية لتخزين مؤونة البيت كما كان الحال ايام زمان ،وأصبحت العلية مخزنا لكل ما لا يستعمل يوميا. هناك درج خشبي،ملاصقا لحائط العقد يقود إلى العلية الواسعة، التي لا ينفك ابنهم الأصغر يطالبهم بتحويل قسم منها إلى غرفة نوم، وفتح نافذة خاصة للغرفة ،ولكن الحال لم تكن جيدة، لهذا المشروع، وها هو ابنهم يعود، بعد ان غيرت العجيبة حالتهم المادية ،ويصر أن يستقل بغرفة على قسم من علية العقد الواسعة.

انشغل أهل البيت كل في مشاريعه. والأب يحذرهم: "لا تنسوا السيدة العذراء. هذا خيرها الذي نزل علينا".

حكاية العجيبة أضحت أمرا عاديا. ما عدا سمير الكافر لا يجرؤ أحد على التشكيك بحقيقتها.

كلما سؤل أبو بشارة في نادي المتقاعدين عن آخر أخبار العذراء والزيت يتحدث بفخر ان الزيت لا يتوقف بل يزداد تدفقا، وانه عندما جدد دهان البيت، لم يدهن العمود بل حافظ عليه كما هو، لأنها مشيئة العذراء كرم الله وجهها.وانه بلل الكثير من الفوط بالزيت الذي بدأ يسح على الأرض ايضا، ويحتفظ بالفوط بمكان نظيف لأنها مبللة بالزيت المقدس، وان البعض يأتي لشرائها، خاصة السياح الأجانب الذين سمعوا عن عجيبة عذراء بيته، ولكن السعر الذي يطلبه لا يشجع ابناء البلد على شراء تلك الفوط. وان السياح لا يجادلون السعر.وان سعر الفوطة مع الصورة الملونة للعذراء تكفي وجبة غذاء لأهل البيت في مطعم فاخر!!

لم يعرف احد ان الوقت يخبئ لهم مفاجأة أغرب من الخيال.

أم بشارة صعدت للعلية لأخذ حاجتها من زيت الزيتون، من خابية )الخابية هي جرة كبيرة تتسع لأكثر من 05 - 05 لتر من الزيت كانت تستعمل في البيوت الفلسطينية القديمة لتحزين الزيت وما زالت بعض البيوت تستعملها(.

فوجئت ام بشارة ان الخابية فارغة حتى النصف:

- أبو بشارة.. الخابية فارغة تقريبا!!

- يا امرأة انا عباتها بأربعة "تنكات" حتى العنق.. لم نستعمل بعد الا نصف تنكة؟

- انها نصف فارغة.. أين ذهب الزيت؟

- الله يستر.. ربما لا ترين جيدا.. مدي يدك.

- إنا في كامل قواي العقلية، لا تجعلني مجنونة وعمياء. لا أرى زيتا إلا في القاع.

- هل سرق زيتنا؟ هل يجوز ان ما ظهر تحت تمثال العذراء هو زيتنا؟

تحسست أم بشارة الجرة فوجدت سطحا كبيرا في مكان منخفض رطبا بالزيت.وعلى أرضية العلية بقعة زيت كبيرة تماما فوق العمود الذي وضعت في داخل حفرة فيه تمثال السيدة العذراء. احتارت هل تضحك أم تبكي على ضياع مخزون الزيت.

- كشفت سر زيت العذراء يا أبو بشارة.

- ما هذا الخرف يا امرأة؟

- الجرة "مسطوحة" والزيت يتسرب منها ببطء إلى عمود البيت، والنقطة التي حفرت للتمثال داخل العمود، خرج منها الزيت.

- إذن زيت العذراء هو زيت خابيتنا؟

تجمع الأولاد على صوت والديهما يتداولان المصيبة. قال الابن البكر مبتسما:

- ممنوع ان يصل هذا الكلام للناس. هل فهمتم؟ سنتهم ان فعلتنا بزيت العذراء مقصودة.

بعد تفكير قصير أثنى أبو بشارة على كلام ابنه، وأضاف:

- لا تظنوا ان الجرة فرغت من الزيت بالصدفة، انها مشيئة الله، هل تطنون ان الله ينتج زيتا ليقدس المؤمنين به؟ هذا لا يغير شيئا من حقيقة العجيبة. لو شاء الله لفاضت الجرة وأغرقت ارض البيت.. ولكن حكمته أن يصل الزيت لتمثال العذراء. القصد الإلهي هنا واضح. انعم علينا بالعجيبة  وحسن أوضاعنا استجابة لصلواتنا، فليكن اسمه مباركا!!

صلاة القلب

لم يكن ابراهيم يزور الكنيسة الا في المناسبات التي لا بد منها. لم يلفت ذلك انتباه أحد. حضور ابراهيم  او غيابه لا يشغل بال المصلين. ابراهيم، كما يتفلسف بعض سليطي اللسان، هو التجسيم البشري الكامل لقانون "الحاضر غائب" حضوره لا يلفت الانتباه وغيابه لا يغير من الحدث شيئا. هو أفقر سكان البلد  ولكن ليست مشكلة الفقر هي السبب، حيث أن لبعض الفقراء لهم حضورهم ورأيهم. ابراهيم اذا حضر لا ينبس ببنت شفة. لا راي له، لا يوجد مجموعة يقف معها،لا يتبادل الحديث مع أحد،لا شيء يتحدث به اذا شاء الحديث الا سوق الحديد الخردة الراكد... ومن يهتم بهذا الفرع؟ ربما لم يسمع به الغالبية من ابناء البلد. حتى الخوري لم يحاسبه على غيابه، بل يظن البعض ان حضوره صلاة الأحد لا يلقى ترحيبا من الخوري أيضا، لأن حضوره غير متجانس مع الأجواء الكنسية بل ويشبه نبتة بلان شائكة في بستان زهور.. رغم ان احدا لا يقول ذلك من منطلق ان تعاليم المسيح التي لا بد لكل من يدعي الايمان  ان يلتزم بها والمعارضة للتمييز بين الناس ،وتطويباته المشهورة بدأت ب: "طوبى لفقراء الروح فان لهم ملكوت السماوات".

كان ابراهيم تاجر خردة، يتعامل مع كل ما هو قديم وبال، يجمع ما يجد بالشوارع من قطع حديد او صاج بال، ليبيعه لتاجر من المدينة يحضر مرة كل شهر  وبالكاد يربح ما يسد رمق اولاده الثمانية، وزوجته حسب أقوال نساء الحارة : "امرأة في حبل مزمن". رغم ضيق ذات اليد، الا ان الله باركه بزوجة لا تلد الا الصبيان، وربما هو الأمر الوحيد الذي يحسده علية أهل البلد  ولكثرة الأولاد وقلة ذات اليد فإن زوجة ابراهيم مستعدة دوما للقيام بأي عمل يطلب من بيوت البلدة الموسرة:

تنظيف، تعشيب الأرض، شراء احتياجات النساء من السوق، مقابل بضعة قروش وبعض الأرغفة والملابس القديمة. عدا الثمانية، أطال الله عمرهم ووهبهم الصحة والطعام، فقد ثكل ابراهيم وزوجته اربعة أطفال، ويقال ان سبب موتهم قلة التغذية، الأمر الذي حرك عواطف الجيران، من يومها لم يتوقف الجيران عن ارسال ما تيسر من طعام زائد، او بعض الخضار والفواكه الذابلة الى زوجة ابراهيم لتطعم اولادها.

لا أحد يعرف سببا لعدم مشاركة ابراهيم وزوجته صلاة أيام الأحد. كان هناك شبه اتفاق بالصمت، بأن لا يحثوا ابراهيم على ضرورة الاهتمام بالمشاركة بصلاة الأحد من أجل اكتمال دينه. حتى الخوري الذي لا يمل من القول ان الله يحب كل ابنائه بالتساوي، لا فرق بين غني وفقير قوي وضعيف، لم يحاول حث ابراهيم على التواجد في الكنيسة أيام الآحاد.

كان أكثر ما يخيف الخوري ان يؤدي تواجد ابراهيم بينهم بثيابه الرثة ورائحة عرقه المثيرة للإمتعاض والضيق ولمشكلة يتوقعها بتفكيره من انفضاض المصلين من الجلوس بقربه  وربما عدم عودتهم لصلاة الأحد، الأمر الذي سيترك أثره الكبير على صينية التبرعات النقدية يوم الأحد، الخوري وجد الجواب لنفسه بقوله:" لعل في ذلك حكمة ربانية". ان مصروفات الكنيسة تتزايد مع ارتفاع الأسعار، وحتى سعر الكهرباء صار يحتاج الى "لمة" يحث عليها الخوري في موعظته كلما تلقى وصلا جديدا.

مع ذلك، والتزاما بتعاليم المسيح، كان الخوري لا يستثني ابراهيم وعائلته من زياراته لبيوت أبناء الطائفة، لمباركة البيت وأهله والدعاء لهم بالصحة والفلاح. وحمايتهم من كل مكروه، وان يبارك الله بيتهم بالذرية الطيبة، وبالوفرة

والوفاق. لم تكن زيارة الخوري تسبب الفرح للسيد ابراهيم، ولكنه كان يخفي ضيقه، ويستقبل الخوري بكل ترحاب، بل ويجمع أولاده ليباركهم الخوري، ثم يبحث في جيبه عن بضعة قروش ليضعها بيد الخوري، الذي يمتنع من أخذها في البداية، لكن ابراهيم يصر دائما ان لا يخرج الخوري خالي الوفاض، وان المسالة ليست بقيمة ما يقدم لأبونا الخوري والكنيسة، انما هو تعبير رمزي عن التقدير الكبير لجهود الخوري في ايصال الرسالة للمخلص يسوع المسيح ان يشمل ابراهيم وأولاده بعطفه ومحبته وخيراته.

صحيح ان الخوري كان يزور بعض البيوت أكثر من غيرها ويقيم فيها صلوات أطول مما يقيمها في بيوت أخرى، الأقاويل تتردد ان السبب هو التبرعات السخية التي ترد لصندوق الكنيسة من أصحابها.

هكذا مضت الأيام.. والأشهر والسنوات.. وكأن الرتابة هي قانون لهذه الحياة، ما عدا موسم الزواج الذي يحل كل عام مع حلول الربيع  وبعض الوفيات، لا شيء يشغل الخوري إلا الحفاظ على رابط متين  مع جميع رعيته في البلدة.

لكن أتي وقت انقطعت فيه حبل الرتابة .

ظهر أحد الأيام استيقظ الخوري من القيلولة على صوت بكاء وصراخ غير بعيد عن كنيسته.

سارع الى الخارج ليعرف ما حدث، فوجد ابراهيم ملقى على الأرض  والدم ينزف من أنفه، يبكي ويصرخ بحرقة بشكل هستيري بحيث من الصعب فهم ما جرى له، حوله تجمع العديد من عابري السبيل وأصحاب المحلات المجاورة، يحاولون ايقافه على قدميه  ومسح الدم عن وجهه  وهو يجلس مذهولا يبكي بحرقة وألم.

- ما الحكاية؟ سال الخوري.

- بعض الزعران اعتدوا عليه وسرقوا نقوده وهربوا.

قال الخوري بشيء من الغضب مجيلا نظره بمن حوله :

- ولم يساعده أحد ؟

لم تكن ضرورة ليسمع الجواب. الصمت كان جوابا مجلجلا. مد يده لابراهيم :

- تعال يا ابني.

امسك ابراهيم بيد الخوري وقام ذليلا باكيا، قاده الخوري الى غرفته الملاصقة للكنيسة.

أسعفه ببعض الماء ومسح الدماء عن انفه ووجهه، غاب للحظات في غرفة ثانية وعاد ليدس بيد ابراهيم بضع ليرات. ملمس النقود أجفله فتراجع رافضا المال، لكن الخوري أصر ومذكرا اياه ان وظيفة الكنيسة رعاية الفقراء، الفقر ليس عارا، ان هذه النقود من أجل اولاده  وليسامح الله اولئك الزعران لأنهم لا يدرون ما يفعلون.

بعد تلك الحادثة دخل ابراهيم في صباح أحد الأيام، القى تحية صامتة على الخوري والمصلين، ركع لدقائق طويلة امام أيقونة السيد المسيح معلق على الصليب، كان يبكي بمرارة مخفيا صوت بكائه، خرج بعد ان قام بالتصليب ثلاث مرات ،خرج كما دخل لوحده  ومن بعدها اختفى ابراهيم من الحارة ومن البلد.

حتى نساء الحارة لم يلاحظن اختفاء ابراهيم وزوجته واولادهما الثمانية.

تناقل المصلين اقاويل كثيرة عن اختفاء ابراهيم  وانه قام بالصلاة لمرة واحدة في الكنيسة قبل اختفائه، تمنى الجميع ان لا تكون مصيبة قد نزلت به سببت اختفائه.

مضت الأيام وبدأت تتوارد معلومات عن ابراهيم، من الصعب ربطها بابراهيم ابن بلدهم، البعض يقول انه شاهده في المدينة القريبة يجلس بجانب سائق شاحنة كبيرة محملة بالحديد الخردة  وانه كان يرتدي ملابس جديدة  ويبدو أصغر من عمره بعقد كامل. شك البعض بأن الحديث لا اساس له وان ما تناقله البعض عن رؤية ابراهيم من المؤكد انه شخص آخر.

يبدو ان قصة ابراهيم قد طويت، لم يعد يذكره أحد، عادت حياة البلدة الى مسارها الطبيعي  وكأن ابراهيم لم يكن له وجود بينهم في يوم من الأيام.

ذلك النهار الربيعي كان عاديا، الخوري يجلس على شرفة منزله يقرأ كتابا  وامامه صحن فواكه. كان يتمطى تحت شمس الربيع الدافئة  حين سمع قرعا خفيفا على باب منزله، لم يتأكد من ان احدا يقرع باب بيته، أنصت ولم يسمع القرع من جديد ،عاد ليقرأ في الكتاب  ولكنه لم يكد يقرأ كلمتين حتى عاد يسمع القرع من جديد، هذه المرة كان القرع أقوى فقام متمهلا لمعرفة الطارق.

فتح باب منزله  ليشاهد شخصا ببدلة من الجوخ الإنكليزي الفاخر، تفوح منه رائحة عطر ذكية، نظر اليه من رأسه الى قدميه  ولاحظ حذائه الأسود اللامع، بالتأكيد من نوع فاخر كملابسه. كان الطارق يقف هادئا  ومبتسما ابتسامة خجولة. لأول وهلة شعر الخوري ان الوجه مألوف له، بل مألوف جدا. لا ليس من المترددين للصلاة يوم الأحد. هل هو قادم جديد للبلدة؟ الوجه قريب جدا من الوجوه المألوفة للخوري  ولكنه متأكد ان فيه تغيير ما.. وفجأة لمعت الصور جيدا بذاكرته، سأل مترددا:

- ابراهيم..؟

- أجل يا أبونا انا ابراهيم !

- تفضل يا ابني، أدخل. أهلا بك في بلدك وبيتك.

مليون فكرة التمعت في ذهن الخوري، ما تناقله بعض أهل البلد عن ابراهيم الذي شاهدوه في المدينة القريبة يبدو انه صحيح. ربما هذا ابراهيم آخر؟

- قل لي يا ابني، انت ابراهيم نفسه ابن بلدنا، الذي غادرنا قبل سنة؟

- انا ابراهيم الذي مددت يدك له بالمساعدة حين وقف الجميع متفرجين على زعران يعتدون علي ويسرقون ثمن خبز الأولادK جئت ارد اليك الدين الذي في رقبتي.

- انها قروش قليلة يا ابني.. والمصلين لا يبخلون على صندوق الكنيسة.

- انه دين كبير يا ابونا، تفضل..

ومد يده بورقة شيك للخوري.

- يا ابني ما ساعدتك به ليس دينا، انه واجبي...

وصمت الخوري وهو يتأمل المبلغ الذي كتب على الشيك.. اجال نظره بين ورقة الشيك وابراهيم عاجزا عن ايجاد كلمات يعبر فيها عن الموقف الذي وضعه فيه ابراهيم بورقة الشيك ، بعد صمت قصير وجد جملة مناسبة:

- انه مبلغ كبير.. كبير جدا.. عشرة الاف ليرة مرة واحدة؟

- انه ديني للكنيسة.. ولأهل البلد الذين لولا ما تكرموا علينا به لمات اولادي من الجوع.

- ومن أين كسبت هذه الأموال؟

- منذ أن ركعت في الكنيسة مودعا البلد، فتحها الله بوجهي، أصبح الحديد الخردة تجارة مربحة، اليوم لدي عدة شاحنات وعدد من العمال، اشتريت بيتا، والمسيح فتحها في وجهي بعد ان رجوته في صلاتي الوحيدة ان يتطلف بي وبالأولاد.

- وانا الكاهن اصلي يوميا وباخلاص عدة مرات.. ولكني لم احلم ان اكتب يوما شيكا بقيمة عشرة الاف ليره..؟ بالكاد نسدد اثمان الكهرباء والماء والتنظيف.

- واوصيت للكنيسة على مكيفات هوائية سيحضر الفنيون لتركيبها غدا.

- أبصلاة واحدة  ورجاء واحد وصلت الى ما وصلت اليه، وانا الخوري المؤمن والذي يصلي كل نهاره وليله ويطلب ان يفتحها الله بوجه كنيسته لا نحصل على ما يساعدنا في تغيير مقاعد الكنيسة مثلا ؟

- الصلاة ليست بالكم  ولا بالصراخ والصوت المرتفع  ولا بالشكل الذي نظهر به في الشارع وليس بملابس غريبة عجيبة، الصلاة يا أبونا الخوري من القلب والقلب لا يغير شكله ولا قوة دقاته والله كما تصفونه قادر على سماعنا وقراءة تفكيرنا.. وساغير مقاعد الكنيسة على حسابي.

- ولكني اصلي بصمت ومن القلب  وعدة مرات كل يوم؟

- يبدو انك ملحاح يا ابونا الخوري، هل تظن ان الله لك وحدك؟!




 

ثلاث كلمات حاسمة

)قصة فلسفية(


- التراجع بلا نهاية يقود الانسان الى لا شيء.

هكذا افتتح استاذ الفلسفة محاضرته.

- هل تعني لكم هذه الجملة شيئا؟

لم يتوقع تعليقاً من طلابه، كعادته في استرساله وعدم انتظاره رد فعلهم. انما هدفه، كما أكد ذلك منذ درسه الأول ،إثارة عقولهم الخاملة بعد عطلة نهاية الأسبوع.

- أعرف ان اختياركم للفلسفة كان وراءه دوافع كي يحظى كل واحد منكم بفهم معنى أحداث تدور في محيط حياته ولا يجد لها تفسيرا. فجأة تقع المفاجأة الأولى، يعتلي المنصة محاضر بنظارات سميكة  وملابس متنافرة الألوان، ليبدأ محاضرة حول معنى "فلسفة المعنى".

ارتسمت ابتسامات كبيرة على وجوه الطلاب، تغامزوا بحذر وهم يتأملون أستاذهم بنظارته السميكة وملابسه متنافرة الألوان، شعره الكثّ المشتاق لحلاق يعطيه شكلاً متناسقاً. اعتادوا مظهره بل عشقوا حضوره وتمتعوا بمحاضراته ذات الأسلوب خفيف الظل، يشرح المسائل الفلسفية بأسلوب سهل، الدرس أحياناً يبدو وكأنه مسرحيد، مليء بنبض الحياة وليس درساً حول قضايا أشغلت وتشغل العقل البشري منذ ظهر عصر الفلسفة قبل 0022 عام، محدثاً نقلة حاسمة منذ نهج الايمانية الوثنية في فهم ظواهر الطبيعة ،الى البحث والتفسير العقلاني لهذه الظواهر.

- لو تحدثنا عن معنى "فلسفة المعنى" فإننا سنواجه اتجاهات عديدة متناقضة، المرأة ترتب البيت قبل حضور الشغالة، الرجل يرتب السرير بعد مغادرة الشغالة. اذن لكل حالة او شخص معنى مختلف من الشغالة.. ودلالة المعنى تظهر في تصرفاتهم.

ضحك الطلاب، رغم علمهم ان استاذهم يغضب من سماع صوت نشاز في القاعة. أشار لهم بالصمت وواصل:

- اذن معنى فلسفة المعنى يختلف. تماما كما ان المرأة تحب ان تسمع كلمة "أحبك" بينما الرجل يحب ان يسمع كلمة "أريدك"، هنا يجب ان ننتبه للمدلولات المختلفة من وراء المعاني المختلفة أيضا.

كيف نوفق بينهما؟ هل يتوهم شخص عاقل انه يمكن التوفيق بين المعنيين والمدلولين؟!

ستفشلون عندما تحاولون. ماذا يعني الزوج لزوجة ملت من زوجها بعد سنوات طويلة؟ ماذا ستقول له حتى لا تكون غبية وفظة؟ عليها ان تختار مدلولاً مناسبًاً لمعنى مللها. ستقول له: آه يا زوجي الحبيب، انت تذّكّرني بالقارب البحري

الذي ركبناه أثناء شهر العسل قبل ربع قرن، ليس لزرقة عينيك الشبيهة بزرقة البحر، وليست بسبب قمصانك الواسعة الجميلة التي تشبه شراع القارب، وليس بسبب شعرك الغزير الناعم الذي يتطاير في الريح، والسبب يا زوجي الحبيب اني كلما أراك أصاب بالغثيان.

المعاني المتنوعة هنا ومدلولاتها المختلفة توصلنا الى سؤال: هل سيفهم الزوج الحبيب قصد الزوجة؟

اذن معنى فلسفة المعنى لا يتحدد بتعريف مختصر، بل يتفرع فلسفياً الى الاهتمام بمواضيع مختلفة من المعاني والمدلولات.

لنضرب مثلاً حول سفر جابر الى الهند لأجل فهم حكمة الهنود والبحث عن معنى للحياة. مرت أشهر ولم يصل منه أي خبر، سافر شقيقه للبحث عنه لإعادته للبيت، لم يعرف من أين يبدأ. أرسلوه الى كاهن هندوسي يقال انه الأكثر ذكاء في الهند، لا يخرج من المعبد ولا يستقبل زواره إلا بعد انتظار اسبوعاً على باب هيكله، ولا يسمح لسائله إلا بثلاث كلمات. خلال أسبوع رتّب الشقيق في ذهنه بعد تفكير مضن الكلمات الثلاث الأكثر أهمية للدلالة على هدفه. انتظر أسبوعاً كاملاً على باب المعبد حتى سمح له بالدخول، بعد انتظار تلقّى إشارة من الكاهن  ليقل كلماته، ترى ماذا تتوقعون ان تكون كلمات شقيق جابر الثلاث؟

تخيلوا نفسكم في هذا الموقف  وسنعود لمعرفة الكلمات التي قالها شقيقه للكاهن الهندوسي في آخر الدرس.

لا بد ان يكون للكلمات الثلاث مدلول فلسفي، لشخص ربما لم يعرف الفلسفة  ولكن تفكيره المنطقي وتحديد الكلام قاده الى صياغة ثلاث كلمات لها معنى ومدلول هام، هذا ما اريد ان أنّبّهكم إليه، عندما تثرثرون بدون حساب، تصبح

الثرثرة مقياساً اجتماعياً وسياسياً لمن يثرثر أكثر، هذا مقياس مريض لا يسري الا في مجتمع تتحكم فيه الثرثرة وليس العقل،  الدلالات لمعنى ما أقول واضحة هنا، ليس بالثرثرة تنجز الأهداف. فكروا في الموقف  هل يمكن ايجاد ثلاث كلمات لشرح موضوع فقدان الاتصال مع جابر وقلق أهله ورغبتهم بايجاده واعادته للبيت؟

طلابي المساكين، أعرف ان ذهنكم قد يتعب معي، كما ترون فقد استعملت تعبير المدلول مرفقا لإصطلاح المعنى. هل من علاقة بين المعنى والمدلول؟ طبعا أنتم تهزّّون رؤوسكم بالموافقة، شكرا لكم. المسألة أكثر اتساعاً مما تظنون. لا انتظر موافقتكم بل فهمكم حتى لا ينطبق عليكم المثل الصيني القديم: "في كل جماعة يوجد غبي، الذي لا يراه ولا يميزه، هو الغبي نفسه".

لا بد من سؤال لنتقدم نحو فلسفة المعنى والمدلول. كما يبدو أصبح واضحاً لكم او لبعضكم، لا معنى بلا مدلول للمعنى. اذن المعنى غير مستقل في الفلسفة، لا شيء مستقل عن الأشياء الأخرى  وهنا تكمن قيمة التفكير الفلسفي بالربط بين الأشياء، بين المعاني وبين المدلولات. من هنا كلمات شقيق جابر الثلاث يجب ان تحمل معنى كامل ومدلول واضح لطلبه من الكاهن الهندوسي. هذا لا يتيسر بدون تفكير ومنطق فلسفي. لا حدود للتفكير الفلسفي. الرئيس الأمريكي الأسبق، ايزنهاور، كان جنرالاً وقائداً للحفاء في الحرب العالمية الثانية في اوروبا. قال أمراً عميق المعنى وعميق الدلالات: "من تجربتي تعلمت ان لا قيمة للخطة العسكرية  ولكن لا بديل للتخطيط العسكري". نحن لسنا عسكريين  ولكن لهذه المقولة معنى اجتماعي واقتصادي وعلمي. حتى للزواج يجب ان يكون تخطيط واضح. الخطة يتقنها الكلاب والقطط أيضا، غريزتهم ترشدهم. التخطيط لا يتقنه إلا الحيوان العاقل الذي لا يعتمد على الغرائز وللأسف مجتمعاتنا بعيدة عن معنى التخطيط ودلالاته، تسودها عقلية الخطة. السبب ؟ غياب التفكير الفلسفي.

الايمان يُنقل للإنسان بالغرائز. هذه عملية نفي قسري للعقل. العلوم تنجز مهامها بالتخطيط. النجاح لا يتحقق بالغريزة، بل بالتخطيط والتفكير ولا يتحقق بالاتكال بل بالنشاط العملي الواعي. الغريزة هنا لا تساعد. بعضكم سيغضب لكلامي لأن مدلولات كلامي تتناقض مع عقله الذي لم يتخلص من الغرائز بعد ،هذه اصعب مسألة في عالم الانسان ونتيجتها حاسمة في النهاية.

سترسبون في متاهات الفلسفة بدون التخطيط والاحتكام للتفكير العقلاني، غرائزكم التي نشأتم عليها يجب نزعها بدون رحمة من عقولكم وبالتأكيد من عواطفكم أيضا.. او قولوا وداعاً للفلسفة  وداعاً للمنطق  وداعاً للعقل  وداعاً للوعي ووداعاً للمعرفة. ليس سهلاً ما أطلبه، ان تحديد الهدف هو أصعب ما في المعركة. حين يصاغ الهدف بشكل صحيح، يصبح النجاح مضموناً. الفلسفة الصحيحة هي تخطيط دراسي وليس خطة دراسية. الموضوع ليس ذكاءً وحفظًاًـ هذا ينفع في الحصول على العلامات ولا ينفع في رقي العقل.

لنضرب مثلاً: هل تظنون ان الرجال أكثر ذكاًءً من النساء؟

الأجوبة متعددة وتنتشر على مساحة الأفق كله ومدلولاتها تمتد للأعماق، نعم... بإمكاننا تحديد هدف من السؤال، عندها تصبح الإجابة سهلة. مثلاً يمكن الاعتماد على دلالات نشاهدها في الحياة دائماً لأننا أحياناً لا نريد ان نعترف بذكاء النساء وتفوقهّنّ على الرجال. الطالبات سعيدات؟ لم أقل بعد أي معنى أو دلالة لما أقصد، لنفترض حالة اجتماعية بسيطة: هل شاهدتم امرأة تركض وراء رجل غبي لأنه يملك سيقانًاً جميلة؟ كفوا عن الضحك، لا ضرورة لمزيد من الكلام لنفهم أين الغباء عند الرجال. المدلول واضح ومعناه واضح. ارى ابتسامات وإخفاء ضحكات. لا أقدّّم لكم مسرحاً هزلياً. فكروا خيرًاً من ان تضحكوا.

ما معنى ومدلول ان تفكروا جميعكم بنفس الشيء كما ألاحظ من ابتساماتكم وضحكاتكم المخفية والغبية؟ معناه ومدلوله واحد: لم تفكروا... غريزتكم تحكمت بعقلكم.

اذن ما هو معنى التعلم اذا لم يغير ما نشأتم عليه من فكر مليء بالخوارق والعجائب والتكرار؟ تحديد ثلاث كلمات لشقيق جابر جعل عقله يعمل بقوة الفي حصان، أي بقوة محرك حافلة ركاب ضخمة.

لدينا مدلولات متنوعة لمعنى التعليم، مدلولات لا تطير في الهواء، بل لها قاعدة بلورت شخصية المعلمين. المعلم هو نتاج بيئة اجتماعية، المعلم الأول متوسط القدرات ولا يعرف إلا ان يقول  وعلى الطلاب اتقان السمع والحفظ والتكرار.

المعلم الثاني جيد، يشرح، لكن لا ينجح في ربطه  بين الشرح والعقل. المعلم الثالث ممتاز، يعرض نماذج لشرحه ويربط مدلولاتها بالمعنى الذي يعلمه. المعلم الرابع معلم كبير يثير التفكير، حيث أن وجهة نظره تقول ان إعاقة التفكير لدى الطالب هو جريمة إنسانية في عالم عقلاني يجب ان يعاقب عليها القانون  وان تنشأ لها محاكم دولية. قتل العقل هو اول مدلولات معنى قتل الجسد البشري. هنا نقتل الزمن الانساني أيضا. اينشتاين في تفسيره لنسبية الزمن قال: "ضع يدك على صفيحة ساخنة ستشعر أن الدقيقة أصبحت ساعة، اجلس بجانب امرأة جميلة ستشعر أن الساعة دقيقة". تحرير العقل من الغرائز والخوارق وغباء الموروث الذي لا حياة فيه  واندماج الانسان بالوعي والتفكير والتطور هو جلوس متواصل بجانب امرأة جميلة، او شاب جميل حتى لا "تزعل" زميلاتنا.

اذن المعنى والمدلول يخضعان للنسبية ايضا. المدلول هنا اكثر اتساعاً من مجرد الظاهرة التي ذكرتها ،المدلول هنا ينعكس على كيف سنكون عندما نحمل الشهادات: هل نكون منفتحين على عالم العقل والتفكير؟ ام خاضعين لعالم الغرائز بشهادة لا تنفع إلا لإشعال الحطب في موقد الشتاء؟ انا لا اريد ان أرى مجرد حََمَلة شهادات، لا أريد ان أشعر بتأنيب الضمير كل عمري، ما أريده عقلٌ حرٌ مفكرٌ ومخططٌ ينتمي للعالم الذي لا يحترم المتخاذلين.

هل توصلتم الى الكلمات الثلاث المحتملة التي سيطرحها شقيق جابر امام الكاهن الهندوسي؟

عشرُ أصابع رُُفعت ولكن المحاضر سخر من كل الأجوبة لأنها تركزت حول فقدان جابر في الهند. كيف سيفهم الكاهن ان الهدف إيجاده وإعادته؟ لعله فقد بحادث تسبََب في موته؟ اذن الدلالات لمعنى الفقدان هنا غير واضحة  وقبل ان ينهي شرحه ارتفع  أصبعُ نسرين بإصرار يشير الى أنها تعرف شيئا ما . قال المحاضر لنسرين: "إن إجابتك حاسمة لمكانة المرأة ورجاحة عقلها، خاصة بين طلاب الفلسفة، فهل تصرين على هذا التحدي الذي لا يجرؤ عليه الرجال؟".

ردّت بابتسامة وهي تقف وسط القاعة وتقول بثقة:

- الكلمات الثلاث التي قالها شقيق جابر للكاهن الهندوسي لا بد ان تكون "جابر عُُد للبيت"!!

- رائع.. رائع.. لم أتوقع رجاحة عقل  بهذا المستوى، ما رأي الشباب؟ هل ستغيرون موقفكم من رجاحة عقل المرأة؟

- هل من سؤال قبل ان ننهي الدرس؟

- واصلي نسرين.

- ما هو المدلول للقول ان الحقيقة هي مضمون التنور؟

- سؤال جيد، أتركه للتفكير، فقط أضيف تتمة له، الانسان المتنور هو الانسان الذي يقول الأمر الصحيح في الوقت الصحيح!!

قالت نسرين:

- اذن على الانسان المتنور أن يصمت في غالب الأحيان؟!

قليلات العقل وكاملو العقل..

مريم فتاة قروية مستورة الحال، صبية جميلة كزهور الربيع اول تفتحها. لمحها تاجر خضار وفواكه متجول ، طابت نفسه لها، طلب يدها من والدها. تردد الأب بسبب فارق الجيل. هل يجوز اعطاء زوجة لرجل بجيل جدها؟ فكر: في ذمته زوجتين واحد عشر ولدا، ولم يصل الى قرار.

قال التاجر: "المال يصنع الرجال ويشتري السعادة" وأضاف: "أملك عدة منازل وقطعة أرض وأموال يسيل لها لعاب الشياطين .. فهل يحلم الأب بضمان أفضل من هذا لابنته. بعد صمت قصير تريث ليرى تأثير خبر ثروته المصرح بها على والد مريم قال: "ولك المهر الذي تطلبه والمؤخر الذي يضمن مستقبلها".

كان جمال الإبنة يثير مخاوف الأهل لكثرة الخطاب، ولكنهم "كحيانين".. رغبتهم بالزواج منها يحركه جمالها. هذا لا يطمئن الأهل من ستر ابنتهم وراحة بالهم من زوج بالكاد يعيل نفسه ، ولا يفكر إلا بليلة الدخلة..

اغرق التاجر بيت والد مريم بكل ما لذ وطاب من خضار وفواكه شهية، اراد الأب ان يرده  ولكن قلة ذات اليد  وسعادة اطفاله بهذا الخير الدافق، جعله يمتنع عن الرفض الفوري ويتمهل مفكرا حائرا في أمر ابنته.

حتى لا يتحمل وزر خطيئة ابنته يوم الحساب، فيما لو حدث مكروه في المستقبل، قرر ان يجمع رجال العائلة، اخوالها وأعمامها ليبلغهم بالأمر طالبا مشورتهم.

قالوا رأيهم بلا تردد وبلا خلاف ان البنت كبرت و"عيون الشباب الصايعين عليها"  والبنات قليلات عقل ودين مثل سائر النساء، هذا حكم ديني واضح، ان ستر البنت ثلثي الدين  والرجل البالغ المجرب أفضل من الشاب "الكحيان" الذي لا يطمع من البنت إلا بالمضاجعة والتعالي عليها  والتفاخر انه نكح أجمل بنت في البلد، ثم تذهب الفرحة ويبدأ الجد، فيبرحها ضربا وكأنها المسؤولة عن قلة الرزق  وربما "يأخذها لحما ويرميها عظما".

تاجر الخضار تصرف بشرف وقدم ضمانات، عاد لوالدها يطلب يدها واضعا الشروط على نفسه قبل ان ُتُطلب منه، تعهد بضمان بيت شرعي لها، تلبية كل احتياجاتها، مهرها المقدم والمؤخر  وانه لن يبخل على والدها، بل فتح لهم قلبه ويده   وجعلهم لا يشعرون بنقص في مأكل او مشرب  "فهل يرفسون هذه النعمة؟"

لا تعرف مريم كيف زُُوجت. لم يسألها أحد عن رأيها في الزواج وجدت نفسها تلبس فستانا ابيض  وجاءت سيارة حملتها الى بيت زوجها الجديد. كان البيت مجرد غرفة نوم ، ملحق به حمام عبارة عن حفرة بالأرض فهمت انها للصرف

الصحي ، لم تتوقع ما جرى لها في الليلة الأولى، شعرت انها فريسة في قفص مع وحش مفترس. وضع فمه فوق فمها كاتما أنفاسها ولجها وهي تصرخ وتطلب الرحمة متوقعة الموت بين لحظة وأخرى. عندما نال وطره منها نزل لمخدع زوجتيه وهو يبتسم معلقا ان المرة الأولى دائما صعبة وبعدها ستتعلم لأن ذلك متعة الحياة. تمنت لو تفارق الحياة وهي مذهولة من الدماء التي تلوثها.. ولم يكن حولها لا ام ولا أب لتشكو همها او لتفهم ما جرى لها..

مع مرور الأيام لم تجد لغة مشتركة مع زوجتيه ، مجرد تناول الطعام على طبلية واحدة. عشرات الأيدي تتخاطف اللقم من نفس الصينية. أغلب الأحيان لم تشعر برغبة في الطعام، كانت تكتفي بما يسد الرمق..وتقضي معظم وقتها منعزلة تبكي، لا تعرف متى يحل الخلاص مما هي فيه ، كم اشتاقت لأمها ،لتشكو همها وتسألها عن الذنب الذي ارتكبته لتعاقب بهذا الشكل، لكن لا زيارات ولا اتصالات، لم تجرؤ ان تطلب من الوحش الذي يفترسها بعد العشاء، ان يأخذها لزيارة أهلها، لم تعرف منه إلا وزنه ورائحته النتنة فوق الفراش وأنفاسه الثقيلة وصوته الذي يشبه نهيق الحمار وضحكته الكريهة بعد ان ينهض عنها راضيا عن نفسه.. يتركها مذهولة باكية يأكلها القرف من حياتها.. داخل "الزنزانة" التي فهمت انها بيتها الشرعي!!

فجر احد الأيام استيقظت على صراخ الضرتين وبكائهما، صراخ مخيف اشعرها ان مصيبة قد وقعت ،بعد لحظات فهمت ان زوجها خرج باكرا كعادته ووقع بين سيارته وشاحنة كبيرة تصادم مروع  وانه فارق الحياة. لم تشعر بألم ما، بل شعرت بانتهاء كابوس مرعب  لأنها كانت تصلي لله ان يميتها ويخلصها من عذابها، فها هو يستجيب لها، أبقاها حية وأمات زوجها الهرم.

جاء والديها لحضور مراسيم الأجر. اختلت بها امها تشرح لها حقوقها من الميراث ولم تكن تفكر إلا بأنها تخلصت من كابوس مرعب. بكت امها:

- بعدك صغيرة وترملت.. رحمتك يا رب.

- بل شكرا يا رب على لطفك..

- عيب يا مريم.. الرجل زوجك ..

- رمتوني كما ترمى عظمة للكلب، لا اعرف معني الزوجية، كان كابوسا رهيبا انقذني منه الرب.

نعم،ارملة شابة ولا زوجة لوحش مفترس..لا اعرف منه إلا رائحته وكأنه يحمل حظيرة خنازير بجسمه وأنفاسه.

- اخرسي انه زوجك.

- لم أختره.. ولم أشعر باني امرأة معه.. بل فريسة يتلذذ بها ولا تعرف من علاقتها معه إلا رائحته المقززة وشهوته الحيوانية...

صمتت امها بحيرة  وهمست ترجوها ان لا تتفوه بشيء مما قالته امام والدها ورجال العائلة الذين نصحوا والدها المتردد بتزويجهاK فردت بحرقة غضب:

- بئس الرجال اذا كان هذا تفكيرهم وقرارهم.

عادت مع والديها، لم يكن "زوجها المّلاك والذي يسيل لعاب الشياطين من كثرة أمواله" يملك ما يستحق ان تتقاسمه مع زوجتيه. كان نصيبها بضعة آلاف من الليرات حصتها من تعويضات شركة التأمين لموته بحادث طرق، الحديث عن املاكه كان كذبا، اذ كان كل ما يملك مرهونا مقابل قروض بنكية.

كثر "الخطاب" للأرملة الصبية من المطلقين والأرامل وكبار السن والراغبين بإكمال دينهم بزوجة ثانية وثالثة ورابعة، ولكن مريم لم تعد تلك الطفلة التي يمكن ان يقرر لها "كاملي العقل والدين" مرة أخرى ،"حتى لو جزت رقبتي بالخنجر" كما اصرت رفضا للخطاب.

وجدت عملا في مخيطة قريبة من القرية، سرها ان تخرج للهواء الطلق، تتنفس بحرية لأول مرة في حياتها، تعاشر زميلاتها في العمل، يأكلن سوية، يضحكن سوية  ويقلقن الواحدة على الأخرى وكأنهن من رحم واحد.. يتحدثن بطلاقة وبلا وجل عن مشاكل الزواج والأولاد والرجال الذين لا أمان لهم. شعرت أنها مرتاحة لأنها فتاة حرة،أخذت مصيرها بيدهاK ليست ناقصة عقل، او ناقصة دين: بل أبيع عقلا لمن يريد من الرجال، كما كانت تقول ساخرة بشكل يثير الضحك بين العاملات.

لم ينفع تدخل الأقارب لزجرها عن الخروج الى العمل بحجة ان "بنات عائلتنا كرامتهم في بيتهم وليس بالعمل في المصانع مثل الرجال". كانت ترد بغضب وجرأة "عن أي كرامة تتحدثون يا رجال العائلة الشرفاء، عن تزويجنا من هرم قذر مقابل حفنة من الخضار والفواكه؟"

الحقيقة يجب ان تقال ، خروجها للعمل وفر لوالدها مصروفات اساسية هامة، فآثر الصمت وعدم التدخل بين ابنته وأخوالها وأعمامها طويلي اللحى.. كان يخاف فعلا ان تقتنع مريم بالجلوس في البيت.. كان يردد بشيء من الوجل وبصوت متردد خافت: "لا تضغطوا على البنت ، أخطأنا بتزويجها، وهي تثبت انها أهل للثقة"  ويصر رجال العائلة:

- لماذا ترفضين الزواج .. تقدم لك أحسن ناس في البلد؟

- زوجوهم لبناتكم.. لست معروضة للبيع مرة أخرى.

- سنتبرأ منك للأبد.

- يا مرحبا ويا هلا..هل تريدون توقيعي على البراءة؟ ارتفت يد أحدهم تحاول صفعها.

-الذي يمد يده علي سأدخله السجن ولو كان ملك الملوك.

انفض مجلس الرجال خائبا.

زميلاتها سربن لها ان صاحب المصنع يلاحقها بنظراته، هو معروف بمغامراته الكثيرة، خذي حذرك منه. لم يكن ذلك مفاجئا لها لاحظت ذلك من يوم قبولها بان جمالها كان الدافع لاستيعابها في للعمل. كان يدعوها لمكتبه ويكلفها باعمال   مكتبية، ترتيب، تلحيق تسجيلات، كتابة وصولات بيع، ارسال البريد ،الذهاب لإحضار البريد، تسجيل ساعات العمل، توزيع شيكات الأجور.. وغير ذلك من الأعمال التي اشعرتها انها تتحمل مسؤولية إدارية وانها عنصر فعال ونشيط..

لم تكن غافلة عن نظرات صاحب المصنع  وكلماته التي تحمل الكثير من التلميحات، الأمر لم يقلقها ،تعرف ما تريد، تعرف الى أين تتقدم.

كان صاحب العمل في العقد الرابع من عمره ، له نظرات حادة ووجهه يعطيه ملامح شبابية أكثر من جيله، أعزب لأنه على ذمة العاملات: لا يستطيع الإلتزام بامرأة واحدة.

سألها يوما بدون مقدمات:

- انت نشيطة وتتقنين العمل،اريد ان ارقيك  للعمل كسكرتيرة للمكتب، هل تعرفين الطباعة واستعمال الحاسوب؟

- قليلا.. تعلمت في المدرسة وتنقصني الممارسة.

- لا باس ، سارشدك.. وانا على ثقة انك الأنسب.

التصق بمقعدها ساعة كل يوم لمدة اسبوع بحجة ارشادها للعمل على الحاسوب وطلب منها ان تتمرن على الطباعة. 92

كانت تشعر بأنفاسه تلاطفها، بل وتلمس رغبته القوية بالبقاء ملاصقا لها يستنشق رائحة جسدها، تصرفت بشكل طبيعي دون ان تظهر ارتباكها، لكنها لم تعطه الفرصة ليتجرأ بالمزيد...

قررت ان ترتدي اثناء العمل بنطلون  جينس، وبلوزة طويلة الأكمام لا تكشف من الصدر الا قيراطين تحت الرقبة، متحججة بأن المكيف يسبب لها البرد ولكن البنطلون كشف عن قوام فتي ممشوق، غموض ما لا يظهر أكثر إثارة.

كان صاحب المصنع يدعوها ليطلع على تفاصيل المبيعات وتركيز ساعات العمل والبضائع المختلفة التي تصل للمصنع، كانت على علم انه مطلع تماما على كل التفاصيل عبر شبكة للحواسيب ولكنها تقوم بما يطلب منها بمنتهى

الجدية والتلقائية  وتتلذذ بمراقبة خشوعه عندما تشرح له ، هي متأكدة انه لا يستمع لشرحها، بل يفكر بها ،يتأمل قوامها ووجهها المشرق وحيويتها المذهلة بجاذبيتها، ربما يضاجعها في خياله، يجعلها رقما جديدا في سلسلة مغامراته.

وتفاجئه:

- هل تريد اضافة ما؟

- شكرا .. كل شيء واضح، انا سعيد جدا لاتقانك ادارة المكتب، بت اعتمد عليك ولا ارى المصنع بدونك ،كل من يتعامل معنا يحسدني عليك..مديرة بكل معنى الكلمة، دقيقة تماما، جميلة وتشعين الهاما لمن حولك.

ولولا جديتها المبالغة ،لتجرأ أكثر.

كانت تتجاهل الرد على تلميحاته الغزلية، مما جعلها تيقن انه يعيد التفكير بحياته  وبمستقبله  وان نجاحه في عمله سيظل ناقصا بدون "...." تهمس لنفسها.

في بعض الأحيان كانت تقف امامه بقوامها الممشوق  وطلتها الساحرة لتستفسر عن موضوع ربما تعرفه أفضل منه، يجيبها شاخصا بنظراته اليها، تشكره بابتسامة تسرق لبه، كأنها تقول له بعينيها ووجهها المتألق المشع كنجم ليلي:  ها انا ملكة، اعرف مكامن سحري، واعية لجمالي الذي يسرق الألباب، لست للبيع بصحارة خضروات  ولا بإغراء وظيفة  ولا بمال. لا امنح نفسي إلا لمن يختارني وأختاره بحرية كاملة ومساواة كاملة .

استدعاها بجرأة فجر أحد الأيام، كانت لهجته آمرة:

- مريم اريدك لحديث خاص،ادخلي واقفلي باب المكتب ورائك.

جلست امامه بأناقتها، وابتسامتها التي تخلب لبه.

- هل يريحك العمل معي؟

- انت اعدت لي إنسانيتي العمل معك اثراني ووسع عالمي، لم اعد طفلة مغرورة  ولم اعد فتاة يمكن التلاعب بعواطفها ومصيري اضحى بإرادتي الحرة.

- مريم.. اعذريني لصراحتى، تحمليني.. لم التق طيلة حياتي بامرأة بمثل جمالك ورجاحة عقلك  واعترف اني مسحور بك ...

- هذا يرضي غروري طبعا حين أسمعة من إنسان أحترمه وأحترم ما انجزه .

- انا في اواخر العقد الرابع يا مريم  وانت أصغر مني بعقدينK فكري جيدا  ولن اغضب لقرار لا علاقة له بعملك ...هل تقبلين الزواج مني؟ - لكني أرملة .. هل فكرت بذلك؟

- انت إمرأة رائعة، الأرملة انسانة ايضا.. هل الترمل جريمة؟ سأكون اسعد انسان اذا قبلت ان تكوني زوجتة لي؟

طأطأت رأسها بشعور من تحقق حلم كبير، ارادت اخفاء دفق السعادة الذي شعرت به يتفجر من وجنتيها  واختارت كلماتها بتأن ودمعتين تترقرقان في مقلتيها:

- المرأة التي ترفضك تكون بلا عقل، انت انسان رائع ويسعدني ان اكون شريكتك في الحياة.




*****

لم تعد مريم عاملة في المصنع، صارت صاحبة المصنع تتحمل ادارته بنجاحه وفشله. زوجها تذمر من تدخلها المبالغ، ارادها أكثر في البيت، وفر لها لأول مرة في حياتها الشعور بالأنوثة  وقد احبت ذلك.

السنوات الأولى لزواجها الثاني كانت مليئة بالحب والتفاهم، لم يرزقا بأطفال رغم كل المحاولات. غياب طفل جعل التنافر يزداد بينها وبين زوجها. خلافات حول ادارة العمل، خلافات حول مسؤوليات البيت ،خلافات حول برامج ألتلفزيون مثلا.

كان يحاول ان يعيدها امرأة تقليدية، كانت تثور وتصر ان زمن العبودية للنساء انتهى. عرفت عن بعض مغامراته النسائية ألجديدة، فاتحته  فغضب. انكر ثم اعترف وقال: اذا لا يعجبك الحال الله وعلي معك انا رفعتك من الفقر الى أليسر ومن الحضيض الى القمة.

- لن تقترب مني أكثر..

- لي حقوقي الزوجية

- ولي حرمة بيتي وحقي بان لا يخونني زوجي.

- انت كنت صفرا، وانأ صنعت منك ما انت عليه اليوم.

- بدوني كنت ستخسر كثيرا.. اصبحت شريكتك في كل شيء، مغامراتك ستدمر المصنع ولن اسمح لك بذلك.

- انت طالق.

- لن اقبل صفة مطلقة، تزوجتني أرملة فأعدني ارملة.

ثار غضبه وخرج مثل الطلق لا يلوي على شيء. شغل محرك سيارته وانطلق بسرعة. لم يبتعد كثيرا ، أقل من خمسمائة متر، فقد السيطرة على سيارته المنطلقة بسرعة جنونية، اصطدم بعامود كهرباء وفقد وعيه.

لم يكن امام المسعف وفرقة الاطفاء التي اخرجته بعمل مضني وقص لأبواب السيارة المدمرة، إلا الإعلان عن وفاته.

******

بنت له قبرا جميلا، يعتليه شاهد من الجرانيت الايطالي الثمين. هو يستحق ذلك. نُُقش على الشاهد أسمه تاريخ ميلاده ويوم وفاته وصورته، في وسط الشاهد نُقشت كلمات أخرى بناء على طلبها:

"ارسل اليك يا الهي بحزن والم زوجي العزيز، الذي تزوجني ارملة فقيرة وتركني أرملة غنية، كان زوجا مخلصا لعشر سنين كاملة فهو يستحق لذلك الغفران، انا غفرت له مغامراته الأخيرة وأرجو ان تغفر له أنت أيضا – الزوجة مريم".

في انتظار جائزة نوبل

لم يتصور حسين الغزاوي أن حياته كلها سوف تنقلب ظهرا على عقب  بعد زيارته لمدينة طولكرم ،للمشاركة بمهرجان شعري كبير.

بعد أن ألقى قصيدة في المهرجان لدعم الانتفاضة، شعر ان شيئا في حياته قد تغير.

الحقيقة أن حياته تغيرت دقيقة بعد دقيقة، خلال إلقائه القصيدة.

انطلق صوته بشكل ناري، وكانت له وقفة مميزة على المنصة، تمرن عليها منذ تلقى الدعوة للمشاركة في المهرجان الشعري الوطني في طولكرم . بين القاء بيت من الشعر وآخر كان يحك رأسه حكة شاعرية متقنة وأحيانا كان يضرب على الطاولة بقوة شديدة تتلاءم مع قوة كلمات القصيدة. وصلت النشوة الشعرية قمة تجليها عندما طلب وهو يلقي قصيدته الوطنية بنبرة حادة: أعطوني ماء.. فضحك الجمهور وصفق له طويلا، فقال حسين الغزاوي لنفسه: "أصارحك بالحقيقة يا حسين الغزاوي أنت شاعر كبير".

بعد المهرجان كان عشاء  وعليه تغير أسلوب حسين في الحديث، صار يدقق أكثر في اختيار الكلمات  ويتكلم على مهل شاعرا بقدرته الكبيرة لشد الأنظار والآذان، كأنما يعد جواهر وليس ثرثرة كلمات لا تعني في النهاية شيئا. لاحظ حسين الاهتمام بحديثه، فقال لنفسه :"يجب يا حسين أن تكون مسئولا أكثر، أن تختار كلماتك بهدوء وتمعن، يجب أن تستعمل صياغات تراثية لتبرز معرفتك بالتراث، أن تذكر أسماء فلاسفة في حديثك، لتسحر المستمعين باتساع عالمك الفلسفي، يجب أن تطلق تقييمات تدل انك مفكر  وطبعا وطني.

بعد انتهاء العشاء الفاخر، ركب السيارة مع صديقه عائدا إلى "فلسطين84"، حيث ولد وما زال يتمسك بتراب وطنه، يكرس شعره للقضية الوطنية  ويبدو أن العشاء الثقيل جعله يرتخي في مقعد السيارة  صامتا، لم يكسر الصمت إلا قول صديقه له :"الليلة ظهر شاعر كبير في سماء فلسطين". تظاهر حسين بالانضباط وخنق انفعاله  ولكنه كاد يطير من الفرح لولا أن الشبابيك الزجاجية للسيارة مغلقة تماما، عقله قال له بسرعة ان التواضع ميزة حسنة، اترك للآخرين أن يمجدوا شعرك ودورك الوطني والثقافي.

أضاف صديقه بعد دقيقة: "قصيدتك الليلة رفعتك إلى مستوى الأدباء العالميين الذين حصلوا على جوائز نوبل".

ابتسم بصمت، رغم انه في داخل نفسه يشعر بالعظمة وبثقة أكيدة للوصول إلى المليون دولار، قيمة جائزة نوبل الهامة التي تمنح لأبرز الشخصيات في مختلف مجالات الحياة، ومنها الإبداع الأدبي.

منذ تلك اللحظة بدأت مرحلة جديدة من حياة حسين الغزاوي.

صار في الصباح يشرب القهوة بدون سماع الأخبار. فلسف الأمر لنفسه بأن الأخبار هي موضوع الحياة الجارية اليومية، وهو مشغول بالخلود، بالقضايا المصيرية لٌلإنسان.

حاول أن يجعل حياته طبيعية مع زوجته وأولاده، إلا انه قال لنفسه: " يجب ألا أضيع الوقت بالذهاب إلى محل الخضروات والبقال لشراء البنادورة والبصل والجبنة والبيض، وهل يجب أن أجلس مع الأولاد لأساعدهم في دروسهم  واشرح لهم دروس القواعد ومسائل الحساب  وأحفظهم التاريخ والجغرافيا؟ هل أضيع وقتي الغالي جدا في مواضيع لن تقدمني نحو المجد خطوة واحدة؟".

بعد تفكير قال لنفسه: "صحيح أن الابن غال  ولكن المجد أغلى والخلود لا يقدر بثمنK يجب أن أعطي كل الوقت للشعر، للخلود  وللحصول على جائزة نوبل".

في أحد الأيام أراد احد أصدقائه الخبثاء أن يمازحه، تكلم مدعيا الرصانة الكاملة. قال له:

- لدي ملاحظة ثقافية حول نشاطك الشعري، إذا سمحت لي ؟

- تفضل.

- اعتقد انك إذا تركزت بشكل كامل، معتنيا بتطوير تجربتك الشعرية، فقد تدخل عالم كبار الشعراء من أوسع أبوابه، ليصبح أسمك مقرونا بأسماء عظماء الشعراء أمثال السياب،  الجواهري، نزار قباني  ،الشابي،  محمود درويش ،أدونيس  ومظفر النواب. وأقول أكثر ، إذا طورت نزعتك الواضحة للحداثة ، فقد تتجاوز جميع كبار الشعراء العرب وتكون أول من يحصل على جائزة نوبل من الشعراء العرب.

بعد تفكير بما قاله صديقه، وبعد أن رتب الإجابة في رأسه، قال:

- جائزة نوبل هامة  ولكن الأهم النضال من أجل حقوق شعبنا، أنا لا أفكر بالجائزة كهدف لنفسي ،إنما بتطوير الشعر النضالي  وإذا قاد هذا الأمر لجائزة نوبل ، فسوف تكون جائزة نوبل لشعبنا كله.

- هل افهم انك غير معني بجائزة نوبل؟

- بالطبع هي حلم كل أديب، إنا أيضا أحس ذلك في داخلي باني أقترب بسرعة من جائزة نوبل ولكني لا أشير الى ذلك  حتى لا يظن جمهوري أن هدفي ليس الشعر وتحديثه والمواقف الوطنية، إنما جائزة نوبل..

تغيرت حياة حسين الغزاوي، صار شاعرا يدعى للمنابر ولا يفوت مناسبة دون المشاركة. أهلنا في المناطق المحتلة يرحبون به دائما، ويكرمونه بعد كل أمسية بعشاء فاخر. أما داخل "فلسطين84" فلا عشاء ولا تكريم، أنهم يظنون أن الشاعر يشبع من التصفيق!!

صارت كل خطوة يقوم فيها جزءا من نمط حياته المحسوب بدقة، جزءا من مشروع حياة. صار يقوم بالواجبات الاجتماعية ليصبح شخصية اجتماعية مرموقة، مثل التعازي والمشاركة في الأفراح  وتوصل إلى ضرورة التصرف بتواضع مع الناس  وهذا لا يتعارض مع العظمة والشهرة والخلود.

وبدل الحديث في القضايا اليومية صار حسين يتحدث دائما عن آخر كتاب قرأه.

كان يسال نفسه أحيانا بهمس لا يسمع:" كيف كان يتصرف أحمد شوقي؟ كيف كان يتعامل نزار قباني مع الناس؟ هل محمود درويش منغمس بالناس أم منعزل؟" وبعد الخوض في هذه الأسئلة المصيرية، كان حسين يقول لنفسه بصوت أقوى من الهمس:"كن يا حسين متواضعا، تصرف كانسان عادي،مع انك فعلا عظيم ، وطريقك أضحت واضحة نحو المجد  وجائزة نوبل تقترب بسرعة، إلا أن التواضع هو من  مميزات الخالدين... ولا أقول هذا مجاملة لنفسي."

هذا التغيير العميق والجذري في حياة حسين ومسيرته الثقافية، قلب وضع العائلة كلها رأسا على عقب.صارت زوجته تشعر انها بحاجة أن تقدم طلبا رسميا للكلام معه، أو لطلب شيء منه  وخاصة أن يقوم ببعض المهمات للبيت والأولاد. مثلا :

- حذاء ابنك أمير بحاجة إلى  إصلاح، خذه يا حسين غدا وصلحه عند الكندرجي .

هذه الكلمات  أشعرته بالذهول. حسين بعظمته يحمل الحذاء لتصليحه عند الكندرجي؟ قال لنفسه:" هل تريدني بكل عقلها أن أحمل الحذاء  وآخذه إلى الكندرجي لإصلاحه؟ هل يليق بي أن أقف بالدور  وأنتظر حتى يتم إصلاح الحذاء؟ هل وقتي رخيص إلى هذا الحد؟ يا لتعاسة عديمي الثقافة  وجهلهم بكيفية معاملة العظماء".

مواقف عديدة مثل هذه جعلته يفكر تفكيرا عميقا جدا، بأن المبدع الحقيقي العظيم يجب أن لا يتزوج  وأن لا ينجب أولادا، يجب أن يحب المرأة فقط، بدون زواج  وان لا يحصر ذلك على امرأة واحدة لأن الحب مصدر الهام للشعر، لا أكثر ولا اقل.

ذات يوم علم عن طريق الإذاعة أن أدونيس هو أحد المرشحين لجائزة نوبل هذا العام . خلال أيام قليلة اتصل بأربعة أدباء لكي يرشحوه لجائزة نوبل وقد طبع التوصيات بالعربية والانكليزية على ورق صغير وطلب من أصحاب  التوصيات أن يوقعوا بخط اليد في نهاية توصياتهم. أرفق مقالات نقدية عن شعره تبرز دوره الحداثي والتجديدي  في الشعر العربي المعاصر وكونه أحدث ثورة في الصياغة والصور الشعرية  وانه تجاوز المحلية إلى العالمية في الشعر، لم يكن من الصعب الحصول على مراجعات نقدية بهذه الروح التي تشتهيها نفسه. المقال يكلف أقل من ثمن حذاء جديد. جمع التوصيات والمقالات ، بعد ترجمتها إلى الانكليزية، أرسلها بالبريد المسجل إلى لجنة نوبل  وقال لنفسه:" ها قد قطعنا ثلاثة أرباع الطريق"!!

الوقت يمر بطيئا، بطيئا جدا، ثقيلا، ثقيلا جدا. أحس الشاعر الكبير حسين الغزاوي أن الوقت منذ الآن وحتى صدور التوصيات بمنحه جائزة نوبل، هو دهر كامل.

أدى التوتر الشديد والقلق العميق والترقب إلى تغيرات في سلوك شاعرنا، في تعامله مع زوجته – تلك المرأة البسيطة التي لا تعي أنها متزوجة من شاعر عظيم، كذلك تغير مسلكه مع أولاده، كان يقول لهم:" ليس كل الأولاد مثلكم أبناء شاعر عظيم"؟ ولكن من أين للأولاد أن يفهموا معنى ذلك؟ تغير مسلكه مع الأصدقاء، مع أهل البلد، حيث قال لنفسه: "عندما تنشر توصيات لجنة جائزة نوبل سيفهم الجميع أهمية الإنسان العظيم الذي يعيش بينهم".

طال الانتظار وبات يشعر بالإرهاق من طول الترقب، ألهى نفسه بكتابة قصيدة عصماء سيلقيها يوم استلام جائزة نوبل، قائلا لنفسه:" لا تفكر طول الوقت بجائزة نوبل، انس الموضوع كليا، وعندها يمر الوقت بشكل أسرع،اخرج من التفكير بالجائزة، كرس وقتك لقصيدة الفوز، أكتب إقرأ، العب مع الأولاد قليلا، أشعرهم انك ما زلت تحبهم... اهتم بزوجتك واشرح لها ما ينتظرها".

ولكنه لم يقتنع بكلامه.

أدت التغيرات العميقة في سلوكه وتفكيره إلى الذهاب إلى أستوديو التصوير حيث عمل أكثر من دزينتين من صور مختلفة. واحدة  بالبدلة وربطة العنق  وصورة وهو ينظر إلى البعيد، صورة وكفة يده تحمل ذقنه، صورة بملابس صيفية تبرز قامته الرشيقة، صورة مع نظارات قراءة على أرنبة أنفه، صورة وهو وراء الطاولة يكتب، كرر الصور من زوايا مختلفة، ثم صورة وهو يبتسم ، صورة وهو حزين ، صورة وهو حائر وغير خلفية الصور في الأستوديو، أبيض وأسود ورمادي وأحمر وغير ذلك.

يوم إعلان نتائج أسماء الفائزين بجائزة نوبل، اعتكف حسين في البيت مع بعض ألأصدقاء الأوفياء.

اشترى ثلاث علب سجائر، عمل غلاية قهوة كبيرة، أغلق الباب بين غرفة الضيوف وباقي الغرف جالسا بتوتر منتظرا النتيجة!!.

كانت تلك ساعات مصيرية حقا، مشبعة بالتوتر الذي يصل حد الانفجار والجنون.

- أنا متفائل جدا.

قال لأصدقائه.. كأنه يطمئن نفسه ويخفف توتره الداخلي.

- إن شاء الله ، إن شاء الله أنت تستحقها بجدارة

- لا شاعر عربي بمستواك اليوم .. والعرب اكثر الناس حبا للشعر.

- والجائزة لشاعر العرب إن شاء الله

قال الأصدقاء وهم ينفثون كميات هائلة من الدخان في فضاء الغرفة ويشربون القهوة.

- لماذا لم تضع قنينة العرق على الطاولة كعادتك ؟

سال الأصدقاء.

- اليوم أمر وغدا خمر.

قال في رصانة ومهابة مشيرا الى  جملة أمرئ ألقيس المشهورة.

- جائزة نوبل وقيمتها نصف مليون أو مليون دولار تحل كل المشاكل.

قال احد الأصدقاء. فأجابه برصانة:

- أنت تفكر بالمال، ما قيمة المال ؟ أنا أفكر بالمجد .

لم يضحك الأصدقاء تأدبا.. رغم ان ذلك مثيرا للضحك!!

قطعت الزوجة بصوتها جلسة انتظار نشر أسماء الفائزين بجائزة نوبل:

- يا حسين، لماذا أنت منعزل في الغرفة مع أصدقائك؟ الولد مريض وحرارته مرتفعة، تعال خذه  للمعالجة عند الدكتور.

كاد حسين أن ينفجر، بماذا يفكر هو الآن في هذه اللحظات التاريخية  وبماذا تفكر زوجته؟ لولا وجود الأصدقاء للقنها درسا لن تنساه كل حياتها.

في تمام الساعة الواحدة ظهرا واثر نشرة الأخبار ، أذاع راديو لندن نبأ الفائزين بجائزة نوبل، بشكل غير متوقع لم يكن اسم الشاعر حسين الغزاوي بين الفائزين لهذا العام.

حل الصمت لدقائق طويلة. الأصدقاء أيضا صمتوا. أصبح مستحيلا الكلام   بعد هذه  الصدمة  ولم يكسر الصمت إلا حسين  وهو يقول بصوت هادئ  رصين وحزين:

- يا عمي الصهيونية لن تسمح بأن يحصل شاعر مقاوم فلسطيني على جائزة نوبل...

 

ثــلاث قصص ليست قصيرة جدا

1- نرسلها لك بسعادة...

رن التلفون في آخر الليل، كان المتحدث "زامر المسلح"، فقيه الأدب، ما كدت أقول حرفاً إلا وكلماته تتدفق.

- وصلت لصانع شواهد القبور؟

- أجل، لكن ما العجلة لتتصل في هذه الساعة؟

- أريد أن تجهّز لي شاهد قبر.

23

- حسنًاً تعال غداً...

- ولكن المرحومة عزيزة علي، وأريد أن أطمئن إلى أني في العنوان الصحيح.

- يا حبيبي، هل تعرف كم الساعة الآن، الصباح رباح... نحضر لك بدل الشاهد شاهدين.

- لا فقط واحد... هل انقلك النص ؟ رأيت أن الشخص بالطرف الآخر لا يسمع إلا صوته، قلت:

- هات... ماذا نكتب؟!

- أكتب: هنا ترقد الزوجة الغالية نيروز، رجاء يا الهي استقبلها بسعادة مثل ما أرسلها لك بسعادة!!!

2 -هنا يرقد رامي سعيداً

كان رامي يحب الحياة ويحب المناصب ولو على خازوق.

تقدم به العمر وهو مكانك عد.

كان ينظر حوله ويشتاط غضباً. كلهم صاروا حملة ألقاب وهو ما زال قطروزاً رغم شعوره أنه أفضل من الجميع، وشهاداته تملأ حيطان الديوان.

كان يغضب حين يقال أن فلاناً أنهى الجامعة ونال لقب جامعي وما هي إلا بضع سنوات واذا هو في القمة... وأنت يا رامي مضت سنوات عمرك بلا فائدة، رغم شهاداتك وثرثرتك.

كيف ينجح الآخرون، وانت مكانك عد؟!

منشورات مجلة إتح اد1

قضى جل أيام عمره غاضباً. ربما لهذا السبب تعقدت دروب الحياة أمامه أكثر.

عندما تقدم به العمر، وبات يتحرك بصعوبة، فكر وقال لنفسه لا بد أن أجعل من موتي حدثا لا ينسى اخوزق به الجميع،  عندها سيعرفون ان رامي كان ذكيا جدا.

قبل موته بيومين انتهى من كتابة وصيته، ولأول مرة يشعر بالرضاء عما أنجزه، قال المعزون:

- أخيراً انتقل إلى ربه راضياً مرضياً.

المفاجأة كانت في وصيته التي فتحت بعد انتهاء مراسيم العزاء. كتب كلمات قليلة:

- انقشوا على شاهد قبري كفة يدي مضمومة الأصابع إلا الإصبع الأوسط بارزاً إلى أعلى وتحتها "هنا يرقد رامي سعيداً"!!

3- احذر أن تقربه

كان الحوار حاداً حول الميت المسجّى. زامر توفاه الله: وهم أهله الوحيدون فهل هم مكلفون بأجره ودفنه بسبب رباط العائلة؟

البعض اعترض وقالوا أنهم براء من زامر حتى اليوم الآخر، لقد نهب بيوتنا وسطى على أموالنا وأملاكنا ،وأبقانا على البلاطة، لتأكل لحمه القطط والكلاب، الأمر لا يخصنا.

قال كبيرهم: يا جماعة الخير مهما كان في دنياه حسابه عند ربه، انه يحمل اسمنا، ونحن نقوم بواجبنا نحو عائلتنا، صحيح أنه نهبنا، ولنعتبر ان مصروفات دفنه هي سرقته الأخيرة لنا.

- بل يسرقنا حتى في مماته!!

وبتردد ، وبسبب ضغط كبير العائلة ، دفع كل فرد حصته مجبراً لتغطية مصروفات الجنازة والأجر.

دفنوه، وسارعوا ينهون أيام العزاء بأقل من يومين، لقلة عدد المعزين. كان واضحا ان زامر لم يترك أحدا بعيدًاً عن شره. كانت يده تطول جميع أهل البلد.

عندما طرح كبير العائلة ضرورة إقامة شاهد على قبره استهان الأقارب بذلك وتذمروا ، قال أحدهم:

- اسمه مثل الزفت، حتى لعزائنا بموته لم يحضر إلا نفر قليل، والشاهد يوضع لمن يعّزّ على أبناء عائلته.

أصرّ كبير العائلة أنه يعرف ما يعتمل بالصدور، وللعائلة اسمها وكرامتها ولا يمكن أن تتخلى عن شخص يعد من أبنائها، ستصبح سمعتنا في الحضيض.

وهكذا أقنعهم، أو ملّوا النقاش، ووضع كل منهم ما يقدر عليه، وأوصوا له على شاهد لقبره، وقرر كبير العائلة حتى يبرئ ذمته أمام الخالق عندما يحين أجله بأن يكتب على شاهد القبر:

- نرسل لك أيها الرب ابن عائلتنا زامر، الذي أفرغ جيوبنا وسرق أملاكنا، نحن غفرنا له ونطلب أن تغفر له أيضا، ولكن إذا غفرت له احذر ان تقربه من عرشك!!.

منشورات مجلة إتح اد2

حتى يجف من الماء...


كثرت الأقاويل حول ابنة حارتنا جانيت، لوهلة تبدو فتاة جميلة الوجه، سمارها الداكن يعطيها جاذبية خاصة وشعرها الأسود الطويل المجدل بجدولين يضفي عليها مسحة جمالية تشد الأبصار.

لكنها فتاة لا تحب عمل البيت وتجلس وحيدة معظم ساعات النهار.

كنا صغارا نتفاجأ من وحدتها ومن عبوسها الدائم في وجوهنا. أهلنا نبهونا ان لا نتعرض لها، لأن الله يحب كل ابنائه مهما كانوا مختلفين .

لم نفهم مسألة حب الله لأبنائه رغم اختلافهم ، فنحن لم نطرح تساؤلات عن هذا الموضوع ولم نفهم بالتالي تخوف أهلنا من مضايقتنا لابنة حارتنا جانيت.

في الحقيقة كنا نسخر منها ونحاول اثارة غضبها لتلحقنا بفردة حذائها وهي تنط مثل الجندب، هذا الأمر كان يملأنا ضحكا.

في جيل المراهقة صرنا ننظر الى جانيت نظرات فيها شهوة غريبة لم نعرفها سابقا. كانت حين تحرك ساقيها لتغيير زاوية جلوسها ينكشف بعض فخذها فوق الركبة ، فنهلل بسعادة  ونبدأ  بإشارات لإثارتها وجعلها دائمة الحركة فوق كرسيها.

كانت تمضي الأيام على شقونتنا وسؤال واحد يقلقنا ، لماذا لا تشارك جانيت بنات الحارة في العابهن؟ انها فتاة جميلة  بل أجمل من الكثير من بنات الحارة، عاقلة جدا وصموتة جدا الا حين ننجح باخراجها من صمتها وهدوئها.

قالوا لنا أنها مصابة بلطف الله، لم نفهم لطف الله الا بأنه أضفى عليها حسنة نفتقدها. في فجر أحد الأيام انفجر غضبها على أهلها.. علت شتائمها وطار الزبد من شفتيها، بصعوبة أمسكوا بها،  كانت تقاوم بشراسة بكل قوتها، لم نكن  نعرفها بهذه الشراسة والعدوانية.

منذ ذلك اليوم غابت جانيت عن حارتنا وغابت عن كرسيها في زاوية بلكون بيتها وبدأنا ننسى جانيت ، حين  كنا نسال عنها يقال انها في مصحة عقلية، بعضنا قال انها في العصفورية وتعلمنا ان العصفورية هي مصحة عقلية لمن يصابون بلطف الله وان لطف الله يعني الجنون وليس حسنة تضاف للشخص الذي يختاره الله للطفه.

هل حقا كانت جانيت مجنونة ام انها جنت فجاة في فجر ذلك اليوم؟

نحن نعرف المجانين مشردين في الشوارع ، ثيابهم رثة ووسخة، يكلمون انفسهم، نلحقهم لنضحك على كلماتهم وحركاتهم  ولكن جانيت كانت فتاة مرتبة الثياب ، يتدلى شعرها دائما بجدوليه على ظهرها طويلا جميلا تتمناه كل فتاة. كانت رغم شقوتنا ومحاولاتنا لاستفزازها قليلا ما تغضب وتلحقنا بشتائمها واذا فعلت تعود بعد دقائق الى مقعدها هادئة وكأن شيئا لم يحدث  مما يجعلنا حقا نلوم انفسنا على ما سببناه لها ونتعهد ان لا نكرر فعلتنا، كثيرا ما وصلت شكاوي والدتها لأهلنا، فتعرضنا للعقاب الشديد بسبب تطاولنا على جانيت.

الشيء الغريب في قصة جانيت انها كانت تحب السباحة وتجيدها كما تروي والدتها لأهل الحارة  وانها في ايام الصيف تأخذها والدتها الى بركة السباحة ، حيث تسبح ولا تخرج من الماء الا بعد رجاء والدتها الطويل . ترى هل هي مجنونة

حقا، ام بها مرض آخر ؟ لا تبدو مثل مجانين البلد ... بل منعزلة وهادئة،  فهل هذا يعتبر جنونا  ام مرضا يعالج بسهولة؟

صرنا شبابا ومعظمنا تزوج وصار أبا لأولاد ، صارت جانيت نسيا منسيا من الماضي، توفيت والدتها وظل والدها العاجز حيا لفترة أطول قليلا  ولكن أختها العانس ظلت في البيت، لم تكن جميلة بل بشعة الوجه بشكل لا يريح النظر لوجهها،  كثيرا ما قالت والدتي لو ان الله عدل لأعطى وجه جانيت وشعرها الجميل لأختها ليرزقها الله بعريس وأعطى جانيت الهبلة وجه أختها. كنت اسمع وقتها تعبير "الهبلة" لأول مرة وعرفت انه يعني "المجنونة".

في فجر أحد الأيام سمعنا حركة سيارات قرب منزل جانيت، شاهدنا اختها تخرج راكضة لتعانق امراة تنزل من احدى السيارات  ولولا شعرها المجدل الطويل لما عرفنا انها جانيت. جمالها لم يتغير، تعانقت الأختان. كانت الحارة تبصبص من وراء الشبابيك ومن البلاكين على هذا اللقاء الذي لم يتوقعه أحد.

ترى هل عادت جانيت الى وعيها وعقلها؟

هذه الأسئلة ترددت كثيرا في الأيام الأخيرة. لم تعد جانيت تجلس على كرسيها في البلكون، كانت تتحرك داخل البيت، أحيانا نراها تكنس أو تمسح الأرض واحيانا تنشر بعض الغسيل، ترى هل اكتمل علاجها؟ هل أعفاها الله من لطفه ؟!

بدأت تتجمع الحكايات عن جانيت، قالوا أن  تحريرها جاء بعد أن أثبتت أنها امرأة عاقلة ومسئولة.

كيف جرى ذلك؟

يقال ان احد المرضى في نفس العصفورية  سقط في بركة مياه عميقة  بعد ان تسلق حاجزأ يفصل ساحة المستشفى عن البركة ، قام ضجيج وصراخ قوي من الممرضات المرعوبات وبعض المرضى، فما كان من جانيت إلا أن ركضت وقفزت فوق الحاجز ، قفزت داخل البركة وغاصت وراء المريض إلى قعر البركة وسحبته إلى سطح البركة وأنقذته من الموت غرقا.. وعليه قرر الأطباء  أنها فتاة عاقلة تستطيع أن تعيش وسط الناس بدون مشاكل.

بما اننا أقرب الجيران فقد دعونا جانيت وأختها للعشاء في أحدى الأمسيات.

بصراحة تصرفت جانيت بشكل طبيعي ، شكرتنا على الوجبة الشهية، عندما عرضنا عليها فنجان قهوة اعتذرت بقولها انها لا تشرب الا الشاي فاعدت لها والدتي فنجان شاي.

كانت صموتة  وترد على التساؤلات بكلمات مقتضبة. حدثتنا اختها بفخر كبير عن جانيت كيف أنقذت شابا من الغرق الأمر الذي حدا بأطباء المستشفى أن يحرروها إلى بيتها  وها هي حقا هادئة تتجاوب مع الناس ،لا يبدو عليها أمر غريب ، أو غير عادي عن أي شخص لم يصيبه الله بلطفه.

سالتها ونحن نجلس في الصالون بعد العشاء:

- هل ما زلت تحبين السباحة يا جانيت؟

- السباحه اجمل ما في الحياة.

- لم تخافي من الغرق عندما قفزت لإنقاذ زميلك المريض؟ هزت رأسها مبتسمة :

- لماذا أخاف ، أنا سباحة ماهرة..

- وزميلك  هل تحسنت حالته ؟

- للأسف لا .

قالتها بحزن شديد.

- هل مات متأثرا من غرقه؟

- مات معلقا من رقبته في الحمام؟

- هل انتحر؟

- لا لم ينتحر.

- لماذا شنق نفسه في الحمام؟

- لم ينتحر... أنا علقته ليجف من الماء...

 
الزوجة

كثيرا ما حيرتني حالة صديقي ادوار، للوهلة الأولى يبدو شرسا ، بل ويميل ليكون ذئبا مفترسا ، غير ان هذا الانطباع الأول سرعان ما يتبدل اذا دار الحديث عن النساء أو معهن . فهو ينقلب فورا الى حمل وديع ، طفل على صدر امرأة .

كان يبدو لي ان ادوار مصاب بانفصام شديد في شخصيته... فهذا الذئب في شراسته مع بعض الناس حوله ،من أقرباء وجيران وابناء بلد وأصدقاء ، يصير طفلا وادعا في ثوان ، حين يخاطب امرأة ، وبغض النظر عن جيلها . مجرد نسويتها تجعله حملا وديعا ودودا، مستعدا لتقديم كل خدمة تطلب.

علاقتي معه لم تكن سهلة، ولكنها علاقة بدأت منذ بداية وعينا ،مرت بفترات برود وتباعد وفترات اندفاع وارتباط شبه يومي . أحببت مراقبة تحولاته من الحالات الذئبية الى الحالات الحملية.. أو بالعكس . شيء يبعث على الحيرة .. أعترف ان ولعي باكتشاف وصياغة شخصيات لقصصي كان يشدني اليه أكثر وأكثر . وكلما تعمقت في حالاته المتقلبة ، ازددت شغفا بالمزيد من كشف تقلباته ومفارقات حالته . كان دائما شيء لا يكتمل، ناقص... في صورته التي تتشكل في ذهني .

لادوار حياة جنسية ثرية يُحسد عليها .. وأعرف من صديقاته السابقات ، واللواتي جمعتني بهن مناسبات عدة ، انه انسان مثالي ، مليء بالأحاسيس والاحترام والرعاية .. ولا يترددن بتلبية اشارته مرة تلو الأخرى حتى ولو انقلب العالم فوق رؤوسهن.واعترفن انه لم يخدعهن بوعود كاذبة ، كما يفعل معظم الرجال عادة في علاقاتهم النسائية ... أو حتى في السياسة ، لدرجة صار الفهم الشعبي ان السياسة هي فن الأكاذيب وفن خداع الجمهور . فهل يكون الحب هو فن خداع النساء ؟!

ادوار لم يخدع فتياته العاشقات ... كان واضحا لهن انها علاقة لا تبشر بارتباط في المستقبل ، ربما حلمن بكسر الجليد وتغيير الثابت في شخصيته . ولكن هذا ، بالتأكيد الملموس .. لم يحدث . كان يقطع علاقاته بصمت ، لا يثرثر ، وكأن شيئا لم يكن . ويحافظ على مودة واحترام لعشيقاته السابقات .

ما عدا صديقه المقرب ، الذي يتحمله ويتحمل فظاظته الذئبية ، ذلك هو انا ،ربما طمعا في الوصول الى رسم شخصية قصصية نادرة  وبالتأكيد بسبب صداقة ربطتنا منذ شبابنا الباكر ، تحمل الكثير من الذكريات التي من الصعب اقالتها من حياتنا ، وتفقد قيمتها اذا تباعدنا.

ربما ليس صحيحا تماما القول بأني اتحمله من أجل كسب شخصية قصصية جديدة . صداقتنا ابتدأت ونحن على مقاعد الدراسة الابتدائية. كان طالبا ذكيا ودودا ... لا تظهر علية قساوة الذئاب . ربما لوجودنا في مدرسة مختلطة للبنين والبنات ... لا أعرف ، فهل جعله ذلك طالبا ودودا وديعا خدوما ومستعدا للمساعدة وارشاد الصف كله في الامتحانات ؟؟

كثيرا ما عادت عليه تصرفاته المدرسية عقابات مختلفة .، وصلت الى حد طرده من الصف ، ولكنه لا يتوقف عند حد ويعود  ليفعل نفس الشيء الذي يثير غضب المعلمين.كان لا يتحمل ان يرى كآبة الراسبين أو الحاصلين على علامات ضعيفة .. خاصة من طلاب صفه . ورغم انه طالب ممتاز وهادئ ، ويشارك بنشاط في برامج الصف ، الا ان مربية الصف سجلت له في شهادته انه مشاغب، الى جانب علاماته المدرسية الغير ناقصة حتى علامة واحدة في أي موضوع كان .

ولكن ادوار لم يكن مشاغبا .

كان تلميذا ذكيا مجتهدا ومرجعا في الامتحانات لكل طلاب الصف الضعفاء وعندما لجأ أحد المعلمين الى اعفاء ادوار من امتحاناته ، واخراجه من الصف ، بحجة انه لا يحتاج الى امتحان . عندها كان مستوى علامات الطلاب ينخفض بشكل كبير !!

قد تكون تصرفات ذلك المعلم ، الذي اثار حنق ادوار وغضبه العاصف ، هي السبب في تصرفات ادوار الذئبية مع الذكور بشكل عام .

حلقة الطلاب حول ادوار كانت أكبر حلقة في ساحة المدرسة ، حيث تؤخذ قرارت مواجهة تعسف بعض المعلمين ، وترتيبات تمرير أجوبة الامتحانات لطلاب الصف . وكان يطربه بشكل خاص تودد فتيات الصف اليه ، وتفضيلهن الحديث والضحك معه عن سائر الطلاب. كانت الغيرة تقتلنا ونحاول ان نتودد له لنقترب من مجموعته المكتظة بأجمل

طالبات المدرسة . ربما هذا ما جعله في المستقبل ذئبا مع الذكور وحملا وديعا مع الاناث . بالطبع هذا ليس تفسيرا علميا ، انما ملاحظة قد لا تكون مهمة ، ومجرد فكرة للدخول الى عالم شخصيته الصعبة.

ومع ذلك لا يمكن أن أضحي بصداقة من أنقذ علاماتي المدرسية وجعلني انا وشهادتي فخرا لوالدي أمام الأهل والجيران.

كيف لا أكون ملتزما بهذه الصداقة ووفيا لهذا الصديق ؟!

كنا نحسد ادوار في قدرته على جذب طالبات مدرستنا لحلقته في ساحة المدرسة ، وثم بتنا نحسده لاتساع مغامراته النسائية .. حين كنا بالكاد نحظى بمغامرة غرامية ، ترضي غرورنا الذكور، او نحظى بابتسامة ، أو استلطاف جديد.

بالطبع ليست هذه هي الحكاية التي جعلتني في فجر يوم ربيعي أشحذ فكري وذاكرتي ، وأمسك القلم لأخط على الورق تفاصيل لم أعد قادرا على تخزينها وحفظها سرا، حين بدأت أقتنع ان فكرة قصة حقيقية ،مشوقة ونادرة قد أكتملت.

لعقد كامل وانا متردد في صياغة هذه القصة ، عذبني التفكير بها ، وأكثر ما أقلقني هو التفكير برد فعل صديقي عندما يقرأ قصته مكتوبة بقلم أقرب أصدقائه ، وأكثرهم ائتمانا على اسراره .

لم أكن محتاجا ليكشف لي أحد ان ما أعرفه من خبايا وتفاصيل عن حياة الناس من حولي، في لحظة التوهج عندي مادتي التي أشكل منها أفكاري القصصية ، ان القريبون مني قد يعرفون شخصيات قصصي ، أو يكتشفون فيها وبدون تردد أنفسهم ... وهو ما كان يقلقني في فترة ما  ثم استسلمت لهذه العادة السيئة في حكم بعض الأخلاقيين ...

مضى عقدا كاملا .. ولكن تفاصيل هذه القصة ونهايتها ما زالت تستفز تفكيري وتشغلني حتى اليوم ، ولا أستغرب ان أعود اليها لكتابتها من زاوية أخرى تراودني أحيانا ، ولكني لا أرى انها أكتملت لتشكل حافزا كافيا لمثل هذا الانجاز .

كنت قد تزوجت قبل ادوار بعقد كامل تقريبا .. وصرت أبا تشغلني هموم الدنيا حين واصل ادوار جمع الفراشات والزهور من حوله .. قبل ان يقرر ادوار الزواج بشكل فجائي ادهش الجميع ، حتى الجن .. لو وجد مثل هذا الشيء .

اليوم نحن آباء لأطفال .. لا أعرف هل حياة المجون أكثر متعة ، ام حياة العمل المضني وتربية الأطفال هي الحياة التي يحلم بها الانسان ؟!

العاشق صار اليوم رجل بيت ملتزم لدرجة من الصعب مقارنتها مع تاريخه العشقي الحافل . وكثيرا ما حاولت ان أبحث في أعماق ما يبدو انه التزام كامل لبيته وزوجته . كان يردني بود ووداعة لا أعرفهما بشخصيته. ويؤكد ان تاريخ حياته الحقيقي بدأ منذ تزوج .. ما مضى انتهى . كنت أرد عليه مستهجنا :

- هل انت ادوار الذي اعرفه ؟ .. صديقي من أيام الدراسة ؟  ابتسم بصمت واشعرني اني لم أكن أعرفه في السابق على حقيقته!!

القصة الحقيقة لإدوار الجديد بدأت حين وصل منتصف عقده الرابع .. عازبا عاشقا متجولا بين عشيقاته .

في يوم شتوي بارد اتصل بي وطلب ان يزورني في بيتي .عادة كانت لقاءاتنا في بيته او في البارات.شعرت باثارة تعتريني وأحسست اني أمام حدث جديد يبشر بنص جديد .

جاء مهموما على غير عادته ، فأحيا رغبتي الحادة في كشف ما يخفيه.

جلسنا امام مدفأة الحطب . عرضت عليه كأس كونياك ، وافق مترددا . صببت كأسي "اوتارد" الفرنسي الرائع ، وتسلينا ببضع حبات كستناء مشوية. وما هي الا جرعتين حتى انتقل الدفء الى لسانه . قال :

- حان الوقت لأجري تغييرا في حياتي .

لم أعقب .. ولم أفهم مراده . ولكنه واصل الحديث:

- لا يمكن الارتواء من حواء . رغم علاقاتي ما زلت ظامئا كما ابتدأت.

ملأ كأسه من جديد ، رغم تردده في تناول المشروب في البداية ، عرفت انها اشارة لكشف ما تشتهي نفسي لمعرفته .. وأن ليلتي طويلة مع ادوار .

- كل أصدقائي تزوجوا .. أنظر اليك مثلا ، لك زوجة وثلاثة أطفال .. صرت تفضل السهر معهم اولا..وتفضل بيتك عن قضاء أمسية معي .. لا اعاتبك ولست غاضبا .. أنا أحسدك . عندما تحضر أختي لزيارتي مع طفلها ، أشعر بسعادة غير عادية وانا اداعب الطفل وعندما أنجح بخطف ابتسامة منه ، لا تسعني الدنيا من الفرح .. أنسى حتى مواعيدي .. واحب البقاء معه!!

وتررد في ذكر نوع مواعيده .. ولكن المكتوب يقرأ من عنوانه .

ملأت كأسي . رشفنا ، قشرنا الكستناء المشوية . ولم أجد ما أقوله امام تحولات ادوار الفجائية والتي نجحت في مباغتتي وفرضت الصمت على لساني . قال :

- اليوم لي ثلاث عشيقات .. جميلات ، متعلمات ، مخلصات ... أشعر برغبتهن المجنونة للزواج ، ولكني لم أخدعهن . انا لست مخادعا . لم ولن أكذب .. مع اللواتي مررن في حياتي .

ووجدت ما أقوله :

- العلاقة نفسها توحي .. أحيانا لا ضرورة للكلام المباشر.

- هذا صحيح .. لكنهن يعرفن اني لست راغبا بالزواج . ليس أكثر من علاقة غير ملزمة.

- ما الذي تغير فيك إذن ؟

- لا أملك جوابا عقلانيا .. مجرد مشاعر وأحاسيس تجتاحني في الأيام الأخيرة ، أعرف انها أكثر من نزوة عابرة.. وأكثر من مجرد حلم يراودني .

ملأت الكأسين مرة أخرى . يبدو ان دفء الخمر انتصر للحمل على الذئب. لا أعرفه بهذا الهدوء وتلك السكينة وهذه الدماثة ، التي لا تنطبق على معرفتي الكاملة والموثوقة به .قال :

- اريد لي ابنا .. اريد زوجة .. وسألتزم .. انت لا تصدقني ... لا تقل شيئا .. انا أحيانا لا أصدق نفسي..

ولكني صاحب قرار ، وانت تعرف قدرتي على تنفيذ ما ألتزم به ...

- الا مع النساء ...

- أيضا مع النساء .. لكن هذا ليس الموضوع!

قالها بهدوء لا يمكن التشكيك به . قلت مازحا:

- لو خلقك الله إمرأة ، هل كنت تتصرف بنفس الوله الجنسي ؟

- ربما .. وهل النساء أقل شأنا ؟

- لنعد الى قصة زواجك ) قطعت عليه الطريق ( هل إخترت الفتاة المناسبة؟

- لي ثلاث عشيقات .. يجب ان أختار احداهن .. وهذا ما يحيرني.

- ما هو المطلوب مني ؟

- المشورة يا صاحبي .. أو أستعملك بديلا لكرسي الاعتراف الكنسي ، لأني لا أقبل الاعتراف لكاهن .

- لا أعرف عشيقاتك لأنصحك باحداهن .

- لكل جمالها الخاص .. لكل نكهتها .. ذكائها .. وجاذبيتها المميزة.

- اذن تزوج الثلاث ...

قلتها بدون تفكير ، بشيء من الاستفزاز . وانا حائر في ما يطرحة من احجية غريبة ، كظم غضبه بأن رشف الكونياك من الكأس دفعة واحدة . صب بصمت كأسا جديدة ، تنهد وقال متجاهلا استفزازي :

- لم أكن جادا كما انا اليوم .. اريد ان أختار واحدة من بين الثلاث ..

قالها بجدية وهو يداعب كأس الكونياك ليعطيها من حرارة جسمه دفئا.

- وكيف لي ان اساعدك ؟

- تساعدني في اختيار أنسبهن .

قلت في محاولة للخروج من هذا المأزق الثلاثي :

- ربما واحدة جديدة .. ليست احدى عشيقاتك ؟

- لا أحبذ هذه الفكرة .. لن أجد أفضل منهن ..

- ادوار... أكاد أجهلك .. انت تغير كل معادلاتك الراسخة في رأسي .

- اياك ان تصنع مني بطلا لخربشاتك ، انا أعرف مرضك .. ؟

- ربما ما يعتريك هي نزوة مؤقتة ..؟

- ليست نزوة .. قرار لا رجعة في

- مثل قرارات القمم العربية ؟

- القمم التي لا تشرب من هذا الكونياك ، ) وأشار الى زجاجة " الأوتارد " ( قراراتها تحتاج الى شبكة تصريف ..

ورشف بتلذذ رشفتين...

- يبدو لي اني لم أعد أعرفك .

- اريد حياة أخرى .. مستقرة ، هادئة .. وطفلا يملأ فراغ بيتي وحياتي .

- هذا شعر يا إدوار... وحالك بعيد عن الشعر .

- أخالفك .. العشق هو شعر حقيقي أيضا ، وما أحلم به من حياة أخرى هو شعر من بحر جديد .. بدون شعر نذوى .. ننتهي ... حتى السياسة شعر  لو استقام السياسيون.

- وأين أقع انا في هذا البحر الشعري الهائج؟

- انت صديقي ... وأكاد أقول انك الصديق الوحيد الثابت وغير المتحول .. رغم فظاظتي .. انت صاحب خبرة بحالي .. وصدقني اني أحسدك عما انت فيه اليوم .

- كنت أظن اني انا الذي يجب أن أحسدك ؟

- هذا سؤال فلسفي .. يتعلق بموقفنا من النساء أو الشوفينية الذكورية.

- اتركنا من الفلسفة .. انت تذكرني بقصة عن مثيلي جنس مرت قربهما شقراء رائعة الجمال ، ترتدي تنورة قصيرة وشفافة ، أحدهما تأملها بحسرة وقال : أتمنى لو لم أكن مثلي الجنس . الثاني تأملها مشدوها بجمالها ، وفكر بعمق وقال :في هذه الحالة ، أتمنى لو كنت إمرأة مثلية الجنس .

ضحكنا بحرية لأول مرة منذ بدأت ليلتنا . وقلت لزوجتي ان لا تسرع بإحضار القهوة لأننا سنواصل الشرب ، فقبلت على مضض .

علا صوت لكاء طفلي الصغير فوجدتها مناسبة لأحول الحديث :

- الأطفال ليسوا لعبة مسلية فقط .. انها مسؤولية وارهاق وعمل إضافي ..

- بالطبع .. بالطبع ..

قاطعني باستخفاف كاد يثير غضبي  وعاد لمعضلته :

- كيف اختار زوجة من بين عشيقاتي الثلاث ؟

- يبدو سؤالك فلسفيا أكثر من كونه سؤالا عمليا ..

قلتها محاولا استفزازه ردا على مقاطعته الاستفزازية. تجاهلني :

- عقلي يعذبني .. لكل منهن ميزة خاصة ومكانة خاصة في قلبي.

- انا أحسدك ..

قلتها هامسا كي لا تسمعني زوجتي .

- لا تخطئ .. حالتي صعبة وخياراتي أصعب .

- تريدني أن أخرج لك الكستناء من النار؟ فهم الرمز .

- شيء من هذا القبيل .. الست صديقي الوحيد ؟

رفع الكأس الى شفتيه مستنشقا رائحة "الأوتارد" .. رشفنا. أخرج من جيبه صور لثلاث فتيات ، وقال :

- المرشحات للزواج .

نظرت للصور .. هالني جمالهن .

- يا ابن ال ...

دفنت الكلمات في فمي .

- لو كنت مكاني من ستختار ؟

- أبقى عازبا مع الثلاث ..

لم يعجبه جوابي .

- أسأل بمنتهى الجدية.. والا ما جئت لمشورتك .

بعد تفكير رويت له حكاية :

- كانت لنا جارة تخرج كل صباح وتناشد ربها بأعلى صوتها : "يا الهي ، ابعد النمور عن بيتي" وفي يوم ما ، وعلى فنجان قهوة مع جاراتها ، قالت لها الجارات ان ما تطلبينه من ربك لا ضرورة له ، أطلبي شيئا آخر .. لأن أقرب نمر لبيتك يبعد الاف الكيلومترات ، فأجابت : رأيتم اذن فائدة ما أطلبه من ربي ؟!!

- أي أن طلبي لمساعدتك مثل طلب الجارة من ربها ؟

- ليس بالمفهوم السلبي ، اني أنظر لصورة المرشحات وأشعر ان النمور أقرب لجارتنا من التخلي عن واحدة ... )وأشرت الى الصور ( وما دمنا بسيرة النمور ) وفردت الصور ( أي نمرة منهن أولى بافتراسك ؟

- تعيدني الى البداية دائما ، كان يجب ان لا أقبل تناول المشاروب معك  .. انفكت عقدة لسانك ، وانطلق عفريتك يبحث عن فريسة لقصة جديدة .. اياك ثم اياك .. ان تصبح حكايتي في متناول قراء صحيفتك ؟!

- ليس ذنبي ..

- ذنبي انا الذي يطلب مشورة عبد للشيطان .

أفرغ الكاس بعصبية ، وملأها من جديدا بعصبية ظاهرة .. مازحته لأخفف عصبيته :

- شيطاني ليس أمريكيا وليس اسرائيليا .. عربيا أصيلا .

- انه أسفل الشياطين .

أفرغ كأسه مرة أخرى دفعة واحدة ، مغمضا عينيه متلذذا بالمذاق ، وقال ضاحكا :

- انتهت الجلسة الأولى دون نتائج .لا اريد قهوة لأعكر طعم الكونياك . الى اللقاء .. فكر بحالتي على  مهلك .

مضت ايام وانا حائر في ما سمعته . أتأمل الصور في أوقات فراغي ، واحتار بين أن احسده على ما هو فيه أو أحسد نفسي على ما انا لست فيه.

كاشفت زوجتي ، حتى لا تظن ان الصور لعشيقاتي . بعد تأمل قصير قالت انها تعرف من سيختار ادوار من بين الفتيات الثلاث ..

- كيف عرفِتِ ؟

- هذا السر لن أكشفه الآن . دعه يختار اولا . جوابي سأسجله وابقيه معك . ولكن اياك ان تفتح الورقة قبل ان يقرر ادوار من سيختار .. هل اتفقنا ؟ - اتفقنا ..

قلت مستسلما وحائرا لسرعة معرفتها للفتاة التي سيختارها ادوار . هل للمرأة مجسات لا توجد في  الذكور ؟

بعد اسبوع التقيت ادوار وانا متشوق لمعرفة أخباره. قال ضاحكا:

- وصلت الى قرار ..

- اخترت من يا ترى ؟

- أجريت اختبارا .. لا تقاطعني .. قلت لعشيقاتي الثلاث ، كل على حدة، أني اذا أعطيتها 011 الف شيكل

، ماذا ستفعل بها ؟ وتلقيت اليوم أجوبتهن : الأولى قالت انها ستجري عملية تجميل لأنفها لأنه يبدو أكبر قليلا مما يجب ان يكون ، حتى يصبح جمالها كاملا الى جانبي . الثانية قالت انها ستشتري ملابس لنا من منتجي الأزياء المعروفين عالميا لأننا نستحق ان نرتدي أجمل الأزياء أمام الناس في المناسبات المقبلة علينا . اما الثالثة فقالت انها ستضع المبلغ في برنامج للتوفير ، لضمان مستقبل ابنائنا.. أو احتياجتنا ؟  ولم أعد استطيع صبرا :

- وانت من اخترت ..؟

- اخترت واحدة وبشكل نهائي ..

- صاحبة أي جواب ..؟

سألته وانا أخرج مراهنة زوجتي من جيبي .

- لا دخل للأجوبة في اختياري ..

لم أفهم ما هذا اللف والدوران .. قلت لنفسي : " سهرة على كونياك ، واختبار .. وتفاصيل الأجوبة ، ثم يقول ببساطة ان الأجوبة ليست هي المقرر في الاختيار ، هل هي فلسفة جديدة ، أم نظرية ذكورية في النساء ؟ " وقلت :

- زوجتي راهنت على واحدة بعد ان صارحتها بقصتك .. لا أعرف على من راهنت .. سأفتح مراهنتها بعد ان تخبرني بالتي اخترتها .

- الصور مرتبة حسب الأحرف )أ( و )ب( و )ج( .. أخترت صاحبة الصورة   )أ( ماذا كان اختيار زوجتك ؟

فتحت الورقة وأحترت . قرأت : "سيختار صاحبة أكبر نهدين !!" لزمت الصمت مرغما!!

نظرت للصور مجددا .. وحبست ضحكتي ، اختياره حقا كان لصاحبة أجمل صدر بينهن .. أعطيته الورقة ليقرأها ، فأنفجر ضاحكا كما لم أعهده يضحك من قبل ...

هل كانت زوجتي اكثر ذكاء مني في فهم شخصية ادوار وتفكيره ؟ ام انها تفهم عقلية الذكور ، التي لم تتبدل ولم تتغير منذ الأزل للمرأة ؟



خمم الديوك أوطاني مَنَ الشامِ لبغدان

لم يكن الديك يثق بأحد من حوله، حتى بأكثر الدجاجات تمسحا بجناحيه وتوددا امام مجلسه وخضوعا لرغباته ونزواته . شكوكه عظيمة بأن مؤامرة تجري لاستبداله، وقد أقلقه التفكير بالمؤامرة ، خاصةعدم وضوح أبعاد هذه المؤامرة وجميع القوى الفاعلة فيها، لكنه أيقن انها الصهيونية الدولية والاستعمار ، وخاصة الاستعمار الأمريكي ، اتضحت بعض تفاصيل المؤامرة واتخذت التدابير المانعة، فسجن عشرة الاف مواطن بتهمة الإضرار بالروح المعنوية لسكان الخم،اختفى منهم في السنة الأولى خمسة الاف ، فعوض النقص بغيرهم.

كان أشد ما يخافه الديك من المؤامرة تحويله الى وجبة يلتهمها رواد المطاعم في نيويورك او لندن او تل ابيب. قد يكون التذلل والتودد من حوله خداعا مخططا من قوى تتحين الفرصة لاسقاطه وغزو مملكته التي تكاثر دجاجها في السنة الأخيرة بمعدلات فاقت التوقعات ، مما رفع قيمة خمه في البورصة الدجاجية .. ورغم ذلك .. السياسة مليئة بالمطبات الخطيرة والمفاجئات غير المتوقعة ، لا تحكمها الأخلاق، تغيب عنها القيم . السياسة أضحت تجارة بيع وشراء ، مطبات ومؤامرات ، يضحكون بوجهك لإلهاءك عما يطبخون ، ان ديكا بمثل مقامه ، مثقف، طبيب عيون، شاعر ، مفكر ، فيلسوف، قائد عسكري ، رجل دولة وراعي شؤون الخم وفحله في الليالي، تتكاثر حوله المؤامرات والأطماع والدسائس الداخلية والخارجية .. طمعا بانتاجه الدجاجي ، الذي يوازي اليوم الانتاج النفطي في أهميته الاستراتيجية، والرغبة في التهامه واكتساب صفاته الفكرية والفحلية عبر وجبة شهية تتعاظم قيمتها، وُتُشغل السياسة الدولية ...

كان أمنه الشخصي يقلقه أكثر من أمن مملكته . لأن نفوقه هو نهاية للتاريخ ونفوق لملك لا يظهر مثله في التاريخ الا كل قرن كامل ، أو كل عدة قرون . وكان الديك يحب ان يؤكد ، حتى لا يلتبس المعنى على قليلي العقل ، انه يقصد بالقرن مائة سنة وليس تلك الموزة الصلبة التي تنمو في أعلى رأس وحيد القرن.

من سيصدح صوته صباحا مجلجلا بشعر ثوري وممانعة للإستعمار تعادل قوة القصيدة فيه ما يتجاوز حتى قوة الصواريخ البلاستية عابرة القارات؟ من قادر مثله ان يُخضع أكثر الدجاجات استعلاءا وتمخترا بجمالهن لأوامره ورغباته ؟ من يروي شبق هذا الجيش الدجاجي قليل العقل والدين .. ؟

المسؤوليات جسام . هو خلق لتحمل هذه المسؤوليات الأرضية وايجاد الحلول لمسائل الأمن الحارقة في جمهوريتة الدجاجية ، الأفلاطونية بتنظيمها، حيث الحكماء والفلاسفة في رأس السلطة، وهذا الأهم . حقا ، هل تتصورون ما قيمة المملكة اذا نفق ديكها ، والى ما يمكن أن تؤول الية التطورات من اشكاليات تنظيمية وانتاجية ؟ .. وتأثير ذلك السلبي على استقرار الاقتصاد العالمي ؟ وهل ستصمد البورصات امام أزمة غير متوقعة مثل نفوق الديك ووقف التكاثر الدجاجي في المملكة الخمية ؟!

مضطرا ، قام الديك بخطوات أمنية حاسمة مستوعبا درس ما جرى مع ديوك الجيران الأشقاء . عين بعض الدجاجات ليعملن عيون في مملكتة ، أسوة بممالك الأشقاء السابقين له في الخبرة ، أطلق على هذه المجموعة أسم " ثقافة الأمر بالحسنى ". هذا الأمر نفذ حسب ارشادات ديك ام حسين الايراني الأصل ، لكنه امنيا يبقى ناقصا ويحتمل نسبة تجاوزات خطيرة من العملاء. الحل تعيين عيون من دجاجات أخرى يعملن كعيون على العيون من المجموعة الأولى ، سميت المجموعة الثانية "هيئة النهوض بشؤون الشعر الفصيح " ليعطي انطباعا ان خمه يعنى بشؤون الثقافة والتربية والتعليم، كيف لا ورجل الدولة الأبرز في الخم ، هو الديك الفصيح؟

رغم ان نسبة الأمية في الخم تكاد تكون مطلقة، لكن المعطيات التي توزع على الاعلام تصاغ في ادارة الخم حسب رغبات الديك ، وهذا لا يعتبر تزويرا انما تيمنا بما سيكون عليه المستقبل .

يبدو ان هذا الهرم الأمني يبقى ناقصا في فاعليته وقدراته التجسسية، كما أشار الأشقاء في آخر مؤتمر قمة جمعهم في خم أبي العلاء . حيث أكد الأشقاء على ضرورة اقامة مكتب أمني سري لا يعلم به الا الديك نفسه ويسمى ب " أرشيف الديك الثقافي " ، تكون مهمته مراقبة المقربين والمتحذلقين حوله ومكتب آخر صلته غير مؤكدة بأعمال الأمن ، يسمى "مكتب الاستثمارات التنموية" يتخذ شكلا دوليا للمشاريع العمرانية مما يسهل تجنيد الدعم الخارجي ، ولكنه عمليا ينفذ سياسة أمنية مشددة جدا، ويمول سائر أجهزة الأمن.

ليذهب العمران الى الجحيم بعد أمن الديك وسلامته ، يقول بعض العالمين بلغة الديوك وتصرفاتها انه أقيمت مع الوقت فئة عيون أخرى لم ينشر اسم رسمي لها مما جعل الهيئات المشتغلة بالأمن الشخصي للديك والتجسس على سكان الخم تزداد الى أربعة تنظيمات أو خمسة ، والعلم بالعدد الحقيقي ،عند الله جل جلاله، لكن تسربت معلومات ذكرتها "الجزيرة" دون أن تفضح مصادرها ، ان الديك أنشأ هيئة أخرى هي "المكتبة القومية" حيت يحتفظ بملف عن كل طير دجاج داخل خمه ، منذ خرج من قشرة البيضة وحتى لحظته الأخيرة داخل الخم .

باتت مملكة الديك مكتظة بالعيون المختلفة ، ثلاثة منها)وربما أربع ؟( معروفة بأسمائها، وواحدة سرية ) وربما اثنتان؟( قائمة بالتأكيد ،آخرى سرية معروف وجودها ومجهول اختصاصها ، غير ملموس نشاطها في مجال العمران اطلاقا رغم اسمها ، ورغم تدفق الأموال النفطية اليها. بذلك وصل عدد العيون على العيون على العيون الى نصف سكان الخم والبعض يقول ربما أكثر ولكن الحقيقة سر من اسرار الدولة العسكرية الخطيرة، يمكن كشف بناء مصنع نووي، ممنوع كشف التنظيمات الأمنية والتجسسية وعدد العاملين بكل مؤسسة حتى يبقى المواطن مليئا بمشاعر الحب للديك القائد.

تقول تقديرات استعمارية معادية انه اذا أنزلنا من حسابنا الفراخ الصغيرة التي لتوها قد خرجت من قشرة البيضة ، يكون قد عين عينا لكل دجاجتين أو ثلاث وعليهن عين أخرى تراقبهن وتراقب كل همسة او حركة غير واردة في الحركات المسموح بها للدجاجات ، بما في ذلك تسجيل عدد المرات التي تحرك فيها الدجاجة أجنحتها ، عدد المرات التي تقترب من وعاء الماء ، عدد المرات التي تعملها فوق الارض بلا حياء، بالحساب الأخير يمكن ان نفترض بدون خطأ كبير انه يوجد عين لكل دجاجة ونصف الدجاجة تقريبا ، حسب معلومات تؤكدها أيضا معاهد الدراسات العسكرية.

الهدف طبعا ، أن يبقى أمن الديك مضمونا ، حتى ينام نومته السلطانية بعد تأدية واجباته العائلية والأمنية وقضاء شهوته اليومية من دجاجاته.

المستهجن ان هذه المملكة تسمى خما في لغة الضاد. يا لها من لغة قاصرة ، وأول المتضررين منها هم شعراء الخم وقادته وعلى رأسهم الديك .. لأن كلمة خم تفتقد للوزن الشعري وتعني الرائحة النتنة، فهل يستقيم الشعر مع هذا الوضع ؟!

بالطبع ، ان لدور العيون المميز في المملكة الخمية تبريره المنطقي. اذ ان الخطر الداهم على مكانة الديك ورفعته وعدم المساس به ، هي من ضرورات بقاء الديك الزعيم الأوحد في مملكته. صاحب الصوت الأقوى في الخم . صاحب الفراع الأحمر الوحيد النابت مثل التاج الملكي عل قمة رأسه، الناصع الريش بألوانه التي تسحر أجمل طير خلقة الله ..

من وظائف العيون في مملكة الديك الابلاغ عن كل فقس جديد وعدد الديوك المتوقع في الفقس الجديد ، تنمية خبرة العيون في التمييز بين البيضة التي سيخرج منها ديك والبيضة التي ستسفر عن دجاجة.

والانتباه الى ضرورة سحب البيضات الديكية من تحت الدجاجات ليلتهمها أو يبيعها صاحب الخم ، حتى لا يبلغن مرحلة التفقيس وتبتلي المملكة بمنافسين من فصيلة الديكة ، فتعم الفوضى نظام الخم وقد ينهار النظام أو ويسوء وينهار أمن الدجاجات وفراخهن.

غني عن القول انه لولا هذا التنظيم العبقري لسادت الفوضى ولشكلت كل دجاجتين حزبا مستقلا ولقامت المظاهرات التي تطالب بحصص أكبر من معاشرة الديك ، الأمر الذي سيربك النظام ويستنزف قدرات الديك ولعمت الفوضى الاجتماعية داخل الخم ، ربما تقام النقابات الهدامة ، تتعطل مشاريع الانتاج البيضي والفراخي ، وقد يصدر كل فرخ دجاجي مجلة ثقافية لينشر فيها شعرا مقاوما لسلطة الديك، قد يكون أحد الديكة الناشئين جني فيقوم العراك ويسيل الدم ، وتصبح حال ديكنا مثل حال الدجاجات، مجرد وجبة دسمة على مائدة في أحد المطاعم.. ويصبح المرحوم ، أو السابق ، بعد ان يحل محله فحل جديد !!

الحقيقة انه وقعت أخطاء عدة في الاستدلال على البيضات الديكية، أخرجت بيضات بريئة وظلت بيضات تـآمرية، مع كل ذلك بقي الديك صاحيا ، متيقظا لعملاء الاستعمار والصهيونية ، الذين جندوا عملائهم من فقس بعض الفراخ وحرضوهم على المنكر وطريق الشر ، وأصبحت حياة الخم قتالا وصراعا ونتف ريش ودما ،الديك رئيس الخم كان بالمرصاد لمنع ما حدث مع الديك الشقيق الذي نفق في القتال، كان الديك على قناعة انه لا يمكن ان يكون في الخم ديك زعيم سابق. بل ديك زعيم أوحد، الزعيم السابق مرحوم او نافق.حسنا ، سيجيء اليوم الذي يختار الديك وريثه في التتويج على الخم من أحدى أجمل الدجاجات، لكن الآن كل شيء سابق لأوانه.. فها هو بقوة الفحل ، يحرت بلا كلل وبمتعة ولا يقصر بواجباته .. متنبه بواسطة العيون على كل ما يجري تحت الفراخ من فقس جديد، يعرف كل التحركات ،حتى يعرف الوقت الدقيق بالثواني ،الذي تقضي فيه كل دجاجة حاجتها فوق أرض الخم .. ويسحل كل من يثير شكوكه وكل طامع بمركز الديك.غير ان الرياح لا تجري كما تشتهي السفن.

أطل صاحب الخم فجر أحد الأيام ، ليعلف دجاجاته ، أدخل للخم ديكا جديدا جمال ريشه يأخذ العيون ، فتوته بارزة مما جعل الدجاجات يتضاحكن ويهرولن لملامسته واثارته دون حياء ودون أخلاق كأن الزعيم الأوحد لم يرو شبقهن ليلة أمس .

وقف الديك الفتي يتأمل الديك الملك ببعض النظرات التي تثير الغضب، دون أن يكلف خاطره لتقديم صكوك الطاعة. كان من المتوقع ان يفهم هذا الغبي انه لم يدخل للخم لينصب ملكا او وريثا وأن القرار بالتنصيب يعود لمجلس الدجاج البرلماني المشكل بأكثريته المطلقة من الدجاجات العيون على اختلاف هيئاتهم الثقافية ) الجاسوسية( ،والدجاجات أصحاب الحظوة في أمسيات الديك اللاهبة.

قرر الديك ان يكلف دجاجة بملاحقة هذا الوافد الجديد ، الذي دخل ليستملك الأرض والبيت والعرض ..

بينما صاحب الشأن حي يرزق .

ولكنه لا حظ ان المعلومات التي تصله من الدجاجة العين لا تشمل الكثير من التفاصيل ، هل تظن ابنة الزنا انه غافل عما يدور في خمه..؟ هل تظن انها الوحيدة التي تراقب الوافد الجديد ؟ الا تعرف ان كل الحركات تصله من عدة مصادر على الأقل ، حيث تقارن المعلومات وتصنف في الأرشيف الثقافي ؟ في ليلة قمراء ، قرر ان يفرض حظر التجول،ليقبض على الوافد والخائنة بالجرم المشهود . أعلن الأحكام العرفية التي أقرت بلا مشاكل في مجلس الدجاج البرلماني . أبلغ الديك الدجاجات بان يلزمن مواقعهن لأنه يعتقد ان مؤامرة كبرى تحاك ضد أمن الدجاجات ورفاهيتهن وحبهن المطلق لزعيمهن الأوحد ديك الديوك.

خمدت الدجاجات فوق بيضاتهن بوجل بانتظار ما قد تسفر عنه حالة الطوارئ. مضت الساعات متوترة ثقيلة. وفجأة سمع صوتا يتأوه..وصوت يأمر بأن " أصمتي .. لا تفضحينا "!!

أطل على الزاوية التي تسرب منها الصوت ويا لهول ما كشف . كانت الدجاجة العين التي كلفت بمراقبة الديك الجديد تتأوه تحته بلا حياء وهو يطالبها بتكرار بالصمت .

صاح الديك غاضبا: انها خيانة!!

جفل الديك الفتي وقال بحياء : انا أمارس حقوقي.

- لا حقوق في خمنا الا باذن مني

- لكنك مثلنا كلنا .. انت عابر أيضا .

- ما هذه الوقاحة .. انا الملك أيها الحقير !

صاح بقوة وغضب متفجر ، متحفزا للإنقضاض بمنقاره على رأس هذا المعتوه المغرور.

تريث اذ فكر بأن غضب صاحب الخم أشد بأسا من نظامه الديكي ، اذ انه يملك وسائل قمع وقتل رهيبة لا يمكن تجاهلها في اقرار النهج الديكي . قال:

- في خمنا لا يوجد ملكان .. بل ملك واحد .. وكل ملك آخر هو مرحوم أو لم يخلق بعد.

- يا سيدي أحضروني الى هنا لأقوم بواجبي القومي.. الاكثار من الدجاج والبيض.

- اخرس انت عميل استعماري وستجري محاكمتك . يا عيون القوا القبض عليه  بعد تفكير قال :

- وعليها ايضا التي باعت كرامتها وتنازلت عن ثقتنا بها مقابل شهوتها.

انتفض الديك الفتي وانقض بمنقاره على رأس دجاجة من العيون حاولت تقييد جناحيه ، فتزعفلت ألما بالتراب وما هي الا لحظات حتى نفقت. ما هي الا لحظة أخرى او بعضها واذا الديك الملك ينقض على الديك الدخيل بمنقاره وينتف ريش رقبته وبعضا من جلد رقبته ليزعق الغبي بألم ويتأوه من نزيف دمه ، ليفهم مرة والى الأبد ، من هو الملك هنا . قال الديك بلهجة التهديد :

- بقصد لم الحقك بالدجاجة الميتة .. اعتبر هذا انذارا !!

في فجر اليوم التالي تفاجأ صاحب الخم بالدجاجة الميتة . شاهد ضربة المنقار في أعلى راسها.

قذف الدجاجة لكلب الحراسة الذي سارع يقطعها بأنيابه الحادة ويلتهمها . تأمل الديكين بغضب، شاهد آثار المعركة بينهما ، لكنه أيقن ان العقاب لن يكون لصالح ازدياد انتاجية الخم وان التضحية بدجاجة ربما كانت ضرورية لتنظيم العمل الديكي داخل الخم ، المهم ما ستكون عليه النتائج خلال الشهر كله. ان ديكين أفضل للخم من ديك واحد ، سيفهم الغبيان هذا الأمر او ينفق أحدهما، هذا يقاس لمن لا يعلم بعدد البيضات ، طبعا الديك معفي من البيض .. لكن تقول الأساطير ان بعض الديكة لها بيضة واحدة نادرة تسمى " بيضة الديك "، يرزق ربنا من يجدها بأحلى أمانيه!!

ترى هل ديكنا من أصحاب البيضة النادرة ؟ او ربما لسد العجز المتوقع قد يصير ديكنا بياضا !!
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف