الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

إشكالية الوعي بقلم: عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2020-04-21
إشكالية الوعي بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
إشكالية الوعي

(عادل بن مليح الأنصاري)


هل العبقرية في قوة التفكير وتدفقه , أم أنها في القدرة على وقف التفكير , هل يؤدي وقف التفكير إلى خلق فرصة لانبعاث الوعي ؟
لقد تعودنا على أن ننظر للعقل كشيء غير مادي , أو ربما وعاء للأحاسيس , ولكننا نتناسى أن تلك الأحاسيس الناتجة عن توجيهات العقل هي التي تفرز كل تلك الحالات المادية أو الإرادية التي نقوم بها , فالغضب والفرح والسرور والنشوة , واحتضان الأخرين لبعض تلك المشاعر كلها حركات إرادية وردات فعل للأحاسيس التي أفرزها أو وجهها العقل ألا مادي في نظرنا , لو كان العقل غير مادي فماذا يكون ؟
هل يمكن لنا أن نقول أن العقل الذي نعرفه كنمط للتفكير أحيانا , وأداة له أحيانا أخرى , وموجها للجسد بحركاته الإرادية هو مادي بصورة ما ؟
إذا كان العقل يتفاعل مع الصور والنتائج وردات الفعل ويوجه تصرفاتنا اليومية واللحظية بطريقة التحليل والتوجيه ثم توجيه الأوامر عبر التلافيف المخية وعصبوناتها ثم الأعصاب وغيرها من تعقيدات الجسد , فهو هنا ماكينة جبارة مادية ولكنها تستخدم أذرع كثيرة لبث كل تلك التعقيدات من تحليل وتوجيه لكل خلايا الجسم بذلك النمط العبقري .
توصلت الأبحاث أن الانفعالات التي ينتجها العقل تتسبب في تغيرات في الكيمياء الحيوية للجسد , وهي تجسد الصورة المادية للإحساس , وفي اعتقادي أن الوعي هنا سيكون غائبا عن تلك الصور المادية للإحساس قبل وقوعها , وربما قلة من الناس التي استطاعت أن تخضع لتدريبات نفسية خاصة يتمكنون من استخدام الوعي قبل أو اثناء خروج تلك الأحاسيس للعالم المادي , فالغضب الشديد , والحزن الشديد , وحتى الفرح الشديد , إذا تجاوز الحد ربما يؤدي لأذية الجسد , فلو تمكن الوعي من تداركها لكبح جماحها , من هنا ربما يترصد الوعي العادي لكثير من الناس لردات الفعل لجموح الأحاسيس المختلفة بعد ولادة الانفعالات المختلفة وما تنتج عنه , من هنا افترضنا أن بعض الناس لديهم قدر من الوعي السامي الذي خضع لتهذيب وممارسة وتدريب يجعل وعيهم قادر على التحكم في نتائج الأحاسيس فور ولادتها .

والوعي من المسائل الشائكة التي كان ومازال العلماء والفلاسفة يتناولونه بكثير من الطرح , ولكن لو اقتصرنا على صورة الوعي البسيطة التي تمنح الإنسان القدرة على التنبه والإدراك لما يحيط به , وهنا لا يجب أن نربط بينه وبين العقل , ويمكن ببساطة أن نقول أن المجنون أو الحيوانات تملك شيئا من الوعي بما يحيط بها أو حتى الوعي بدرجة من درجات التفكير , ومن الطبيعي أن نتخيل شخصا فقد الوعي بأي طريقة ممكنة , كحادث أو مخدر أو نوم , أو غير ذلك من الصور , ونحن نقصد هنا الوعي بأبسط صوره الممكنة , وليس الوعي الذي يتجاوز العقل ويسمو فوقه .

هل العلاقة حتمية بين العقل والمخ ؟
من المؤكد (لا) , فالمجنون الذي لا يعقل والطفل الصغير وحتى الحيوانات المختلفة وعلى قدر ذكائها وتمييزها لما يحيط بها , كلهم يشتركون في شكل المخ المادي بكل تعقيداته , ربما يتوقف عمل المخ على العقل , ولكن المخ لا يتوقف على وجود العقل !
سؤال مهم : هل العقل يقبع في اقبية المخ بأجزائه الأربعة , بكل مادياته من عصبونات وتلافيف وخلايا ؟
هل هناك نوع من العقل أو جزء منه يتخذ من القلب مقرا له ؟
يقول تعالى : ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) .
وكان قدماء المصريين عند تحنيط موتاهم يحفظون القلب وأعضاء أخرى بعناية كبيرة فكانوا يعتبرون القلب هو مركز العواطف والعقل .

الروح والوعي والعقل والجسد ، بينهم علاقات متفاوتة ، فعلاقة الروح والجسد ربما تكون واضحة نسبيا ، وعلاقة الجسد والعقل أيضا ربما واضحة نسبيا ، وعلاقة الوعي بالجسد ربما أيضا ، ولكن علاقة الروح والوعي من جهة والوعي والعقل من جهة تحتاج لتأمل ممزوج بالكثير من الخيال .
فالروح والجسد تتضح العلاقة بينهم بصورة واضحة , فبدون الروح لا وجود للجسد , وكذلك علاقة الجسد بالعقل , فالجسد بدون العقل كيان ضائع ربما يسير للتهلكة والفساد بدون العقل , وفي اقل الحالات قد يفقد الجسد قيمته النادرة والمميزة بين المخلوقات بدون العقل .
وهناك سؤال شائك : لو كان الإحساس هو ثوب العقل وصورته التي يتشكل بها الجسد , كيف نفسر التعارض أحيانا بين العقل والإحساس ؟
فمثلا لو حدثك عقلك أن تقوم بفعل ما وحلل النتائج والتوقعات , ورسم الطريقة والهدف , ثم تدخل الإحساس بأن هذا خطأ لا يمكنك الاستمرار فيه ؟
بعض المفكرين يتوقع كذب التفكير العقلاني , بينما الإحساس هو الصادق , وهنا نتذكر كيف قاوم فلاسفة اليونان السفسطة والـ(العندية) بسبب اعتمادها على الأحاسيس , فهل قوة الأحاسيس صادقة أو قوة التفكير العقلاني ؟
ولكن ماذا لو نظرنا لأنفسنا البسيطة وفي حياتنا العادية , ربما تعودنا على عدم التفكير العميق والغوص في ذواتنا للبحث عن حلول لمشاكلنا , وغالبا نلجأ لأبسط حل أو أبسط نصيحة من صديق لنضع حلا لمشكلة ما ونلقي عبء التفكير فيها ونستمد القوة والثقة بالآخرين , أو نلجأ لأحاسيسنا بكل بساطة لأنها تمنحنا الراحة الداخلية لتلك الحلول , فهي تنبع من دواخلنا التي هي جزء منا , ولكن يحدث أن تخطيء تلك الأحاسيس كثيرا وتتعقد مشاكلنا التي تدخلت أحاسيسنا في حلها , هنا يتدخل الوعي الكامل أو (السامي) للكشف عما وراء تلك الأحاسيس .
سؤال : هل يـتأثر الوعي بأمراض العقل ؟
العقل أحيانا يصاب بأمراض تفقده نشاطه , فالزهايمر و ( الشيزوفرينيا ) , والاكتئاب الشديد , قد تأتي على أجزاء من العقل أو تغيبه كليا , وربما تؤدي نوبات الصرع على العقل والوعي بأكمله , وبعض العلماء يقول أن الوعي هو السمة الفاصلة بيننا وبين الحيوانات , فلو فرضنا جدلا أو حقيقة أن بعض الحيوانات تملك عقلا بطريقة ما كما نلاحظ على بعضها من تصرفات تدل عل تفكير واستنتاج وعقل يجعلها تتصرف بطريقة تصب في مصلحتها , كالقردة والدلافين والغربان وغيرها , وهنا يذكر البعض أن الذئب إذا وقعت رجله في شرك فهو يقضمها ليحرر نفسه , أي أنه فكر ووازن بين هلاكه وفقده لساقه فاختار الأهون , هنا يميزنا الوعي عن غيرنا من المخلوقات التي تملك عقلا ولو في حدود معينة .
ورد في كتاب (منشأ الوعي مع انهيار العقل الثنائي) لـعالم النفس الأمريكي " جوليان جاينس" , أن الوعي في نظره هو (بنية اجتماعية ولغوية خالصة , وأنه شيء حديث نسبيا , وأن العقل يكون واعيا فقط حينما يصي مدركا أنه واعٍ ) , وينبغي الإشارة إلى أن أغلب علماء الأعصاب يضعون صورتين للوعي , تتجذران في بنية المخ , وهي "الوعي الممتد" الذي يمثل سمو العقل البشري , و الذي تأثر بعوامل اللغة والمجتمع , و "الوعي الأولي" الذي يمثل العواطف المختلفة والذي ربما يشبه لحد ما وعي الحيوانات , وجدير بالذكر أن تجارب بعض العلماء على تأثير أنواع من العقاقير على مناطق معينة من المخ توصلوا أن المخ لا يتحكم بشكل كامل بالوعي .
ومن الآراء الغريبة التي تتعلق بهذا الموضوع هو رأي الأب المؤسس لعلم النفس الحديث الأمريكي (وليام جمس) , وهي أن المشاعر وما يتبعها من الوعي ذاته , لها خصائص مادية , وأن هذه الخصائص (باختصار) غير معروفة , وقد لفت نظري بشدة قوله " أنها نوع من الغبار الذهني" الذي يتخلل الكون , ثم قال ( إن الوعي هو في كل مكان , وجزء من كل شيء ) !!!
وسأعود لسبب دهشتي الخاصة برأيه هذا بعد أن أطرح رأي (تشالمرز) , الذي أيد وجهة نظر وليام , وقال أن المعضلة لا تحل إلا لو افترضنا وجود خصائص جديدة للمادة تثبت أن المشاعر مادية .
واختصارا لمفهوم ( قنبلة القبو) , لعالم الكيمياء الفيزيائية الاسكتلندي (جراهام كيرنز) , "أن المشاعر إذا لم يكن لها خصائص مادية فلابد للمادة نفسها بعض ملامح شخصية تتصف بالوعي " , ويرى بعض الباحثين أننا نجهل كيف تحول المادة (وربما يقصد الخلايا العصبية والمخ والذبذبات وغيرها) , إلى مشاعر مختلفة , فإذا كانت الإلكترونات لها خصائص الموجات والجسيمات في نفس الوقت , فلماذا لا تكون الروح والمادة وجهين لنفس الشيء ؟
كيرنز سميث , كتب أشياء مدهشة جدا عن الوعي (من وجهة نظري ) , وباختصار شديد هو ينظر للمشاعر باعتبارها الذبذبات المترابطة للبروتينات , كحزمة من أشعة الليزر , وهذه الذبذبات التي تسمى (الفوتونات) , تندمج لتصبح حالة "كمية كبيرة" , تهيمن على مسارات المخ , ورغم الجدل حول تقبلها إلا أن المهم هنا هو (إمكانية) أن تكون المشاعر والوعي ماديان .
من الغريب حقا أن علماء التشريح يقولون أن المخ أثناء الجراحة لا يحتاج لتخدير عام , فهو غير حساس للألم , والسؤال أين العقل لو كان في المخ ؟ وكيف عجز عن اكتشاف الألم؟
فكذلك لاحظ الأطباء أن بعض الأطفال يبقون على قيد الحياة ويمتلكون وعيا بالرغم من مولدهم بدون القشرة المخية .

أعود لسبب دهشتي الشديدة من فكرة أن الوعي ربما يكون ماديا , ولا أخفي أن تحليلي يشوبه الكثير من الخيال , ولكن لا ننسى أن أبا العباقرة آيناشتاين قال ( الخيال أهم من المعرفة ) :
أتذكر التجربة الفيزيائية المعروفة بالشق المزدوج , والذي تُطلق فيه إلكترونات من قاذف خاص , نحو شقين في الجهة المقابلة , فكانت الإلكترونات تأخذ شكل جسيمات في كل شق في حالة مراقبة الإلكترونات أي كما فسرها علماء الفيزياء لتوجيه الوعي نحوها , وفي حالة عدم مراقبتها وحجب الوعي عنها تأخذ شكل الموجات , ( ويمكن الرجوع للشبكة العنكبوتية لفهم الموضوع ) , ولكن المهم هنا أن ربط الوعي بالمادة (ربما) يحدث ثورة في تلك التجربة , فعلماء الفيزياء جميعا (حسب علمي المتواضع) لم يفهموا علاقة الوعي بتصرف الإلكترونات خلال الشق المزدوج , وفي حالة أن التجارب والبحوث مستقبلا أكدت كون الوعي مادي , فهنا تتضح الصورة , أن الوعي كمادة يتصرف مع الإلكترون كمادة ويفرض عليه شكل الجسيم في الشق (كأن يكون ملازما لها في رحلته كمادة لمادة , وليس وعي غير مادي حير العلماء ) , وفي حال غياب الوعي (كمادة) عن الجسيم عندها يتصرف الجسيم من غير رقيب مادي يقوده ويأمره باتخاذ شكل محدد , ( والله أعلم ) .

أخيرا
سيظل الوعي من الألغاز العميقة في حياة البشر وربما الحيوانات أيضا , وربما يكون مرتبطا بالحياة ذاتها قبل كل شيء , ولكن هل له علاقة مباشرة بالروح ؟ وما هي علاقته الحقيقية بالعقل ؟ وهل هو فعلا مادي أم غير مادي ؟
قال أحد الباحثين أن البحث في الوعي يحتاج لعقل كمي , فهل سيكون هذا العقل الكمي آلة ما ستخترع مستقبلا , ولكن كيف يمكن تفسير المشاعر والأحاسيس بأسلاك ودارات الكرتونية ؟
أم هل سيستطيع الإنسان مستقبلا استخراج طاقة العقل أو المخ كاملة ليصل للعقل الكمي ؟
فعلا ستظل أعقد الألغاز في تاريخ البشر هي تلك التي تختبئ تحت جلده , وصدق الله العظيم :
( وَفِىٓ أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ) , (الذاريات - 21)
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف