
الإقطاعي والبورجوازية
قصة قصيرة ، بقلم: حسين المناصرة
سعدية، فتاة ثرية لأسرة فلسطينية تعيش في الكويت، في العشرين من عمرها، جميلة جدًا، ولعل عيبها الوحيد وجود عكزة خلقية في رجلها اليسرى؛ فتميل ميلة قصيرة جدًا عندما يكون ارتكازها على هذه الرجل. لا تخجل من لبس فستان قصير إلى ما فوق الركبة قليلًا، وهي تمشي بين الطلبة بفستانها الأحمر، الكاشف عن ساقين بضين، فيتطاير شعرها الكثيف المتناثر. تلفت نظر الشباب جميعًا في الجامعة، والحقيقة أنهم كلهم يسعون إلى التقرب منها ومغازلتها، في أبداء الإعجاب ببعض ملامحها... أما الفتيات فيزممن شفاههن، ويزحن وجوههن عنها ممتعضات... ربما غيرة تنغزهن على أية حال..!!
كانت تبتعد عن الجميع بأنفة وبرجزة عالية الجودة، وتكثر من الجلوس في المكتبة، تقرأ، وتكتب، وتغازل زميلها عماد الذي حاولت كثيرًا التقرب منه... لكنه قليل الابتسام.. متجهم الوجه بملامح طفولية!!
تحرص على أن تجلس بجانبه عندما يكون جالسًا في المكتبة، يبحث في موضوع الغزل العذري، وتتعمد أن تسأله عن أشياء كثيرة، منها ذلك السؤال الذي تعرف إجابته مقدمًا:
- لماذا سموه: الغزل العذري...؟!
- لأنه حب بالكلام، لا بالمحسوسات!!
- وهل يعقل أن يكون هناك حب بدون قبلة أو لمسة فطرية طبيعية !!
- عادي، العذرية لا تتنافى مع هذه الحاجات البسيطة...
- يعني صار غير عذري ...
- هذا رأي الطاهر لبيب في هذا الكتاب؛ يقول : لا يوجد غزل عذري!!
تابعت قراءتها في ديوان "نكسة حزيران" لنزار قباني، وتابع قراءته لكتاب الطاهر لبيب "سوسيولوجيا الغزل العذري". يدرك جيدًا تقربها منه، يجعلها أكثر فرحًا، وعندما يختبئ بين دواليب الكتب، في أثناء دخولها إلى المكتبة، ويراها قلقة، وهي تبحث عنه بين الرؤوس على الطاولات بعينين وحشيتين واسعتين، كعيني المها...!!
أرى في وجهها لمسة حزن، مؤلمة، هذا ما يتهيأ لي، وما أن أقفز من بين جدران الكتب متوجهًا نحو الطاولة التي تعودت أن تراني قربها، متعمدًا أنني لا أراها، فأجدها تقف على رأسي، وهي تحييني، فأرفع إليها عيني، مبتسمًا ابتسامة صفراء، وإذا بها مشعة بالحمرة التي تكسو وجهها، وهي تجدني، بعد أن ظنت أنني ضعت من عينيها!!
جلست بجانبي عن قرب هذه المرة، فعلى الطاولة مستع، ولم تقابلني، فشعرت بأنفاسها، وبعطرها، وبرطوبة شعرها، ويبدو أن ركبتها قد لامست ركبتي، ربما بدون قصد منها، إذ انزاحت مبتعدة مسافة قصيرة، وهنا أدركت أنها ينبغي أن تكون حذرة، خاصة أنها تعرف بأنني، كنت مشغولًا مع أخرى عاطفيًا، وتركتها منذ أسبوعين فقط، لم أعد أجلس معها، ولم أعد أحدثها، فجاءت سعدية، أو تجرأت، وكانت تحضر في كل مرة أحد دواوين نزار قباني، فتقرأ بها، لتسألني بين الفينة والأخرى عن معاني بعض المفردات، وكأنني خبير بأشعاره التي لا تروق ليساريتي.
- تعرفين أنني لا أحب نزار قباني...
- نزار شاعر عظيم، فهو شاعر المرأة!!
- أنا أحترم لغته الشعرية الرائعة، ولكن أظن أنها لغة بورجوازية، تمتهن المرأة، ولا ترى فيها غير الجسد الجميل.
- حرام عليك، نزار جعل للمرأة مكانة في الشعر، وتغنى بجمالها، وعشقها حتى الثمالة.
- شعره السياسي أفضل من شعره الغزلي...
- أنا أحب شعر نزار كله، قرأت كل دواوينه، وسأقرأها مرة ثانية وثالثة...!!
- بالمناسبة، أحضرت لك هدية بسيطة، قلم حبر مذهب، اشتريته من الكويت، في الإجازة، له معي أكثر من شهر، اشتريته لك ؛ وكنت في حرج من إعطائه لك، فهل تقبل هديتي؟!
لم تنتظر إجابتي، أخرجت القلم من حقيبتها، ومدته إليّ، كان قلمًا مذهبًا، وفاخرًا.. فأخذته منها، ورميته في سلة المهملات التي في جواري...
- هذه هدية بورجوازية، وأنا لا أقبل الهدايا من هذا النوع، ومكانه الزبالة!!
انقلب وجهها إلى ألوانه الداكنة، كادت أن تبكي، لم تتفوه بكلمة، حاولت أن تقول شيئًا ... فتداركت الموقف!!
- كنت أداعبك!!
تناولت القلم من سلة النفايات، وقلت لها:
- هذا القلم الجميل، صاحب الأبهة، لا يصلح لبروليتاري كادح مثلي... هديتك وصلت، وأنا آسف لا أستطيع أن أقبلها، حتى لا يتهمني الآخرون بأنني بورجوازي... ألا يكفي أن أحدهم أخبرني قبل يومين عن جلوسك معي ؛ فسخر من انسلاخي الطبقي، والانحراف نحو البورجوازية!!
أخذت القلم من يدي، ووضعته في حقيبتها الفاخرة، ثم وضعتها على كتفها، وقامت خارجة من المكتبة، نظرت إليها، كان جمالها رائعًا، ونكزتها في رجلها اليسرى تزيدها جمالًا... ذهبت، وعدت إلى فتح كتاب آخر ، "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي.
قبل مدة، أخبرني صديقي عايد أنه يحب سعدية، وأنه يحاول أن يجذب انتباهها، ولكن دون فائدة . وعايد بلا مبدأ، ابن مخيم لا هو يميني، ولا يساري.. لكن لا علاقة له بالفكر ولا بالسياسة، ولونه الأقرب إلى الأسود بابتسامة دائمة، يوحي بأنه من نسل أبناء البادية، ذوي الأصول البيسانية الأفريقية... كان كل حلمه أن يتخرج، ويجد وظيفة في "البنك العربي" الأعلى رواتب في محيطنا !!
- عليك أن تفاتحها في موضوع حبك لها.
- كيف؟
- قل لها: سعدية، أريد أن أتحدث معك في موضوع خاص، هل تسمحين بمرافقتي خمس دقائق.
- وهل ستقبل!!
- أكيد...
- وإن رفضت ..؟!
- مع السلامة.
لم أره، وهو يطلب منها أن يحادثها في موضوع حبه لها، لكنه في نهاية الأسبوع جاءني حزينًا، يشعر بصدمة كبرى، دمرت حبه الذي كان من طرف واحد؟!
- أكيد حدثتها؟!
- نعم حدثتها؟!
- وافقت؟!
- لا !!
- وماذا قالت؟!
- قالت إنها تحبك أنت، وأنه من الصعب أن تحب اثنين معًا، وتمنت لي أن أجد حبيبة غيرها!!
- ولكني لا أحبها!!
- تعرف ذلك، واعترفت لي أن حبها لك من طرف واحد!!
- صدقني، كنت أتمنى أن تحبك ... فأنا لا يمكن أن أحب بورجوازية!!
- أنت يساري كذاب، فأنا أعرف أنك إقطاعي ابن اقطاعي، وجد إقطاعي، وتخفي الإقطاعية تحت جلدك السميك؛ كجلد التماسيح!!
- رأيك، أحترمه، واحتفظ به لفسك!!
- ...
صحيح أنني إقطاعي، فما ورثته عن جدي -رحمه الله- من أملاك، لا دخل لي به ؛ فأنا مفكر يساري كادح، لكني أؤمن بأن الله وحده هو خالق هذا الكون...صحيح أنني مهمل في واجباتي الدينية، لكنني من المستحيل أن أنكر وجود الخالق سبحانه وتعالي؛ لذلك أنا يساري مؤمن!! وأؤمن بالجنة والنار... وعندما مات خمسة عشر طالبًا وطالبة في الرحلة الجامعية التي كنت فيها، كنت مرشحًا للموت، لكنني لم أمت، وبدأت أصلي خفية عن أصدقائي اليساريين، الذين سيجعلونني مضغة للفضيحة، وهم يتحدثون عن رجعيتي وإيماني بأفيون الشعوب، قصدهم الدين!!
جاءتني سعدية إلى المكتبة بعد أسبوع من حادثة القلم البورجواي اللعين، وكانت حيادية هذا المرة، جلست على الطاولة، تقابلني، لم تفتح كتابها، انتظرتها أن تعاتبني أو تحدثني...فقالت:
- سأكتب بحث التخرج عن صورة "الأم في شعر محمود درويش"، وأريد أن تساعدني في المراجع إن كان عندك بعضها.
- كل دواوينه عندي، وعندي بعض الدراسات في بعض الكتب والمجلات عنه، سأحضرها لك غدًا.
- شكرًا مقدمًا... هل تسمح لي بسؤال شخصي!!
- تفضلي اسألي سؤالين أو ثلاثة.
- ماذا ستفعل بعد أن تتخرج؟!
- سأدخل السجن؟!
- السجن ؟!
- نعم؟!
- لأنك سياسي؟!
- ربما!!
أعطيتها دواوين محمود درويش، وما كتب عنه، فكان مجموع ما أعطيتها إياه حوالي أربعين كتابًا ومجلة.
بعد شهر أو شهرين، من تخرجنا، جاءتني منها هذه الرسالة:
" حبيبي عماد"
اليوم أجرؤ أن أناديك حبيبي؛ لأنك لم تعد حبيبي.. أعتذر لأنني لم أعطيك كتبك، وقد احتفظت بها، وها أنا أعيدها معي إلى الكويت، حيث أقيم؛ وهي 38كتابًا ومجلة، يسعدني أن أعيدها إليك، عندما نلتقي، ولا أظن أننا سنلتقي؛ لأنني سأتزوج بعد أسبوعين .
أما أنت فكما وعدتني، فأدعو الله أن يكون مصيرك السجن؛ لأنك حرقت قلب أحبك؛ كما أحببت روحي... وقد أخبرني عايد الذي وجد عملاً هنا، أنك أكذب يساري عرفه؛ لأنك إقطاعي ابن اقطاعي، والإقطاعية يا حبيبي أسوأ من البورجوازية..!!
حبيبي عماد.. قصدي أخي عماد ...
لم أحب الرجل الذي سأتزوجه .. لكنني وافقت على أن أتزوجه... وأمي وأمه قالتا لي: "إن لم تتزوجيه سنجعله يكسر راسك...ويطيحك عن جمل أي عريس غيره .. فهو كان زميلك في الجامعة"!!
لم أرد على رسالتها، ولم اسمع عنها شيئًا، لكنني بعد عامين من تخرجنا، سجنت ثلاث مرات؛ مرة لسبب سياسي يساري، وثانية لسبب عسكري؛ حيث هربت من التجنيد الإجباري، وثالثة بسبب زعم فاجرة أنني تحرشت بها في شارع مزدحم بالمارة!!
مرت السنوات العشر قاحلة، كأنها صخور عجفاء!!
كنت أعزب متسكعًا في شارع المدينة، بعد أذان المغرب، في صيف حار، وكانت محل حلويات "حبيبة" قرب البنك العربي بوسط المدينة مزدحمًا بطالبي "الكنافة النابلسية"، بعد الإفطار الرمضاني. وجهًا لوجه أنا وسعدية وعايد، ومعهما ثلاثة أطفال ذكور وابنتان رائعتا الجمال، كأنهما توأم!!
قصة قصيرة ، بقلم: حسين المناصرة
سعدية، فتاة ثرية لأسرة فلسطينية تعيش في الكويت، في العشرين من عمرها، جميلة جدًا، ولعل عيبها الوحيد وجود عكزة خلقية في رجلها اليسرى؛ فتميل ميلة قصيرة جدًا عندما يكون ارتكازها على هذه الرجل. لا تخجل من لبس فستان قصير إلى ما فوق الركبة قليلًا، وهي تمشي بين الطلبة بفستانها الأحمر، الكاشف عن ساقين بضين، فيتطاير شعرها الكثيف المتناثر. تلفت نظر الشباب جميعًا في الجامعة، والحقيقة أنهم كلهم يسعون إلى التقرب منها ومغازلتها، في أبداء الإعجاب ببعض ملامحها... أما الفتيات فيزممن شفاههن، ويزحن وجوههن عنها ممتعضات... ربما غيرة تنغزهن على أية حال..!!
كانت تبتعد عن الجميع بأنفة وبرجزة عالية الجودة، وتكثر من الجلوس في المكتبة، تقرأ، وتكتب، وتغازل زميلها عماد الذي حاولت كثيرًا التقرب منه... لكنه قليل الابتسام.. متجهم الوجه بملامح طفولية!!
تحرص على أن تجلس بجانبه عندما يكون جالسًا في المكتبة، يبحث في موضوع الغزل العذري، وتتعمد أن تسأله عن أشياء كثيرة، منها ذلك السؤال الذي تعرف إجابته مقدمًا:
- لماذا سموه: الغزل العذري...؟!
- لأنه حب بالكلام، لا بالمحسوسات!!
- وهل يعقل أن يكون هناك حب بدون قبلة أو لمسة فطرية طبيعية !!
- عادي، العذرية لا تتنافى مع هذه الحاجات البسيطة...
- يعني صار غير عذري ...
- هذا رأي الطاهر لبيب في هذا الكتاب؛ يقول : لا يوجد غزل عذري!!
تابعت قراءتها في ديوان "نكسة حزيران" لنزار قباني، وتابع قراءته لكتاب الطاهر لبيب "سوسيولوجيا الغزل العذري". يدرك جيدًا تقربها منه، يجعلها أكثر فرحًا، وعندما يختبئ بين دواليب الكتب، في أثناء دخولها إلى المكتبة، ويراها قلقة، وهي تبحث عنه بين الرؤوس على الطاولات بعينين وحشيتين واسعتين، كعيني المها...!!
أرى في وجهها لمسة حزن، مؤلمة، هذا ما يتهيأ لي، وما أن أقفز من بين جدران الكتب متوجهًا نحو الطاولة التي تعودت أن تراني قربها، متعمدًا أنني لا أراها، فأجدها تقف على رأسي، وهي تحييني، فأرفع إليها عيني، مبتسمًا ابتسامة صفراء، وإذا بها مشعة بالحمرة التي تكسو وجهها، وهي تجدني، بعد أن ظنت أنني ضعت من عينيها!!
جلست بجانبي عن قرب هذه المرة، فعلى الطاولة مستع، ولم تقابلني، فشعرت بأنفاسها، وبعطرها، وبرطوبة شعرها، ويبدو أن ركبتها قد لامست ركبتي، ربما بدون قصد منها، إذ انزاحت مبتعدة مسافة قصيرة، وهنا أدركت أنها ينبغي أن تكون حذرة، خاصة أنها تعرف بأنني، كنت مشغولًا مع أخرى عاطفيًا، وتركتها منذ أسبوعين فقط، لم أعد أجلس معها، ولم أعد أحدثها، فجاءت سعدية، أو تجرأت، وكانت تحضر في كل مرة أحد دواوين نزار قباني، فتقرأ بها، لتسألني بين الفينة والأخرى عن معاني بعض المفردات، وكأنني خبير بأشعاره التي لا تروق ليساريتي.
- تعرفين أنني لا أحب نزار قباني...
- نزار شاعر عظيم، فهو شاعر المرأة!!
- أنا أحترم لغته الشعرية الرائعة، ولكن أظن أنها لغة بورجوازية، تمتهن المرأة، ولا ترى فيها غير الجسد الجميل.
- حرام عليك، نزار جعل للمرأة مكانة في الشعر، وتغنى بجمالها، وعشقها حتى الثمالة.
- شعره السياسي أفضل من شعره الغزلي...
- أنا أحب شعر نزار كله، قرأت كل دواوينه، وسأقرأها مرة ثانية وثالثة...!!
- بالمناسبة، أحضرت لك هدية بسيطة، قلم حبر مذهب، اشتريته من الكويت، في الإجازة، له معي أكثر من شهر، اشتريته لك ؛ وكنت في حرج من إعطائه لك، فهل تقبل هديتي؟!
لم تنتظر إجابتي، أخرجت القلم من حقيبتها، ومدته إليّ، كان قلمًا مذهبًا، وفاخرًا.. فأخذته منها، ورميته في سلة المهملات التي في جواري...
- هذه هدية بورجوازية، وأنا لا أقبل الهدايا من هذا النوع، ومكانه الزبالة!!
انقلب وجهها إلى ألوانه الداكنة، كادت أن تبكي، لم تتفوه بكلمة، حاولت أن تقول شيئًا ... فتداركت الموقف!!
- كنت أداعبك!!
تناولت القلم من سلة النفايات، وقلت لها:
- هذا القلم الجميل، صاحب الأبهة، لا يصلح لبروليتاري كادح مثلي... هديتك وصلت، وأنا آسف لا أستطيع أن أقبلها، حتى لا يتهمني الآخرون بأنني بورجوازي... ألا يكفي أن أحدهم أخبرني قبل يومين عن جلوسك معي ؛ فسخر من انسلاخي الطبقي، والانحراف نحو البورجوازية!!
أخذت القلم من يدي، ووضعته في حقيبتها الفاخرة، ثم وضعتها على كتفها، وقامت خارجة من المكتبة، نظرت إليها، كان جمالها رائعًا، ونكزتها في رجلها اليسرى تزيدها جمالًا... ذهبت، وعدت إلى فتح كتاب آخر ، "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي.
قبل مدة، أخبرني صديقي عايد أنه يحب سعدية، وأنه يحاول أن يجذب انتباهها، ولكن دون فائدة . وعايد بلا مبدأ، ابن مخيم لا هو يميني، ولا يساري.. لكن لا علاقة له بالفكر ولا بالسياسة، ولونه الأقرب إلى الأسود بابتسامة دائمة، يوحي بأنه من نسل أبناء البادية، ذوي الأصول البيسانية الأفريقية... كان كل حلمه أن يتخرج، ويجد وظيفة في "البنك العربي" الأعلى رواتب في محيطنا !!
- عليك أن تفاتحها في موضوع حبك لها.
- كيف؟
- قل لها: سعدية، أريد أن أتحدث معك في موضوع خاص، هل تسمحين بمرافقتي خمس دقائق.
- وهل ستقبل!!
- أكيد...
- وإن رفضت ..؟!
- مع السلامة.
لم أره، وهو يطلب منها أن يحادثها في موضوع حبه لها، لكنه في نهاية الأسبوع جاءني حزينًا، يشعر بصدمة كبرى، دمرت حبه الذي كان من طرف واحد؟!
- أكيد حدثتها؟!
- نعم حدثتها؟!
- وافقت؟!
- لا !!
- وماذا قالت؟!
- قالت إنها تحبك أنت، وأنه من الصعب أن تحب اثنين معًا، وتمنت لي أن أجد حبيبة غيرها!!
- ولكني لا أحبها!!
- تعرف ذلك، واعترفت لي أن حبها لك من طرف واحد!!
- صدقني، كنت أتمنى أن تحبك ... فأنا لا يمكن أن أحب بورجوازية!!
- أنت يساري كذاب، فأنا أعرف أنك إقطاعي ابن اقطاعي، وجد إقطاعي، وتخفي الإقطاعية تحت جلدك السميك؛ كجلد التماسيح!!
- رأيك، أحترمه، واحتفظ به لفسك!!
- ...
صحيح أنني إقطاعي، فما ورثته عن جدي -رحمه الله- من أملاك، لا دخل لي به ؛ فأنا مفكر يساري كادح، لكني أؤمن بأن الله وحده هو خالق هذا الكون...صحيح أنني مهمل في واجباتي الدينية، لكنني من المستحيل أن أنكر وجود الخالق سبحانه وتعالي؛ لذلك أنا يساري مؤمن!! وأؤمن بالجنة والنار... وعندما مات خمسة عشر طالبًا وطالبة في الرحلة الجامعية التي كنت فيها، كنت مرشحًا للموت، لكنني لم أمت، وبدأت أصلي خفية عن أصدقائي اليساريين، الذين سيجعلونني مضغة للفضيحة، وهم يتحدثون عن رجعيتي وإيماني بأفيون الشعوب، قصدهم الدين!!
جاءتني سعدية إلى المكتبة بعد أسبوع من حادثة القلم البورجواي اللعين، وكانت حيادية هذا المرة، جلست على الطاولة، تقابلني، لم تفتح كتابها، انتظرتها أن تعاتبني أو تحدثني...فقالت:
- سأكتب بحث التخرج عن صورة "الأم في شعر محمود درويش"، وأريد أن تساعدني في المراجع إن كان عندك بعضها.
- كل دواوينه عندي، وعندي بعض الدراسات في بعض الكتب والمجلات عنه، سأحضرها لك غدًا.
- شكرًا مقدمًا... هل تسمح لي بسؤال شخصي!!
- تفضلي اسألي سؤالين أو ثلاثة.
- ماذا ستفعل بعد أن تتخرج؟!
- سأدخل السجن؟!
- السجن ؟!
- نعم؟!
- لأنك سياسي؟!
- ربما!!
أعطيتها دواوين محمود درويش، وما كتب عنه، فكان مجموع ما أعطيتها إياه حوالي أربعين كتابًا ومجلة.
بعد شهر أو شهرين، من تخرجنا، جاءتني منها هذه الرسالة:
" حبيبي عماد"
اليوم أجرؤ أن أناديك حبيبي؛ لأنك لم تعد حبيبي.. أعتذر لأنني لم أعطيك كتبك، وقد احتفظت بها، وها أنا أعيدها معي إلى الكويت، حيث أقيم؛ وهي 38كتابًا ومجلة، يسعدني أن أعيدها إليك، عندما نلتقي، ولا أظن أننا سنلتقي؛ لأنني سأتزوج بعد أسبوعين .
أما أنت فكما وعدتني، فأدعو الله أن يكون مصيرك السجن؛ لأنك حرقت قلب أحبك؛ كما أحببت روحي... وقد أخبرني عايد الذي وجد عملاً هنا، أنك أكذب يساري عرفه؛ لأنك إقطاعي ابن اقطاعي، والإقطاعية يا حبيبي أسوأ من البورجوازية..!!
حبيبي عماد.. قصدي أخي عماد ...
لم أحب الرجل الذي سأتزوجه .. لكنني وافقت على أن أتزوجه... وأمي وأمه قالتا لي: "إن لم تتزوجيه سنجعله يكسر راسك...ويطيحك عن جمل أي عريس غيره .. فهو كان زميلك في الجامعة"!!
لم أرد على رسالتها، ولم اسمع عنها شيئًا، لكنني بعد عامين من تخرجنا، سجنت ثلاث مرات؛ مرة لسبب سياسي يساري، وثانية لسبب عسكري؛ حيث هربت من التجنيد الإجباري، وثالثة بسبب زعم فاجرة أنني تحرشت بها في شارع مزدحم بالمارة!!
مرت السنوات العشر قاحلة، كأنها صخور عجفاء!!
كنت أعزب متسكعًا في شارع المدينة، بعد أذان المغرب، في صيف حار، وكانت محل حلويات "حبيبة" قرب البنك العربي بوسط المدينة مزدحمًا بطالبي "الكنافة النابلسية"، بعد الإفطار الرمضاني. وجهًا لوجه أنا وسعدية وعايد، ومعهما ثلاثة أطفال ذكور وابنتان رائعتا الجمال، كأنهما توأم!!