الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

فلسفة الوجود بقلم: عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2020-04-12
فلسفة الوجود بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
فلسفة الوجود

( عادل بن مليح الأنصاري)

ربما كانت فكرة البحث عن أصل الخلق والموجودات ومن أوجدها هي معضلة فكرية فلسفية ظهرت مع ظهور العقل المفكر للإنسان , وربما قبل ظهور الأنبياء , فأوائل أولئك المفكرين هم فلاسفة اليونان , فاليونانيين عرفوا الإلهة المتعددة , وظهرت بينهم أيضا فكرة التوحيد , " فطاليس " يرى أن العالم لا يمكن أن يكون مخلوقا من العدم , وكانت فلسفته اشبه بالقاعدة الفيزيائية حول حفظ الطاقة , المعروفة ( المادة لا تفنى ولا تستحدث ) , فهو يقول " كل بداية ليست في حقيقتها إلا تغيّر " , فلا بد من وجود مادة أزلية نشأت عنها كل الموجودات , ثم احتاروا في كنه تلك المادة , وبدون تفصيل يرى بعضهم أنها الماء , لأنها مادة قابلة للتشكيل والتغيّر , فهو تارة مائع وتارة صلب (الثلج) وتارة بخارا , أما (انكسمنس) فيرى أن الهواء أكثر مرونة وقابلية للتغيّر والتشكيل , ثم وبعد تفكير خرج بفلسفة جديدة تقول أن أصل الكائنات "مادة لا شكل لها ولا نهاية ولا حدود لها " .
المهم أن بعض أولئك الفلاسفة لم يقتنعوا بآلهة اليونان التي لها نفس صفات البشر وأخلاقهم ورذائلهم , فهم سكارى , كذابون , محتالون , زناة , فبدأوا يبحثون عن آلهة جديرة بصنع هذا الكون , ثم جاءت فلسفة (فيثاغور) , والذي بحث في الفكرة بشكل رياضي , فقال أن الصفة العامة التي تشمل كل شيء هي صفة (العدد ) , فكل الصفات يمكن تجاهلها كاللون والطعم والرائحة والحجم , ولكن لا يمكن تجاهل العدد , فالعدد هو اصفة الوحيدة المشتركة التي يتصف بها كل ما في الكون , فكل ما في الكون عدد , وهو تكرار للعدد (واحد) , اذن ألـ(واحد) هو أصل الكون وعلته الحقيقية , ورغم كون هذه الفلسفة مغرقة في الخيال إلا أنها تدل على محاولة للوصول لفكرة الإله الواحد , ومن حيث لا يدركون , وكذلك الفيلسوف (اكزنوفنس) , فقد نبذ فكرة تجسد الإلهة بشكل بشري , واستنكر كونها تأكل وتشرب وتلد وتموت , وقال " أنه لا يوجد غير إله واحد هو أرفع الموجودات , ليس مركبا على هيئتنا ولا يفكر مثل تفكيرنا , بل كله بصر , وكله سمع , وكله فكر " , وقال " أن إدراك كنه هذا الإله مستحيلا على عقولنا " .

ثم جاء "بارمنيدس" وتلميذه " مليسوس" , وتحدثوا عن (الوجود) الغير متناهٍ وأنه (حياة عاقلة) , وأزلية وأبدية , وكأنهم يتحدثون عن الله .
والغريب أن يأتي فيلسوف في تلك الحقبة الموغلة في القدم ويتحدث عن أصل المادة الذري وكأنه أحد علماء الذرة اليوم , فهذا (ديموقريطس) يقول " أن الكون يتألف من عدد لا متناهي من الذرات , وهي متشابهة ومتجانسة أزلية أبدية , متحركة بذاتها في فراغ , ومن حركتها واختلاطها تكونت الأشياء , وتكون العالم بأسره !!!
ويضيف بشكل عجيب ومبهر " أما اختلاف صفات الأشياء فناتج عن اختلاف تلاقي هذه الذرات وتآلفها , وأوضاعها في الجسم , أما قوله ( واختلاف الناظر إليها ) فلو كان يقصد نظرية مراقبة الإلكترون , أو " نظرية الوعي " , فهذه طامة كبرى أن تُذكر في تلك الحقبة الموغلة في التاريخ .

من المذهل حقا أن تُذكر تلك النظريات أو حتى الخيالات من قِبل فلاسفة ما قبل التاريخ , وبتلك الدقة كما يذكرها علماء بداية القرن العشرين , بل قد لا نقول جزافا أنهم أخرجوا تلك النظريات من ملفات الفلاسفة ليخضعوها لتجارب المعامل والأجهزة الحديثة , ويعيدوا صياغتها ليس إلا .

تلك النظريات لفلاسفة ما قبل التاريخ ربما لم تخرج من نافذة الفيزياء البحتة , بل كانت دراسات وفلسفات كلامية في سياق ديني للبحث عن أصل الوجود والمُوْجِدْ , وإذا كانت الفلسفة تطرقت لتلك الدقائق الفيزيائية أثناء بحثها في الأمور العقائدية , فهذا يعني أن الفيزياء العلمية والرياضية البحتة , هي المولود البكر للفلسفة , وهذا ليس بغريب , فالفارابي وابن خلدون والشريف الجرجاني وغيرهم كانوا يعتبرون علم الكلام هو العلم الذي يبحث في العقائد , والذي ربط بالفلسفة الإسلامية أيضا .
وقصة التوحيد عبر التاريخ القديم ربما مرت بوجود أنبياء لا نعلمهم , فمن المعلوم أن الرسل لهم عدد لا يعلمهم إلا الله , وأن الله صرح بأنه قص عن بعضهم ولم يقصص عن بعض , فوجود أنبياء ورسل لا نعلمهم أمر مفروغ منه , وربما بعض فلاسفة اليونان أو الهند أو الصين أو مصر هم بقايا نبوءات مجهولة في صفحات التاريخ ولا يعلمها إلا الله , ويذكر التاريخ أنه وبعد ظهور عقيدة التثليث في المسيحية , ظهرالأريسيون , نسبة لـ( آريوس) الذي قاد عقيدة التوحيد ضد التثليث وكانت عقيدته تقول : (الله واحدٌ فَردٌ غير مولود، لا يشاركه شيء في ذاته تعالى. فكل ما كان خارجاً عن الله الأحَد إنما هو مخلوق من لا شيء، وبإرادة الله ومشيئته ) , وأنه ينكر بنوة المسيح لله وأنه عبد ومخلوقة , كما نشير أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم في رسالته لهرقل عظيم الروم حيث جاء فيها :
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ، وَ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) . متفق عليه.

و تأملوا قول (اناكساغورس) : " من المستحيل على قوة عمياء , أن تبدع هذا الجمال , وهذا النظام اللذين يتجليان في هذا العالم, لأن القوة العمياء لا تنتج إلا الفوضى , فالذي يحرك المادة هو عقل رشيد , بصير , حكيم " !!! .
وعلى نقيض الفلاسفة الحكماء الذين كانوا يبحثون عن الموجد الواحد , بأطروحاتهم الرصينة والمتأملة , ظهر بينهم (السوفسطائيين) , الذين كادوا أن يهدموا أسس العقل والمعرفة , وتمزيق الأخلاق , وذلك بإرجاع المعرفة والبحث والحقيقة لذات الإنسان بغض النظر عن البحوث والدراسات والتأملات والمنطق والرياضة والعلم , وأن (الإنسان مقياس كل شيء ) , وزعم أشهرهم (بروتاغوراس) أن الإحساس هو المصدر الوحيد للمعرفة , بعد أن كان العلماء والفلاسفة يرون أن الحقيقة تُدرك بالعقل , والسفسطة يقابلها عند العرب (العندية) لأن الفرد يعتقد بما عنده فقط بغض النظر عن العلم والبحث والحقيقة .
ربما ظهر (سقراط) , في خضم طوفان السوفسطائيين , كردة فعل لتدميرهم للعقل والمعرفة لحساب الهوى والنفس , فأسس فلسفة المعرفة , والتي سن طريقتها للعقول السليمة حتى يومنا هذا , ووطد دعائم الفضيلة , بعد أن رأى أخلاق عصره تنهار أمام عبث السوفسطائيين , فأراد أن يرد أصول المعرفة إلى العقل , وتبعه تلميذه (أفلاطون) فأيد نظرية المعرفة ومن أقواله : ( إنا العالم آية في الجمال والنظام , ولا يمكن أبدا أن يكون هذا نتيجة علل اتفاقية , بل هو صنع عاقل , كامل , توخّى الخير , ورتّب كل شيء عن قصد وحكمة ) .

ومنذ بداية التاريخ , وظهور العقل المفكر وحتى يومنا هذا , جعل بعض المفكرين والفلاسفة وحتى علماء الماديات , مازال الكثير منهم يبحثون عن سبب الوجود , وكيف وُجد , وإن كان بعض الفلاسفة القدماء وعلى رأسهم اليونانيين قد حسموا معرفتهم بأن الوجود نتيجة لمسبب وهو الواحد الأزلي , وليس ظهور السفسطائيين والاحتماليين والـعنديين , إلا وجه أخر من وجوه المعرفة الرافضة لتلك الحجج والبراهين والفلسفة المُوحّدة , وقلنا معرفة رغم انطلاقها من الإحساس تارة , والمخالفة لمجرد المخالفة , أو الضياع عبر احتمالات غير مستقرة , لأنها في النهاية هي فكر بشري خضع للتداول بغض النظر عن طبيعته وأهدافه وانحرافاته ربما أيضا , ومازال امتداد تلك التوجهات لليوم , فإن كان الكثير من البشر قد حسموا أمرهم عبر التاريخ بالتسليم واتّباع الأنبياء تارة والفلاسفة والمتكلمين تارة نحو توحيد الخالق , فقد امتدت موجات الرافضين والملحدين سواء أكانوا يستقون قناعاتهم من فلسفات خاصة , أو كضحايا للتردد والضياع وعدم القدرة على الحسم , من السفسطائيين القابعين في قعر التاريخ , وحتى المؤمنين بتعدد وتنوع الآلهة , ومرورا بالملحدين سواء بالفكر أو بالرفض لمجرد الرفض .

فلسفة البحث عن الوجود والمُوْجِد , ليس لها علاقة بدين معين أو فلسفة بشرية معينة , بل هي إرث فكري إنساني محض ظهر بظهور العقل المفكر , فكل أتباع ديانة يؤمنون وكثيرا بعصبية واندفاع بفكرتهم ورؤيتهم عن الوجود والمُوْجِد , والغريب أن نرى البعض ممن ينتقدون وربما لدرجة التسفيه والشتم والرغبة حتى في القتل لؤلئك الذين اقتنعوا بفلسفة عبادة أشياء لا يقبلها منطقهم , فمثلا لو تتبعنا بعض الديانات ومعبوداتها لنجد العجب , ويمكن الرجوع للشبكة العنكبوتية والبحث عن عجائبهم , وهذا ليس مقامه هنا , ولكن لو أخذنا مثلا عبادة الأبقار أو النار أو التماثيل أو بعض الأشياء التي لا تخطر ببالنا ولا يقبلها عقل , في هذا العصر , عصر التنوير والبحوث الفضائية , وعصر الكوارك والأوتار الفائقة , لنجد أولئك الناس مقتنعين تماما بفلسفتهم الغريبة في العبادة والمعبود , ناهيك عن العصور المظلمة أو القديمة , ربما هؤلاء من أتباع (الإحساس) الذي ورد سابقا , ولو جادلتهم لن تستطيع إقناعهم بفلسفتهم العبثية التي تنافي المنطق والعقل والعلم , وستجد أن لديهم فلسفة خاصة مقتنعون بها , وهم مقتنعون تماما بجهلك وعجزك عن إدراك مقاصد فلسفتهم , كما أنت كذلك تجل وتعجز عن إدراك مقاصد فلسفتهم , ومن العجائب أنك تجد من يعبد الشياطين , وبل وربما من يعبد بعض البشر , إن فلسفة ( الإحساس) مدمرة للعقل والمنطق , وتخلق الفوضى العارمة لما لها من تأثير على كل مناحي الحياة .
ربما ستنحسر فلسفة الوجود و المُوْجِد مستقبلا , مع تقدم العلم والفكر البشري , وتأثير التقنية والتواصل , بين فئتين , أصحاب العقائد الربانية , وعلى نقيضهم الملحدين المشككين والذين يبنون شكهم على مجاهل الاحتمالات والإحساس أو حتى فلسفة منطقية (من وجهة نظرهم) , يؤمنون بها ويجادلون انطلاقا منها .
ومع الوقت سيختفي أصحاب العقائد الغير منطقية والتي لن تصمد أمام عجلات التاريخ المتسارعة ولن يُترك لها فرصة البقاء بتلك الأفكار التي تعارض العقل والمنطق العلم , لتعقبهم أجيال أكثر نضجا وتفتحا وتماشيا مع قفزات التقنية والتكنولوجيا , ولن يجدوا لهم مكانا تحت ظل المستقبل الرافض لتلك السخافات والعبث الفلسفي الذي تمسك به الأجداد من آلهة من السهل السخرية منها ومن فلسفة تبرر لها الوجود .
ومع انتهاء مراحل بعث الأنبياء وقدرتهم على قيادة البشر لحقيقة الوجود المُوْجِد , ستنحصر تلك الحقيقة في كتبهم وتعاليمهم , وبعض الذين نذروا أنفسهم لنشر وتوضيح تلك العقائد , فالعلماء هم ورثة الأنبياء .
كما ستنحصر قيادة الرأي المغاير للملحدين أصحاب فلسفة (الإحساس) , سواء أكانوا يستخدمون الجدال العقيم , أو ممن يعتقدون ان لديهم منطق علمي وفلسفة خاصة يحاولون اقناع الأخر بفكرهم , فكما نرى اليوم عبر نوافذ التواصل المجتمعية , أن هناك من يحاول أن يتسلح بنظريات التشكيك , وعكس قناعات الآخر عبر هذا التشكيك , وأحيانا يلجأون للمنطق العلمي والرياضي في أطروحاتهم لزعزعة قناعات الأحرين .
وفي ذات المعسكر العقائدي , لا يخلو الأمر من اختلافات فلسفية وجوهرية بين مفكري هذه المعسكرات , وكل يدعي وصلا بليلى , فمثلا الديانات الرئيسية في العالم , الإسلام والمسيحية واليهودية , سيتصدى كل عالم وفيلسوف ومبشر للفئة الأخرى لبسط فكرته وقناعته على الأخر , حتى تقرر مشيئة الله نهاية لها , ويمكن لنا أن نقول وبكل ثقة , أن كل من ينتمي لأحد تلك الديانات الكبيرة , يرى أن الحق معه وأن عقيدته هي الصحيحة والمختارة من الخالق , فنحن كمسلمين ليس لدينا شك بأن الإسلام هو الدين الخاتم , ونستدل على ذلك بالكثير من الآيات من قرآننا العظيم ومنها : ( إن الدين عند اللّه الإسلام ) .
وقد لا نتجاوز الحق لو قلنا أن هذه القناعة يملكها اليهودي والمسيحي على حد سواء , ولكن مستقبل البشرية في الإيمان بالوجود والمُوْجِدْ , خاضع لإرادة الله وحده , وليس لفلسفاتنا وأحاسيسنا كبشر .

وندعو الله تعالى كمسلمين أن تظلل روح الإسلام وأخلاقياته وتسامحه وعدالته البشرية عامة ذات يوم .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف