زِفافٌ بِعُرفِ كورونا / نزهة الرّملاوي / القدس
جلسا كلّ وراء شاشته للتّحدث عن خيبات لقائهما في الأسابيع السّابقة من يوم الزّفاف. قال لها وقد رأته يُخرج زفيرا طويلا: جاءنا فصل بارد من تحقيق الأحلام، وشتاء لا يتوقّف عن انهمار الأمنيّات، نحمل ألما عميقا كعمق المحيط، توقّف العالم عن التّجديف في لحظات، فقارب على الغرق.
أجابته دون النّظر إلى عينيه: كلّما تعبتُ ومللت من أسابيع الانتظار، تتمثّل أمامي... أميل برأسي على كتفك فأستريح من عناء الغياب.
- ولم لا تنظرين إليّ الآن؟
- وصلت زفراتك حدودي الضّبابيّة فحجبت عنّي رؤياك.
ضحك طويلا وقال: هيّا نتهيّأ وندخل الحلم.
- أخاف أن تصادفنا الكوابيس.
- لا تخافي ستكون أجمل من أيام خوفنا هذه.
- إذن هيّا نرتّب بطاقات الدّعوة ونكتب أسماء المدعوّين.
- أتريد دعوتهم لحفل زفافنا غدا؟
- نعم.
- إذن لا تدعو أكثر من عشرة أشخاص.
- لن ندعو أحدا إذن.. سنكتفي بأهلنا.. سأمحو الأسماء وألغي البطاقات، ستبدأ طقوس الحمّام، سيقذفونني بالبيض ويغرقونني تحت رغوة الصّابون، سيطبّلون ويصفّقون ويطلقون الأبواق حتى نصل صالون الحلاقة..
- صالونات الحلاقة مغلقة حتى تنتهي الأزمة.
- ها أنا ذا أهيّئ نفسي، أرتدي بدلتي وأضع ربطة عنقي الجميلة، وأحضر مع أهلي إلى بيتك.
- أنسيت أنّ بدلتك عند الخيّاط، باغتتنا المحنة، وبقيت هناك مع الحلم.
- لم أنس .. إنّما أنا أواصل الحلم، ها أنا ذا أمام بيتنا.. محمول على الأكتاف، ترفرف من حولي الأعلام، الحناجر تصدح بأهازيج للوطن، تعلو أصوات المغنّين.. وتهزّ الأرض أرجل الدّابكين.
- أنسيت أنّ التّجمّعات ممنوعة؟
- أنسيت أنّنا نحلم؟ هيّا أغمضي عينيك سنحلم بالذّهاب إلى بيتنا.
- لا نستطيع الخروج، حجر صحيّ في كلّ مكان.
- إذن سآتيك لنحلم معا.
- أنا أحلم بفستاني الأبيض، تجرّ أذياله الورود... وتضاء من حولي الشّموع، ويطول العزف لرقصة بين يديك.
- وماذا تنتظرين؟ أرتدي فستانك الآن، سأجهّز نفسي وآتيك بباقات من فرح..
ارتدت فستان زفاف من خيال، تزيّنت ومشت نحو الباب للوداع، عانقت الأحباب، تلت على مسامعهم عنوانها، وتركت على أكتافهم خارطة الوصول، بكوا خروج المدلّلة، دثّروها بالعزّ وتوّجوها بهالات من نور، همّت بالخروج بسرعة، فقلبها لا يحتمل نظرات المودّعين، قرأت رسائل حبّهم المكلّلة بالحنين، وأنصتت لوصيّة قرأتها الأمّ قبل بدء الاحتفال المهيب جاء فيها:
أيّ بنيّة.. ها أنت تغادرين بيتنا الذي يأويك، وفي غمرة حبّنا يُبقيك، وحضننا الذي ما برح يناديك.. وحُماة عزّ في النّائبات تحميك، فلا تحاولي النسّيان.
أيّ بنيّتي: ستختلف مراسم الأعياد ومراسم الزّفاف عمّا كانت عليه، ستغلق الأبواب ويغيب الأحباب فلا تنتظريهم، ستنام أيام الفرح إلى ما يشاء الله.. فاصبري على ما سيقسمه الله لك فكوني من الشّاكرين.
يا عنقود سعادتنا، أدركي جيّدا مدى بشاعة البلاء الذي داهم عالمنا في ساعة غفلة، وعِيْ جيّدا ما سبّبه من تغيّر في أسلوب الحياة، وضيق في الأحوال لا تحمد عقباها، فاحمدي الله على نعمة العطاء، واستغفريه يدفع عنك البلاء، واسأليه يعمّ الأمن من حولك والرّخاء.
أيّ أميرتي: أعرف أنّك قد اخترت فستان زفافك، ووضعت لمساته من خيالك، ومن رقيّ ذوقك كانت تفاصيله الرّقيقة، لكنّك لا تستطيعين ابتياعه اليوم، فنحن في زمن الخارج من بيته موبوء، والقاعد فيه محجور، نازلة عمّت البلاد، وفرّقت العباد، وأضحى العالم في سكون غريب... وكأنّه يأخذ استراحة مقاتل، يأمرنا أن نتأمّل ما لم نكن نرى، وننصت إلى ما لم نكن نسمع... فلا تحزني لغياب المدعويّن، أو شماتة الحاسدين، فلله الأمر من قبل ومن بعد، أرجو أن لا تتحسّري على قناديل مطفأة في الصّالات، ولا على ضجيج من صراخ أو أغنيّات، ولا تبكي غياب المزيّنات، فشعرك الشّلال ملحمة تنافس أجمل الحكايات، انشري الفرح في دواخلك وامض للحياة.
أيّ حبيبتي: أعلم أنّك الخلوقة التي تربّت، والعزيزة التي ما ذلّت، والنّجيبة التي أدركت الكثير من شاردات الحياة ووارداتها، وفي اختيار شريكها تأنّت، فقد عهدت فيك المثابرة والإقدام، والثناء والاحترام.. كوني لزوجك شمسا ليكون لك ظلّا، وكوني له ربيعا ليكون لك وردا، وكوني لأهله حبّا ليكونوا لك سعادة، لا تهجري القرآن وأحسني العبادة، فالله يورّث الصّالحين حسن الختام، ويبعد الماكرين عنك وشرّ الأنام.
أبهريه بحسن خلقك واختيار هندامك، وبهاء طلعتك وعطر مكانك، وجميل صنيعك ونشر أفضالك، وموزون كلامك وفصيح لسانك.
أيّ غاليتي: سيأخذك الرّفيق فكوني له رفيقة، شفّافة معطاءة رقيقة، لا ينطق لسانك إلا بقول الحقيقة، أبهريه بجمالك وعلمك وابتسامك، اخفضي له جناح البساطة؛ ليعلو فوق السّحاب، كوني العفيفة في الحضور والغياب.. امضي إلى حلمك آملة ضاحكة، واستبشري انتصارا للحياة.
مشت العروس بين الأجساد المغيّبة.. والحناجر المخبّأة بخوفها تطلق من حولها زغاريد فرح مكتومة، والعيون الدّامعة خلف النّوافذ ترسل أدعية سلام وتراتيل محبّة، أخذت الأيادي تلوّح للسّيارة الوحيدة في موكب الزّفاف الذي ما كان.
السّيارة تسابق الخوف وتمضي بهما، أخذا ينصتان لسمفونية الوجود، عزفتها شوارع خلت من البشر، ويذوبان في أريج نيسان وقد نثر أنفاسه على موكب فرح متخيّل.
أُوقِفَت السيّارة جانبا، ترجّل العروسان منها ومشيا بضع خطوات، توقّفا في وسط الشّارع، مدّ يدا لجذبها، والأخرى التفّت حول خصرها كزنّار، تشابكت أصابعها حول رقبته وأخذا يرقصان ويرقصان، يدوران ويدوران، والأشجار الواقفة على جانبيّ الطريق تصفّق لهما بلا انتهاء.. وتلك النّوافذ السّاكنة في البعد تغلق عينيها؛ حتى لا ترى جنون المحبّين.
أرعدت السّماء وبدت صواعقها ألعابا ناريّة تلوّن أنفاس المساء، الغيوم الرّاقصة بدأت تهوي بأثقالها لتشارك الفرح، نسيا نفسيهما تحت المطر.. لا عيون تتفحّص أذيال فستان العروس في هذا المسرح العظيم، ولا آذان تصغي لأغنيّات الحالمين، حملها بين يديه وأخذ يدور ويدور، صعدا إلى السّيارة ثانية وانطلقا مع الرّيح.
مع طلوع الفجر وصلا حدود بيتهما البعيد، استوقفتهما دوريّات الصّباح.. تدثّرّا بغزارة المطر، وأخذا ينثران الابتسامات في وجه المستنفرين، تلعثم الكلام في الشّفاه الضّاحكة، خيّم الشّحوب في وجه الأرض رغم اخضرار المساحات على صدرها النديّ، أخذت العروس تتفقّد فستانها المزركش بالتّراب، تستمع إلى دندناته التي تستعدّ للمغامرة، وتحتفل بانتصارات الوصول، صرخ رجال الأمن بهما: ماذا تفعلان هنا؟ من أين جئتما؟ لم خرجتما من البيت؟ أين بيتكما؟
أشارا بأصابعهما نحو شرفة المنزل البهيّ، أخذا يضحكان ويضحكان، يرقصان ويرقصان.. يدوران حول السّائليْن، دُهش الشّرطيّان وهمس أحدهما للآخر: هيّا نفرّ من المكان.
لماذا؟
سمعت أن الكورانا تولّد الجنون كما تولّد الموت.
لا.. لا أريد أن أموت بسبب هذين الموبوئيْن، ولكنّنا سنُعاقب إن تركنا الحاجز.
سنرجع بعد أن يدخل هذان المجنونان إلى بيتهما.
هيّا.. لا أحد سيمرّ من هنا، سنعلّق اللافتة الحمراء قبل أن نهاتف الضّابط ونمضي.
نظرا إلى العروسين وهما على الأرض جالسان، بدأ أحدهما بقراءة اللافتة وهما يسمعان:
( خطر الموت، المكان موبوء يخضع لحجر صحيّ طويل ).
لا زال العروسان تحت المطر يهذيان: كورونا، كورونا... بدأت أنوفهما بالسّيلان، وبدأا يسعلان ويرتجفان، حركات عجيبة تستولي على الرّاقصيْن، الشّرطة تشاهد رقصة كورونيّة وتهرب، بات الشّارع خاليا من أضواء السّيارات، استلقيا على الأرض وباشرا ضحكا اخترق جدران البائسين، نهضا، صعدا درج المنزل، أخذا يبحثان عن مفتاح الشّقة بين الأشياء، باءت محاولاتهما بالفشل، همّا بكسر الباب، صاح الجيران وغلّقوا الأبواب، مراكب الشّرطة والإسعاف تزعق في فضاء محجور، كرنفال غريب من الضّحك والرّقص يباغت الأسطح وشرفات المنازل، يسير بموكبه وراء العروسيْن، ويلوّح للشّبابيك السّاكنة في أملها، النّوارس تراقص فضاءها، والدّنيا تتمايل على ايقاع يغنّي لعُرس الحياة.
9/4/2020
جلسا كلّ وراء شاشته للتّحدث عن خيبات لقائهما في الأسابيع السّابقة من يوم الزّفاف. قال لها وقد رأته يُخرج زفيرا طويلا: جاءنا فصل بارد من تحقيق الأحلام، وشتاء لا يتوقّف عن انهمار الأمنيّات، نحمل ألما عميقا كعمق المحيط، توقّف العالم عن التّجديف في لحظات، فقارب على الغرق.
أجابته دون النّظر إلى عينيه: كلّما تعبتُ ومللت من أسابيع الانتظار، تتمثّل أمامي... أميل برأسي على كتفك فأستريح من عناء الغياب.
- ولم لا تنظرين إليّ الآن؟
- وصلت زفراتك حدودي الضّبابيّة فحجبت عنّي رؤياك.
ضحك طويلا وقال: هيّا نتهيّأ وندخل الحلم.
- أخاف أن تصادفنا الكوابيس.
- لا تخافي ستكون أجمل من أيام خوفنا هذه.
- إذن هيّا نرتّب بطاقات الدّعوة ونكتب أسماء المدعوّين.
- أتريد دعوتهم لحفل زفافنا غدا؟
- نعم.
- إذن لا تدعو أكثر من عشرة أشخاص.
- لن ندعو أحدا إذن.. سنكتفي بأهلنا.. سأمحو الأسماء وألغي البطاقات، ستبدأ طقوس الحمّام، سيقذفونني بالبيض ويغرقونني تحت رغوة الصّابون، سيطبّلون ويصفّقون ويطلقون الأبواق حتى نصل صالون الحلاقة..
- صالونات الحلاقة مغلقة حتى تنتهي الأزمة.
- ها أنا ذا أهيّئ نفسي، أرتدي بدلتي وأضع ربطة عنقي الجميلة، وأحضر مع أهلي إلى بيتك.
- أنسيت أنّ بدلتك عند الخيّاط، باغتتنا المحنة، وبقيت هناك مع الحلم.
- لم أنس .. إنّما أنا أواصل الحلم، ها أنا ذا أمام بيتنا.. محمول على الأكتاف، ترفرف من حولي الأعلام، الحناجر تصدح بأهازيج للوطن، تعلو أصوات المغنّين.. وتهزّ الأرض أرجل الدّابكين.
- أنسيت أنّ التّجمّعات ممنوعة؟
- أنسيت أنّنا نحلم؟ هيّا أغمضي عينيك سنحلم بالذّهاب إلى بيتنا.
- لا نستطيع الخروج، حجر صحيّ في كلّ مكان.
- إذن سآتيك لنحلم معا.
- أنا أحلم بفستاني الأبيض، تجرّ أذياله الورود... وتضاء من حولي الشّموع، ويطول العزف لرقصة بين يديك.
- وماذا تنتظرين؟ أرتدي فستانك الآن، سأجهّز نفسي وآتيك بباقات من فرح..
ارتدت فستان زفاف من خيال، تزيّنت ومشت نحو الباب للوداع، عانقت الأحباب، تلت على مسامعهم عنوانها، وتركت على أكتافهم خارطة الوصول، بكوا خروج المدلّلة، دثّروها بالعزّ وتوّجوها بهالات من نور، همّت بالخروج بسرعة، فقلبها لا يحتمل نظرات المودّعين، قرأت رسائل حبّهم المكلّلة بالحنين، وأنصتت لوصيّة قرأتها الأمّ قبل بدء الاحتفال المهيب جاء فيها:
أيّ بنيّة.. ها أنت تغادرين بيتنا الذي يأويك، وفي غمرة حبّنا يُبقيك، وحضننا الذي ما برح يناديك.. وحُماة عزّ في النّائبات تحميك، فلا تحاولي النسّيان.
أيّ بنيّتي: ستختلف مراسم الأعياد ومراسم الزّفاف عمّا كانت عليه، ستغلق الأبواب ويغيب الأحباب فلا تنتظريهم، ستنام أيام الفرح إلى ما يشاء الله.. فاصبري على ما سيقسمه الله لك فكوني من الشّاكرين.
يا عنقود سعادتنا، أدركي جيّدا مدى بشاعة البلاء الذي داهم عالمنا في ساعة غفلة، وعِيْ جيّدا ما سبّبه من تغيّر في أسلوب الحياة، وضيق في الأحوال لا تحمد عقباها، فاحمدي الله على نعمة العطاء، واستغفريه يدفع عنك البلاء، واسأليه يعمّ الأمن من حولك والرّخاء.
أيّ أميرتي: أعرف أنّك قد اخترت فستان زفافك، ووضعت لمساته من خيالك، ومن رقيّ ذوقك كانت تفاصيله الرّقيقة، لكنّك لا تستطيعين ابتياعه اليوم، فنحن في زمن الخارج من بيته موبوء، والقاعد فيه محجور، نازلة عمّت البلاد، وفرّقت العباد، وأضحى العالم في سكون غريب... وكأنّه يأخذ استراحة مقاتل، يأمرنا أن نتأمّل ما لم نكن نرى، وننصت إلى ما لم نكن نسمع... فلا تحزني لغياب المدعويّن، أو شماتة الحاسدين، فلله الأمر من قبل ومن بعد، أرجو أن لا تتحسّري على قناديل مطفأة في الصّالات، ولا على ضجيج من صراخ أو أغنيّات، ولا تبكي غياب المزيّنات، فشعرك الشّلال ملحمة تنافس أجمل الحكايات، انشري الفرح في دواخلك وامض للحياة.
أيّ حبيبتي: أعلم أنّك الخلوقة التي تربّت، والعزيزة التي ما ذلّت، والنّجيبة التي أدركت الكثير من شاردات الحياة ووارداتها، وفي اختيار شريكها تأنّت، فقد عهدت فيك المثابرة والإقدام، والثناء والاحترام.. كوني لزوجك شمسا ليكون لك ظلّا، وكوني له ربيعا ليكون لك وردا، وكوني لأهله حبّا ليكونوا لك سعادة، لا تهجري القرآن وأحسني العبادة، فالله يورّث الصّالحين حسن الختام، ويبعد الماكرين عنك وشرّ الأنام.
أبهريه بحسن خلقك واختيار هندامك، وبهاء طلعتك وعطر مكانك، وجميل صنيعك ونشر أفضالك، وموزون كلامك وفصيح لسانك.
أيّ غاليتي: سيأخذك الرّفيق فكوني له رفيقة، شفّافة معطاءة رقيقة، لا ينطق لسانك إلا بقول الحقيقة، أبهريه بجمالك وعلمك وابتسامك، اخفضي له جناح البساطة؛ ليعلو فوق السّحاب، كوني العفيفة في الحضور والغياب.. امضي إلى حلمك آملة ضاحكة، واستبشري انتصارا للحياة.
مشت العروس بين الأجساد المغيّبة.. والحناجر المخبّأة بخوفها تطلق من حولها زغاريد فرح مكتومة، والعيون الدّامعة خلف النّوافذ ترسل أدعية سلام وتراتيل محبّة، أخذت الأيادي تلوّح للسّيارة الوحيدة في موكب الزّفاف الذي ما كان.
السّيارة تسابق الخوف وتمضي بهما، أخذا ينصتان لسمفونية الوجود، عزفتها شوارع خلت من البشر، ويذوبان في أريج نيسان وقد نثر أنفاسه على موكب فرح متخيّل.
أُوقِفَت السيّارة جانبا، ترجّل العروسان منها ومشيا بضع خطوات، توقّفا في وسط الشّارع، مدّ يدا لجذبها، والأخرى التفّت حول خصرها كزنّار، تشابكت أصابعها حول رقبته وأخذا يرقصان ويرقصان، يدوران ويدوران، والأشجار الواقفة على جانبيّ الطريق تصفّق لهما بلا انتهاء.. وتلك النّوافذ السّاكنة في البعد تغلق عينيها؛ حتى لا ترى جنون المحبّين.
أرعدت السّماء وبدت صواعقها ألعابا ناريّة تلوّن أنفاس المساء، الغيوم الرّاقصة بدأت تهوي بأثقالها لتشارك الفرح، نسيا نفسيهما تحت المطر.. لا عيون تتفحّص أذيال فستان العروس في هذا المسرح العظيم، ولا آذان تصغي لأغنيّات الحالمين، حملها بين يديه وأخذ يدور ويدور، صعدا إلى السّيارة ثانية وانطلقا مع الرّيح.
مع طلوع الفجر وصلا حدود بيتهما البعيد، استوقفتهما دوريّات الصّباح.. تدثّرّا بغزارة المطر، وأخذا ينثران الابتسامات في وجه المستنفرين، تلعثم الكلام في الشّفاه الضّاحكة، خيّم الشّحوب في وجه الأرض رغم اخضرار المساحات على صدرها النديّ، أخذت العروس تتفقّد فستانها المزركش بالتّراب، تستمع إلى دندناته التي تستعدّ للمغامرة، وتحتفل بانتصارات الوصول، صرخ رجال الأمن بهما: ماذا تفعلان هنا؟ من أين جئتما؟ لم خرجتما من البيت؟ أين بيتكما؟
أشارا بأصابعهما نحو شرفة المنزل البهيّ، أخذا يضحكان ويضحكان، يرقصان ويرقصان.. يدوران حول السّائليْن، دُهش الشّرطيّان وهمس أحدهما للآخر: هيّا نفرّ من المكان.
لماذا؟
سمعت أن الكورانا تولّد الجنون كما تولّد الموت.
لا.. لا أريد أن أموت بسبب هذين الموبوئيْن، ولكنّنا سنُعاقب إن تركنا الحاجز.
سنرجع بعد أن يدخل هذان المجنونان إلى بيتهما.
هيّا.. لا أحد سيمرّ من هنا، سنعلّق اللافتة الحمراء قبل أن نهاتف الضّابط ونمضي.
نظرا إلى العروسين وهما على الأرض جالسان، بدأ أحدهما بقراءة اللافتة وهما يسمعان:
( خطر الموت، المكان موبوء يخضع لحجر صحيّ طويل ).
لا زال العروسان تحت المطر يهذيان: كورونا، كورونا... بدأت أنوفهما بالسّيلان، وبدأا يسعلان ويرتجفان، حركات عجيبة تستولي على الرّاقصيْن، الشّرطة تشاهد رقصة كورونيّة وتهرب، بات الشّارع خاليا من أضواء السّيارات، استلقيا على الأرض وباشرا ضحكا اخترق جدران البائسين، نهضا، صعدا درج المنزل، أخذا يبحثان عن مفتاح الشّقة بين الأشياء، باءت محاولاتهما بالفشل، همّا بكسر الباب، صاح الجيران وغلّقوا الأبواب، مراكب الشّرطة والإسعاف تزعق في فضاء محجور، كرنفال غريب من الضّحك والرّقص يباغت الأسطح وشرفات المنازل، يسير بموكبه وراء العروسيْن، ويلوّح للشّبابيك السّاكنة في أملها، النّوارس تراقص فضاءها، والدّنيا تتمايل على ايقاع يغنّي لعُرس الحياة.
9/4/2020