النقاط التي سلطت الضوء عليها أمس، كنت أشرت لها في العديد من المقالات منذ نهاية عام 2008 حتى الأمس القريب، وشكلت الإرهاصات الضرورية للتحولات والإنزياحات في خارطة العالم. غير أن ظهور وتفشي وباء “كوفيد 19” في الصين “ووهان” نهاية 2019 ثم انتشاره في ربوع الكرة الأرضية منذ مطلع العام 2020 وخاصة في دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وما نجم من تخبط وفشل وإرباك في العديد من الدول المتقدمة في مواجهه الفايروس، وما انتهجته تلك الدول من سلوكيات لا تمت للمدنية العالمية بصلة، في الوقت الذي تمكنت الصين من تجاوز خطر الجائحة الكونية بسرعة فاقت التقديرات، الأمر الذي سمح للمتابعين لتطورات المشهد العالمي اعتبار هذه المحطة نقطة ذروة في سيرورة التحولات السابقة، ووضع بين أيديهم البرهان للبناء عليه لاستشراف مستقبل النظام العالمي ووصوله إلى مرحلة كيفية فاصلة بين نظامين عالميين، النظام المتهالك القديم، والنظام الذي يتشكل حاليا، ومازالت ملامحة لم تتبلور تماما بعد. حتى كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي الأسبق نشر مقالا في 3/4/2020 الماضي في “وول ستريت جورنال” اضطر فيه إلى أن يناقض استنتاجاته السابقة، التي كان يؤكد فيها، على ان الغلبة ستكون لأميركا، وبتعبير آخر، كان يجزم، بأن العالم سيبقى وفق خاضعا للمعايير القيمة والسياسية الإستراتيجية الأميركية. لكنه في مقالته تراجع كليا عما ذكره سابقا، عندما قال، أن “جائحة الكورونا ستغير العالم للأبد”، وهناك العديد من علماء وخبراء الفكر السياسي وجلهم من الأميركيين سبقوا الثعلب العجوز في ما خلص إليه.
لكن بعيدا عن كيسنجر وأساتذة الفكر السياسي، فإن أي ملم بمبادىء علم السياسة يستطيع أن يستشرف من جملة الظواهر الملازمة لوباء الكورونا آفاق عملية الهدم للنظام العالمي القديم وبناءه بشكل مغاير نوعيا، ومن أبرز الظواهر التي رأيناها وشاهدناها وقرأناها في وسائل الإعلام، هي: أولا مبادرة الولايات المتحدة بشن حرب عالمية ناعمة دون قنابل وصواريخ وطائرات وجنود من خلال استخدام الأسلحة الجرثومية على الصين الشعبية. وقرار الحرب اتخذ في العام 1985 من قبل مجلس الأمن القومي الأميركي، وفق ما ذكره الدكتور طلال ابو غزالة؛ ثانيا الإنشداد والتركيز على “الأنا” القومية لهذا البلد أو ذاك. وتمثل ذلك في كل دول العالم بدءا من الولايات المتحدة وانتهاء بآخر دولة رأسمالية، وتجلى ذلك فيما بين دول الإتحاد الأوروبي، التي تركت إيطاليا وأسبانيا وصربيا وغيرها تقلع شوكها بأيديها، وتخلت عمليا ومن حيث تدري عن العقد السياسي والاقتصادي والأمني والصحي والثقافي للاتحاد؛ ثالثا عودة دول العالم الأول لمنطق القراصنة في العصور الوسطى، وهذا ما مارسته كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا و”إسرائيل” وغيرها في اختطاف طرود أجهزة التنفس والكمامات والمعدات الطبية المخصصة لدول صديقة وحليفة دون أي رادع، ليس هذا فحسب، بل أن بعض تلك الدول أميركا نموذجا شاءت إنتاج دواء خاص بها ويقتصر استخدامه عليها فقط؛ رابعا اشتداد وتعمق الأزمة الاقتصادية العالمية. لا سيما وأن تفشي الوباء الكوروني في دول العالم فرض على كل الدول سياسات اقتصادية مغايرة للدورة الاقتصادية العادية والمنتظمة في بلدانها، وفرض شلل ووقف قطاعات عمل كاملة، ولا يقتصر الأمر على الطيران والموانئ والسياحة، بل يشمل قطاعات إنتاجية عديدة، مما غير معادلات توزيع وتقسيم العمل داخل الدول ذاتها، وفيما بين الدول عموما، مما ترك أثرا مباشرًا على العملية الاقتصادية، وأدخل اقتصادات الدول في ركود غير مسبوق، وأشرس وأقوى من أزمة 1929 و1930، و2008، ويحمل تهديدا خطيرا على مستقبل إقتصادات الدول فيما لو استمرت الجائحة تغزو العالم لشهور قادمة؛ رابعا الخطاب السياسي المعتمد بين الدول في ظل أزمة الكورونا يقوم على لغة التهديد والوعيد والانتقام، ولا يرتكز على خطاب التعاون والتكافل لمواجهة التحدي. وهذا عزز منطق البلطجة والقرصنة؛ خامسا أظهرت أزمة الكورونا الفشل المدقع للدول والأقطاب العالمية الأولى وخاصة أميركا ودول الإتحاد الأوروبي ومعها دولة الاستعمار الإسرائيلية، ليس هذا فحسب، بل أنها تلكأت وتراخت في مواجهة الأزمة، مع ان الأجهزة الأمنية في تلك الدول أبلغت صناع القرار بانتشار الوباء في بلدانها، ومع ذلك لم تحرك ساكنا؛ سادسا كما أن اعتماد دول العالم الأول شعار “مناعة القطيع” وتبنيها نظرية مالتوس للقضاء على كبار السن، زاد من انكشاف إفلاسها، وسقوطها الأخلاقي والقيمي .. إلخ من الظواهر الحاملة لعوامل الهدم.
ويمكن بموضوعية الاستنتاج استنادا للسياسات الماثلة أمامنا التأكيد على الآتي، أولا العالم بات في ظل أزمة الكورونا يسير بخطى أسرع من السابق نحو العودة إلى مربع الدولة القومية؛ ثانيا إنتهاء مرحلة العولمة الأميركية المتوحشة، وأساسا وضع ترامب وإدارته المداميك الأولى لإضمحلالها واندثارها؛ ثالثا زوال الإتحاد الأوروبي كمنظومة. لأن التقوقع على الذات القومية، كان العنوان الأبرز للدول المركزية في الإتحاد في ظل أزمة الكورونا. وهذا ما أشرت له في مقالة الأمس، عندما ذكرت أن خروج بريطانيا من الإتحاد لم يكن مقتصرا عليها، إنما ستتبعه دول أخرى؛ رابعا هذا المخاض سينعكس على هيكلة العالم بشكل مغاير ووفقا لموازين القوى العالمية الجديدة، والتي بالضرورة ستكون الصين صاحبة باع طويل فيه، لإنها تمكنت من تجاوز الأزمة بسرعة، وكونها مدت يد العون للدول الأخرى بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي وخاصة ايطاليا، إضافة لتعافي اقتصادها من الركود.
لكن من السابق لأوانه الحديث عن هوية وكيفية بناء النظام العالمي الجديد. بيد ان الضبابية في شاكلة النظام، لا تلغي حقيقة راسخة تقول، أن موازين القوى هي التي ستحدد مركباته ومنظوماته السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية. ومن شبه المؤكد انه سيكون نظام متعدد الأقطاب، وهذا سيفرض إعادة هيكلة هيئة الأمم المتحدة بمعايير النظام الدولي الجديد. وأعتقد ان التحولات الدراماتيكية لن تنفي دور الرأسمالية، بل ستبقى كجزء ومكون من النظام الدولي الجديد وبشروطه. لكن هل تظهر منظومات فكرية سياسية جديدة؟ هل يصبح النظام الصيني نموذجا يحتذى به؟ من الصعب التكهن بما ستؤول إليه الأمور. لكن التغيير قادم لا محالة. والسلاح النووي لن يحل معضلة أميركا، بل قد يكون عبئا عليها، كما حصل بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي. وقد تذهب أميركا إلى التفكك. لا سيما وان العديد من الولايات ككاليفورنيا وتكساس وغيرها هددت بالانفصال أكثر من مرة، وآخرها في عهد الرئيس دونالد ترامب. خاصة وان الإدارة الحالية فشلت فشلا ذريعا، كما قال كيسنجر في مقاله المذكور آنفا بشكل غير مباشر، ان الولايات المتحدة بحاجة إلى إدارة جديدة “في ظل الانقسام السياسي الذي نعيشه اليوم.” وهو ما يتطلب وجود حكومة “تتحلى بالكفاءة وبُعد النظر للتغلب على العقبات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق العالمي المترتبة على تفشي الوباء.”
وباختصار شديد لكل ما تقدم سيكون انعكاس مباشر وغير مباشر على مكانة دولة الاستعمار الإسرائيلية، لن تنفذ منه، مهما حاولت من المناورات، وتسويق الذات في حالة السيولة التي تشهدها المنظومة العالمية الآيلة للسقوط والغياب، لترسيخ حضورها في العالم القادم. السيناريوهات كلها مفتوحة دون استثناء. لكن أسباب وجودها وقبلها الحركة الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر لم تعد قائمة
لكن بعيدا عن كيسنجر وأساتذة الفكر السياسي، فإن أي ملم بمبادىء علم السياسة يستطيع أن يستشرف من جملة الظواهر الملازمة لوباء الكورونا آفاق عملية الهدم للنظام العالمي القديم وبناءه بشكل مغاير نوعيا، ومن أبرز الظواهر التي رأيناها وشاهدناها وقرأناها في وسائل الإعلام، هي: أولا مبادرة الولايات المتحدة بشن حرب عالمية ناعمة دون قنابل وصواريخ وطائرات وجنود من خلال استخدام الأسلحة الجرثومية على الصين الشعبية. وقرار الحرب اتخذ في العام 1985 من قبل مجلس الأمن القومي الأميركي، وفق ما ذكره الدكتور طلال ابو غزالة؛ ثانيا الإنشداد والتركيز على “الأنا” القومية لهذا البلد أو ذاك. وتمثل ذلك في كل دول العالم بدءا من الولايات المتحدة وانتهاء بآخر دولة رأسمالية، وتجلى ذلك فيما بين دول الإتحاد الأوروبي، التي تركت إيطاليا وأسبانيا وصربيا وغيرها تقلع شوكها بأيديها، وتخلت عمليا ومن حيث تدري عن العقد السياسي والاقتصادي والأمني والصحي والثقافي للاتحاد؛ ثالثا عودة دول العالم الأول لمنطق القراصنة في العصور الوسطى، وهذا ما مارسته كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا و”إسرائيل” وغيرها في اختطاف طرود أجهزة التنفس والكمامات والمعدات الطبية المخصصة لدول صديقة وحليفة دون أي رادع، ليس هذا فحسب، بل أن بعض تلك الدول أميركا نموذجا شاءت إنتاج دواء خاص بها ويقتصر استخدامه عليها فقط؛ رابعا اشتداد وتعمق الأزمة الاقتصادية العالمية. لا سيما وأن تفشي الوباء الكوروني في دول العالم فرض على كل الدول سياسات اقتصادية مغايرة للدورة الاقتصادية العادية والمنتظمة في بلدانها، وفرض شلل ووقف قطاعات عمل كاملة، ولا يقتصر الأمر على الطيران والموانئ والسياحة، بل يشمل قطاعات إنتاجية عديدة، مما غير معادلات توزيع وتقسيم العمل داخل الدول ذاتها، وفيما بين الدول عموما، مما ترك أثرا مباشرًا على العملية الاقتصادية، وأدخل اقتصادات الدول في ركود غير مسبوق، وأشرس وأقوى من أزمة 1929 و1930، و2008، ويحمل تهديدا خطيرا على مستقبل إقتصادات الدول فيما لو استمرت الجائحة تغزو العالم لشهور قادمة؛ رابعا الخطاب السياسي المعتمد بين الدول في ظل أزمة الكورونا يقوم على لغة التهديد والوعيد والانتقام، ولا يرتكز على خطاب التعاون والتكافل لمواجهة التحدي. وهذا عزز منطق البلطجة والقرصنة؛ خامسا أظهرت أزمة الكورونا الفشل المدقع للدول والأقطاب العالمية الأولى وخاصة أميركا ودول الإتحاد الأوروبي ومعها دولة الاستعمار الإسرائيلية، ليس هذا فحسب، بل أنها تلكأت وتراخت في مواجهة الأزمة، مع ان الأجهزة الأمنية في تلك الدول أبلغت صناع القرار بانتشار الوباء في بلدانها، ومع ذلك لم تحرك ساكنا؛ سادسا كما أن اعتماد دول العالم الأول شعار “مناعة القطيع” وتبنيها نظرية مالتوس للقضاء على كبار السن، زاد من انكشاف إفلاسها، وسقوطها الأخلاقي والقيمي .. إلخ من الظواهر الحاملة لعوامل الهدم.
ويمكن بموضوعية الاستنتاج استنادا للسياسات الماثلة أمامنا التأكيد على الآتي، أولا العالم بات في ظل أزمة الكورونا يسير بخطى أسرع من السابق نحو العودة إلى مربع الدولة القومية؛ ثانيا إنتهاء مرحلة العولمة الأميركية المتوحشة، وأساسا وضع ترامب وإدارته المداميك الأولى لإضمحلالها واندثارها؛ ثالثا زوال الإتحاد الأوروبي كمنظومة. لأن التقوقع على الذات القومية، كان العنوان الأبرز للدول المركزية في الإتحاد في ظل أزمة الكورونا. وهذا ما أشرت له في مقالة الأمس، عندما ذكرت أن خروج بريطانيا من الإتحاد لم يكن مقتصرا عليها، إنما ستتبعه دول أخرى؛ رابعا هذا المخاض سينعكس على هيكلة العالم بشكل مغاير ووفقا لموازين القوى العالمية الجديدة، والتي بالضرورة ستكون الصين صاحبة باع طويل فيه، لإنها تمكنت من تجاوز الأزمة بسرعة، وكونها مدت يد العون للدول الأخرى بما في ذلك الولايات المتحدة ودول الإتحاد الأوروبي وخاصة ايطاليا، إضافة لتعافي اقتصادها من الركود.
لكن من السابق لأوانه الحديث عن هوية وكيفية بناء النظام العالمي الجديد. بيد ان الضبابية في شاكلة النظام، لا تلغي حقيقة راسخة تقول، أن موازين القوى هي التي ستحدد مركباته ومنظوماته السياسية والاقتصادية والقانونية والثقافية. ومن شبه المؤكد انه سيكون نظام متعدد الأقطاب، وهذا سيفرض إعادة هيكلة هيئة الأمم المتحدة بمعايير النظام الدولي الجديد. وأعتقد ان التحولات الدراماتيكية لن تنفي دور الرأسمالية، بل ستبقى كجزء ومكون من النظام الدولي الجديد وبشروطه. لكن هل تظهر منظومات فكرية سياسية جديدة؟ هل يصبح النظام الصيني نموذجا يحتذى به؟ من الصعب التكهن بما ستؤول إليه الأمور. لكن التغيير قادم لا محالة. والسلاح النووي لن يحل معضلة أميركا، بل قد يكون عبئا عليها، كما حصل بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن الماضي. وقد تذهب أميركا إلى التفكك. لا سيما وان العديد من الولايات ككاليفورنيا وتكساس وغيرها هددت بالانفصال أكثر من مرة، وآخرها في عهد الرئيس دونالد ترامب. خاصة وان الإدارة الحالية فشلت فشلا ذريعا، كما قال كيسنجر في مقاله المذكور آنفا بشكل غير مباشر، ان الولايات المتحدة بحاجة إلى إدارة جديدة “في ظل الانقسام السياسي الذي نعيشه اليوم.” وهو ما يتطلب وجود حكومة “تتحلى بالكفاءة وبُعد النظر للتغلب على العقبات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق العالمي المترتبة على تفشي الوباء.”
وباختصار شديد لكل ما تقدم سيكون انعكاس مباشر وغير مباشر على مكانة دولة الاستعمار الإسرائيلية، لن تنفذ منه، مهما حاولت من المناورات، وتسويق الذات في حالة السيولة التي تشهدها المنظومة العالمية الآيلة للسقوط والغياب، لترسيخ حضورها في العالم القادم. السيناريوهات كلها مفتوحة دون استثناء. لكن أسباب وجودها وقبلها الحركة الصهيونية نهاية القرن التاسع عشر لم تعد قائمة