الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الاتجاه العِلماني المُعاصِر في عُلوم القرآن الكَريم الجابِري..أُنموذجاً بقلم: د. سامي عطا الجيتاوي

تاريخ النشر : 2020-04-09
الاتجاه العِلماني المُعاصِر في عُلوم القرآن الكَريم
الجابِري .......أُنموذجاً
مقــدمة :
القرآن كتاب الله الخالد الذي تكفل بحفظه في حروفه وكلماته، وسوره وآياته، وهو كتابه المعجز في نظمه وترتيبه، ومعانيه وأخباره، ولكن كثيراً من المستشرقين وتلاميذهم أرادوا التشكيك في هذه المسلَّمات، متدثرين بالمنهج العلمي ، وهم بعيدون كل البعد عنه، فألقوا شبهاتهم حول جمع القرآن وتدوينه، وترتيب سوره وآياته، ومنكرين لأمية الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولوقوع النسخ في القرآن الكريم ، محاولين زعزعة الثقة به في نفوس المسلمين، فتصدى لهم علماء الاسلام ، وأفشلوا مخططاتهم . ولقد سلطت الأضواء في هذا البحث على موقف تلميذ من تلاميذ المستشرقين من ترتيب القرآن ، وغيرها من الشبهات ، عارضا بعض شبهاته ، ومتعقبا لها بالرد والتفنيد ، سائلا المولى –سبحانه – التسديد والتوفيق .
وقد شهدت الساحة الثقافية جدلاً كبيراً حول ما يسمى بـ " القراءات الجديدة للقرآن الكريم " ، أو القراءات المعاصرة ، متدثرة بالمناهج الحَداثية والعَلمانية - (((( هامش : مصطلح ( العَلمانية ) : مصطلح غربي الأصل ، والنشأة ، والمولد ، ظهر في منتصف القرن الماضي ، ويعني دنيوياً غير ديني ، ويقابله بالانكليزية : secular ، وبالفرنسية : secularise أوLaique ، وهو كما ورد في معجم العلوم الاجتماعية : نسبة إلى ( العَلم .. بمعنى : العالم ) ، وهو خلاف الديني أو الكهنوتي ، وهذه تفرقة مسيحية لا وجود لها في الإسلام .. والعَلمانية- بفتح العين- هي الترجمة الصحيحة على غير قياس لكلمةsecularism الإنجليزية أو secularit الفرنسية ، وهاتان الكلمتان لا صلة لهما بلفظ العلم ومشتقاته ، فالعلم في الإنجليزية والفرنسية يعبر عنه بكلمة science والمذهب العلمي نطلق عليه كلمة scientism والنسبة إلى العلم هي scientific أو scientifique في الفرنسية والترجمة الدقيقة للكلمة هي " العالمانية " أو " الدنيوية " أو " اللادينية ". أما العلمانية في الاصطلاح : فهي دعوة إلى إقامة الحياة على غير
الدين ، وتعنى في جانبها السياسي بالذات.. اللادينية في الحكم، وهى اصطلاح لا صلة له بكلمة العلم ، والمذهب العلمي. وخلاصة القول : إن العَلمانية اسم لمذهب فكري ، عقدي ، اجتماعي ، يهدف إلى حمل الناس على إبعاد الدين عن حياتهم ، وعزل الدِّين عن الحياة الاجتماعية للأفراد ، وعن شؤون الإدارة ، والتعليم ، والحكم لخلخلة ما اتفق عليه علماءالمسلمين ، ونزع القداسة عن القرآن الكريم ، والتشكيك في تواتره ؛ وتحريف المعاني القرآنية ، مع تناقض هذه المناهج وتعارضها مع مقاصد الشريعة الإسلامية، ومردُّ ذلك لعدم احترامها لخصوصيات القرآن الكريم ، ودعوتها إلى (عقلنة) النص القرآني، واعتبار كل ما يعارض العقل شواهد تاريخية، ونزع القداسة عن القرآن الكريم ، وربط الآيات القرآنية بالظروف والسياقات الزمنية، بما يعني أن القرآن الكريم ليس إلا نصّاً تاريخيّاً.
والواقع أن القراءات الحداثية والعلمانية للقرآن الكريم ،التي قام بها الجابري الخبيث ، أو القراءات المعاصرة التي قام بها المهندس الاسماعيلي شحرور المغرور !! ما هي إلا امتداد للدراسات الاستشراقية التي يمثلها " نولدكه وتلاميذه من بعده " في دراسته عن تاريخ القرآن الكريم؛ حيث انتهى إلى أن نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ما هي إلا امتداد لنبوات العهد القديم، وأن القرآن الكريم مأخوذ عن المأثورات اليهودية والمسيحية، وهذه الدراسات تُخفي وراءها مواقف استعمارية من جهة، وآيديولوجية من جهة أخرى .فَتَلَقَّفَ بعض الحداثيين والعلمانيين الإمّعات أمثال : محمد أركون، ونصر حامد أبو زيد ، وعبد المجيد الشرفي، وحسن حنفي، ومحمد شحرور ، والطيب تيزيني ، ومحمد عابد الجابري، وغيرهم ، هذه الآراء واعتبروها من إبداعاتهم ، وما هي في حقيقتها إلا استنساخ لآراء المستشرقين ، وترويج لأضاليلهم ، وقد قتلها علماؤنا بحثاً ، وبينوا وجه الحق لمن يريده ويطلبه ، وما اشتملت عليه من إفكٍ وضلال..
وأغلب من ذكرنا ليسوا من المتخصصين في الدراسات الشرعية بالمعنى الدقيق لكلمة التخصص، فهم في العموم متخصصون في الفلسفة ، والأدب العربي ، وقد جوَّزوا لأنفسهم أن يتكلموا في علمٍ له رجالُه الذين يحذقون قواعده وضوابطه، ويُتقنون أصوله ومبادئه، وإنما تسَوَّر هؤلاء على هذا الباب، بدعوى فتح مجالات الاجتهاد والتجديد، لإخراج الشعب العربي من التخلف إلى التقدم، ومن التبعية المطلقة لسلطة النقل ، إلى الاحتكام إلى مقولات العقل!!!
والدكتور محمد عابد الجابري كاتب مغربي ، ولد عام 1936م في قرية " فكيك " المغربية على الحدود الجزائرية ، ودرس بها ، ثم غادرها إلى " الدار البيضاء" حيث انخرط في خلايا العمل الوطني في بداية الخمسينات، وفي عام 1958م انتقل إلى دمشق للحصول على الإجازة في الفلسفة. ولم يفلح ، فعاد للمغرب لينتسب إلى الجامعة المغربية ، وفيها أكمل مشواره الأكاديمي، وفي 1964م حصل على " الليسانس" في الفلسفة ، ثم حصل على دبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967، وعلى دكتوراه الدولة في الفلسفة عام 1970م من كلية الآداب بالرباط، التي عمل فيها أستاذاً للفلسفة والفكر العربي الإسلامي ، له العديد من الكتب من أشهرها: (نحن والتراث) و(نقد العقل العربي) وقد صدر في أجزاء ثلاثة هي (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي) و(العقل السياسي العربي) و(الخطاب العربي المعاصر) وغيرها.
والجابري ماركسيٌّ في الأصل ، وكان قياديا في الاتحاد الاشتراكي ، ثم ترك العمل الحزبي وتفرغ للدراسة والتدريس ، وقد شارك في العديد من المؤتمرات العلمية والثقافية ، وله مشاركات في الصحف والمجلات. كما أصدر الجابري مجلة (نقد وفكر)، الشهرية. إلى أن توفي يوم3 مايو- أيار ، عام2010م .. والجابري كذلك من عُتاة العَلمانيين وأشدهم خُبثاً - فهو بقتطع النصوص من سياقها ، وينتقي الروايات الضعيفة دون الصحيحة ، والتمويه بعبارات فضفاضة كقوله : تعددت الروايات ، وليست العبرة بالكثرة بل بالصحة .. - وهو بارع في التمويه ، بل له مهارة خاصة في الخداع والتلبيس.. لذا فهو لا يستعمل أبدا مصطلح العَلمانية في كتبه وأبحاثه، بل يرفض استعمال هذا المصطلح، مع أنه يناضل بكل قوته من أجل تثبيت مفهومه في الفكر العربي ، وما يستتبع هذا التثبيت من محاربة للدين والتدين بمفهومهما الأصيل، وإحلال دين وتدين يتماشى مع مفهوم العلمانية، التي يستعيض عن مصطلحها بمصطلحات من قبيل العقلانية ، والديمقراطية.. لأن المجتمع عنده لم يستكمل عملية التهيئة اللازمة لقبول مثل هذا النوع من المصطلحات.. يقول الجابري:" لا أرى أن الوطن العربي في وضعيته الراهنة يتحمل ما يمكن أن نُعبِّر عنه بنقد لاهوتي ، لنا حرمات يجب أن نحترمها حتى تتطورالأمور..؟! وقال : يجب ألا نيأس وألا نقنط ، لأن المرحلة مرحلة قرن أوقرنين ...!!
وانتقدَ من يرى أن من الواجبِ مهاجمة اللاعقلانية..؟؟ في عقر دارها ، واعتبر هذا خطأً، لأن مهاجمة الفكر اللاّعقلاني في مُسَلَّماته؛ في فروضه؛ في عقر داره، يسفر في غالب الأحيان عن: إيقاظٍ وتنبيهٍ ورد فعلٍ، وبالتالي تعميم الحوار بين العقل ( واللاّعَقْلْ ) ، والسيادة في النهاية ستكون خاضعةً (لللاّعقل) ، لأن الأرضية أرضيته، والميدان ميدانه، والمسألة مسألة تخطيط". ((( الجابري ، التراث والحداثة : ص259-260.))) مما حدا بالعلماني الماركسي جورج طرابيشي إلى القول : " بأن الجابري تصدى للعقل الاسلامي في شبه حصان طروادة " ((( جورج طرابيشي : مذبحة التراث ، ص118 )))) فالجابري يتستَّرَ ويتخفى في مشروعه الأخير عن القرآن ، كأنه مستشرق متخفٍ في ثياب عربي!
وقد خرج علينا الجابري بدراسات قرآنية كلها وساوس وشبهات ، وفَرِحَ بكتاباته العلمانيون والحداثيون الذين يُكِنُّون العداء للإسلام.. وكان ما كتبه الجابري عن القرآن الكريم، من آخر ما أَلَّفه ، واشتمل على أربعة كتب، صدرت عن مركز دراسات الوحدة العربية ...... الأول منها تحت عنوان : (مدخل إلى القرآن الكريم: الجزء الأول في التعريف بالقرآن)، وهو ذات العنوان الذي سبق واتخذه المستشرق الفرنسي" بلاشير " لكتابه عن القرآن ، وكان تحت عنوان : " مدخل إلى القرآن " ؟! والثلاثة الأخرى أسماها (فهم القرآن الحكيم: التفسير الواضح حسب ترتيب النـزول)؛
وفي الفصلين الأوليين من الكتاب الأول: "مدخل إلى القرآن الكريم: الجزء الأول في التعريف بالقرآن الكريم" : تحدث الجابري عن الأوضاع التي كانت موجودة لحظة نزول الوحي على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأشار إلى انتشار التوحيد في مختلف المناطق المحيطة بالجزيرة العربية: مصر، وبلاد الشام، والعراق، وغيرها، كما أشار إلى عدة فرق انشقت عن المسيحية واعتبرت المسيح - عليه السلام - إنساناً وليس إلهاً كما ادَّعت المسيحية الرسمية، كفرقة (الأبيونية) - ، قال الجابري في مقال له بجريدة الإتحاد الاماراتية (( نشر يوم الثلاثاء:27. 12. 2005م )) وقد ذهب بعض الكتاب العرب المعاصرين - ويقصد الكاتب الماركسي : خليل عبد الكريم - إلى حد القول بأن هذه الفرقة هي التي ''حَضَّرَت'' لظهور محمد - عليه السلام -في صورة نبي..؟ بل اعتبر أن نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم – كانت نتيجة تعاون خديجة– رضي الله عنها - ، وابن عمها ( ورقة بن نوفل ) على صناعة (القادم المبارك ) حتى صار هو ( القادم المنتظر ؟!) (( انظركتاب فترة التكوين قي حياة الصادق الأمين ): للماركسي خليل عبد الكريم ، ص 11،و : ص 151-168)) -
ورجَّح الجابري أن تكون هي الفرقة التي أشار إليها القرآن الكريم في قوله - تعالى -:( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) (المائدة: ٢٨) .. وهذا مخالف لما عليه علماؤنا ، فقد قال مرعي الكرمي في كتابه قلائد المرجان في الناسخ والمنسوخ من القرآن ، ((تحقيق د. سامي عطا حسن ، ص 173)) : هذه الآية خاصة بالنجاشي ووفده الذين أسلموا لما قدموا على النبي – صلى الله عليه وسلم – وهم ( اثنان وثلاثون ،أو أربعون ، أو سبعون ، أوثمانون رجلا ، وليس المراد كل النصارى ،. وقال الطبري ومعظم المفسرين : " إن هذه الآية والتـي بعدها نزلت فـي نفر قِدموا علـى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نصارى الـحبشة، فلـما سمعوا القرآن أسلـموا واتبعوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. وقـيـل: إنها نزلت فـي النـجاشي ملك الـحبشة وأصحاب له أسلـموا معه "(( جامع البيان ج7:ص2 . ولم يرجح أيٌّ منهم ما رجحه الجابري .؟!)) ثم أشار الجابري إلى فرقة أخرى ثارت على التثليث وهي (الآريوسية) ،نسبة إلى آريوس المولود عام 270م، وأعلن ثورته على القول بألوهية المسيح عام 323م، مؤكداً بشريته، مقرراً أن الأب وحدَه هو الإله، ومن هنا وصف أتباعه بالموحدين - (( انظر : د. محمد أحمد الحوفي : لغويات جديدة ، ،بحث :" كلمة الأريسيين " ص : 73-83. وهو بحث ألقاه الحوفي في إحدى مؤتمرات مجمع اللغة العربية بالقاهرة . وعنه نقل الجابري ، دون أن يشير إلى ذلك .!!؟ ))) . ثم تحدث عن ظاهرتين:
الأولى: تبشير بعض الرهبان كالراهب بحيرى في بُصرى الشام ، وحديث أحبار يهود عن قرب ظهور نبي جديد وتفاخرهم بأنه سيكون من بني إسرائيل.
والثانية: عن رحلة الباحثين عن الدين الحق، أمثال : سلمان الفارسي - رضي الله عنه - .. والحنفاء من قريش - (( قال الجابري في هامش صفحة 58 من كتابه : مدخل إلى القرآن الكريم: تذكر المراجع الاسلامية من بين الحنفاء– ولم يذكر اسم مرجع منها – كعادته في التدليس والتمويه – ثم أورد عدة أسماء منها : قس بن ساعدة ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وعدي بن زيد العبادي .! وورقة بن نوفل القرشي ، قال الدكتور عبد الحليم محمود : ولا نعدُّ ورقة بن نوفل حنيفياً ، بل هو نصراني ، تعلم العبرية وقرأ بها الأناجيل . وعابه زيد بن عمرو بن نفيل على ذلك فقال : " أنا استمر على نصرانيتي ، إلى أن يأتي النبي الذي تبشرنا به الأحبار " انظر كتابه : التفكير الفلسفي في الاسلام ، ص 24. قال تعالى : ( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ..) ( آل عمران : 67) وليس بعد كلام الله كلام ..)) -
واستشف الجابري من رسالتي الرسول - صلى الله عليه وسلم - لهرقل إمبراطور الدولة الرومانية، وللمقوقس حاكم مصر، أن هناك طائفة مُوَحِّدَة في مملكتيهما وهم : ( الأريسيون)، أتباع (آريوس) الذي دعا إلى التوحيد ورفض التثليث الذي أقره مجمع نيقية – سنة "325 م " ليصل إلى النتيجة التالية وهي : أن التوحيد الذي جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو انعكاس ومرآة للتوحيد الذي كانت تعج به الجزيرة العربية وما حولها، وهو ليس جديداً كما يتوهم الدارسون، وقد انضمت كل هذه الفئات والطوائف إلى الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما دعا إلى التوحيد؛ لأنها وجدت عنده ما كانت متمسكة به.. وهذا الكلام امتداد لكلام " طه حسين " في مطلع القرن العشرين في كتابه: : " في الشعر الجاهلي " المأخوذ من قول " المستشرق جيب" في كتابه : " المذهب المحمدي" بأن القرآن الكريم هو انعكاس لبيئة الجزيرة العربية في عقل محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والفرق بين كلام الجابري وبين كلام طه حسين والمستشرق جِبّْ في الكَمّ، فقد تحدث الجابري عن قضية واحدة هي قضية (التوحيد) في القرآن الكريم، لكن " طه حسين وجِيبْ " تحدثا عن القرآن الكريم كله.
وهذا التصوير الذي تكلف الجابري في بلورته عن المنطقة، ليس صحيحاً ولا سليماً، بل هناك أدلة تدل على خطئه في هذا التصوير ، منها :
الدليل الأول : يناقض تصوير الجابري لحال البشرية غداة بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - تصوير الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتلك الحال؛ حيث ورد في عدة أحاديث منها ما حدثنا به عياض المجاشعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذات يوم في خطبته: "... إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب.. الحديث " (صحيح مسلم ، حديث رقم (2865)) ، وهذا الحديث يبين فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - حال البشرية غداة بعثته، ويبين فيه أن الله نظر إلى أهل الأرض غداة بعثته فمقتهم ، لأنهم انحرفوا عن جـادة الصواب في معرفتـه وعبادته - سـبحانه وتعـالى - ، والمقت أشد الغضب، ولا شك أن تصوير الرسول الذي لا ينطق عن الهوى أشد دقة من كلام الجابري وغيره في تصوير حال أهل الأرض غداة بعثته - صلى الله عليه وسلم -
الدليل الثاني: لو كان الوضع كما صوره الجابري؛ وهو أن التوحيد بخير، وأن الموحدين يعج بهم المكان والزمان، لَـمَا كانت هناك حاجة إلى إرسال رسول، فقد بيَّن المفسرون في أكثر من موضع من تفسير القرآن الكريم وتاريخ الأنبياء، أن الله كان يبعث رسولاً ، وينزل كتاباً عندما يعم الكفر، ويسـتشري الضلال، ويتعمق الشرك ، فيبعث الله رسولاً لكي يعم النور والهدى، وهذا من رحمته – تعالى – بعباده.. ومن المعلوم أن الله بعث عيسى - عليه السلام - عندما استحكم الضلال في بني إسرائيل، وهو ما ينطبق على الظروف التي أحاطت بابتعاث الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم -، فقد بعثه الله عندما استحكم الكفر والشرك والضلال في الأرض. ( ) . لقد اعتمد الجابري منهج التشكيك في المسلَّمات التي أجمع عليها الباحثون في الدراسات الإسلامية عموما ، حول أمور في العقيدة ، والشريعة ، والسيرة ، والسياسة... وقد جاء كثير منها في منتهى الخطورة ، مثل قوله : إن (حد الزنا) كان من الممكن تطبيقه في مجتمع البادية .؟! أما المجتمع الجديد فلا يمكن تطبيقه كما اشترط الفقهاء (((( انظر : الجابري " وجهة نظر : ص57- 60 . وانظر : حسين أحمد أمين " دليل المسلم الحزين " ص 1: 146 ، والعشماوي " أصول الشريعة : ص 122 ، 124، و حاج حمد " العالمية الثانية " ص 249 !!؟؟ ))) ) . وعقوبات مثل القطع والرجم كانت سارية المفعول في ذلك العصر التاريخي ، فلا توجد سجون ، ولا جدران ، وإنما خيام ، فكيف يُسجن السارق... ؟ وكيف تُحفظ الأموال ....؟ لا بد من عقوبة تميز السارق ، وتجعل الناس يحذرون منه.. أما اليوم فقد تغير الحال..؟؟!! . وما دام القرآن يوضح لنا نسبية التشريع في علاقته مع بيئته التاريخية الحاملة له بقوله : ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا )( المائدة : 48 ) فإن الثابت إذن هو: مبدأ العقوبة أو الجزاء ، أما الأشكال التطبيقية لهذا المبدأ ، فموكولة إلى كل عصر حسب أوضاعه ، وأعرافه ، وقِيَمه ، وبهذا يستوعب القرآن متغيرات العصور ، ويبقى كما أراد الله صالحاً لكل زمان ومكان... وبمثل ذلك قال الشحرور ؟!
كما أن تطبيق حَدَّ الرجم ، يبدو أنه من خصوصيات الرسول- صلى الله عليه وسلم - وهي نفس المبررات التي جَحَدَ بها المرتدون الزكاة ، وكانت هذه الفئة أول من أحدث بدعة التأويل المنحرف، ذلك أنهم تأولوا قول الله تعالى (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا .... الآية ) (التوبة: 103.). فرأوا أن دفع الزكاة خاص بالرسول - صلى الله عليه وسلم- لأنه هو الذي كان يصلي عليهم ويطهرهم، وليس لغيره هذه الخاصِيَّة، ومن ثَمَّ فلا يدفعون الزكاة لغيره ..؟ [ انظر فتح الباري 12/233 وانظر شرح السنة للإمام البغوي 5/472، 488 ] ، وبذلك كانوا الفاتحين لِبابِ تأويل النصوص القرآنية تأويلا منحرفا ، للتخلص من التكاليف الشرعية، وبدءوا بما هو راجع إلى الناحية الاقتصادية، أما من جاء بعدهم من السبئيين، فقد أوَّلوا نصوص العبادات وغيرها لرفض جميع التكاليف، ونلحظ ذلك في تفسير قتادة (ت 117هـ) لقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ)( آل عمران: 7)، فقال: (إن لم يكونوا الحرورية ،والسبئية فلا أدري من هم)(( تفسير جامع البيان 3/119. .)) ولا شك فهذه الدعوى ساقطة من أساسها؛ لأن إجماع العلماء بأنه " لا اجتهاد مع النص " معروفٌ ، ولا خلاف حوله، وتبقى الملابسات والظروف والتحديد العقلي، وهذا ما يقرره أهل الذكر من العلماء - والجابري بكل تأكيد ليس منهم في هذه المسألة - والإسلام دين شامل لكل زمانٍ ومكان ، وتعاليمه السماوية لم تكن مؤقتة كما يزعم هؤلاء بلا علم ... بل يرى الجابري إسقاط الحَدّ في جرائم السرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، والقذف، والاكتفاء فيها بالسجن، لأن الحدود في نظره ليست غايةً في ذاتها ، وإنما هي وسيلة لردع وزجر النوازع الذاتية الفردية الهدامة، أي التي تمس مصلحة الجماعة أو الأمة.وتابعه الشحرور في ذلك؟!
ويستدل الجابري على إسقاط الحدود بحديث : " ادرأوا الحدود بالشبهات " (( انظر : تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ج 1 : 118)) مدعياً أن شبهات عصرنا كثيرة ومتفرعة ، بسبب تعقد الحياة المعاصرة وتنوع الحوافز فيها، بالإضافة إلى وجود الشبهات الراجعة إلى السياسة ، التي تجعل تنفيذ الحدود يلتبس بالأغراض والدوافع السياسية، وتلك –كما يقول- شبهة وأية شبهة ( الجابري : وجهة نظر : ص 68-72) .. هذا هو أسلوب الجابري، أسلوب التشكيك ، متدثراً بقالب البحث العلمي، ومتلفعا بالعبارات الموهمة...!!
وقد وقفتُ عند كتاب الجابري " مدخل إلى القرآن الكريم .." وبعض مقالاته المنشورة في موقعه ، فوجدتها بعد قراءتها : كُلُّها أخطاء ..بل خطايا .. تنم عن جهل فاضحٍ حيناً ، وأخطاء مقصودة حيناً آخر ..!
ومعظم العَلمانيين والحَداثيين الخائضين في الدراسات الشرعية ليسوا من المتخصصين فيها بالمعنى الدقيق لكلمة التخصص، فهم في العموم متخصصون في الفلسفة ، أو الأدب العربي ، وقد جوَّزوا لأنفسهم أن يتكلموا في علمٍ لا يحذقون قواعده وضوابطه، ويجهلون أصوله ومبادئه.. !!! وهذا يتفق مع ما قاله د. عبد الرحمن بدوي عن مُلهِميهم حيث يقول : ( إن سبب التردي الذي وقع فيه المستشرقون وتلاميذهم : هو الجهل وضخالة الفهم ، ونقص المعلومات ، وسوء النية ، والتشويه المتعمد ، وسيطرة الحقد عليهم ، وتسببه في عماء بصيرتهم ، ونقلهم الأكاذيب بعضهم عن بعض ، وتأكيدهم لها ،...إلى أن يقول : لكننا في نفس الوقت نؤكد أن القرآن يخرج دائماً منتصراً على منتقديه ) ((((انظر : د. عبد الرحمن بدوي ، دفاع عن القرآن ، 15-16 وهو كتاب مهم وموجود على النت )))
فاجتهدت في تسليط أشعة النقد على بعض شبهات الجابري ، والرد على فكره الملوّث وكشف تناقضاته الفجّة؛ والرد عليها يقتضي عدة أبحاث بل كتب ، ولكن ما لا يُدرك كُلُّه لا يُترك جله ،
فكان هذا البحث لتفنيد بعض أباطيله وأسماره ..
من شبهات الدكتور محمد عابد الجابري
أولا : ميراث الأنثى في الإسلام :
يُجيد د. محمد عابد الجابري كغيره من العلمانيين فَنَّ " المُراوغة " في التنصل من أحكام الإسلام ، أو نقدها ، فيتظاهر بتقدير النص الشرعي ، والأحكام المستنبطة منه ، ثم يتنصل من ذلك ، بأن يجعل مايراه عقله من " مصالح " هو الأصل الذي ينبغي أن تُحاكم إليه النصوص الشرعية ، ولو كانت آيات محكمة من القرآن !! وبهذا يضمن الوصول لمبتغاه دون إثارة المسلمين .
وإليك مثالاً لهذه الطريقة الماكرة، ثم قس عليه الأمثلة الأخرى لكل حكم شرعي لايوافق أهواء الجابري ومن يتابعه؛ لتعلم طريقته المُراوِغَة ، وأن التظاهر بالتقديس للنص الشرعي ، مجرد " جواز مرور " لتسهيل مهمة الهدم دون ضجيج ..أراد الجابري أن يتخلص مما يراه متعارضًا مع " المساواة " في زعمه ، وذلك أن الإسلام جعل نصيب الأنثى نصف نصيب الذَّكر في الإرث ، وهذا حكم ثابت بنص القرآن – لبعض الحالات كما هو معلوم - ، فماذا فعل الجابري ليتخلص من هذا الحكم الذي يسبب له حرجًا أمام "أساتذته في الغرب " ... قال : " لنأخذ مثلا نصيب البنت من الإرث في الإسلام ، وهو الثلث ، كما يتبين من قوله تعالى: ( للذكر مثل حظ الأنثيين ) ، كيف نقرأ هذا الحكم قراءة تجعله معاصرًا لنفسه ، ومعاصرًا لنا في نفس الوقت ؟
والقرآن لا يبين الاعتبارات التي تبرر هذا التمييز، وإذن فلابد من إعمال العقل بالرجوع إلى المقاصد ، وأسباب النزول ، ومعهود العرب. والواقع أن المجتمع العربي في الجاهلية وزمن النبوة كان مجتمعاً قبلياً رعوياً، والعلاقة بين القبائل الرعوية هي علاقة نزاع حول المراعي. والزواج في مثل هذا المجتمع إذا تم بتزويج البنت لشخص من غير قبيلتها ، كان يثير مشاكل تتعلق بالإرث في حال وفاة أبيها. ذلك أنه إذا كان لها أن تأخذ نصيباً مما ترك، ماشية كان ، أو مجرد الحق في المرعى المشترك، فإن هذا النصيب سيؤول إلى قبيلة زوجها على حساب قبيلة أبيها، مما قد يتسبب في منازعات وحروب. ومن أجل تلافي مثل هذه النزاعات عمدت بعض القبائل في الجاهلية إلى عدم توريث البنت بالمرة، بينما منحتها قبائل أخرى الثلث أو أقل..؟! وإذا أضفنا إلى ذلك محدودية المال المتداول في المجتمع القبلي ، سَهُلَ علينا إدراك كيف أن توريث البنت قد يؤدي إلى الإخلال بالتوازن الاقتصادي بين القبائل، خصوصاً مع تعدد الزوجات، وكان معمولاً به بكثرة... ولاشك أن الإسلام قد راعى هذه الوضعية ونظر إلى وجه المصلحة، وهو تجنب النزاع والفتنة، فقرر نوعاً من الحل الوسط يناسب المرحلة الجديدة التي دشنها قيام الدولة المحمدية في المدينة، فجعل نصيب البنت نصف نصيب الولد ، وجعل نفقة المرأة على الرجل " زوجةً كانت أو أُمًّا " . أما اليوم ..!! وقد قَلَّ تعدد الزوجات ، وصارت علاقات المصاهرة تبتعد أكثر فأكثر عن الاعتبارات القبلية خصوصاً في المدن، وأكثر من ذلك أصبحت المرأة تشتغل ، وتكسب مالاً ، وتشارك في النفقة على البيت والأولاد.... الخ، وبالتالي خَفَّ المانع الذي كان يبرر عدم إعمال القاعدة الكلية، أعني المساواة بين المرأة والرجل، فإن الجزئي في هذه الحالة، لا أقول يجب أن يُعَطَّل، بل أقول يجب أن يُنظر إليه كاستثناء يُعمل به في أحوال ، ويُعلق في أحوال ؛ لأن مجتمعاتنا تجتاز في الوقت الراهن مرحلة تَحَوُّل : يتعايش فيها الجديد مع القديم، وضعية المدينة مع وضعية البادية والأرياف.(الجابري: التراث والحداثة ": 54 – 56 ) والتشريع الإسلامي وضعه رب العالمين الذي خلق الرجل والمرأة ، وهو العليم الخبير بما يصلح شأنهم من تشريعات ، وليس لله مصلحة في تمييز الرجل على المرأة ، أو المرأة على الرجل .والإسلام هو الرسالة الخاتمة، والشريعة الربانيـة الشاملة لجوانب الحياة، ومن جوانب هذا الشمول نظام الميراث الذي يُحَدَدُ فيه الورثة، ويحدد فيه نصيب كل منهم، لذا فإن الأنثى التي تمثل نصف المجتمع وهي الأم، والزوجة، والبنت، والأخت، قد أخذت حقها من الميراث في مواقعها المختلفة، أما أو بنتا أو زوجة أو أختا أو جدةً ، وهناك أحوال عديدة تتساوى فيها المرأة مع الرجل في الميراث لا سيما إذا كانـت درجة الصلة بالميت واحدة، كما أن هناك حالات تتساوى فيها المرأة مع الرجل مع اختلاف درجة القرابة .. وفي حالات أخرى نجد أن نصيب الأنثى يفوق نصيب الذكر بل نجدها في حالات ترث ، والذكر لا يرث ..ومع ذلك لا يتركز الهجوم إلا على نصيب الأنثى في الاسلام .. مع أنها في اليهودية مثلا مظلومة ، ومن جوانب ظلمهما ما يأتي:
1. نصت التوراة عندهم على أن الميراث يكون لمرتبة واحدة ، ولا ينتقـل إلى المرتبة التالية إلا إذا انعدمت المرتبة التي قبلها ومن ذلك: ( وأوصي بني إسرائيل أن أي رجل يموت من غير أن يخلف أبناء تنقلون ملكه إلى ابنته ، وإن لم تكن له ابنه تعطون ملكها لإخوته ، وإن لم يكن له إخوة تعطون ملكه لأعمامه ، وإن لم يكن له فأعطوا ملكه لأقرب أقربائه من عشيرته فيرثه ، ولتكن هذه فريضة قضاء بني إسرائيل كما أمر الرب موسى ) ( التوراة، سفر التثنية، (15-21) فالبنت لا ترث إذا كان هنالك ابن، وهذا ظلم واضح للبنات، كما أنه ظلم لجميع النساء سواها، فإذا وجد الابن لا ترث البنت ،ولا الأم ، ولا الزوجة ، ولا الأخوات من أي جهة كُنَّ.
2. لا ترث البنت إذا تزوجت من خارج سبط أبيهـا، حتى لا تنتقل تركة الآباء وأملاكهم إلى غير أقاربهم، ففي سفر العدد ( ..... ليتزوجن من حسن في أعينهن من سبط آبائهن فلا يتحول ميراث بني إسرائيل من سبط إلى آخر ) ( التوراة، سفر العدد، 2-13) .وإذا حرمت البنت حرم من سواها من الإناث...كما أنه ظلم للجدات ، وللأخوات ، وللزوجة ، حيث إنهن لا يرثن بوجود الابن ، أو البنت ، أو وجود الأقارب من الذكور.
3. إذا مات الزوج فلا ميراث للزوجة، وإذا ماتت الزوجة فكل ما تملكه لزوجها وحده لا يشاركه في تركتها أحد من أقاربها ولا أولادها ، وقد نصت المادة 337 من الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية للإسرائيليين لمسعود شمعون على أن : "كل ما تملكـه الزوجة يؤول بوفاتها ميراثاً شرعياً إلى زوجها وحده، لا يشاركه فيه أقاربها ولا أولادها سواءً أكانـوا منه أم من رجل آخر" ، وهذا ظلم واضح للزوجة؛ كما أن هذا التشريع ظَلَمَ غير الزوجة من النساء؛ إذ انفرد الزوج بالميراث وحرمت البنت ، والأم ، والأخت.
4. أولاد الأخت يتقدمون على الأخـت فيرثون ولا ترث ، وهذا ظلم واضح للمرأة إذ أن ابن الأخت يحجب الأخت مع أنها أقرب إلى الميت منه، بل هي وساطته إلى الميت.
وإذا أخذنا القانون الفرنسي كأنموذج لأنظمة الميراث الغربية وهو يمثل أشهر الأنظمة الغربية في العصر الحديث ، نجد أنه قد ظلم المرأة في جوانب عديدة : فلم يورث الأم في حالة وجود الأولاد أو أولادهم ذكوراً وإناثا، ولم يورث الجدات. وجعل التوريث على درجات، فكل درجة تحجب التي بعدهـا، وفي هذا حصر للميراث في درجة واحدة وحجب لبقية الورثة، فإذا ورثت البنت لم ترث الأم ولا الأخوات من أي جهة كن. كما ساوى القانون الفرنسي بين الذكـور والإناث في الدرجة الواحـدة ، كالأبناء والبنات والإخوة والأخوات والأب والأم ، وهذا فيه هضم لجانب الذكر ، إذ إنَّ الأعباء التي يتحملها الذكر أكثر. وورثوا الأولاد ولو كانـوا من زنـا ، وهذا هضم لحقوق الأقارب الحقيقيين، فالابن من الزنا يمنع الأبوين والإخوة والأخوات وسائر الأقارب من الميراث. ولا يرث الزوج ولا الزوجة إلا إذا لم يوجد أحد من الورثة السابقين، وهذا يجعل الزوجين لا يرثان إلا في حالات نادرة جداً. ومع ذلك غض الجابري وبعض العلمانيين والحداثيين أعينهم عن الظلم الواقع على المرأة في شتى القوانين والأديان غير الاسلام ، وأثاروا الشبهات فقط حول أهلية المرأة في الاسلام ، من التمايز في الميراث بين الذكر والأنثى- في بعض الحالات - سبيلا إلى ذلك ، فهم يعترضون ويجادلون في أمور لم يدرسوها أصلا ، ويحاولوا الظهور بمظهر المفكر المجدد المتنور ، ثم أطلقوا حكمهم أن الاسلام ظلم المرأة في الميراث .. وعند سؤالهم من أين فهمتم ذلك ..؟ يقولون من قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ..) ( النساء : 11 ) .. وفي الحقيقة هم لا يفقهون أن توريث الأنثى على النصف من الرجل ليس موقفاً عاماً ، ولا قاعدةً مطردة في توريث الإسلام لكل الذكور وكل الإناث . فالقرآن لم يقل :( يوصيكم الله في الوارثين والوارثات للذكر مثل حظ الأنثيين ) ، إنما قال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ..)( النساء: 11 ) أي أن هذا التمايز ليس قاعدة مطردة في كل حالات الميراث ، وإنما هو في حالات خاصة، بل محدودة من بين حالات الميراث .. وباستقراء حالات ومسائل الميراث – كما جاءت في علم الفرائض (المواريث ) – نجد : 1- أن هناك أربع حالات فقط ترث فيها الأنثى نصف الذكر : والحكمة في هذا التفاوت: هي أن الذكر هنا مكلف بإعالة أنثى مع أولادهما، بينما الأنثـى الوارثة أخت الذكر،إعالتها مع أولادها فريضة على الذكر المقترن بها.. ، وتفصيل ذلك فيما يلي:
أ - الأبناء والبنات: إن صلة القرابة بالأب أو الأم واحدة في الأبناء والبنات، وليس هناك فرق بينهم إلا الذكورة أو الأنوثة، وكذلك أبناء الابن وبنات الابن وإن نزلوا، فلو ترك شخص ابناً و بنتاً فإن الابن يأخذ حصتيـن والبنت تأخذ حصة واحدة، فالابن سيتزوج، ويدفع مهراً ويؤسس بيتاً، ويُلزم بالنفقة على نفسه وزوجته وأولاده، أما البنت فإنها إذا تزوجت سيُدفع لها مهر، ويؤسس لها بيت، ويُنفق عليها، وهي مكفولةٌ النفقة بنتاً وزوجةً وأماً، ولا يُلقى عليها من الأعباء ما يُلقى على الرجال من الجهاد والديات وغيرها، فظهرت الحكمة جلية في هذا التفريق.
ب - الآباء والأمهات: صلة الأب أو الأم بالميت واحدة، لكن الأب في حالات كثيرة تُلقى عليه أعباء مالية أكثر من الأم، وهذا يرجح جانبه، فيأخذ أكثر من الأم، مع أنه يمكن أن يكون نصيبه مساوياً لها في بعض الحالات وتتحدد حالات الأبوين في الصور التالية :
 عند عدم الولد: فالأب إذا لم يكن للميت أبناء أو أبناء أبناء وإن نزلوا فهو الأحق بأن يقوم مقامـه، فترث الأم الثلث ويرث الأب الباقي وهو ضعف نصيـب الأم؛ لأن الأب في هذه الحالـة أولى رجل ذكـر، وعليه أعباء الإنفاق المذكورة، فيـرجح بذلك على الأم.. قال تعالى: فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ[11:النساء].
 عند وجود الفرع الوارث المذكر: يكون نصيب الأب مساوياً لنصيب الأم، قال تعالى: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ[11: النساء] وهذه الحالة يكون الأب فيها مساوياً للأم في القرابة بالنسبة للميت، وجانب الرحمة والمواساة متحقق في الاثنين، ولا يترجح الأب عليها بأن يقوم مقام ابنه؛ لأن الميت له ابن هو الأحق بالقيام مقام أبيه والابن مقبل على الحياة، والأب مدبر عنها فحاجة الابن أكثر من حاجة الأب.
 عند وجود الفرع الوارث المؤنث: إذا وجد للميت فرع وارث مؤنث يكون لكل واحد من أبويه السدس، لكن الأب لأنه أولى رجل ذكر في هذه الحالة يضاف له التعصيب. فقد يزيد عن الأم ليصل إلى الضعف، وقد لا يصل إلى ذلك، وقد يتساوى مع الأم، قال تعالى: وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ[11: النساء] والحكمـة في ذلك أن الأب والأم يتساويان في هذه الحالة في القرابة والمواساة والرعاية، ورُجِّح جانب الأب؛ لأنه يخلف الميت ويقوم مقامه، وعليـه أعباء مالية زائدة عن الأم.
ج - الإخوة والأخـوات: الأخوة والأخوات لأبوين أو لأب يتساوون في القرابة والمواساة والدرجة والجهة، ولذا فإنهم يرثون الميت بالتعصيب، للذكر مثل حظ الأنثيين، إذا لم يكن هناك أب أو ابن أو ابن ابن وإن نزل، قال تعالى: وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ[176: النساء] وفي هذه الحالة يتضح سبب كون ميراث الأخ الشقيق ضعف الأخت الشقيقة، وأن ميراث الأخ لأب ضعف الأخت لأب، حيث إن صلة القرابة بالميت واحدة، والرعاية والمواساة كذلك، لكن الذكر هنا ترجح جانبه بأن قام مقام أخيه، وخلفه، وأعباء الإنفاق والمتطلبات المالية جعلته يأخذ ضعف أخته، أما الأخ لأم فلأنه لا يخلف أخاه لأمه، حيث لا يرتبط به عن طريق الذكورة، فيستوي مع الأخت لأم، ولا يأخذ ضعفها، قال تعالى: وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَـاء فِي الثُّلُثِ[12: النساء] فالتساوي حاصل بين الإخوة والأخوات لأم.
د - الأزواج والزوجات: نصيب الزوج نصف ما تركته الزوجة إن لم يكن لها ولد، والربع إن كان لها ولد، أما الزوجة فنصيبها الربع إن لم يكن للزوج ولد، والثمن إن كان له ولد، قال تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ .  [12: النساء]، والحكمة في ذلك واضحة أن الزوجة إذا ماتت يتضرر الزوج، وهو بحاجة إلى زوجة أخرى، يدفع لها مهراً، ويتكلف بأعباء جديدة، أما الزوجة إذا مات زوجها فهي تتضرر لكنها إذا تزوجت يُدفع لها مهر، ويؤسس لها بيت، وإن لم تتزوج فهي مكفولة النفقة، فافترقا.
2- وهناك حالات ترث فيها الأنثى مثل الذكر تماما : - فإذا ترك الميت أولاداً وأباً وأماً‏،‏ ورث كل من أبويه سدس التركة‏،‏ دون تفريق بين ذكورة الأب وأنوثة الأم‏،‏ وذلك عملاً بقوله تعالى‏:‏ (‏وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُما السُّدُسُ‏)‏‏ [ النساء: 11] ... وكذلك لو مات رجل وترك : أخا لأم ، وأختا لأم ، وعمَّأ ، فترث الأخت مثل الأخ تماما ، فللأخ والأخت الثلث يشتركان فيه بالسوية ، لا فضل لأحدهما على الآخر ، فنصيب الأخ لأم : سهم واحد ، ونصيب الأخت لأم سهم واحد ، ونصيب العم هو الباقي : أربعة أسهم . قال تعالى : ( وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث.)( النساء : 12 ) .. وهناك حالة أخرى ترث فيها المرأة مثل الرجل تماما : إذا مات وترك أبا وابنا : فيكون توزيعها كالتالي : نصيب الأب : السدس =1... ونصيب الأم : السدس = 1... ونصيب الإبن : الباقي = 4. فانظر كيف أخذت المرأة مثل الرجل تماما في حالة وجود الإبن .. قال تعالى : [ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد ..] ( النساء : 11) وهذا نص واضح يساوي بين الاخوة لأم والأخت لأم عند الانفراد، كما يساوى بينهم إذا اجتمعوا أو تعددوا؛ لأن الشركة تعني المساواة، فلا تنطبق عليهم قاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين . 3- هناك حالات ترث فيها الأنثى أكثر من الذكر..؟ كما لو مات الذكر وترك : بنتاً وأماً وأباً ... فيكون نصيب البنت النصف لانفرادها ويساوي : 3 أسهم . ونصيب الأم : السدس لوجود الفرع الوارث ، ويساوي : سهما واحدا . ونصيب الأب : السدس + الباقي لوجود الفرع الوارث الأنثى = 1+1 = 2 ( سهمان ) .. فالبنت وهي أنثى أحذت أكثر من الأب وهو ذكر . وكذلك لو ترك زوجة وبنتا وأخا ... فيكون نصيب الزوجة : الثمن لوجود الفرع الوارث = 1 والبنت : النصف لانفرادها = 4 . والأخ : الباقي تعصيبا = 3 . فقد أخذت البنت وهي أنثى أكثر من الأخ وهو ذكر ...؟ ... وإذا تركت المرأة المتوفاة زوجها وابنتها‏،‏ فإن ابنتها ترث النصف‏،‏ ويرث والدها الذي هو زوج المتوفاة‏،‏ الربع‏،‏ أي إن الأنثى ترث هنا ضعف ما يرثه الذكر‏.‏ .. 4- وهناك حالات ترث فيها الأنثى ولا يرث نظيرها من الذكور : فإذا اجتمع الأخ لأب مع الأخت الشقيقة، فتحجب الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق أو لأب، والعم، وابن العم، وغيرهم ، وهذا احترام للمرأة وصيانة لحقها، ولن تجد مثل هذه الأصول والتطبيقـات في شريعة غير شريعة الإسلام... وهناك حالات كثيرة يكون نصيب المرأة فيها متقدماً على الرجل..تلك هي ثمرات استقراء حالات ومسائل الميراث في علم الفرائض ( المواريث ) ، حددتها فلسفة الإسلام في التوريث ،والتي لم تقف عند معيار الذكورة والأنوثة ،كما يحسب الكثير من الذين لا يعلمون .
ومما سلف يتبين لنا ما يلي :
1. حقوق الأنثى في الشريعة الاسلامية مصونة، لا يُنتقص منها، فتجري أحكام الميراث بين الذكر والأنثى بعدالة تامة، حيث تساوي الأنثى الذكر في أصل الميراث، فلا يرث الابن إلا وترث البنت، ولا يرث الأب إلا وترث الأم، ولا يرث الأخ إلا وترث الأخت وهكذا في سائر الورثة.
2. أحكام الميراث تنطبق على الذكر والأنثى ، فلا يرث الذكر إلا إذا تحققت فيه شروط الميراث وأسبابه وانتفت موانعه، كذلك الأنثى لا بد أن تتوافر فيها الشروط والأسباب وتنتفـي الموانعِ، ليتحقق لها الميراث، وكذلك سائر الأحكام تطبق على الطرفين في توازن دقيق وعدالة تامة.
3. هناك حالات كثيرة يترجح فيها جانب الأنثى على الذكر ، كأن ترث بالفرض، وهناك حالات يترجح فيها جانب وارث على آخر بسبب الأنثى ، فيرث التعصيب أولى رجل ذكر، وقد يتساوى اثنان من العصبات في الدرجة والجهة، كالأخ الشقيق والأخ لأب، فيحجب الأخ الشقيق الأخ لأب، بسبب ارتباطه بالميت عن طريق الأم.
4. قد تـرث الأنثى أكثر من الذكر في أحوال عديدة، وذلك إذا كانت صلة قرابتها بالميت أقوى منه كالبنت والأخ، والبنت والزوج، أو أكثر حاجة للمال منه كالبنت والأب.وإذا ورث الذكر أكثـر من الأنثى فـي بعض الأحوال فذلك لِحِكَمٍ وأسباب عديدة كأن يكون أكثر حاجة للمال منها ، كالابن والأم ، أو لأن أعباءه المالية أكثر ، كالابن والبنت، فالابن مكلف بالإنفاق ودفع المهر وتأسيس البيت والغرامات والديات والبنت غير مكلفة بذلك.
ثانيا :
محاولات الجابري في ترتيب آيات القرآن حسب ترتيب النزول :
ترتيب الآيات في سورها توقيفي ثابت بالوحي ، وبأمر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وكانت الآيات تتنزل عليه ، ويأمر كتاب الوحي بوضعها في مكانها من السور بتبليغ من جبريل -عليه السلام - . وقد ترادفت النصوص على كون ترتيب الآيات توقيفياً ، ووقع الإجماع على ذلك ، وقد نقل الإجماع غير واحد من العلماء منهم : الزركشي ، حيث قال : - " فأما الآيات في كل سورة ، ووضع البسملة في أوائلها ، فترتيبها توقيفي بلا شك ، ولا خلاف فيه ،.." (الزركشي : البرهان في علوم القرآن ، ج1/256 ) .
ومن النصوص التي تدل على أن ترتيب الآيات توقيفي : -
1- روى البخاري أن ابن الزبير قال : " قلت لعثمان بن عفان : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا...... ) ( البقرة : 234) قال : قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها ..؟ قال : يا ابن أخي لا أغير شيئا من مكانه " يعني :لم تكتبها وقد علمت أنها منسوخة ، أو قال :تدعها مكتوبة ، شك من الراوي أي اللفظين قال ، ثم نقل رواية أخرى عن الإسماعيلي بصيغة : لم تكتبها وقد نسختها الآية الأخرى ..؟ " (البخاري حديث رقم : 4536. ) ..وفي جواب عثمان هذا دليل على أن ترتيب الآي توقيفي ، وكان عبد الله بن الزبير ظن أن الذي ينسخ حكمه لا يكتب ، فأجابه عثمان بأن ذلك ليس بلازم ، والمُتَّبَعُ فيه التوقيف ..) ( فتح الباري ج8 /125) .
2 - روى الترمذي ، والحاكم ، وابن حبان ، وأبو داود ، وأحمد من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما- قال : " كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء ، دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ." (الزركشي : البرها ن في علوم القرآن ، ج1/241)
3- قال مكي بن أبي طالب القيسي وغيره ، :" ترتيب الآيات في السور بأمر من النبي – صلى الله عليه وسلم -ولما لم يأمر بذلك " يعني لم يأمر بكتابة البسملة " في أول براءة ، تركت بلا بسملة " (محمد بن محمد أبو شهبة : المدخل لدراسة القرآن الكريم ص 284 )
4- قال الحافظ في فتح الباري ( ج9/32) : " لا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف ، توقيف من الله تعالى .. " والحاصل :" أن الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – جمعوا القرآن كما هو عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من غير زيادة ولا نقص ، ولا تقديم ، ولا تأخير ، بتوقيف عن جبريل ، عن رب العزة سبحانه "
لماذا لم ترتب الآيات على حسب النزول ..؟
من المجمع عليه أن ترتيب الآيات ليس بحسب نزولها ، وإنما يرجع إلى المناسبات والروابط البلاغية ، فقد تنزل الآية بعد الآية بسنين ، وتكون في ترتيب الكتاب قبلها ، وليس أدل على ذلك من تقدم بعض الآيات الناسخة على الآيات المنسوخة ، مع أن الناسخ متأخر عن المنسوخ في النزول قطعا ..وذلك مثل قوله تعالى : " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا " (البقرة: 234) فإنها ناسخة لآية " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ ....." ( البقرة: 240 ) ، فالأولى متأخرة في النزول ، متقدمة في الترتيب كما أن بعض الأيات التي نزلت قبل الهجرة قد ألحقت بسور نزلت بعدها ، كقوله تعالى : - " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " ( الأنفال: 64 ) فقد صح النقل بأنها نزلت عقب إسلام عمر ، وذلك بمكة قبل الهجرة (الإتقان في علوم القرآن : ج1/18 .) ، ومع ذلك فقد ألحقت بسورة الأنفال التي نزلت بالمدينة بعد الهجرة ، وهناك آيات نزلت بعد الهجرة وألحقت بسورة نزلت بعد الهجرة أيضا ، ولكنها وضعت في السورة التي ألحقت بها قبل آيات نزلت هي بعدها ، وذلك كقوله تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( المائدة: 3 ) فمن المعلوم أن هذه الآية نزلت في حجة الوداع ، وقد ألحقت بسورة المائدة التي نزلت بعد الهجرة ، في حين أن كثيراً من الآيات التي جاءت بعدها في السورة ، قد نزلت قبلها ، كما يعرف ذلك من الرجوع إلى أسباب نزول هذه الآيات
وفي الأثر عن محمد بن سيرين قال : " قلت لعكرمة : ألفوه – أي القرآن – كما أنزل ، الأول فالأول ، قال : لو اجتمعت الأنس والجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا ، وصدق عكرمة ، فإن تأليفه على حسب النزول غير مستطاع لأحد من البشر ، لأن الله لم يرد أن يكون تأليف كتابه المعجز على حسب النزول ، وإنما اقتضت حكمته أن يكون على حسب المناسبات البلاغية ، وأسرار الاعجاز .." (الاتقان في علوم القرآن : ج1/ص 166) …
ولو أن القرآن جُمع على حسب ترتيب نزوله ، لفهم بعض الناس أن آياته خاصة بحوادثها ، أو أنه حُلول وقتية للمشكلات التي كانت على عهد الرسول فحسب ، وهذا بالضبط ما يقصده المستشرقون وتلاميذهم من ترتيبهم للآيات حسب النزول ، والله تعالى يريد كتابه عاماً خالداً لا يختص بعصر دون عصر ، ولا بقومٍ دون قوم ، لذلك اقتضت الحكمة أن يرتب ترتيباً يحقق هذا العموم ، وهذاالخلود ، ويبتعد عن الترتيب الزمني الذي نزل به لحكمة كانت مناسبة حين نزوله ..
ترتيب سور القرآن :
اختلف العلماء حول وضع السور وترتيبها في المصحف العثماني على أقوال ثلاثة … وهي : -
القول الأول : إن ترتيب السور على ما هو عليه الآن في المصحف كان باجتهاد من الصحابة -رضوان الله عليهم - ،
القول الثاني : إن ترتيب السور بعضه بالتوقيف ، وبعضه الآخر باجتهاد من الصحابة .
القول الثالث :- وهو القول المختار - : إن ترتيب السور تمَّ بتوقيف من النبي – صلى الله عليه وسلم – على ما استقر في العرضة الأخيرة ، وقال الألوسي عن هذا القول :إنه لجمهور العلماء ( )
وقال أبو جعفر النحاس : " المختار : إن تأليف السور على هذا الترتيب كان من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - "( ) . وقال القرطبي : " وقال قوم من أهل العلم : إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان عن توقيف من النبي – صلى الله عليه وسلم – " ( )
ومهما يكن من أمر، وسواء أكان هذا الترتيب الذي نجده في المصاحف بطريق التوقيف أم بطريق الاجتهاد، فقد أجمعت الصحابةُ عليه، ومضت الأمة على قبوله، فيجب التمسكُ به، والإعراضُ عن الدعواتِ المشبوهة ، لإعادة ترتيب المصحف حسب النـزول أو الموضوع ، أو غير ذلك مما يلهج به المستشرقون وتابعيهم ، ولأن في ترتيب سُوَرهِ معانيَ لا تقل عن معاني الترتيب في آياته، جَدَّ كثير من العلماء في استنباطها وتحصيلها، فالعدول عن هذا الترتيب مخالف للإجماع ، وفي ذلك مفاسد عظيمة، ويكفينا أنه ترتيب أجمع عليه الصحابة ، والإخلال به يخالف هذا الإجماع .
ترتيب آيات القرآن حسب ترتيب النزول .
من المعلوم أن ترتيب الآيات في سورها توقيفي بالإجماع ، أما ترتيب السور فتعددت فيه الأقوال ، والراجح أنه توقيفي كترتيب الآيات – كما أسلفنا - ، وسواء أكان الترتيب للسور توقيفياً أم اجنهادياً ، فإنه ينبغي احترامه ، لأنه صادر عن إجماع الصحابة ، ولأن مخالفته تَجُرّ إلى الفتنة ، ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب. وكان من أوائل من تناول تفسير القرآن الكريم حسب ترتيب النزول من العلماء المسلمين : هو محمد عزة دروزة في كتابه التفسير الحديث. الذي طبع عام 1963م. ثم جاء في الوقت نفسه كتاب آخر طبع عام 1964م للشيخ عبدالقادر ملا حويش ، وهو تفسيره المسمى: " بيان المعاني على حسب ترتيب النزول ". تناول فيه الشيخ تفسير القرآن الكريم حسب ترتيب النزول. وبعد هذين الجهدين جاء جهد الشيخ الدكتور عبدالرحمن حسن حبنكة في كتابه : " معارج التفكير ودقائق التدبر ". وعلى الرغم من تباين اتجاهات هؤلاء المفسرين في تناول النص القرآني بالتفسير؛ إذ نجد أن الغالب عند الشيخ حبنكة هو الاتجاه الموضوعي ، في حين نجد الاتجاه التقليدي العام هو الطابع الغالب على تفسيري : " دروزة ، وحويش" ، إلا أنه يبقى الشكل المنهجي المشترك بين هذه الجهود هو التفسير حسب ترتيب النزول، وهدف هؤلاء بكل تأكيد يختلف عن هدف المستشرقين وتابِعِهِم الجابري ..وللمستشرقين آراء غريبة حول ترتيب سور القرآن الكريم وآياته، تُناقض ما قرّره علماء المسلمين من توقيف الترتيب القرآني، وما ينطوي عليه ذلك الترتيب من ترابط موضوعي ، وإعجاز بلاغي، إذ يزعمون أن ترتيب القرآن كان باجتهاد من النبي أو الصحابة، ولا يرجع إلى تعيين النبي - صلى الله عليه وسلم – وتوقيفه ، المتلقّى عن الوحي أساساً.. والهدف من طرح هذا الإشكال هو : التشكيك والطعن في ترابط النص القرآني، ووحدته وأسلوبه، ومن ثَمَّ ادِّعاء تعرضه للتصرف البشري ، الذي هو في حقيقة الأمر نوع من التحريف والتبديل.
ولذلك زعموا أن القرآن رُتِّبَ بحسب الأحداث والمواسم ، إلى ثلاثين جزءاً ليتناسب مع شهر رمضان ..!! جاء في الموسوعة البريطانية ما يلي : " إن القرآن بطوله يمكن مقارنته تقريبا مع العهد الجديد بطوله ، ومن أجل سهولة تلاوته ، فقد قسم إلى ثلاثين جزءاً لتتلاءم مع عدد أيام شهر رمضان ، حيث يتلى جزء واحد لكل يوم من أيامه ." (The Masseg of The Qur,an , by Muhammad- Asad , Darul Andalus Gibraltar , 1980.pp. 1-11) -
وقال المستشؤق الفرنسي بلاشير: " وقد قسم القرآن فيما بعد لمجرد الباعث العملي ، وتسهيلا لتلاوته بمناسبة الاحتفالات الدينية إلى ثلاثين جزءاً ، لا علاقة بينها وبين التقسيم إلى سور .." (لقرآن ، نزوله ، تدوينه ، ترجمته وتأثيره ، لبلاشير : ص 38. ) ومن هذا النحو قولهم : إن السور رتبت بحسب الطول ، وفي هذا قال " ج. أ . ر . جيب " : " من حيث الشكل الخارجي يتكون القرآن من " 300 صفحة " وينقسم إلى " 114 سورة " رُتِّبت تقريبا بحسب طولها ، باستثناء السورة الأولى – يعني : الفاتحة - ، ...وهكذا حتى آخر السور ، بحيث تتكون السور الأخيرة من ثلاث إلى خمس آيات . ( بتصرف : Islam, A Historical Survey, by H.A.R.Gibb , P 24. ).
وفي منتصف القرن التاسع عشر حاول المستشرق الألماني " نولديكه " ، وتلميذه " شفالي ترتيب القرآن وفق ترتيب النـزول ، ولكن هذا الترتيب لم يأخذ حيز التنفيذ بكتابة تفسير للقرآن الكريم ، إلا ما وجدناه في محاولة المستشرق الفرنسي " ريجس بلاشير " الذي قام بترجمة معاني القرآن إلى الفرنسية عام " 1947 – 1950" على أساس ترتيب النزول الذي وضعه الألماني" نولديكه " ، ثم تبين للمستشرق الفرنسي" بلاشير" استحالة ترتيب القرآن بحسب النـزول ، لأنه لا يوفر ترتيباً دقيقاً وموضوعياً، ويرى ضرورة العدول عن هذا المنهج إلى منهج آخر، يراعى فيه ترتيب القرآن حسب المراحل والموضوعات .. ثم حاول ذلك " هيرتوج هيرشفيلد " في كتابه : " أبحاث جديدة في تركيب وتفسير القرآن " وهو لم يخرج عن مسلمات " نولديكه " . ثم ظهرت محاولة " ريتشارد بل " عام 1937م- 1939م ، وكان عمله أخطر ما قدمه مستشرق غربي ، حيث شكك في النص القرآني ، وكل هذه المحاولات لا تساوي الحبر الذي كتبت فيه ،وعقليتهم الغربية أعجز من أن تصل إلى كُنه هذا الكتاب الرباني ، المرتب بتناسق عجيب ، وسلاسةٍ أَخّاذَة
ثم جاء عقب هذه الجهود الفاشلة ، ما قام به الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه المسمى " فهم القرآن الحكيم، التفسير الواضح حسب ترتيب النزول " والمنهج الذي اتبعه الجابري ، هو منهج معروف في خطوطه العامة، وقد أشار هو بنفسه إلى أن فكرة تفسير القرآن وفقاً لترتيب النزول تعود إلى المستشرق الفرنسي " ريجس بلاشير " الذي قام بترجمة " معاني القرآن " إلى الفرنسية على أساس ترتيب النزول الذي وضعه " ثيودور نولديكه " أي أنه من حيث خطوط المنهجية العامة لم يأتِ بجديد ،وما قام به هو عبارة عن تجديد للمحاولات الاستشراقية ليس إلاّ..!! فالرجل اتَّبعَ خطوات نولديكه " على رغم نقده الشديد لها " مع بعض التعديل، ولو قارنا مُؤَلَّف الجابري مع مُؤلَّف " تاريخ القرآن " لوجدنا مشروع الجابري نسخة مطورَّة عن مشروع نولديكه...؟! أي أنه من حيث خطوط المنهجية العامة لم يأتِ بجديد، وإنما جديده يكمن في تفاصيل المنهج ، وطريقة تطبيقه التي جعلته يسميه " التفسير الواضح " وللرد على مقولاتهم نقول : أولا : إن ترتيب آيات القرآن ليس بحسب الأحداث والمواسم كما يزعمون ، بل بحسب توقيف النبي – صلى الله عليه وسلم – كماتقدم . ولم يرد قط عن الرسول – صلى الله عليه وسلم –شيء يدل على هذا التقسيم المزعوم ليتناسب مع شهر رمضان . ثانيا : لا يخضع ترتيب السور لطول السورة وقصرها كما زعموا ، فسورة الأنفال وضعت قبل سورة التوبة التي هي أطول منها ، وسورة الحجر أقصر من سورة النحل ، ولكنها وضعت قبل سورة النحل .. وسورة الكوثر أقصر من سورة " الكافرون " ومع ذلك قدمت على " الكافرون " في الترتيب ، فالترتيب المصحفي على غير ترتيب النزول ، ولكن لا يعني أن ذلك غير مرتب ، لأن ترتيبه توقيفي .. ومن ثم فهو سر من أسرار إعجاز القرآن ، إذ أن مجيئ السورة بعد سابقتها دال على ارتباط وصلة وإحكام ما بين السورتين ، وقد يكون من حيث الموضوع ، وقد يكون من حيث اللفظ ، وقد يكون من من حيث الموضوع واللفظ معا ، فالمكية تتناسب مع المدنية التي تجاورها ، وكذا المكية مع المكية ، والمدنية مع المدنية ، هكذا تأتي هذه السور كلها بهذا الترتيب المصحفي متناسقة كسلسلة واحدة ، وقد ثبت أن الناس عجزوا عن الإتنيان بمثل هذا الترتيب في الانسجام والتناسق .. ثالثا : إن ترتيب الآيات في السور القرآنية ليس عشوائيا ، ولا باجتهاد كتبة المصحف –كما زعم المستشرقون - ، بل هو توقيفي من الله سبحانه ، وقد ثبت أن القرآن لم ينزل جملة واحدة بل نزل منجما ، وكان الرسول – صلى الله عليه وسلم –كلما نزل عليه نجم من تلك النجوم قال : ضعوه في بعد آية كذا في سورة كذا ، وهو بشر لا يدري ما ستجيئ به الأيام ، ولا يدرك ما سيجد من الدواعي والأحداث ، فضلا عما سينزل فيها ، ثم مضى العمر والرسول على هذا العهد ، وإذا القرآن كله بعد ذلك يكتمل ويتم ، ولا يؤخذ عليه شيئ من التفكك والتعارض ، فهذا برهان على أن ترتيب الآيات لم يكن عشوائيا ، بل إنما تم بترتيب العليم الحكيم . ولذلك جاء محكم البناء . بل عد العلماء ذلك من إعجاز القرآن . قال القاضي عياض : إن من وجوه الإعجاز حسن تأليف القرآن .(الشفا ، ج1:ص 258(
ثالثا - تشكيك الجابري في سلامة القرآن من النقص والتحريف : اعتمد الجابري منهج التشكيك في المسلَّمات التي أجمع عليها الباحثون في الدراسات الإسلامية عموماً ، حول أمور في العقيدة ، والشريعة ، والسيرة ، والسياسة... وقد جاء كثير منها في منتهى الخطورة ، متدثراً بقالب البحث العلمي ،وبالعبارات الموهمة...!! مثل : تشكيكه في سلامة الجمع القرآني واحتمال الزيادة في القرآن أو النقصان منه ، فعقد فصلاً بعنوان " مبحث الزيادة والنقصان في القرآن " قال في نهايتة : "ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه زمن عثمان أو قبل ذلك، فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين!؟ وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذُكر في مصادرنا!؟ وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، فالقرآن نفسه ينص على : (إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ..) ثم ساق بعض الآيات التي تدل على وقوع النسخ إجمالاً في القرآن الكريم، وختمها بقوله: " ومع أن لنا رأياً في معنى " الآية " في بعض هذه الآيات، فإن جملتها تؤكد حصول التغيّر في القرآن، وإن ذلك حدث بعلم الله ومشيئته !! " . ( الجابري : مدخل إلى القرآن الكريم : ص 222- 232 )
وهذا الكلام ظاهرٌ منه القصد إلى التشكيك في القرآن ، وأنه غير سالم من التغيير والزيادة والنقص، وحينئذ فلا يبقى وثوق بصحة القرآن، ولكن صاحب هذا الكلام لم يصرح بذلك خوف التشنيع عليه ،وافتضاح فكره، فآثر أن يجعل الأمر محتملا، بل جعل احتمال التغيير في القرآن راجحاً، وسَلَك لذلك لَبْسَ الحق بالباطل ، واستعمالَ الألفاظ المجملة ، ويظهر ذلك بأمور مما جاء في كلامه: مثل قوله: " ومن الجائز أن تحدث أخطاء حين جمعه زمن عثمان أو قبل ذلك فالذين تولوا هذه المهمة لم يكونوا معصومين " !!
ونقول: كذبت! فإنه لا يجوز أن يحدث خطأ حين جمع القرآن ، لضمان الله حفظ كتابه في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)( الحجر:9) ثم إن الذين قاموا بمهمة جمع القرآن معصومون في عملهم هذا، فإن الصحابة مجمعون على هذا الجمع، ولا يجوز أن يجمعوا على خطأ، وأجمع المسلمون بعدهم على هذا القرآن الذي تلقوه عمن تلقاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ، وأجمع المسلمون على كفر من زعم تحريف القرآن أو جوّز ذلك، لأن ذلك ينافي قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)( الحجر: 9 ) .
وقال : " وقد وقع تدارك بعض النقص كما ذكر في مصادرنا " ؟!.
ونقول: اكتفى صاحب هذا الرأي الفاسد بإبهام النقص وإبهام المصادر، لأن غرضه لا يتحقق إلا بهذا الإبهام، وهو إحداث التشويش في عقيدة المسلم بالقرآن. وإذا وقع التدارك لم يكن نقص.
أما قوله: " وهذا لا يتعارض مع قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)( الحجر : 9 ) فالقرآن نفسه ينص على إمكانية النسيان والتبديل والحذف والنسخ.." فنقول: هذه دعوى باطلة جاء بها لدفع الاعتراض عليه بالآية، فإن وَعْد الله بحفظ تنزيل القرآن يستلزم امتناع جواز الخطأ فيه ، فضلا عن وقوعه، فدعوى المذكور عدمَ التعارض تلبيسٌ وتمويهٌ على السذج والجهال وغير المتخصصين في علوم الشريعة
والتغيير الذي تدل عليه الآيات هو من قِبَل الله الذي أنزل القرآن، فهو بمشيئة الله وعلمه وحكمته ، ولا يكون إلا في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)( الرعد : 39 ) ، والتغيير قد انقطع بموته - صلى الله عليه وسلم - لانقطاع الوحي، وأما التغيير الباطل فهو ما يحصل من فعل الناس عمداً أو خطأً، وهذا ما وعد الله بحفظ كتابه منه، وعصم منه هذه الأمة أن تُجمع على شيء منه، وقد أجمعت الأمة على هذا القرآن المكتوب في مصاحف المسلمين ، المحفوظ في صدور الحافظين ، المتلوِّ في المحاريب بألسن القارئين، وأجمعوا على سلامته من التحريف والتغيير والتبديل، فحينما وقعت حرب " الجمل " ، لم يتهم أحد الآخر بتحريف القرآن، وحينما وقعت " موقعة صفين " كذلك ، التي شارك فيها عدد كبير من الصحابة، وسالت فيهما دماء كثيرة ، لم يتهم أحد منهم الآخر بحذف آيات من القرآن...بل أجمعوا على كفر من ادعى ذلك في القرآن، وإن زعم أنه مسلم.. وواضح من مفهوم كلام الجابري أنه يقول بضياع بعض القرآن ، وأن مصحفنا الموجود عندنا ناقص ، وقد ضاعت منه آيات سهواً أو عمداً أو بهما معا .... ودَجَلُهُ هذا باطل جملةً وتفصيلا ، بناه على ظنون ومعطيات غير صحيحة أصلاً . لأنه : زعم أن القرآن قبل توحيده زمن عثمان- رضي الله عنه- ، كان مُفرقا في الصحف والصدور ، وهذا غير صحيح تماماً ، ولا أدري من أين جاء به الجابري ، فهو لم يُوثق زعمه هذا . والروايات الصحيحة نصت صراحة على أن القرآن كتب كله في زمن الرسول – صلى الله عليه وسلم - ، كما جُمع كله زمن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه- ، اعتماداً على المحفوظ والمكتوب معاً . ثم جُمع في مصحف واحد ، وظل عند أبي بكر ، ثم عند عمر ، ثم عند ابنته حفصة- رضي الله عنهم- ، ثم طلبه عثمان ، فنسخه على حرف قريش الذي نزل به القرآن ابتداء ، دون زيادة ولا نقصان ، وأرجعه إليها ، فسيدنا عثمان لم يجمع ، بل نسخ نسخة عن مصحف أبي بكر على حرف قريش ، في حين أن مصحف أبي بكر كان بالأحرف السبعة التي نزل بها القرآن . و لم تحدث أية عملية جمع جديدة للقرآن ، فما قام به عثمان هو نسخ نسخة من مصحف أبي بكر على حرف قريش فقط . . فالجابري هنا يتعمد تحريف التاريخ ليجد مبرراً للزعم بأن القرآن لم يكن محفوظاً حِفظاً جيداً قبل سنة 25 هجرية ، مما يجعله عُرضة للضياع والزيادة والنقصان ، هذا ما يريد الجابري الوصول إليه بتحريفه للتاريخ ، وإغفاله للروايات الصحيحة ، وتأويله الفاسد لها ، واعتماده على الروايات المكذوبة التي لم يحققها إسناداً ولا متناً . فالروايات كلها عنده سواء ، يأخذ منها ما يريد ، ويترك منها ما يريد ، من دون منهج علمي نقدي ، وهذا ليس من العلم ، ولا من الموضوعية في شيء . وأما زعم الجابري بأنه " وقع تدارك بعض النقص كما في مصادرنا " ، فهذا يعني أنه قد ضاعت من القرآن الكريم آيات لم تُستدرك ، و هذا زعم باطل ، لم يحدث أي استدراك لآية أو أكثر من القرآن ،وإنما الذي حدث هو عمل علمي جماعي ، تَمَّ بأمر من خليفة المسلمين أبي بكر- رضي الله عنه- ، في ظروف عادية للغاية ، جُمع خلالها القرآن كله ، ولم يسقط منه حرف واحد . وهو قد افترى على المصادر عندما قال : " كما ذُكر في مصادرنا ..!؟ " وأية مصادر ؟ لم يذكرها ؟! ، لأن هذه المصادر التي رجع إليها و ذكر رواياتها ، لا توجد فيها رواية صحيحة قالت بأن آيات من القرآن تداركها الصحابة ، وأخرى سقطت منهم وضاعت . فهذا زعم باطل ، و معظم الروايات التي احتج بها ، غير صحيحة إسناداً ومتناً . والصحيح منها لم تذكر ما زعمه الجابري ، وإنما أشارت إلى أن آيات من القرآن قد نُسِخَت ، وهذا أمر شرعي معروف في دين الإسلام . لكن الجابري يختفي من وراء النسخ ، و يُؤوّله ليصل إلى القول بأن القرآن ضاعت منه آيات أُسقطت من المصحف ، وهذا افتراء على الحقيقة ، وتلبيس على قُرّائه ، ومعظمهم غير متخصص في هذا الموضوع ، أو غير دارسٍ له أصلاً ، والنسخ ليس نقصاً ولا ضياعاً .. فالجابري لم يُعرّف القُرّاء بالتاريخ الصحيح للقرآن الكريم ، وإنما عرّفهم بشبهاته ، ومغالطاته ، ومفترياته ، وقَدَّمَ مادة جاهزة لأعداء الإسلام ليطعنوا فيه ، ويُحققوا أهدافهم المذهبية من خلالها . وهو لم يفتح أعين الناس وعقولهم على الفضاء القرآني النقي الصافي كما زعم ، وإنما لوّث تفكيرهم بشبهاته ، وتحريفاته ، وأباطيلِهِ ، التي افتراها على القرآن الكريم . ثم إن موضوع الزيادة والنقصان في القرآن موضوع قديم كثر فيه القيل والقال. وقد تحدثت المصادر السُّنية منها والشيعية عن دعوى التحريف في القرآن ، وأجمعت على أن ذلك فِريةْ بلا مِريةْ (محمد هادي معرفة : ، صيانة القرآن عن التحريف، ص54- 60) ... ونقول للزاعمين بهذا الزعم : لتأتوا بهذا الذي تدَّعون سقوطه ، ثم نزنه بموازين القرآن، فإن انطبقت عليه تلك الموازين قبلناه، وبالتالي لا يجب أن يُجهد أحد نفسه في نفي شبهة مُدَّعي ، إنما على الأخير أن يثبت شبهته حتى نقبل ما يقول به. وقد ناقش أستاذنا الشيخ الدكتور محمد بن محمد أبو شهبة كثيراً من القضايا القديمة الجديدة التي أثارها الجابري مثل : ( سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة ، وسورة براءة بقي منها ربعها، وسورتان لم تكتبا ، وسقوط آية الرجم ، وآية في الجهاد وآية الصفوف الأولى ، وقرآن كثير رفع أو نسخ ، أو أنسي ، ترديداً لما أثاره من قبله المستشرقون، في كتابه الجامع المانع : " المدخل لدراسة القرآن الكريم " ص 223-225 ، ومن ص255- 276... فلا داعي لإعادتها .

رابعا : - تشكيك الجابري في أمية الرسول – صلى الله عليه وسلم -
وردت كلمة ( أُميّ ) في القرآن الكريم مفردة وجمعاً ست مرات ، مرتين مفردة (الأعراف : 157، 158 ) ، وأربع مرات جمعاً . (البقرة : 78 ، آل عمران : 20، وَ75، الجمعة : 2 ) فقد جاءت في سورة الأعراف صفتين للنبي- صلى الله عليه وسلم - ، وفي سورة البقرة صفة لطائفة من اليهود ، أما في سورة آل عمران فهي صفة للمشركين من العرب ، وجاءت بنفس المعنى في سورة الجمعة ، وفسر القرطبي كلمة ( أمي ) في قوله تعالى : " الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ." (الأعراف : 157 ) بأن ( الأمي ) " منسوب إلى الأمة الأمية التي هي على أصل ولادتها ، لم تتعلم الكتابة ولا القراءة (الجامع لاحكام القرآن ،ج3 : ص 2735 ).. ونقل الرازي عن الزجاج أن ( الأميّ ) هو الذي على صفة أمة العرب ..فالعرب أكثرهم ما كانوا يكتبون ولا يقرؤون ، والنبي كان كذلك ، فلهذا وصفه بكونه أميا (التفسير الكبير ، ج15، ص 22. ) . وفسر المفسرون أيضا كلمة ( أمي ) في قوله تعالى : "...فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " ( الأعراف : 158 ) بنفس المعنى .. وورودها جمعاً أيضا ، لم يبتعد عن هذا المعنى . ونقل الطبري في شرحه للآية "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ. " ( البقرة : 78) قال:إنهم ناس من اليهود لا يقرءون ولا يكتبون ..( جامع البيان : 1: 296 ) ..
وفسر اللغويون كلمة ( أمي ) بأنها الجهل بالقراءة والكتابة ، ورأوا أنها نسبة إلى الأمة الأمية ، أو أم القرى ( مكة ) أو الأم ..( لسان العرب ، والقاموس المحيط : مادة ( أم ) ) .. وقال في معجم ألفاظ القرآن الكريم : الأمي : من لا يكتب ولا يقرأ . (ج1: ص 53. ).
وهناك أحاديث نبوية تفيد أن لكلمة (أمي )معنى واحداً ،وهو الجهل بالقراءة والكتابة ، ووصف القرآن الكريم النبي– صلى الله عليه وسلم – بهذه الصفة لا يحتمل إلا هذا المعنى الذي أجمع عليه المفسرون، واللغويون ، والمؤرخون المسلمون ومن هذه الأحاديث قوله – صلى الله عليه وسلم –: " إنا أمة أمية ، لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا .." (البخاري في الصوم رقم (307 ) يعني : مرة تسعة وعشرين ، ومرة ثلاثين . ولم يقبل المستشرقون (دائرة المعارف الاسلامية : مجلد4: ص 414، 426) تفاسير المفسرين واللغويين لكلمة ( أمي ) مفردة وجمعاً ، فهي عندهم لا تعني الذي يجهل القراءة والكتابة ، ولكنها تعني الوثنية ، وسمَّى القرآنُ محمداً- صلى الله عليه وسلم - نبي الأميين ، وهل يعقل أن يكون النبي – حسب زعمهم – وثنيا ، جاهلاً بالدين ..؟!
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو : لماذا شرح المفسرون واللغويون الاسلاميون كلمة ( أمية) بأنها الجهل بالقراءة والكتابة ، ورفض بعض المستشرقين وتلاميذهم هذا الشرح .؟
ويكمن الجواب في أن اليهود والمسيحيين كانوا يقسمون العالم إلى قسمين ، يهود ، وغير يهود " غوييم " ، ففي سفر التثنية ، الإصحاح الثالث والعشرين ، فقرة رقم (20) قوله : " لا تقرض أخاك بربا ... للأجنبي تقرض بِرِبا " .. وجاء في إنجيل مرقص ، الإصحاح السابع ، فقرة ( 26 ) : " وكانت المرأة أممية في جنسها ، فينيقية سورية " ، وعلى هذا فإن المستشرقين عندما ترجموا الكلمة ، فإنهم لم يستطيعوا إبعاد تقاليدهم الدينية، مسيحية ويهودية ، وبينما أرجع المفسرون واللغويون المسلمون كلمة ( أمي ) إلى أم ، أو أمّ القُرى ، فإن هؤلاء المستشرقين أرجعوها إلى كلمة ( أمة ) المأخوذة من العبرية " أموت هَعُولم " .. وبمثل ذلك قال الكاتب الليبي الصادق النيهوم ، إذ قال : إن كلمة ( أمي ) مصطلح توراتي مشتق من كلمة ( أوم ت ي ا) بمعنى ( أممي ) أي : غير تابع لأهل الكتاب . ..ويقول : ( وهي – أي الأمية – فكرة ولدت أساسا لتفسير قوله تعالى ( الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ ..) ( الأعراف : 157) لكن هذا التفسير نفسه، هو مجرد خطأ ناجم عن سوء التفسير ، فكلمة ( أمي ) لا تعني ( غير متعلم ) إلا في قاموس رجل جاهلٍ حقاً ...ثم يقول : فالأمي في لغة التوراة ، ليس هو غير المتعلم ، بل هو غير اليهودي الذي استبعده الرب من الشعب المختار .." (انظر كتابه: إسلام ضد الاسلام ص 23-24. )" . وادعاه أيضا الكاتب التونسي : هشام جعيط (الوحي والقرآن ، ص : 35، 42، 46. ) ، متكئا فيه على أقوال: الأب لامنس ، ومونتغمري وات . وادعاه المهندس السوري محمد شحرور ، وقال به كذلك الكاتب السوري العلماني " طيب تيزيني " (الكتاب والقرآن ، ص 139-143 )..والمؤرخ جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام. (www.islamprt.com) وكل جوقة العلمانيين والحداثيين .. فتلقف الدكتور محمد عابد الجابري هذا القول ، وشكك في أمية الرسول– صلى الله عليه وسلم - وزعم أنه كان عالما بالقراءة والكتابة..!! وقال : " عندما نبهت في فقرة سابقة إلى خلو اللغة من أصل للفظ " أمي " وما اشتق منه " أمية وأميون " وقلت : إن هذه الكلمة معربة ، وأن أصلها يرجع إلى لفظ : الأمم " الذي أطلقه اليهود على غيرهم.." (مدخل إلى القرآن الكريم : ص 94) .. ومحمد – صلى الله عليه وسلم – لم يسم نفسه أميا ، ولم يسم أمته أميين ، وإنما هي تسمية الله بلغها رسول الله - صلى الله عليه وسلم- . ثم إن الأمية بمعنى الوثنية مصطلح لليهود ، ولا يفسر كلام الله باصطلاح اليهود ، وإنما يفسر بلغة العرب التي نزل بها القرآن ، ومن معاني الأمية في لغة العرب : الجهل بالكتابة .قال أبو زيد (سعيد بن أوس بن ثابت الخزرجي الأنصاري البصري (تــ215 هـ) لغوي من أثمة الأدب) : الأميّ من الرجال ، العيي ، القليل الكلام ، وأنشد : ولا أعود بعدها كَرِيّا - أُمارسُ الكهلة والصَّبيا .
والعَزَبَ المُنَفَّهَ الأُميّا .
والكريّ : الأجير . والمنفه : العيي . وقيل له أمي : لأنه على ما ولدته أمه من قلة الكلام وعجمة اللسان .(غريب الحديث ، لابن قتيبة : 1: 384. ومعجم مقاييس اللغة ، لابن فارس : 1: 28 .)
ثم ذكر الجابري طائفة من الآيات القرآنية وجَّهَها كما يريد هو ، من أجل الوصول إلى الزعم بأن الرسول-صلى الله عليه و سلم- كان يقرأ ويكتب ، وهو لم يقدم دليلا يُثبت صحة ما ذهب إليه .
كما استدل الجابري بروايات تاريخية و حديثية حرفها لتدل على صحة زعمه ، من أن النبي-عليه الصلاة والسلام- كان يقرأ ويكتب . فلم تصح استدلالاته ،ولم يُوفق في زعمه . وتبيان ذلك فيما يأتي :
1- استدل على صحة رأيه ، بخروج النبي-صلى الله عليه و سلم- إلى الشام للتجارة ، فذكر أنه : " كان قبل النبوة يتردد على الشام في تجارة لخديجة ، التي تزوجته بسبب ما لمسته من أخلاقه وكفاءته ، وأنه من غير المتوقع أن يكون جاهلا بالكتابة والحساب ،وهو يقوم بمهام التجارة . بينما كان أقرانه ممن هم أقل شأنا منه يعرفون ذلك . أدركنا كَمْ هي راجحة الأراء التي قالت بأن النبي-صلى الله عليه و سلم- كان يعرف الكتابة و القراءة..؟!"(مدخل إلى القرآن ، ص: 85 ).. .وقوله غير صحيح ..
لأنه أولا : لم يكن تاجراً محترفاً ، حتى يُقال : إنه كان يتردد على الشام . و الثابت في السيرة النبوية أن رسول الله - صلى الله عليه و سلم- لم يخرج إلى الشام إلا مرتين..
الأولى : خرج فيها مع عمه أبي طالب و كان ما يزال صغيراً ..
والثانية : خرج فيها إلى الشام للتجارة في أموال خديجة-رضي الله عنها- قبل زواجه بها . و لم يخرج إلى الشام إلا في هاتين السفرتين ، الأولى : لم يكن فيها تاجراً ، والثانية: هي التي كان فيها تاجراً (ابن هشام : السيرة النبوية ،ج1 ص: 180 ) ، فهو لم يتردد عليها أبداً ، لا من أجل التجارة ولا من أجل أمرٍ آخر ، فزعْمُهُ هذا هو من قبيل التدليس ،وكان عليه أن يُوثق زعمه.
وثانيا : إن استدلاله بأن خروج النبي- عليه الصلاة و السلام- إلى التجارة ، يعني أنه من غير المتوقع أن يكون لا يعرف الكتابة ، هو استدلال ضعيف ،و مُستبعد أيضا ، لأن ممارسة التجارة لا تستلزم معرفة الكتابة ، فكم من تاجر لا يعرف القراءة ولا الكتابة ،ويعتمد أساسا على ذاكرته القوية التي لا تخونه إلا نادراً . و هذا أمر معروف و مُشاهد في زماننا هذا . والنبي- عليه الصلاة والسلام – لم يكن تاجراً محترفاً ولا شبه محترف ،ولم يكن تاجراً أصلاً ، وإنما خرج تاجراً مرة واحدة في حياته . الأمر الذي يعني أن استنتاج الجابري غير صحيح .
وثالثا :- نص القرآن الكريم صراحة على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب ، وهذا وحده كاف لإبطال زعم الجابري ، لأن ما قرره القرآن لا يمكن رده برواية تاريخية ولا باستنتاج ، ولا بتأويل ...وقول الجابري زعمٌ باطل ، فيه تدليس على القُرّاء ، لأن مضمون كلامه أن قريشاً لم تكن تعتقد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً ، وإنما كانت تعتقد أنه كان يعرف القراءة و الكتابة . وزعمه هذا هو حكاية لخبر ، والخبر يجب توثيقه ، وهو لم يُوثّقه ، فمن أين جاء به . ؟ ! .. وقوله بأنه لا أحد من الرواة ذكر أن قريشاً نسبت إلى الرسول- عليه الصلاة والسلام- كتابة القرآن ، فهذا يحتاج إلى توضيح ،وإزالة الغموض الذي يكتنفه ،والتلبيس حوله ...
لأن الحقيقة هي أن قريشاً اتهمت فعلا الرسول-عليه الصلاة والسلام- بأنه كتب جانباً من القرآن بواسطة بعض أهل الكتاب . بمعنى أن ذلك كُتِبَ له بطلبه وأمره ، وقد سجل القرآن هذا الاتهام على لسان قريش ، في قوله سبحانه : ( وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ) (الفرقان : 5 ) . وقوله : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) ( النحل : 103 ) . فهذا دليل قاطع على أن قريشاً اتهمت الرسول بكتابة القرآن بواسطة أهل الكتاب ،وهذا الاتهام يتضمن أيضاً دليلاً دامغاً على أن قريشاً كانت تعرف أن النبي-عليه الصلاة و السلام- كان أمياً لا يعرف القراءة ولا الكتابة ، لهذا اتهمته بأن بعض أهل الكتاب كتب له القرآن . فلو كانت تعتقد أنه يعرف القراءة والكتابة لاتهمته مباشرة بأنه تعلّم ذلك وكتبه بنفسه ، ولا ما قالت : (اكْتَتَبَهَا ) ، و(إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) . ولا شك أن الذي يعرف القراءة والكتابة يكتب ويُطالع بنفسه . وهذا لم يثبت في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ،ولا اتهمته به قريش..
وقد فسر اللغويون كلمة ( أمي ) بأنها الجهل بالقراءة والكتابة ، ورأوا أنها نسبة إلى : الأمة الأمية ، أو أم القرى ( مكة ) أو( الأم) (لسان العرب مجلد1:ص 105 ، والقاموس المحيط : ج 4 : ص 105) ، ولم يقبل المهتمون بالدراسات الاسلامية من المستشرقين وتابعيهم تفاسير المفسرين واللغويين لكلمة ( أمي ) فهي عندهم لا تعني الذي يجهل الكتابة والقراءة كما تقول اللغة العربية ، بل هي بمعنى : الوثني ، أو غير اليهودي كما تقول اللغة العبرية ..؟ (دائرة المعارف الاسلامية : مادتي : أمة ، وأمي ) لأنهم يريدون أن يثبتوا ( هكذا خبطاً ..لَزْقاً ) أن النبي - صلى الله عليه وسلم –كان قادراً على القراءة والكتابة ، أي أنه تعلم ما جاء به من اليهود والنصارى ..؟؟!! مع أن القرآن الكريم حسم هذا الأمر حسماً لا يدع مسرباً لشك بقوله تعالى : (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ) ( العنكبوت : 48 )
ثم إن هذا الأمر كان مَثار جَدَلٍ في الأوساط العلمية الاسلامية في القديم ، فقد ألف (القاضي سليمان أبو الوليد بن خلف الباجي )( تـ 474هـ) رسالة أسماها ( تحقيق المذهب ) ، ولم يسلم من انتقاد معاصريه مثل : (أبي بكر الصائغ ) الذي كَفَّرّه .. وخصص بعض الباحثين فصولاً كاملةً في كتبهم حول هذا الموضوع ، ففي كتاب التراتيب الإدارية فصلٌ كامل عنوانه : " هل كتب – عليه السلام – بنفسه شيئا وأمضى بعض كتبه بيمينه الشريفة أم لا .." ونقل المؤلف جُلَّ الأقوال التي قيلت في الموضوع مؤيدة ومعارضة ، وتعرض للباجي المذكور ..
وقد ألقى الدكتور أحمد محمد الحوفي بحثا في الجلسة العاشرة لمؤتمر المجمع اللغوي بالقاهرة في 9/ 3 / 1974م تحت عنوان : ( الأمي والأميون في القرآن الكريم ) ، وعنه أخذ الجابري . كما أخذ عنه ما ذكره عن ( الأريسيين ). وكتب الاستاذ أحمد شحلان بحثا تحت عنوان : ( مفهوم الأمية في القرآن ) ، وتبعه الاستاذ (علي شواخ ) فأصدر كتابه ( ماذا حول أمية الرسول ) وكتب الدكتور قحطان الدوري بحثا تحت عنوان ( أمية الرسول محمد – صلى الله عليه وسلم - ) ، ثم كتب الدكتور لخضر شايب كتابه ( هل كان محمد أميا .. الحقيقة الضائعة بين أغلاط المسلمين ومغالطات المستشرقين.. إلى أن جاء الجابري .. وأعاد ما افتراه المستشرقون ..الذين وقفوا عند معنى وهميّ لكلمة ( أمي ) ، استخرجوه من جملة ( أموت هعولم ) العِبْرِيَّة .. وبذلك أباحوا لأنفسهم – وعقدة الاستعلاء تُغَلِّفُ ذهنيتهم - ، أن يتصرفوا في معاني الكلمة العربية ( أمة ..أمي ) ، وأن يجلبوا لها معانيها من لغات أخرى .!؟ والمؤسف أن بعض باحثينا قبلوا أبحاثهم ، دون أن يفكروا في إعادة النظر فيها ، فالأبوية في الدَّرس والعلم ، تقتل المنهج العلمي الباحث عن الحقيقة .
وخلاصة القول : في حكمة أمية الرسول – صلى الله عليه وسلم - : أن الله بعثه أمياً ... وأعطى البشرية ما يعجز عنه كل متعلم .. فالأمية كمالٌ في حقه – صلى الله عليه وسلم - ، ودليل على القدرة والعناية الإلهيتين ، وعلى المعجزة الربانية في نفس الوقت .. لأن الله تعالى أفاض عليه من العلوم والمعارف مع كونه لم يتعلم ، ولم يقرأ ، ولم يكتب ، ما تحارُ فيه عقول العلماء .. قال البوصيري : كفاك بالعلم في الأميِّ معجزة .......في الجاهلية والتأديب في الُيُتِم .
واعتراف الرسول – صلى الله عليه وسلم –بقوله ( نحن أمة أُميَّة .. وما أما بقارىء ) ومسلكه طوال حياته ، وشهادة أتباعه ، واعتراضات أعدائه ، وتصريح القرآن المدوي ،كل هذا يثبت بما لا يدع مجالاً للشك ، أن الرسول كان أمياً ، وكل محاولة غرضها إثبات العكس، هي أضعف من أن تزعزع هذه الحقيقة ، لأن محمداً لم يكن يعيش على كوكب آخر، وحياته معروفة في أدق تفاصيلها، وقومه ليسوا بهذه السذاجة ، وإذا كان يعرف القراءة حقاً ، ألم يكن من المحتمل أن ينظر مرة إلى مراسلاته ، أو إلى المدون من القرآن ، أو يراجعها.؟


خامسا - إنكار الجابري للنسخ في القرآن
عبر القرآن الكريم عن وقوع النسخ في ثلاث آيات من آياته ، منها : قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير )( البقرة : 106) . فما وجه دلالة هذه الآية على جواز النسخ ...؟ يفسر الإمام الطبري قوله تعالى :- ( ما ننسخ من آية ) بقوله :- " يعني بقوله : ما ننسخ من آية:- ما ننقل من حكم آية إلى غيره ، فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي ، والحظر ،والإطلاق ، والمنع ، والإباحة ، فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ "( جامع البيان : ج1/ص188 ) ، وبمثل ذلك فسرها الإمام ابن كثير في تفسيره ( تفسير القرآن العظيم ج1/ص149 ) ، وغيره من ثقات المفسرين ..
غير أن هذا التفسير لم يقبل به الشيخ- محمد عبده-، فقد رأى أن سياق الآية لا يدل على جواز نسخ حكم شرعي بحكم شرعي آخر –كما يقول جمهور المفسرين-، وإنما يرى أن النسخ في الآية خاص بنسخ معجزات الأنبياء السابقين ، وله في هذا التفسير مَلْحَظ لا بد من ذكره والتعقيب عليه .
أولا :- يقرر الشيخ محمد عبده أن القدرة ومشتقاتها -كما في قوله تعالى في الآية التي معنا ( ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير)- لا يناسب موضوع الأحكام ونسخها، وإنما المناسب هو العلم والحكمة ، وعلى هذا فلو أن المراد بالنسخ في الآية نسخ الأحكام الشرعية ، لكان المناسب أن يقول الله :- ألم تعلم أن الله عليم حكيم .، بدلا من : ان الله على كل شيء قدير ..
ثانيا :- إن الآية التي تلت الآية التي معنا ترشح لهذا المعنى الذي يذهب إليه ، ذلك لأن الله تعالى يقول فيها :- ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل)( البقرة : 108) وقد سئل موسى- عليه السلام- المعجزات من بني إسرائيل على صحة دعواه الرسالة .
ثالثا :- إن ابن كثير المفسر ، وكذا أبا عمرو أحد القراء السبعة ، قد قرءا قوله (أو ننسها ) أو ننسأها. من النسيء وهو التأخير ، و يظهر هذا المعنى في مقام نسخ الأحكام، كما يظهر في مقام نسخ الآيات والمعجزات المقترحة على الأنبياء . ..وينتهي الشيخ محمد عبده من هذا المقام إلى هذه النتيجة وهي : أن المراد بالآية هنا هو : المعجزة ، لا الآية القرآنية ..؟!
وتابعه الدكتور محمد عابد الجابري ، (وكذلك مدرآ شحرور ، وبقية القطيع من العلمانيين والحداثيين ) إذ قال ما نصه : ( وإذا نحن رجعنا إلى القرآن الكريم فإننا سنجد أن لفظ "آية"، في جميع الصيغ التي ورد فيها (آية، آيات، آياتي، آياتنا) ينصرف معناه إلى العلامة (أو المعجزة التي تثبت وجود الله وقدرته... الخ). من ذلك قوله تعالى : ( وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً (أي :انشقاق القمر) يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ] (القمر 2)، وقوله: [ وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً (أي : سفينة نوح) فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ] (القمر 15). وقوله: [ قَالَ (فرعون) إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ (العصا) فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ](الأعراف 106). وقوله: [وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ (على محمد) آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ (معجزة ) فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ] (يونس 20).
وتتكرر عبارة "تِلْكَ آيَـاتُ الكِتَـبِ" وما في معناها، للإشارة إلى "ما يُحتاج إِليه من الدليل على التوحيد والنبوّة والبعث وغيرها" مثل قوله تعالى: [ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا] (الإسراء 12).... ثم يقول : وليس في القرآن قط ذكر لما اصطلح على تسميته" (آية ) بمعنى : قطعة من القرآن .. أما لفظ "آية" الذي تكرر فيه كثيراً بمعنى العلامة والحجة والمعجزة... الخ، فلم يرد قط بالمعنى الاصطلاحي (آية من القرآن)، لا مفرداً ولا جمعاً.
وذلك على خلاف لفظ "السورة"، الذي ورد في القرآن مفرداً( "قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) (يونس 38) .. وجمعاً ( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه ...... ) (هود 13). وعلى هذا فلا معنى للقول بالنسخ في القرآن ، إلا بمعنى أن الله ينسخ معجزة نبي سابق بمعجزة أخرى لنبي لاحق، دليلاً على صحة وصدق نبوة كل منهما، أو ينسخ ظاهرة طبيعية مثل الليل بظاهرة طبيعية أخرى مثل النهار...الخ، دليلاً على قدرته. ) ( انظر : منبر الدكتور محمد عابد الجابري الإليكتروني ) تحت عنوان : (لا دليل في القرآن على وقوع النسخ فيه ) .. ونقول كلامه غير صحيح ... فقد وردت كلمة ( آية ) بمعنى ( قطعة من القرآن ) في عدة أحاديث ، منها: ما أخرجه أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت جالسا عند رسول الله إذ شَخَصَ ببصرِه ثم صَوَّبه، ثم قال: ( أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) [النحل: ٩٠] إلى آخرها... ومنها: ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان: ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) [البقرة: ٢٣٤] قد نسختها الآية الأخرى فَلِمَ تكتبها أو تدعها؟ قال: يا بن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
ومنها: ما رواه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعا: ( مَنْ حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عُصم من الدجال ) وفي لفظٍ عنده ( من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف). .. وهذا القول الذي قال به الجابري سبقه به : ( أبو مسلم ابن بحر الأصفهاني المعتزلي) من القدماء ومن المُحدَثين العلماني نصرحامد أبو زيد ، الذي ردد ما قاله الشيخ محمد عبده ، وتلميذه الشيخ محمد رشيد رضا..فقد قالا : الآية في قوله ( ما ننسخ من آية ..) ليس المقصود بها الآية من كتاب الله ، إنما هي الرسالة التي يُبعث بها النبي.. وهذا إطلاق صحيح ، فالآية وردت في كتاب الله تعالى في مواضع كثيرة معنياً بها المعجزة ، وكما تطلق على المعجزة تطلق على الرسالة .. فالآية عند هؤلاء ليست الآية من القرآن ، والنسخ عندهم ليس رفع الحكم الشرعي ، والنسيان عندهم ليس نسيان تلاوة الآية ، بل نسيان الرسالات السابقة ، ويستدل هؤلاء لما ذهبوا إليه بأدلة أوردها الدكتور فضل حسن عباس ، ورد عليها في كتابه( إتقان البرهان ، ج2: ص 22-26 )...وعلى هذا فلا معنى للقول بالنسخ في القرآن إلا بمعنى أن الله ينسخ معجزة نبي سابق بمعجزة أخرى لنبي لاحق، دليلاً على صحة وصدق نبوة كل منهما، أو ينسخ ظاهرة طبيعية مثل الليل بظاهرة طبيعية أخرى مثل النهار... الخ، دليلاً على قدرته. )( انظر مقال الدكتور الجابري في موقعه الإليكتروني تحت عنوان : (لا دليل في القرآن على وقوع النسخ فيه ) .. وهذا ترديد لما قاله الشيخ محمد عبده. ونرد هذه النتيجة التي توصل لها الشيخ محمد عبده وتابعه الدكتور الجابري عليها ولفيف من العلمانيين والحداثيين والقرآنيين بما يلي :-
أولا - لو أنعمنا النظر في الآيات التي سبقت هذه الآية ، لتبين لنا أن ما ذهب إليه الشيخ محمد عبده ومن تابعه ، كان فَهماً يخالف السياق ، ذلك لأن الآيات السابقة تتحدث عن بني إسرائيل ، وغدرهم ، وحرصهم على الحياة ، وحقدهم على محمد - صلى الله عليه وسلم- باعتباره آخر الأنبياء ، وتشكيكهم في كون القرآن هو معجزته الكبرى ، التي ستظل كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ، ولا شك أن تشكيكهم في كون القرآن من عند الله ، إنما استغل ظاهرة النسخ كأمر يلزم منه لديهم البَداء ، الذي هو محال على الله ، وعلى هذا فالنتيجة النهائية التي يريدون الوصول إليها هي زعمهم : أن القرآن ليس من كلام الله ، ولكن محمداً -صلى الله عليه وسلم- اختلقه ..!؟ فإذا كان الأمر كما بينا ، فما مقتضى هذا السياق لتفسير النسخ الوارد في الآية ..؟ أليس من الأوفق أن يفسر النسخ هنا برفع الحكم الشرعي وإحلال حكم آخر مكانه ..؟
ثم ألم يكن من المناسب أن يعقب –سبحانه- على هذا بإظهار أن ذلك لا يعجزه في شيء ، لأن هذا أمر متصل بتصرفه ، ومطلق قدرته ، لا بعلمه وحكمته .
وثانيا - إن لفظ - الآية- إذا أطلق فإنما يراد به الآية القرآنية ، لأن هذا هو المتبادر، والتَّبادُر أَمارةُ الحقيقة ، ولا يُعدَلُ عن الحقيقة إلى المجاز إلا بقرينة، ولا قرينة هنا..
كما فسر السلف الآية بمعنى : الآية القرآنية ، ولم يرد في تفاسيرهم أن المراد بها المعجزة.
فلفظ ( آية )التي وردت في آيتي النحل ، والبقرة ، مراد به الآية القرآنية التي تحمل حكماً شرعياً ، ومعنى تبديل الآية مكان الأخرى - التي وردت في آية النحل - : أن الآية السابقة ينتهي حكمها ليحل محله الحكم الذي جاءت به الآية اللاحقة .
قال مجاهد في تفسير قوله تعالى :( وإذا بدلنا آية مكان آية ) : المراد بالتبديل : رفعناها فأنزلنا غيرها ، وعنه أيضا أنه قال :- نسخناها : بدلناها ورفعناها ، وأثبتنا غيرها .
وقال الإمام الطبري في تفسير هذه الآية:- " وإذا نسخنا حكم آية وأبدلنا مكانه حكم أخرى " ويعلل لذلك بقوله :" والله أعلم بما هو أصلح لخلقه فيما يبدل ويغير من أحكامه ، قال المشركون بالله المكذبون لرسوله_كما حكى القرآن-: إنما أنت يا محمد مفترٍ ، أي : كاذب ، تَخرِصُ بتقول الباطل على الله ... فيقول الله تعالى رداً عليهم : بل أكثر هؤلاء القائلين لك يا محمد (إنما أنت مفتر) :- جُهال بأن الذي تأتيهم به من عند الله ، ناسخه ومنسوخه ، لا يعلمون حقيقة صحته " .( جامع البيان - ج1/188.) .
وثالثا - إن سياق الآية التي بعد قوله تعالى : (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ( النحل: 101) يدل على أن المقصود بها هو : الآية القرآنية قال تعالى : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ( النحل: 103) . فسياق الآية ولحاقها في قوله تعالى : ( فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) ( النحل : 98) مرورا بالآية: -( وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ) وانتهاء بقوله سبحانه :-( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ) فإننا نرى المتحدث عنه في أولها هو القرآن ، ووجوب الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند قراءته ، وبعد آية التبديل ، والآية التالية لها، نجد أن الآيات تحدثت فبينت دعواهم الباطلة : -أن الذي يعلم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بشرٌ أعجمي اللسان ، والقرآن عربي مبين ، في قمة البلاغة والفصاحة ، فكيف يجوز في العقول صدوره عن أعجمي اللسان ..؟
ورابعا : إن الرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يكن يأتي بالآيات –بمعنى المعجزات- ثم يبدلها ، فيرفع معجزة ويحل معجزة محلها ، بل كانت سنة القرآن أن يغلق في وجوه السائلين باب الإجابة لتنزيل الآيات الكونية ، وقد ثبت هذا المعنى في كثير من الآيات بأساليب مختلفة ، منها قوله تعالى : ( وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآَيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) ( الاسراء :59) .
من كل ما سلف يظهر لنا أن الشيخ محمد عبده ، يعتمد في تخريج الآراء والمذاهب أحيانا على فهمه الخاص ، وبلاغته التي قد ترضى الناظر العابر ، أو الباحث غير المتأني مثل الدكتور محمد عابد الجابري وغيره من جوقة العلمانيين ، الذين نقلوا ما قاله الشيخ محمد عبده من غير تبصُّر ، فوقعوا في نفس الخطأ الذي وقع فيه .. وما ذلك إلا لأنه خاضوا في مجال وَلَجَوهُ بجهلٍ واضح ، وأُمِّيةٍ فاضحة ، لأن الذي يتكلم في القرآن الكريم وعلومه ، ينبغي له أن يتوفر على مؤهلات لخوض هذا الغمار ، من إتقان لمجموعة من العلوم " و هي علوم أربَتْ على العشرين " ، وبعد التمكن منها ، كان يمكنهم أن يقولوا شيئاً ذا بال ، لا مثل ما أفرزوه من خبالٍ وَوَبال..

ومما سلف : تبين لي أن الجابري من أبرز الطاعنين في الاسلام . فقد استعمل أساليب متعددة في الطعن في كتاب الله تعالى، زاعما حمل لواء التجديد في التفسير والفَهم لكتاب الله تعالى، ومدعيا الوصول إلى مناهج جديدة في التفسير والتأويل لم يصل إليها أحد من قبله، ناقما على مناهج المستشرقين، وفي حقيقة أمره لم يخرج عن منهج المستشرقين الطاعنين في كتاب الله تعالى قيد أنملة، وإنما يردد ما سمعه وتلقَّاه عنهم..كما اتضح لي فقدان الجابري للمنهج العلمي، وتخبطه وتشتته خاصة في مجال الدراسات القرآنية ، التي لم يكن من أهل الذكر فيها ، فكان كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاحِ.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف