الأخبار
"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزةالكشف عن تفاصيل رد حماس على المقترح الأخير بشأن وقف إطلاق النار وتبادل الأسرىإيران: إذا واصلت إسرائيل عملياتها فستتلقى ردّاً أقوى بعشرات المرّات
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المسجد الأقصى المبارك بقلم: د. سامي عطا الجيتاوي

تاريخ النشر : 2020-04-03
المسجد الأقصى المبارك ...... الحلقة الرابعة

هذه أبيات من الشعر القديم عن القدس كتبها ابن مطروح الشاعر المصري المتوفى سنة ستمائة وخمسين هجرية ، ـ لما فتح الناصر داود – صاحب مدينة الكرك- برج داود بالقدس، وذلك بعد حوالي ستين عاما من فتح الناصر صلاح الدين للبيت المقدس:
المسجد الأقصى له عادة....سارت فصارت مثلا سائرا
إذا غدا للكفر مستوطنا.........أن يبعث الله له ناصرا
فناصر طهره أولا..................وناصر طهره آخرا
(((( وابن مطروح : شاعر مصري ولد بمحافظة أسيوط. اسمه بالكامل هو : أبو الحسن يحيى بن عيسى بن إبراهيم بن مطروح، يلقب أيضا بجمال الدين.عمل نائباً في دمشق الشام بهيئة وزير عليها للملك الصالح (سابع ملوك الدولة الايوبية).
وله قصيدة مشهورة عن حملة لويس التاسع ومعركة المنصورة ، يقول فيها :
• أتيت مصرا تبتغي مُلكها *** تحسب أن الزَّمر يا طبلُ ريح.
• فساقك الحين إلى أدهم *** ضاق به عن ناظرك الفسيح.
• وكل اصحابك أودعتهم *** بحسن تدبيرك بطن الضريح.
• سبعون الفا لا يُرى منهم *** إلا قتيل او أسير جريح.
• ألهمك الله إلى مثلها *** لعل عيسى منكم يستريح.
• إن يكن الباب بذا راضيا *** فرب غش قد أتى من نصيح.
• لا تخذوه كاهنا إنه *** أنصح من شق لكم او سطيح.
• وقل لهم إن أزمعوا عودة *** لأخذ ثأر او لفعل قبيح
• دار ابن لقمان على حالها *** والقيد باق والطواشي صبيح .
• و دار ابن لقمان في مدينة المنصورة أشهر دار ارتبط بها التاريخ الإسلامي، فهذه الدار شهدت أسر الملك لويس التاسع ملك فرنسا بعد معركة شرسة بالقرب من المنصورة. ، وكان لويس التاسع ملك فرنسا قائد(الحملة الصليبية السابعة) ))))

والمسجد الأقصى هو المنطقة المحاطة بالسور المستطيل الواقعة في جنوب شرق مدينة القدس المسورة والتي تعرف بالبلدة القديمة. وتبلغ مساحةالمسجد قرابة الـ 144 دونماً ويشمل قبة الصخرة والمسجد الأقصى حسب الصورة المرفقة، وعدة معالم أخرى يصل عددها إلى 200 معلم. ويقع المسجد الأقصى فوق هضبة صغيرة تسمى هضبة موريا وتعتبر الصخرة هي أعلى نقطة في المسجد وتقع في موقع القلب بالنسبة للمسجد الأقصى الشريف.
وتبلغ قياسات المسجد: من الجنوب 281 مترا ومن الشمال 310 أمتار ومن الشرق 462 مترا ومن الغرب 491 مترا. وتشكل هذه المساحة سدس مساحة البلدة القديمة، وهذه الحدود لم تتغير منذ وضع المسجد أول مرة كمكان للصلاة بخلاف المسجد الحرام والمسجد النبوي اللذين تم توسعيهما عدة مرات.
المسجد لغة موضع السجود . ويعرف السجود في الاصطلاح اللغوي بأنه : اسم مكان وضع الانسان لجبهته على الأرض تعبيرا عن الخضوع لله . ( ) ولا يُشترط في كلمة المسجد أن تدل على بناء له سور يحيط به، فالمسجد الحرام كان لأول عهده بغير سور، والمسجد الأقصى لا يراد به بناء معين في هذه الأرض المباركة، وإنما يُقصَد به كل المساحة التي داخل السور ، وتضم الآن مسجد قبة الصخرة ، وجامع الأقصى – الذي بناه عمر بن الخطاب أول مرة بعد الفتح – كما يضم أبنية أخرى. فقد اتخذ المسلمون في الأجيال الأولى مساجد هي قطع من الأرض ، فصلوها عن غيرها بخندق يصونها عن ولوج الناس إليها دون طهارة ، ويمنع كذلك دخول الحيوانات إليها ، ومثال ذلك : مسجد الكوفة الأول ، الذي لم تكن له جدران ، وفي بلاد الاسلام جميعها مساجد ليس لها جدران ، أو أعمدة ، أو أسقف ، وإنما حي مساحات صغيرة أو كبيرة مصونة عما حولها بصورة من صور الصيانة ، تفرش بحصير أو نحوه ، ليقوم الناس فيها بصلواتهم ، أو تفرش بالرمل أو الحصى ، فإذا اتسخ رفعوه واستبدلوا به غيره .. وهذه المساجد البسيطة ترمز بساطتها إلى جانب هام من جوانب العقيدة الاسلامية السهلة الواضحة ، لا تعقيد فيها ولا تكليف بما لا يطاق ، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن الإسراء إلى المسجد الأقصى لا يعني بالضرورة أن يكون انتقالا إلى بناء يسمى بهذا الاسم. والروايات الصحيحة لحديث الإسراء أكثرها يشير إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصف لقريش “بيت المقدس”، وهو على الراجح البلد وليس المسجد؛ لأن قريشا لن تصل خبرتها بالقدس ومعالمها إلى حد أن تعرف الوصف التفصيلي للمسجد الأقصى كبناء، إلا إذا كان هذا المسجد فخما ضخما يجذب الناس إليه، وفي هذا العهد لم يكن في الأقصى بناء كهذا البناء. وقد يكون وصف لهم المسجد بالفعل، ولكن كمكان له مداخل ومخارج، وليس كبناء له صفات معينة..روى البخاري وغيره ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ؛ نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل . . . الحديث ) .( صحيح البخاري : 427 ) وعن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِي اللَّه عَنْه – قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: “لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ حِينَ أُسْرِيَ بِي قُمْتُ فِي الْحِجْرِ، فَجَلَّى اللَّهُ لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْه” (رواه البخاري ومسلم).( البخاري 3886 و 4710 ، ومسلم 276 . ) . وفي رواية ابن عباس عند أحمد: “قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ، وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ وَرَأَى الْمَسْجِدَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ. قَالَ: فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ، حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ – عُقَيْلٍ – فَنَعَتُّهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ. قَال: وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ. قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَاب”. (البخاري 3886 و 4710 ، ومسلم 276 . ) فالمسجد الأقصى هو: الاسم الإسلامي للمسجد العتيق الكائن في مدينة القدس في أرض فلسطين، وهو عند العلماء والمؤرِّخين أشمل من مجرد البناء المعروف الآن بهذا الاسم، فكل ما هو داخل السور ذي الأبواب يُعتبر مسجداً بالمعنى الشرعي، وإليه تُشَدُّ الرحال، وفيه تُضَاعفُ الصلوات، ويدخل ضمنه مسجد الصخرة ذو القبة الذهبية ، والمصلى المرواني ، والمسجد الجامع( القبلي ) ، وغيرها من المعالم .
والمسجد الأقصى المبارك مَعْلَمٌ من أكثر المعالم الإسلامية قدسية عند المسلمين ، وهو أُولى القبلتين ، وثاني المسجدين ، وثالث المساجد التي تشد الرحال إليها؛ والله سبحانه و تعالى هو الذي سماه بهذا الاسم, وهو الذي ربط بين المسجد الأقصى في القدس الشريف ، وبين بيته الحرام في مكة المكرمة بالإسراء ، وهو الذي باركه بل خصه الله بمباركة ما حوله من بين سائر المساجد المنتشرة في أرجاء المعمورة، لقوله تعالى: [[ سُبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام الى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنريه من آيتنا إنه هو السميع البصير ]] (الإسراء: 1). وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه و سلم - أن المسجد الاقصى هو واحد من المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ، إضافة الى المسجد الحرام في مكة المكرمة ، والمسجد النبوي في المدينة المنورة. وتبدأ حدود المسجد الأقصى بمجرد تخطي عتبة أي باب من الأبواب الموجودة في سور الأقصى ، وهذا ما يجب أن يتم تثبيته في العقول ، فعناصر المسجد المختلفة تزيد من إثراء مفهوم المسجد. فالمسجد الأقصى بمفهومه القرآني يبدأ من الجهة الشمالية من باب الأُسود والذي يعرف بباب الأسباط ، حيث تقع في الجهة الشرقية من هذا السور مئذنة الأسباط ، وهي نفسها المئذنة الصلاحية ، وعند ملتقى الواجهة الشمالية بالواجهة الغربية من هذا السور تقع أشهر مآذن المسجد الأقصى و أجملها ، وهي مئذنة الغوانمة. أما من الجهة الغربية فيمتد السور جنوبا إلى حائط البراق الذي استولى عليه اليهود سنة 1967م ، وحولوه بقوة الاحتلال إلى ( حائط للمبكى ) يمارسون أمامه طقوسهم الدينية ، بعد هدم حي المغاربة الوقفي الإسلامي ، وهو فعلياً جزء من الحائط الغربي للمسجد الأقصى. والمقصود بالمسجد الأقصى الذي ورد ذكره في القرآن الكريم, لا ينحصر في الجزء المسقوف الذي يقع في الجهة الجنوبية من باحاته ، رغم أن المسلمين اعتادوا في هذا العصر على تسميته بذلك ، كما أنه لا ينحصر بالمبنى الجميل الموجود في وسط الساحة والمعروف (بمسجد قبة الصخرة) فحسب ، بل إن جميع ما يوجد داخل سور المسجد الأقصى من مساجد ، و مدارس ، ومآذن وأسبلة ، وقباب ، ومحاريب ، ومصاطب ، ومنابر، وأروقة ، وأماكن وُضوء ، وساحات وحدائق ، وآبار ، وأشجار ، ومرافق تشكل بمجموعها المسجد الأقصى المبارك ، الذي تبلغ مساحته حوالي( 144 دونماً )(الدونم = 1000 متر مربع)، وعليه فان مبنى الجامع الأقصى الواقع في الجهة الجنوبية من المسجد الأقصى, ومبنى قبة الصخرة الواقع في الوسط منه هما جزءان من المسجد الأقصى المبارك. مع التأكيد على أن كل المساحة التي تم الحديث عنها بكل ما فيها من معالم ، هي التي يتشكل منها معنى المسجد الأقصى و مفهومه ، وبناء عليه نجد أن المسلمين يصلون في أي مكان داخل سور الأقصى دون حرج ، إذ لا فرق بينها في الأجر والثواب ، فكلها أجزاء من المسجد الأقصى المبارك ، علماً أن مكان الإمام وبداية الصفوف تبدأ من الجهة الجنوبية ، وهي اتجاه القبلة ، بمعنى أن المقصود بالمسجد كل الأرض داخل السور ، وليس المباني المقامة عليه فقط. لقد كان المسجد الأقصى قبلة المسلمين في الصلاة في بدايات الدعوة الإسلامية ، فقد ذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - “أن النبي- صلى الله عليه و سلم - كان يصلي بمكة نحو بيت المقدس، والكعبة بين يديه”. كما أخرج الطبري عن طريق ابن جريح قال: ( صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما صلى الى الكعبة ، ثم صرف الى بيت المقدس وهو بمكة ، فصلى ثلاث حجج ، ثم هاجر فصلى اليه بعد قدومه المدينة ستة عشر شهراً ، ثم وجهه الله الى الكعبة)( صحيح البخاري رقم41 ) وقد ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: [[ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فولِ وجهك شطر المسجد الحرام و حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ]] (البقرة:144) ويُعد المسجد الأقصى ثاني أقدم مسجد وضع للناس فــي الأرض بعـــد المسجد الحرام ، وبينهما أربعون سنة كما ورد في حديث أبي ذر عن رسول الله - صلى الله عليه و سلم - . عن أبي ذر قال: ( يا رسول الله, أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة, و أينما أدركتك الصلاة فَصَل ، فهو مسجد) .( صحيح مسلم بشرح النووي : ج2: ص 153 )
والمتتبع لتاريخ الأقصى و فضائله يلاحظ تكرار العلاقة التي تربطه بالمسجد الحرام في القبلة التي صلى اليها المسلمون ، كما ارتبط معه في معجزة الاسراء والمعراج, وقبل ذلك في قدم البناء وتاريخه، ثم في التسمية ، إذ أن الله سبحانه و تعالى هو الذي سمى المسجدين باسميهما المعروفين.ويؤكد المؤرخون والأثريون خلوّ ساحة المسجد الأقصى من الأبنية منذ هدم المدينة على يد “تيطس “سنة 70م وحتى بداية العهد الإسلامي. وتُعد الخريطة الفسيفسائية التي تم اكتشافها في أحد الكنائس القديمة في مدينة مادبا في المملكة الأردنية الهاشمية ، والتي يرجع تاريخها الى القرن السادس للميلاد ، إحدى أهم الوثائق المصورة التي تؤكد خلوّ ساحات المسجد الأقصى ومنطقته من أية أبنية أو منشآت عمرانية في تلك الفترة. وهذا ينفي بصورة قاطعة المزاعم التي تدعي أن المسجد بني على أنقاض كنيسة للنصارى كان يعتقد بعضهم أنها موجودة أسفل المسجد الأقصى تعرف بكنيسة ( النيا )( تعد أكبر كنيسة بيزنطية في القدس، بناها الإمبراطور جستنيان المعروف "بالبنّاء الكبير ) أي الكنيسة الجديدة التي بناها جوستنيان ، وقد تم اكتشاف موقعها وبعض من آثارها قرب باب النبي داوود في سور القدس بعد سنة 1967م ، أما الحديث عن كنيس لليهود فلم يَرِد إطلاقا في أي مصدر سوى التوراة. ثم أن مصادر التاريخ الاسلامي تذكر أن كعب الاحبار اقترح على عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - أن يجعل المحراب خلف الصخرة من الجهة الشمالية ، ليجمع بذلك بين الصخرة والكعبة ، إلا أن الخليفة عمر – رضي الله عنه - اختار أن يجعله في صدر الساحة من الجهة الجنوبية ، وهو المكان الذي يوجد فيه محراب الجامع الأقصى اليوم، بناء على الوصف الذي سمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . وهذه القصة فيها اشارة الى أن الساحة التي يتكون منها المسجد الأقصى, كانت فارغة من المباني. والراجح أن المسجد الذي بناه الخليفة عمر – رضي الله عنه - كان بوسائل ومواد بسيطة تتلاءم مع المستوى العمراني الذي كان سائداً آنذاك في بناء المساجد وتشييدها، لذا لم يعمر طويلاً بعد تحرير القدس مما حدا بالخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، كما يذكر بعض المؤرخين ، إلى إعادة بناء هذا المسجد من جديد بعد استلامه زمام الخلافة بسنة واحدة ، سنة 66هـــ الموافق لسنة 685م ، ليكتمل سنة 72هـــ الموافق لسنة 691م,
متى بني المسجد الأقصى : لا يُعرف بشكل دقيق متى بُني المسجد الأقصى لأول مرة، ولكن ورد في الحديث النبوي الشريف بأن بناءه كان بعد بناء الكعبة بأربعين عامًا، فعن أبي ذر أنه قال: ( قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة ) (صحيح مسلم رقم: 520. ) .
وفي هذا بيانٌ واضحٌ أن المسجد الأقصى كان موجوداً قبل بني إسرائيل ، وقبل موسى ، وقبل داود وسليمان ، - عليهم السلام - وتلك حقيقة ثابتة بالأدلة اليقينية ، والحديث الصحيح ، فإن المسجد الأقصى قد بني بعد المسجد الحرام بأربعين سنة فقط ، (((( هامش : ومع هذا الكلام الواضح والأكيد نجد بعض الحثالات الفكرية أمثال : آية الله مصطفى الهرندي ، ومحمد جميل حمود العاملي، ويوسف زيدان وغيرهم يقولون : إنه لم يكن هناك شيء يسمى المسجد الأقصى في زمن إسراء النبي .. لأن المسجد الأقصى بناه الخليفة الثاني .( ومن حقدهما السبئي الخبيث لا يلفظان اسمه ؟!) ثم تكامل البناء على يد عبد الملك بن مروان .. فالأقصى الموجود في القدس هو رمز عمري أموي ؟؟!! فالأقصى أيها الببغاوات الذين يرددون خرافات ( مردخاي كيدار ) استاذ التاريخ في جامعة بار إيلان في حيفا المحتلة ؟؟!! بنىاه آدم .. وليس رمزا عمريا ولا أمويا يا أتباع ابن سبأ وليس في السماء الرابعة ... ؟؟!! بل هو في القدس الشريف الذي بارك الله حوله .. كما سنبين ذلك في الصفحات القادمة . )))) ولا يُهمنا تعيين أول من وضعه بقدر ما يهمنا أنه موضوعٌ في الأرض بعد المسجد الحرام بأربعين سنة ، وهذا يدحض فرية امتلاك اليهود للمسجد الأقصى ، أو أنه بُني على أنقاض المعبد أو الهيكل المزعوم.أو بناه داود – عليه السلام – على أرض اشتراها من يهودي كما زعم الجهول الكاذب عمرو خالد ؟؟!!
وقد اختلف المؤرخون في مسألة الباني الأول للمسجد الأقصى على عدة أقوال: أنهم الملائكة، أو النبي آدم أبو البشر، أو ابنه شيث، أو سام بن نوح، أو النبي إبراهيم، ويرجع الاختلاف في ذلك إلى الاختلاف في الباني الأول للكعبة، وقد رجّح الباحثون بأن آدم هو من بنى المسجد الأقصى البناء الأول، لرواية عن ابن عباس، ( ) ولترجيح أن يكون آدم هو الباني للكعبة، كما رجّحه الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري. ( ) ويُرجّح عبد الله معروف .أن يكون البناء الأول للمسجد الأقصى قد اقتصر على وضع حدوده وتحديد مساحته التي تتراوح ما بين 142 و144 دونماً.( )
أما من بعد عهد آدم، فقد انقطعت أخبار المسجد لانعدام التأريخ في تلك الفترة، إلى أن سُجلت معلومات تاريخية عن أول مجموعة من البشر قدمت إلى مدينة القدس وسكنتها، وهم اليبوسيون (3000 - 1550 ق.م) قبيلة عربية كنعانية، وهم الذين بنوا مدينة القدس وأسموها "اور سليم"( ) ، حتى أن بقايا الآثار اليبوسية ما تزال باقية في سور المسجد الأقصى بحسب رأي بعض الباحثين. وفي تلك الفترة، هاجر النبي إبراهيم- عليه السلام - إلى مدينة القدس، وجدد عمارة المسجد وصلّى فيه. وبعد ذلك آل أمر مدينة القدس والمسجد الأقصى إلى الفراعنة (1550 - 1000 ق.م)، " ثم فتح المدينة النبي داود - عليه السلام - عام 995 ق.م،( ) فوّسع المدينة. ثم استلم الحكم ابنه سليمان، فعمّر المسجد وجدّده ، ويروى عن النبي – صلى الله عليه وسلم - حديثا يقول: «لمَّا فرغ سُليمانُ بنُ داودَ- عليهما السَّلامُ - من بناءِ بيتِ المقدسِ سأل اللهَ عزَّ وجلَّ ثلاثًا أن يُؤتيَه حُكمًا يُصادِفُ حُكمَه ومُلكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعدِه وأنَّه لا يأتي هذا المسجدَ أحدٌ لا يُريدُ إلَّا الصَّلاةَ فيه إلَّا خرج من ذنوبِه كيومِ ولدَتْه أمُّه ) فقال - عليه الصلاة والسلام -: ( أما اثنتيْن فقد أُعْطِيهما وأرجو أن يكونَ قد أُعْطِي الثَّالثةَ ) (رواه المنذري في الترغيب والترهيب، ج2، ص206 ) . فسليمان - عليه السلام – بنى مسجدا كما هو وارد في الجديث ، وليس هيكلا موهوما .. مزعوما .. كما يزعم اليهود. وبيت المقدس من أسماء المسجد الأقصى كا أسلفنا .
وبعد وفاة سليمان – عليه السلام - ، انتهى حكم بني إسرائيل الذي دام 80 عامًا، وانقسمت دولة بني إسرائيل إلى "مملكة إسرائيل" في الشمال، و"مملكة يهوذا" في الجنوب ، وما لبثت أن هاجمها البابليون ، وسبوا اليهود إلى بابل فيما عٌرف بالسبي البابلي.( ).
. بعد ذلك هزم الفرس البابليين، وسمح الملك الفارسي قورش الكبير عام 538 ق.م لمن أراد من أسرى اليهود في بابل بالعودة إلى القدس ، فعاد عدد من اليهود إلى القدس .. ثم احتلّ الإغريق أراضي فلسطين، وخضعت القدس للإسكندر المقدوني (حوالي عام 332 ق.م)، ثم لخلفائه البطالمة، ثم للسلوقيين، ولم تلبث المدينة أن خضعت لحكم الإمبراطورية الرومانية.. التي انقسمت إلى الإمبراطورية الرومانية الغربية في الغرب، والإمبراطورية البيزنطية في الشرق، وبقيت الإمبراطورية البيزنطية هي المُسيطرة على القدس، فأصبحت القدس مدينة نصرانية، وبنوا فيها كنيسة القيامة، بعد اعتناق الامبراطور الروماني قسطنطين المسيحية بتأثير من والدته القديسة هيلانة سنة (312م).. وفي سنة 395م انقسمت الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين، شرقية وغربية، وفي السنوات من (610-622م) كان الفرس يقومون بهجمات على الروم وانتصروا في حملاتهم، وفي عام 614 احتل الفرس مدينة القدس بمعاونة اليهود، وذلك بعد حرب طويلة ضد البيزنطيين الروم، وقد وقع ذلك في الفترة التي بُعث فيها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في مكة... وما لبث أن عاد البيزنطيون الروم إلى الحكم عام 624، وفي تلك الفترة أصبحت أرض المسجد الأقصى مكبًا للنّفايات، وذلك انتقامًا من اليهود، إذ كانت الصخرة المُشرفة قبلة لهم.( المدخل إلى دراسة المسجد الأقصى المُبارك، عبد الله معروف، ص81-83 . )




من معالم المسجد الأقصى المبارك


إن مرافق ومعالم الأقصى وأبنيته الأخرى لا تقل أهمية ولا قداسة عن بعضها البعض ، وقد شهد بهذه الحقيقة علماء أجلاء منذ مئات السنين. فهذا ياقوت الحموي يقول: إن من أعظم محاسن الأقصى أنه إذا جلس إنسان فيه في أي موضع منه يرى أن ذلك الموضع هو أحسن المواضع وأرحبها، ذلك أن الله نظر اليه بعين الجمال ، ونظر الى المسجد الحرام بعين الجلال. ولكن كلام الحموي عن الأقصى لا يجوز أن يُنسي المسيحيين والمسلمين على امتداد العالم ، والإنسانية عامة ، والمدافعين عن جقوق الإنسان ، الواقع الاليم الذي يعيشه المسجد اليوم ، فالأقصى يوشك أن يفقد وحدته في هذا العصر، فرغم أن وسائل الاعلام المرئية قد نجحت في نقل العديد من الصور الفوتوغرافية للأقصى ، الا أن المعنى الحقيقي لهذا المسجد قد تشوش في أذهان معظم الناس حتى المثقفين والمتعلمين ، فنجدهم في كثير من الأحيان ينتقدون تركيز وسائل الاعلام على نقل صورة قبة الصخرة على سبل المثال . ويقولون: إن التركيز يجب أن يكون على صورة المسجد الاقصى ، ومثل هذا الحديث يوحي بأن هناك تفريقاً بين مبنى القبة ومبنى المسجد في ذهنية الكثيرين ، وكأنهما شيئا منفصلان عن بعضهما البعض ، أو كأن هناك من يريد أن يحل أحدهما محل الآخر ، وبالتالي فإن معظم الناس لا يقيمون وزناً للساحات التي توجد بينهما إلا بقدر قربها أو بعدها عن هذين المبنيين. والحقيقة أن هذين المبنيين, مبنى الجامع الأقصى ، ومبنى قبة الصخرة ما هما الا جزءان من المسجد الأقصى.
ولا شك في أن مبنى القبة يظل المبنى الأجمل داخل المسجد الأقصى ، وهذا الجمال والفن المعماري ، وإن كان يشكل قيمة فنية وعمرانية ، فإنه ليس له قيمة عقدية تزيد من قداسة المكان الذي يقوم فوقه. أما مبنى الجامع الأقصى (المسجد المسقوف ) فليس له هو الآخر من فضل على غيره إلا في كونه يقع في صدر المسجد الأقصى من الجهة الجنوبية ، فهو بناء مسقوف يُظل المصلين من عوارض الطبيعة المتقلبة ، ولأنه مسقوف جُعل فيه المنبر وفُرش بالسجاد ، ومن داخله يُرفع الأذان, وفيه تقام الصلاة. وكثيراً ما يضيق بالمصلين فترى الصفوف قد انتشرت في الساحات من حوله في باقي المصليات ، وكأن السور من الناحية العمرانية هو الذي يشكل جدرانه ، وهذه هي الحقيقة فيما يتعلق بالمعنى الكامل للمسجد الأقصى.
ولكن يبقى السؤال الكبير مطروحاً: لماذا اختلط معنى المسجد الأقصى في أذهان الناس في هذا العصر؟ ولماذا تقلص هذا المعنى لينحصر في مبنى المسجد المسقوف (القبلي) الواقع في الجهة الجنوبية ، أو في مبنى القبة الواقعة في مركز المسجد. هذه مشكلة قديمة قد عَرّج عليها مجير الدين الحنبلي حينما سمى المسجد المسقوف بالجامع الأقصى لأن خطبة الجمعة تقام فيه. وتسمية المسجد القبلي هي تسمية حديثة قد تعني أن هناك مسجداً شمالياً ، لذا فيحسن أن نطلق عليه الجامع الأقصى وهو الذي يفضله الباحث الدكتور يوسف النتشة.
ولقد انتشرت بين المسلمين صورة قبة الصخرة حتى ظن البعض أن هذا هو المسجد الأقصى وقد يكون ذلك راجعاً لأسباب ، منها :
الأول: حُسْنُ عمارة هذه القبة وجمال هيئتها.
الثاني: قد يكون هذا من مكر اليهود وكيدهم لتعظيمهم الصخرة وتوجُّههم إليها.
الثالث: أو قد يكون إظهار الصخرة من فِعْلِ اليهود ليتم لهم مرادهم بإقامة هيكل سليمان المزعوم على أنقاض (المسجد القبلي ) في المسجد الأقصى، وذلك ليظن المسلمون أن المسجد الأقصى هو قبة الصخرة فإذا قام اليهود بهدم المسجد القبلي وأنكر عليهم المسلمون قالوا لهم: ها هو المسجد الأقصى قائمٌ على حاله، ويُظهرون لهم صورة مسجد قبة الصخرة ، فيكونون بذلك قد حقَّقوا أهدافهم، وسَلِموا من انتقاد المسلمين.
الرابع : سياسي ويتمثل في وقوع المسجد الأقصى والقدس تحت الاحتلال ، وبالتالي عزل المسلمين عن التواصل معه ، مما أضعف الصلة به وأصبح الحديث عنه يشبه الحديث عن الغيبيات.
الخامس : تشويه سلطات الاحتلال الإسرائيلية للمعلومات و الحقائق المتعلقة بالمسجد الأقصى وبالقدس وفلسطين عموماً ، إذ نجد ان معظم المعلومات المتداولة عن هذا المسجد مجرد معلومات عامة مستندة في معظمها إلى الخرافات والإسرائيليات.
السادس : وجود مساحات فارغة واسعة داخل هذا المسجد ، ومساحات أخرى مزروعة بأشجار الزيتون وغيرها ، فهذه المساحات الواسعة التي تتخلل ساحات الأقصى وتقصل بين مبانيه ، إضافة الى انتشار مبانٍ أخرى صغيرة على شكل قباب وخلوات وما شابه ، كل ذلك ساعد على تشتيت معنى الأقصى في أذهان الناس. والمشكلة الخطيرة المترتبة على ذلك ، تكمن في استغلال سلطات الاحتلال الاسرائيلية لهذا الواقع ، ومحاولاتها المستمرة للسيطرة على أجزاء من المسجد الأقصى لبناء معبد يهودي فيها ، سواء في التسويات الأرضية ، أو في الساحات العلوية. ومن المتفق عليه بين علماء الأمة منذ بداية الدعوة الإسلامية إلى يومنا هذا ، أن الصلاة في أي بقعة من هذه المساحة المحصورة داخل السور هي صلاة في المسجد الأقصى ، وهي تتساوى في الأجر والثواب عند الله تعالى ، وقد أخرج الطبراني والبزار عن أبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ( الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة, والصلاة بمسجدي بألف صلاة والصلاة في بيت المقدس بخمسمائة صلاة) . وقد روى البهيقي عن جابر حديثاً مشابهاً يؤكد أن الصلاة في المسجد الأقصى تعدل خمسمائة صلاة فيما سوى الحرمين الشريفين.(((( اختلف الروايات في ذلك ، فمنها ما تقول أنها تعدل ألف صلاة, وأخرى أنها تعدل خمسمائة صلاة في غيره, وقيل : أنها تعدل مائتين وخمسين صلاة على اختلاف الأحاديث في ذلك والحكم عليها صحة وضعفاً، ))))
ويتكون المسجد الأقصى - كما أسلفنا - من عدة أبنية ، ويحتوي على عدة معالم يصل عددها إلى 200 مَعْلَمْ، منها: مساجد، وقباب ، وأروقة ، ومحاريب ، ومنابر، ومآذن ، وآبار، وغيرها، ومن أهمها :
1 - المسجد المسقوف ، الجامع القِبلي (الجامع الأقصى )

المسجد القبلي(الذي يسميه عامة الناس المسجد الأقصى) في عام 2006

المصلى القِبلي أو الجامع القِبلي هو المبنى المسقوف الذي تعلوه قبة رصاصية، يقع في الناحية الحنوبية من المسجد الأقصى باتجاهِ القبلة ، ومن هنا جاءت تسميته بالقِبلي، كان أول من أمر ببنائه الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - عند فتحهِ للقدس عام 15 هـ الموافق 636م ..
روى الإمام أحمد عن طريق عبيد بن آدم قال: (سمعت عمر بن الخطاب يقول لكعب الأحبار: أين ترى أن أًصلي؟ فقال: إن أخذت عني, صليت خلف الصخرة, وكانت القدس كلها بين يديك, فقال عمر: ضاهيت اليهودية. لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه ، فكنس الكناسة في ردائه، وكنس الناس) ( ) وهو المصلى الرئيس الذي يتجمع فيه المصلون خلف الإمام في صلاة الجمعة في المسجد الأقصى. وقام بتجديد بناء هذا المسجد الخليفة عبد الملك بن مروان عام 74 هـ ، وأتم بناءه ابنه الوليد بن عبد الملك عام 86هـ .
وفي عام 130 هـ هدم قسم من الجزء الشرقي من المسجد إثر هزة أرضية ، فأمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بقلع صفائح الفضة والذهب التي على أبواب المسجد وسكها نقودا أنفقت على إصلاح الجزء المتضرر . وقد فرغ من ذلك عام 154هـ .. وفي عام 158ه، ضربت المسجد هزة أخرى هدمت ما بني أيام أبي جعفر المنصور ، وبأمر من الخليفة المهدي بن أبي جعفر المنصور رمم ما هدمته الزلزلة ، كما زاد في عرضه ، وأنقص من طوله وذلك عام 163هـ . واحتاج المسجد للترميم والإصلاح من كثرة الزلازل ، وعوادي الدهر ، فأمر الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بإصلاح ما خربته الزلازل من المسجد ، ثم ضيقه من الشرق والغرب بإزالة أربعة أروقة من كل جهة ، وقد بنى القبة الحالية ، والأبواب السبعة الباقية في شمال المسجد عام 436هـ . وفي عام 458هـ أمر الخليفة المستنصر بتجديد الواجهة الشمالية للمسجد الأقصى عام 458هـ .وعندما احتل الصليبيون القدس عام 492هـ - 1099م، حولوا المسجد الأقصى إلى كنيسة أطلقوا عليها اسم :( بلاتيوم )، وأضافوا صفا من القتاطر المعقودة بمحاذاة الحائط الجنوبي للمسجد الأقصى لتكون مخزنا لأسلحتهم كما استعملوا السراديب تحته في أسفل الزاوية الجنوبية الشرقية اسطبلا لدوابهم ، وهي التي تعرف بالمصلى المرواني . وعندما حرر الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي عام 583هـ - 1187م أمر بإعادة المسجد إلى ما كان عليه. وفي عام 634هـ أمر الملك المعظم شرف الدين عيسى بإنشاء الرواق الذي يكون الجهة الشمالية للمسجد ، وهو يشتمل على سبع قباب ، وفيه الأبواب الخشبية التي ما زالت باقية . أما سقف المسجد من الناحية القبلية فقد أمر بتعميره الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي المملوكي وذلك عام 686هـ . أما الأشرف قايتباي فقد عمل الرصاص على ظهر المسجد المسقوف . وفي القرن العشرين استدعى المجلس الإسلامي الأعلى بفلسطين مدير إدارة حفظ الآثار العربية بمصر المهندس محمود أحمد باشا ، ومعه السيدين محمد بك نافع ، وعبد الفتاح بك حلمي ، وأعادوا بناء المسجد وذلك في عام 1938م . ( ) وقديماً إذا أطلق اسم المسجد الأقصى فإنه يراد به كل ما دار عليه السور واحتواه، وأما حديثاً فالشائع بين عامة الناس إطلاق الاسم على المسجد الكبير الكائن جنوبي ساحة المسجد الأقصى، وهو الجامع القبلي . وللجامع القبلي أحد عشر باباً: سبعة منها في الشمال في واجهته، وأوسطها أعلاها، وباب واحد في الشرق، واثنان في الغرب، وواحد في الجنوب. ويقع في الجهة الشرقية الجنوبية من الجامع الأقصى مسجد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- بمدخلين: الأول من داخل الأقصى، والثاني من الساحة الشرقية أمام المسجد .. ومسجد عمر عبارة عن رواق واحد في عرضه ، وأربعة أروقة متجاورة في طوله ، وقد سمي كذلك تيمناً بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه-لأنه محرر بيت المقدس ، ولأنه هو أول بانٍ لمسجد عمر، وترجح المصادر أن تاريخ هذا البناء القائم حالياً يعود إلى العهد العثماني الاول ، وقد تم تقسيمه في العصر الحديث إلى قسمين: القسم الغربي وهو للصلاة ، والقسم الشرقي ويستخدم في أوقات الطوارئ عيادة صحية تابعة للمسجد الأقصى المبارك. وإلى الشمال من مسجد عمر يوجد مكان آخر يقال له مقام الأربعين. وهو إيوان واسع له مدخلان. أحدهما : عن طريق مسجد عمر ، وثانيهما : عن طريق فتحة واسعة تتصل بالمسجد على طول جانبها الغربي. وتذكر بعض الروايات أن تسمية هذا المقام بمقام الأربعين نسبة الى مدفن يضم أربعين من الصالحين ، وقيل من الأنبياء ، وربما نسبة للمعتكفين فيه أربعين يوماً، وليس هناك دليل شرعي أو تاريخي على صحة هذا أو ذاك ، ويلاحظ الزائر وجود كتابة قرآنية قديمة على الجدران حيث تم ترميمها. وفي المكان الذي يقوم فيه منبر المسجد اليوم كان يتربع منبر صلاح الدين الأيوبي – طيب الله ثراه - ، المنبر الذي صنعه أهل حلب بأمر من السلطان نور الدين محمود زنكي رحمه الله عام 564هـ - 1168م ، قبل تحرير القدس والمسجد الأقصى بتسع عشرة سنة ، وكان بشهادة المختصين, تحفة عظيمة لا تقدر بثمن, صنع من خشب الأرز المرصع بالعاج والأبنوس ، وقد أوصى نور الدين زنكي بنقله الى المسجد الأقصى بعد تحرير القدس. فكان هذا المنبر كما أراد صانعوه ، وكما فهمه رواد هذا المسجد ، يجسد إرادة الامة في مقاومة المحتلين ، ويمثل رمزاً حياً لمراحل النصر والعزة في تاريخ هذه الأمة ، وقد فقد الجامع الأقصى هذا المنبر الذي ظل لقرون طويلة رمز عزته ومنعته في أعقاب سقوط القدس وفقدان الأمة لأولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد اليها الرحال سنة 1967م ، فقد تعرض هذا الجامع لمؤامرة كبيرة وخطيرة ، استهدفت إحراقه وتدميره في 21/8/1968م ولكنها فشلت ، وتكررت المؤامرة فاستطاع أحد اليهود المتطرفين ويدعى (دينيس مايكل روهان ), تنفيذ حريق الأقصى في 21/8/1969م, ولم تكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي بعيدة عن هذه المؤامرة ، حيث قطعت المياه عن منطقة الأقصى ، ومنعت سيارات الإطفاء من الوصول الى داخل المسجد ، ولولا ارادة الله تعالى واستماتة ابناء القدس وفلسطين المرابطين ( الفئة المنصورة بإذن الله ) في الدفاع عن هذا المكان الطاهر ، وإطفائهم النيران بأنفسهم وبثيابهم وبما وصلت اليه أيديهم ، لحلت بالأقصى كارثة كبيرة لا يعلم مداها الا الله. وانطفأت المؤامرة دون أن تتمكن من تدمير الجامع الأقصى ، ولكنها طالت منبر صلاح الدين، وقسماً كبيراً من الجهة الجنوبية لهذا المسجد بما يحويه من كنوز كانت رمزاً لعزة هذا المسجد ، ولم يبق منه إلا الحطام والركام ، وبلغت المساحة المدمرة حوالي (1500) متراً مربعاً ، أي ما يعادل ثلث مساحة الجامع الأقصى ، ولكن لعل هذه الجريمة النكراء تبقى في الذاكرة ، لتستثير أبناء هذه الأمة فيدفعها لتخليص قبلتها الأولى من مثل هذا المصير الأسود. وفي 23 / 1 / 2007 م عاد منبر صلاح الدين إلى المسجد الأقصى المبارك، بعد أن أعيد بناؤه في الأردن في جامعة البلقاء التطبيقية وعلى نفقة صاحب الجلالة عبدالله الثاني ، ملك المملكة الأردنية الهاشمية - أعزه الله - ، وقال متخصصون إن المنبر الجديد مؤلف من 16500 قطعة بعضها لا يتعدى طوله المليمترات، حيث يتم تجميع هذه القطع في بناء طوله ستة أمتار من دون استخدام مواد تثبيت من صمغ ، أو مسامير ، أو براغٍ ، أو غِراء، وإنما باستخدام طريقة التعشيق . وقد استمر إعادة بنائه ثلاثة عشر عاماً ...
واليوم بعد مرور أكثر من ثمانية قرون على هزيمة الفرنجة وتحرير بيت المقدس ، تقع هذه المدينة المقدسة التي تحتضن أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد اليها الرحال ، تحت احتلال يهودي خبيث ، وها هو المسجد الأقصى يمسي ويصبح في دوامه الخطر ، فمنذ سقوط القدس في يد المحتلين ومخططاتهم سارية متجددة تجاه القدس والأقصى ، فقد رصد المهتمون أكثر من عشرين جمعية يهودية تعمل بمؤازرة دولة الاحتلال على تهويد منطقة الأقصى والقدس عموماً ، ولها في ذلك وسائل كثيرة وعديدة ، فبمجرد احتلالهم مدينة القدس قاموا على الفور بهدم حي المغاربة المحاذي للأقصى من الجهة الغربية الجنوبية ، وأزالوه من الوجود ، وشردوا وقتلوا سكانه من العرب المسلمين ، واعتبروه حياً لليهود ، وجعلوا من حائط البراق الذي يمثل الحائط الغربي للأقصى حائطاً مقدساً لهم. ومنذ سقوط القدس تحت سيطرتهم تعرض الأقصى الى اعتداءات كثيرة لا تحصى ، كمحاولات اقتحام المسجد والمساس بحرمته وقدسيته ، وقمع المصلين الآمنين ، ومطاردتهم بالرصاص والقنابل الغازية داخل ساحاته ومبانيه ، بل إن هذه الصورة تتكرر أحياناً في اليوم الواحد أكثر من مرة ، وفي بعض الأحيان كانت عدسات الكاميرا تنجح في التقاط صور لهذه الجرائم البشعة لتكون شاهداً على هذه الحقبة من التاريخ الأسود ، وعلى المستوى الاجرامي لهؤلاء المحتلين. ولعل أخطر وأكبر الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد هذا المسجد منذ احتلاله الى اليوم ، هي الحفريات والتنقيبات الجارية تحت أساساته ، وهم يزعمون أنهم يبحثون عن آثار هيكلهم المزعوم ، والحقيقة أن نتائج هذه الحفريات لم تعثر على شيء يخص هذا الهيكل باعتراف علمائهم وعلماء غربيين مشهورين ، وعلى ما يبدو فإن الهيكل ليس موجوداً إلا في خيالهم المريض ، وكتبهم الملفقة ، وقد كانت جميع المكتشفات الأساس في هذه المنطقة تعزز الهوية العربية الاسلامية لمنطقة المسجد الأقصى ومحيطه ، إلا أنهم ماضون في غيهم دون توقف ، إلى حد أنه أصبح اليوم يوجد تحت أساساته المسجد الأقصى شبكة ضخمة من الحفريات والأنفاق ، مما بات يشكل الخطر الأكبر على المسجد الأقصى ، خصوصاً وأن هذه الحفريات بدأت في السنوات الأخيرة تأخذ طابع السرية التامة ، ولم يعد أحد يدري شيئاً عما يجري ، وكأن ما يقومون به هو عملية عسكرية محضة لا يريدون أن يعرف الناس عنها شيئاً. ولايزال أقصانا الأسير حتي هذه اللحظات تحت السيطرة اليهودية ، ولا زال أبطال الشعب الفلسطيني يبذلون كل غال ونفيس في سبيل مهد النبوات والرسالات ، يطلبون الموت لتوهب لهم ولكم الحياة .. وستُسَلِّم القدس مفاتيحها من جديد كما سلمت مفاتيحها من قبل لابن الخطاب ... وبسقوط القدس تسقط مرحلة تاريخية كاملة من الحضارة العالمية الراهنة ، وبوادر ذلك تلوح لكل ذي عينين،لا رمدَ فيها ولا رماد .
2 - المصلى المرواني: ( )
ومما يجب أن يعرفه المسلمون في كل مكان أن المسجد الأقصى ليس هو فقط المساحة المشاهدة حول قبة الصخرة ، أو الجامع القبلي داخل السور ، وإنما هناك مساحات أخرى تقع تحت القسم الجنوبي من ساحة المسجد ، وهي جزء تاريخي أصيل من هذا المسجد المبارك. فهناك تحت المبنى القائم في صدر الجهة الجنوبية والمعروف بالجامع الأقصى أو المسجد المسقوف ، يقع بناء عريق ( تسوية ) يتم الدخول اليه بواسطة درج حجري ، يقع أسفل أبواب المبنى العلوي ، وقد كان هذا البناء مهجوراً طوال القرون الأخيرة ، ولم يكن الدخول اليه ممكناً بسبب الأتربة والحجارة التي كانت تغطي مساحات كبيرة منه ، ومنذ أواخر عقد التسعينات من القرن العشرين ، انتهت الجهات المشرفة على المسجد ، وبمؤازرة الخيرين من أيناء القدس وفلسطين ، من تنظيف هذا المكان الطاهر ، المصلى المرواني ، وإعادة تأهيله وتعميره ليعود كما كان جزءاً أصيلا من المسجد الأقصى .
يقع المصلى المرواني في الجهة الجنوبية الشرقية من المسجد الأقصى المبارك ، وكان يطلق عليه قديماً التسوية الشرقية من الأقصى المبارك ، بناه الأمويون أصلا كتسوية معمارية لهضبة بيت المقدس الأصلية المنحدرة جهة الجنوب ، حتى يتسنى البناء فوق قسمها الجنوبي الأقرب إلى القبلة، لترتفع لمستوى القسم الشمالي. ويتكون من 16 رواقاً ، تبلغ مساحتها 3775 متراً مربعاً ، أي ما يقارب 4 دونمات ..
كان هذا البناء صهريج ماء أرضي بناه هدريان الامبراطور الروماني في القرن الثاني الميلادي مع السور الحجري الموجود حاليا حول المسجد الأقصى المبارك ، ويشبه في بنائه صهريج الرملة الروماني، وهو مكون من أعمدة وعقود حجرية، بدليل أن جداري هذا الصهريج الجنوبي والشرقي هما جدارا السور حول المسجد الأقصى. والصهريج ليس بناء مضافا بعد بناء السور بل أنشىء معه وفي الوقت نفسه .
وكان هذا الصهريج يجمع الماء من المنطقة المحيطة بواسطة قنوات أفقية حجرية تصب في قنوات رأسية على جدران الصهريج الخارجية ، وقد بقيت احدى هذه القنوات الراسية ماثلة للعيان إلى اليوم ، وهي داخل المدخل الرئيس للمسجد المرواني ، وشكلها نصف دائري ومكسوة ببلاط كلسي مخلوط مع فخار مطحون ورمل تبدو للعيان إلى اليوم. وأرضية الصهريج صخرية مغطاة بالتراب الناتج عن الترسبات والأعمار المتكرر. ويقع في زاويته الجنوبية الشرقية ما يعرف باسم ( مهد عيسى- عليه السلام - ) وهو مكان يعتقد البعض أن سيدنا عيسى - عليه السلام - قد رفع الى السماء منه ، إلا أنه ليس هناك دليل يثبت صحة هذا الاعتقاد.
وفي زمن الخليفة الأموي مروان بن الحكم استخدم كمدرسة فقهية متكاملة ، ومن هنا أطلق عليه اسم المصلى المرواني ، وعند احتلال الصليبيين للمسجد الأقصى في سنة 1099م ، استَخْدموا المكان مربطاً لخيولهم ودوابهم ، ومخازن ذخيرتهم ، وأطلقوا عليه اسم " اسطبلات سليمان وآثار حلقات الخيل ظاهرة في بعض الأعمدة الحجرية.. ويعتقد كثير من الناس أن هذا المكان من بناء نبي الله سليمان - عليه السلام - ، وهذا من التلبيس والدَّسْ الذي يستعمله اليهود ، وبرعوا فيه ، حتى تُنْسَبَ لهم فيما بعد ، لتكون شاهدا على وجودهم على هذه البقعة منذ الأزل ، والصحيح أنها من بناء الأمويين كما أثبت أهل الآثار. شأنه في ذلك شأن جميع المرافق والمباني الموجودة داخل ساحة الأقصى ، إذ يتفق المؤرخون على أن هذه الساحة كانت فارغة من الأبنية عند قدوم المسلمين ، بل إن الراجح أنها كانت فارغة قبل قدومهم بمئات السنين ، والسقف الحالي للمصلَّى المرواني يعود إلى عهد السلطان العثماني سليمان القانوني،أما الأعمدة والأقواس الموجودة في المصلَّى المرواني فإنها تعود إلى عهد عبد الملك بن مروان.
إضافة إلى أن النمط العمراني الذي بني على أساسه هذا المسجد من أعمدة وجسور وأقواس ، يشبه الى حد كبير ما يشاهد في البناء العلوي للمسجد القبلي الذي يسميه عامة الناس بالمسجد الأقصى ، إضافة الى الحقيقة الكبرى التي لا يجوز إغفالها ، وهي أن هذا البناء – المصلى المرواني – لم يكن هدفاً في حد ذاته ، بل إن الهدف منه ومن بناء الأقصى القديم الذي يجاوره ، هو تحقيق وحدة الأقصى المعمارية التي كان يصعب أن تتحقق في هذه المساحة المستوية والمتصلة لولا هذه التسويات الأرضية ، التي تختلف في أحجامها وأشكالها من الداخل لتحقق صورة واحدة من الخارج ، وتشكل الاستواء المحيط بالمسجد القبلي .
ومن الثابت تاريخياً أن الصليبيين الذين احتلوا بيت المقدس في أواخر القرن الحادي عشر للميلاد استولوا على المسجد الأقصى، والمصلى المرواني ، وانتهكوا حرمته ، وارتكبوا فيه أبشع الجرائم التي يمكن أن يرتكبها مجرم في حق الانسان. إذ تذكر كتب التاريخ أن أهل القدس من العرب والمسلمين ، لجأوا الى هذا المكان المقدس يحتمون به من جرائم هؤلاء الغزاة ، ولكن الصليبيين الذين قدموا من أواخر البحار لم يفهموا هذه الرسالة ، واقترفوا في هذه البقعة الطاهرة أبشع المجازر التي عرفها التاريخ ، حيث ذبح فيها ما يقرب من سبعين ألفاً من الأطفال والنساء والشيوخ. وتحول يومها هذا المسجد إلى مقر لقيادة المحتلين ، حيث كان مبنى المسجد في الجهة الجنوبية مقراً للفرسان ، ورفع الصليب على قبة الصخرة وحولت لكنيسة ، أما التسويات الأرضية ، فحولوها الى إسطبلات لخيولهم ، وما زالت آثار الحلقات التي استحدثوها في أعمدة هذا المسجد ظاهرة إلى يومنا هذا ، وكذلك البوابة الثلاثية التي تشاهد في السور الجنوبي للأقصى ، والتي يعتقد أنهم استخدموها لإدخال وإخراج الخيول والدواب ، وذهب الصليبيون وبقي الأقصى شامخاً ، بعد أن نفض عنه القائد صلاح الدين الأيوبي ذل الاحتلال ، وطهره من آثاره وآثامه، وكنسهم إلى مزابل التاريخ .كما سيذهب غيرهم وبتم كنسهم إلى مزابل التاريخ كذلك.
أطماع يهودية بالمصلّى المرواني : أطماع اليهود بالمسجد الأقصى أطماع قديمة وتحديداً أطماعهم بالمصلّى المرواني ، فقد أثار الصهاينة ضجّة كبيرة ضد عملية الإصلاح والترميم في المصلّى المرواني التي قامت بها مؤسسة الأقصى ، وهيئة الأوقاف ، وكتبت الصحف العبرية حين ذاك أن المسلمين يقيمون مسجداً سرّياً تحت المسجد الأقصى ، هذه الضجة التي أثارها الصهاينة ترجِع بالدرجة الأولى إلى وجود مخطّطات داخل الحكومة الصهيونية لتحويل هذا المصلّى إلى كنيسٍ يهودي في إطار تسويةٍ ما للقضية الفلسطينية ، ولا أدلّ على ذلك مما فعله باراك عام 1999م ، ففي 3/أكتوبر قامت حكومة باراك ببناء درَجٍ حتى السور الذي هو حائط المصلّى المرواني والحدّ الجنوبي للمسجد الأقصى المبارك ، وقد افتتحه باراك نفسه ، وادعى كذِباً أن هذا المكان مدخل الهيكل ، في إشارة واضحة للأطماع اليهودية في المصلّى المرواني برزت حين اقتحم الهالك آرئيل شارون في 28/9/2000م المسجد الأقصى ، وحاول دخول المصلّى المرواني عبر باحات المسجد الأقصى مدنّساً حرمة المكان ، الأمر الذي أدّى إلى اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة ،انتفاضة العزة !! ومن يومها منعت دائرة الأوقاف الإسلامية دخول اليهود والسيّاح الأجانب إلى باحات المسجد الأقصى ، إلى أن فرض وبعد مرور ثلاثة سنوات وزير الأمن الداخلي "تساحي هنغبي" السماح بدخول اليهود والأجانب إلى ساحات المسجد الأقصى ، والذين حاولوا مراراً و تكراراً أداء شعائر دينية مشبوهة أمام المصلّى المرواني ، وفي أماكن أخرى من المسجد الأقصى . وفي 30/6/2004 م حاولت الشرطة الصهيونيّة بالقوة منع إتمام عمليات الترميم والإصلاح كانت تقوم بها دائرة الأوقاف في مدخل المصلّى المرواني تهدف إلى وقف تدفّق مياه الأمطار في فصل الشتاء إلى داخل المصلّى . وفي 26/9/2004م بدأت المؤسسة الصهيونيّة وأذرعها المختلفة بحملة إعلامية واسعة النطاق حول أخطار انهيار المصلّى المرواني بسبب اكتظاظه بالمصلّين خلال شهر رمضان المبارك ، وأصدر رئيس الحكومة الصهيونيّة الهالك آرئيل شارون أوامره للأجهزة الأمنية الصهيونيّة بإغلاق المصلى المرواني ومنع الصلاة فيه بحجة منع "كارثة إنسانية"- حسب زعمه – ، وسارعت دائرة الأوقاف الإسلامية ومؤسسة الأقصى بالردّ على الادعاءات الصهيونيّة وأكّدت أن المصلّى المرواني بخير ، وأن وضعه الإنشائي مستقرّ، وبعد يومٍ واحدٍ من تصريحات الهالك شارون خرج القائم بأعمال وزير الأمن الداخلي "جدعون عزرا" ليقول : "إن (إسرائيل) ستحدّد عددَ المسموح لهم بالدخول إلى الأقصى إذا لم تحلّ إشكالية الترميمات في المصلّى المرواني" ، لتُسرّب بعد أيام معلومات بأن سلطات الاحتلال ستغلق نصف المصلّى المرواني . وفي 12/10/2004م قالت المؤسسة الصهيونيّة إن هناك "اتفاقاً معيّناً" بإغلاق جزءٍ من المصلى المرواني ، إلا أن دائرة الأوقاف كَذّبت هذه الرواية ، وقالت إن الحقيقة هي منطقة صغيرة تجري فيها الآن أعمال ترميم في المصلّى المرواني أغلقت للمحافظة على سلامة المصلّين ، وبعد يومٍ واحدٍ فقط نشرت الصحافة العبريّة تقريراً مفصّلاً بأنه سيتمّ عزل مدينة القدس ، ومحاصرة الأقصى ، وأن السلطات الصهيونيّة لن تسمح إلا لـ 50 ألف مصلٍّ فقط بالدخول إلى المسجد الأقصى في يوم الجمعة الأول من شهر رمضان .
ترميمٌ وتعجيلٌ افتتاح المصلى المرواني : وفي نهايات عام 1995م ، كشفت بعض الصحف العالمية عن وثيقة سرية تدعو لتقسيم المسجد الأقصى المبارك على أساس طبقي، وذلك باعتبار أن ما تحت الأرض لليهود، وما فوق الأرض للمسلمين. وفور تسريب أخبار تلك الوثيقة تداعت عدة هيئات إسلامية في فلسطين برئاسة الشيخ رائد صلاح مبادرة لإصلاح وترميم المصلّى ، ، فجمعت هذه الهيئة حوالي نصف مليون دينار أردني واشترت البلاط الرخامي للأرضيات ، وأحضرت العمال والمتطوعين ، ونَسَّقت مع دائرة الأوقاف الاسلامية في القدس ومع لجنة الاعمار الهاشمي ، وساعد في ذلك المتطوعون من بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ، و قامت بإعادة تأهيل هذا المسجد، ليصبح مصلى للمسلمين ، ويُفشل المخطط الاسرائيلي الذي كان يستهدفه لجعله كنيساً يهودياً.
ونفذوا العمل على مراحل بالتعاون مع لجنة الإعمار في المسجد الأقصى المبارك ، وتحت إشراف هيئة الأوقاف..
وكانت المرحلة الأولى : تتمثل في تبليط وتجهيز المصلّى للصلاة ، وقد بُدِئ العمل فيه في شهر 7/ 1996م لينتهي في شهر 11/96 ، ليفتتح مباشرة للصلاة أمام جموع المسلمين ، و قد شارك في العمل آلاف من الشباب المتطوّعين ، حيث هُيّأت أرضيّته وبُلّطت مساحته بالرخام اللائق لاستقبال المصلّين ، وتمت إنارته بالكهرباء ، وصُمّم له محرابٌ خشبيّ جميل وفُرش بالسجاد ، وتم الانتهاء من تجهيزه في فترة زمنية قصيرة جداً ، فقد قدّرت المدة المطلوبة لتجهيز المصلّى بحوالي العامين ، ليتم تنفيذ العمل في مدة أربعة أشهر بفضل تيسيرات المولى عز وجلّ ، الأمر الذي أذهل السلطات الصهيونية ، حيث قامت بحملة إعلامية ضخمة ضد هذا العمل . أما المرحلة الثانية : فتمّ خلالها تبليط سطح المصلّى العلوي ، ففي عام 1997 – 1998م باشرت مؤسسة الأقصى ترميم المسطّح العلوي للمصلّى المرواني لمنع تسرّب المياه إليه ، وتم تبليط 7000 متر مربع ، وقام بتنفيذ الأعمال آلاف العاملين المتطوعين من المسلمين في الداخل الفلسطيني . وبعد فترة من الزمن باشر أعضاء مؤسسة الأقصى بإشراف هيئة الأوقاف ولجنة الإعمار في المسجد الأقصى بفتح بوابتين عملاقتين من الجهة الشمالية للمصلّى المرواني ، كانتا قد أغلقتا منذ زمن قديم (بعد الزلزال الذي أصاب المسجد الأقصى ودمّر بعضا من أجزائه ، اضطر المسلمون إلى إغلاق الأبواب ( . وبدءوا مشروعهم الجبّار ، فعملوا ليل نهار على استباق الحدث ، وإحداث ردّ عمليّ حقيقي لنجدة المصلّى المرواني من أطماع المتطرفين اليهود ، وتمّ بناء درَجٍ كبير يؤدّي إلى هذه البوابات (انتهى العمل فيه في شهر 5/ 2000 م) ، كما تمّ تبليط العديد من الساحات الشرقية المؤدّية إلى درَج وأبواب المصلّى المرواني الجديدة ، لتصبح المساحة المبلّطة ما يقارب من 5000 متر مربع ، وتم كذلك بناء جدارٍ صخريّ لمنع انهيار التراب ، و كذلك إنشاء وبناء مضخّة مياهٍ تضخّ مياه الأمطار التي تتجمّع أمام البوابات ، و تم تركيب خط إطفائية ، وخط أنابيب مياه يصل إلى بوابات المرواني الجديدة ، حيث تم بناء سبل مياه للشرب ، وتم العمل لإزالة أكوام التراب من الناحية الشرقية المحاذية للبوابات .و في (4/12/1999 م) تمّ فتح البوابات العملاقة للمصلّى المرواني ، ليستوعب أكثر من ستة آلاف مصلٍ داخل المصلّى المرواني ومثلهم على سطحه العلوي .

وكانت هناك مشكلة التهوية الطبيعية، ففتحت دائرة الأوقاف بالقدس بابا من الجهة الشمالية من المسجد، وعرضه يساوي عرض قوسين من الأقواس الشمالية القديمة، وأزالت الأوقاف كميات ضخمة من الطَّمم لتتمكن من فتح الباب، مما آثار احتجاج المعارضة الإسرائيلية التي ادعت بأن المسلمين يزيلون الآثار اليهودية وينقلونها إلى الخارج. وتصدى لهذه الدعاية الصهيونية الكاذبة موظفوا الأوقاف الإسلامية ، وأثبتوا للعالم أن هذا الطمم الترابي لا يمت بصلة إلى الموقع ، ولا يوجد فيه أية آثار. وفتح الباب الشمالي وأصبح حقيقة. وأصبح هذا المسجد المرواني يستقبل المصلين من جميع أنحاء فلسطين. لقد أنجز هذا العمل بالنية الصادقة، والعزيمة القوية، والارادة التي قاومت الاحتلال في كل محاولاته لايقافه . وأعلن عن الافتتاح الرسمي للمصلى في رمضان الموافق نوفمبر/تشرين الثاني 1996م ليصبح مصلى رسميا ضمن مصليات المسجد الأقصى المبارك. إلا أن المصلى المرواني بقي يعاني من مشكلة رئيسة وهي : وجود مدخل واحد ضيق له، وكان عشرة آلاف شخص يدخلون ويخرجون من خلال هذا المدخل، مما كان يتسبب في الزحام وحالات اختناق في بعض الأحيان.ولحل هذه المعضلة، قام بعض الباحثين بإجراء عدة بحوث في المنطقة، وتم اكتشاف وجود سبع بوابات قديمة مغلقة ومطمورة في الناحية الجنوبية الشرقية من المصلى المرواني، وقررت الهيئات الإسلامية في القدس نهاية عام 1999م كشف البوابات ، وفتح اثنتين منها لأجل التوسيع على المصلين. كما تمت إضافة سبيل ماء إلى جانب إحدى البوابتين، وبذلك فتح المجال للمصلين للتحرك بسهولة وحرية من المصلى المرواني وإليه، وساندت الساحة الشرقية المبلطة على استيعاب أعداد أكبر من المصلين في أوقات الذروة .
واليوم وبعد مرور أكثر من ثمانية قرون على هزيمة الصليبيين وتحرير بيت المقدس ، تقع هذه المدينة المقدسة التي تحتضن أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال تحت احتلال يهودي جديد, وها هو المسجد الأقصى يمسي ويصبح في دوامه الخطر ، فمنذ سقوط القدس في يد المحتلين اليهود ومخططاتهم سارية تجاه القدس والأقصى ، فقد رصد المهتمون أكثر من عشرين جمعية يهودية تعمل بمؤازرة دولة الاحتلال على تهويد منطقة الأقصى والقدس عموماً ، ولها في ذلك وسائل كثيرة وعديدة ، فبمجرد احتلالهم مدينة القدس قاموا على الفور بهدم حي المغاربة المحاذي للأقصى من الجهة الغربية الجنوبية ، وأزالوه من الوجود ، وشردوا وقتلوا سكانه من العرب المسلمين ، واعتبروه حياً لليهود ، وجعلوا من حائط البراق الذي يمثل الحائط الغربي للأقصى حائطاً للمبكى . ومنذ سقوط القدس تحت سيطرتهم تعرض الأقصى الى أكثر من أربعمائة محاولة اعتداء ، كان أخطرها إحراقه في سنة 1969م ، وكذلك المحاولات التي استهدفت تفجيره وقصفه بالصواريخ في سنة 1980م ، وفي سنة 1984م ، وكذلك المجازر التي ارتكبت في ساحاته سنة 1982م ، وسنة 1990م ، وسنة 1996م ، وغيرها .. أما محاولات اقتحام المسجد والمساس بحرمته وقدسيته وقمع المصلين الآمنين ومطاردتهم بالرصاص والقنابل الغازية داخل ساحاته ومبانيه ، فهي كثيرة وعديدة ، بل إن هذه الصورة تتكرر أحياناً في الأسبوع الواحد أكثر من مرة ، وفي بعض الأحيان كانت عدسات الكاميرات تنجح في التقاط صور لهذه الجرائم البشعة لتكون شاهداً على هذه الحقبة من التاريخ ، وعلى المستوى الاجرامي لهؤلاء المحتلين. ولعل أخطر وأكبر الجرائم التي يرتكبها الاحتلال ضد هذا المسجد منذ احتلاله الى اليوم هي الحفريات والتنقيبات الجارية تحت أساساته ، وهم يزعمون أنهم يبحثون عن آثار هيكلهم المزعوم ، والحقيقة هي أن نتائج هذه الحفريات لم تعثر على شيء يخص هذا الهيكل باعتراف علمائهم وعلماء غربيين مشهورين ، وعلى ما يبدو فإن الهيكل ليس موجوداً إلا في خيالهم ،وكتبهم المحرفة ، وأوهامهم ، وقد كانت جميع المكتشفات الأساسية في هذه المنطقة تعزز الهوية العربية الاسلامية لمنطقة المسجد الأقصى ومحيطه ، إلا أنهم ماضون في غيهم دون توقف ، إلى حد أنه أصبح اليوم يوجد تحت أساسات المسجد الأقصى مجمع ضخم من الحفريات والأنفاق ، مما بات يشكل الخطر الأكبر على المسجد الأقصى ، خصوصاً وأن هذه الحفريات بدأت في السنوات الأخيرة تأخذ طابع السرية التامة ، ولم يعد أحد يدري شيئاً عما يجري ، وكأن ما يقومون به هو عملية عسكرية محضة لا يريدون ان يعرف الناس عنها شيئاً. وحاولت سلطات الاحتلال الصهيوني أكثر من مرة استفزاز العاملين والمصلين، فمنعوا إدخال أي مواد قد تستخدم في ترميم المسجد الأقصى المبارك.وقام رئيس الوزراء الإسرائيلي الهالك أرئيل شارون إلى المسجد الأقصى في( 28 سبتمبر -أيلول2000م ) ، فأدت هذه الزيارة إلى اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة – كمتا أسلفنا - التي عمت جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وقد نجح أبناء الطائفة المنصورة في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس ، في إعادة افتتاحه وتحويله إلى مُصَلَّى أطلقوا عليه -المصلى المرواني- نسبة إلى مؤسسه الحقيقي، وقد أحسنوا في ذلك...وتم افتتاحه لجمهور المصلين في 12/12/1996م بعد صيانته، وقد ساهم في إعماره العديد من المتبرعين من داخل وخارج فلسطين.
3- مسجد قُبَّـةُ الصخرة :
تتألف قبة الصخرة من قبة ذهبية اللون تعلو بناء مثمناً له أبواب أربعة تفتح على الجهات الأربع، ويحيطها من الخارج جدران رخامية يعلوها واجهات قاشانية بدلاً من الواجهات الفسيفسائية التي كانت موجودة في مثمن القبة من الخارج حتى عام 955 هـ / 1548 م. ولقد سمي مسجد الصخرة نسبة إلى الصخرة الجرداء التي تتوسط المسجد ، والتي يُعتَقَد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عرج منها إلى السماوات العلا. وهي من أقدم وأعظم المعالم الإسلامية المتميزة. وهي أعلى بقعة في المسجد الأقصى. وقبة الصخرة حالياً مصلى النساء في المسجد الأقصى. وتقوم في ساحة الحرم الشريف مايزيد عن 11 قبة (فضلاً عن قبة الصخرة المشرفة)، والتي تم تعميرها في الفترات الإسلامية: الأيوبية ، والمملوكية ، والعثمانية، حيث بنيت معظمها لتكون مقراً للتدريس أو دوراً للعبادة والاعتكاف ، أو تخليداً لذكرى حدث معين . هذا وقد انتشرت هذه القباب في صحن قبة الصخرة وساحة المسجدالمبارك ، وقبة الصخرة أقدم أثر معماري إسلامي باق حتى الآن، وتعتبر من درر الفنون الإسلامية وبنيت داخل أسوار المسجد الأقصى لتكون قبة للمسجد فوق الصخرة والتي قيل فيها الكثير مما لا يثبت سنداً وشرعاً، والصخرة عبارة عن شكل غير منتظم من الحجر نصف دائرة تقريباً. وبعد أن أعاد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان بناء المسجد الأقصى ، بنى القبة الجميلة لتكون تاجاً فوق الصخرة المباركة، ولتكون أيضاُ قبة مركزية للمسجد الأقصى الذي تتوزع أجزاؤه على الفضاء الواسع داخل السور. بدأ البناء بعد استلامه زمام الخلافة بسنة واحدة, سنة 66هـــ الموافق لسنة 685م ، ليكتمل سنة 72هـــ الموافق لسنة 691م ، و هناك اختلاف بين المؤرخين حول السنة التي بدأ وانتهى فيها بناء القبة ، فمنهم من يرى أن بناء القبة بدأ سنة 86هــــ وانتهى سنة 92هــــ ، وذلك في عهد الوليد بن عبد الملك وليس في عهد أبيه ، لكن المرجح أن ذلك قد تم في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان وليس في عهد ابنه الوليد. وتذكر المصادر التاريخية أن هذا البناء هو ثمرة خراج مصر لسبع سنين، وأن الخليفة قد أوكل مهمة إنجاز هذا المشروع العمراني والحضاري الكبير إلى أحد علماء الأمة وساستها الأذكياء ، وهو رجاء بن حيوة الكندي، الذي استعان بدوره بأحد أبناء مدينة بيسان المبدعين ، وهو يزيد بن سلام وولديه.. ولقد تم البناء في 72هـ –991م، ولقد فاض من المبالغ المرصودة لإعماره مائة ألف دينار ، رغب الخليفة أن يعطيها مكافأة تقسم بين رجاء ويزيد مناصفة لجهودهما وإخلاصهما في إتمام هذا المشروع، ولكنهما رفضا رفضاً باتاً، ولذلك أمر الخليفة أن تُصهر النقود الذهبية لتُطلى بها القبة والأبواب، فلذلك فاقت هذه القبة حدود الإبداع والجمال بسبب هذا اللون النحاسي المطلي بالذهب. ولم يستطع المعماريون المعاصرون من عرب وأجانب أن يكتشفوا الأساس الهندسي الذي بنيت عليه القبة الجميلة ، ومازال المبنى يخفي تحت قبته الكثير من الأسرار العمرانية التي أبدعتها الحضارة الإسلامية في مراحلها تلك. و رغم أن هذا البناء ليس هو الأكبر من بين الأبنية والمعالم التي ورثتها البشرية من إبداعات أسلافها ، إذ أن قُطر القبة من الداخل عشرون متراً وثلاثون سنتمتراً ، وارتفاعها عشرون متراً وثمانية وأربعون سنتمتراً ، فإن المختصين يجمعون على أن قبة الصخرة هي الأجمل في العالم. إن مبنى قبة الصخرة القائم في قلب المسجد الأقصى اليوم هو من أقدم المباني الإسلامية الموجودة ، فهو البناء الأول الذي شيد في القرن السابع للميلاد ، ولم يتغير منه سوى القشرة الخارجية المكونة من الفسيفساء أو الرخام أو القيشاني ، أما الجدران والقواعد فبقيت على حالها ، إن المتأمل في مبنى القبة يستطيع أن يقرأ فيه الكثير من الأسرار والمعاني التي لا يعثر عليها في المعاجم والكتب والمؤلفات. وما كان بالإمكان فك هذه الرموز بعيداً عن الوعاء الحضاري لهذه التحفة العمرانية الاسلامية . ويقوم بناء قبة الصخرة الداخلي على أربع دعائم وثمانية أعمدة ، والخارجي على ثماني دعامات وست عشرة عموداً تحمل عليها رقبة القبة الذهبية .. وهناك أعمدة رخامية صغيرة في الصف الخارجي يبلغ عددها اثني عشر عموداً. أما النوافذ المزخرفة في جنبات القبة فعددها ست وخمسون نافذة ، أضيف لها لاحقاً نافذتان في العهد العثماني. والأقواس المنتشرة في أرجاء المبنى من الداخل يبلغ عددها أربعة وعشرون قوساً ، كما يوجد على جدران وأعمدة المبنى لوحات رخامية جميلة ، ترصع جنبات هذا المبنى العظيم ويبلغ عددها تسعاً وتسعين لوحة. إن من يدخل قبة الصخرة من باب الجنة وهو الباب الشمالي ، يشاهد سبعة محاريب ، كما تزين جدرانها صور وأشجار ونباتات تم اختيارها من بين ما جاء ذكره في القرآن الكريم.
أما الزخارف النحاسية والذهبية التي استعملت في تزيين الجدران من الداخل ، فهي إما آيات قرآنية ، كآية الكرسي التي تشاهد في أعلى القبة ، وإما كتابة تاريخية تعود الى عهد القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي – رحمه الله - . ولا شك في أن مبنى قبة الصخرة الجميل قد أضفى بضخامته وروعته مزيداً من الهيبة والجلال على هذا المكان الطاهر. بيد أن فتنة الجمال العمراني لا يجوز أن تُنسي المرء الحقيقة الكبرى في هذا المقام ، وهي أن القداسة للمكان لا للأبنية ، وأن الأبنية الموجودة في الساحة كلها بما فيها القبة ، تستمد قيمتها من البقعة المباركة ، ولولا هذا المكان الذي يضم قلبه الصخرة ، التي منحت لهذا المبنى اسمه ومكانته (قبة الصخرة) ، ما بنيت هذه القبة من الأساس ، ولما حظيت بهذا الاهتمام في الحاضر والماضي. ومعلوم أن لصخرة بيت المقدس مكانة في تاريخ المسلمين ، فهي مركز المسجد الأقصى المبارك أرض المحشر والمنشر ، وقد شهدت هذه البقعة معجزات دينية تؤكد هذه المعاني وتزيد في توضيحها ، أهمها : معجزة الاسراء والمعراج ، فمن على هذه الصخرة كما هو مرجح ، عرج بالرسول محمد - صلى الله عليه و سلم - إلى السموات العُلا. وطول الصخرة : لا يتجاوز ثمانية عشر متراً ، وعرضها حوالي أربعة عشر متراً ، وتتوسطها فتحة اسطوانية ، وتحت الصخرة بئر تسمى بئر الأرواح ، وهي ليست بئر ماء ، وقد نسج الخيال البشري حولها العديد من القصص والحكايات والخرافات . أما المغارة : فيصلها الزائر من الجهة الجنوبية – وهي جهة القبلة – بواسطة سلم يتكون من ست عشرة درجة ، وهي مغارة صغيرة غير متناسقة الأطوال والارتفاعات ، لا يتجاوز اتساعها في أحسن الأحوال ثلاثة أمتار ، ثم تنحدر جوانبها في ارتفاعات مختلفة لتتصل بالأرض ، وهذا ينفي المزاعم بأنها معلقة في الهواء. وأما من يشير الى أن هذه الصخرة بقيت معلقة حتى نهاية أواخر القرن الخامس الهجري حيث تم وصلها بالبناء ليستتر أمرها عن أعين الناس فهذه من الأساطير ، ويلاحظ الزائر وجود محرابين فقط على جنبات الكهف ، وهي تنسب الى عدد من الأنبياء - عليهم السلام - و كان مركز نون للدراسات القرآنية قد توصل في دراسة للباحث الدكتور بسام جرار قام بها لموسوعة القدس والمسجد الأقصى المبارك في مطلع الألفية الثالثة, تحت عنوان: “صخرة بيت المقدس وأصحاب الكهف” , إلى أن هذه المغارة هي الكهف الذي أوى إليه الفتية الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف ، مقدماً بعضا من الأدلة والبراهين والمنشورة في “موسوعة القدس والمسجد الأقصى المبارك”- المجلد الأول ، بل جعل الاستاذ عطية زاهدة ( خربة قمران )هي مسرح أهل الكهف في مقالات منشورة في أحد المواقع الاليكترونية .. ؟ لكن ما توصل اليه الباحث الدكتور بسام جرار، والأستاذعطية زاهدة لم يثبت إطلاقاً، بل غير صحيح ألبتة ، إذ أن دراسات تاريخية وأثرية قد ذكرت أن مَن تم ذكرهم في سورة الكهف قد آووا إلى مغارة تقع في قرية الرجيب ( الرقيم ) على طريق عمّان سحاب وثمة إشارات في مصادر أخرى إلى وجود أصحاب الكهف في أماكن أخرى لا دليل عليها ---- . ((((هامش ) قال الطبري في تفسيره : وأما الكهف، فإنه كهف الـجبل الذي أوى إلـيه القوم ...وأما الرقـيـم، فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي الـمعنيّ به، فقال بعضهم: هو اسم قرية، أو واد علـى اختلاف بـينهم فـي ذلك.وعن ابن عبـاس، قال: يزعم كعب أن الرقـيـم: القرية.وفي رواية أخرى قال: الرقـيـم: واد بـين عُسْفـان وأَيـلة دون فلسطين، وهو قريب من أيـلة. وعن عطية، قال: الرقـيـم: واد. والرقـيـم: اسم الوادي. وقال آخرون: الرقـيـم: الكتاب. وعن عن سعيد بن جبـير، قال: الرقـيـم: لوح من حجارة كتبوا فـيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه علـى بـاب الكهف...و قال ابن زيد: الرقـيـم: كتاب، وقال آخرون: بل هو اسم جبل أصحاب الكهف. وأولى هذه الأقوال بـالصواب فـي الرقـيـم أن يكون معنـياً به: لوح، أو حجر، أو شيء كُتب فـيه كتاب. وقال الزمخشري في الكشاف : الغار الواسع في الجبل { وَٱلرَّقِيمِ } اسم كلبهم. قال أمية ابن أبي الصَّلت:
وَلَيْسَ بِهَا إلاَّ الرَّقِيمُ مُجَاوِراً.......... وَصِيدَهُمُ وَالْقَوْمُ في الْكَهْفِ هُمَّدُ
وقيل: هو لوح من رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف. وقيل: إن الناس رقموا حديثهم نقراً في الجبل. وقيل: هو الوادي الذي فيه الكهف. وقيل: الجبل. وقيل: قريتهم.
وبمثل ذلك قال الرازي في تفسيره ، وابن عطية في المحر الوجيز ، وابن عاشور في التحرير والتنوير ، وغيرهم في تفاسيرهم .
أما الاستاذ عطية زاهدة: فقد جعل فتية أهل الكهف من طائفة الأسينيين ، وهم أصحاب الكهف والرقيم في نظره ، وأن الكهف موجود جنوب أريحا ، عند الزاوية الشمالية الغربية للبحر الميت حيث كهوف قمران في خربة قمران ، انعزلت بها طائفة الأسينيين عن بقية المدن اليهودية ؟!! إذ عثر راعيان من بدو التعامرة على مخطوطات في الكهوف اشتهرت باسم ( لفائف قمران ) .. ولا دليل صحيح على اجتهاده . ( انظر كتابه : أهل الكهف بين العدة والمدة ص5-10)
كما توصل الباحث الدكتور بسام جرار : في دراسة قام بها لموسوعة القدس والمسجد الأقصى المبارك في مطلع الألفية الثالثة, تحت عنوان: ( صخرة بيت المقدس و أصحاب الكهف) ، إلى أن هذه المغارة التي تحت كهف قبة الصخرة هي التي أوى اليها الفتية الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف ، مقدماً الكثير من الأدلة و البراهين و المنشورة في “موسوعة القدس والمسجد الأقصى المبارك”- المجلد الأول، لكن ما توصل اليه الباحث جرار لم يثبت إطلاقاً ، إذ أن دراسات تاريخية وأثرية قد ذكرت أن مَن تم ذكرهم في سورة الكهف قد آووا إلى مغارة تقع في قرية ( الرجيب - الرقيم )طريق عمّان – سحاب ، وهو ما أثبتناه بتعليقنا اللاحق ؟؟!
ومع تقديري لما ذكره علماؤنا الأفاضل ،من مفسرين وغيرهم ، أرى أنهم – رحم الله تعالى من مات منهم ، وبارك في عمر من بقي – قد جانبوا الصواب .. لسبب بسيط وهو : أن ( الرقيم ) قرية في المملكة الأردنية الهاشمية ، وتقع على بعد تسعة كيلو مترات إلى الجنوب الشرقي من مدينة عمان – عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية - ، والتي كان الناس إلى عهد قريب يطلقون عليها اسم ( الرَّجيب ...) إلى أن صدرت الإرادة الملكية بالموافقة على تصحيح اسم قرية ( الرجيب ) ، وإعادة اسمها القديم إليها وهو : ( الرقيم ) ، فأصدر مجلس الوزراء الأردني بلاغا رسميا تحت رقم ( 478) بتاريخ ( 6/2/1977م) يتضمن ذلك ... وقلب الحروف وإبدالها شائع في اللغة العربية .. فأهل البادية يقولون في أشعارهم :
شَرجِيَّة يا كِليب شِنعِن مَهَبّا
يصفون الرياح الشرقية بأنها شنيعة حين هبوبها .. فالقاف في (شرقية ) أُبدلت ( جيماً )
وكذلك قاف الرقيم .... وميمها أبدلت ( باءً ) .. فصارت الرجيب ...
والميم تبدل باء ، والباء ميما ..في لغة ( مازن )التي يقول فيها الشاعر الجاهلي :
لوكنت من مازنٍ لم تستبح إبلي ....... بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبان .
وقبيلة ( مازن ) تبدل الباءَ ميماً .. يقولون : بات المَعير ..أي : مات البعير . وَ ( مان المَدْرُ في السماء ) أي : ( بان البدر في السماء ,,) ولعل أهالي قرية ( الرجيب ) يمتون بصلة إلى البادية ، وإلى قبيلة مازن ، فأبدلوا قاف الرقيم جيما ، وميمها باءً.. والإبدال : هو وضع حرف مكان حرف آخر ، وينقسم إلى قسمين : قياسي ... وسماعي ..
والذي يَعنينا هنا هو : الثاني .. ولنذكر للقارىء منه جملة مسائل :
المسألة الأولى : تُبدل الياء الواقعة بعد عين جيماً في لغة قُضاعة .. فيقولون : ( الراعج خرج معج )
أي : الراعي خرج معي .. وعلماء اللغة يسمون ذلك : عجعجة قُضاعة ..
المسألة الثانية : تبدل الياء مطلقا ( جيما ) في لغة ( فُقَيم ) .. أنشد أبو زيد :
يا رب إن كنتَ قبلت حجتج............فلا يزال ساجح يأتيك بج .
أي : حجتي ، والساجح : السريع من الدواب ، ويأتيك بج : أي : يأتيك بي .
وقال الحماسيّ : خالي عُويف وأبو عَلج ... المُطعمان اللحم بالعشج.
يريد : أبو عليّ ... والعشيّ ..
ومن العرب من يعكس هذا الإبدال ، قال الشاعر :
إذا لم يكن فيكنَّ ظل ولا جَنى .... فأبعدكن الله من شيرات .
أي : شجرات .. وهذا موافق لما عليه أهل الكويت من إبدالهم الجيم : ياء .
المسألة الثالثة : تبديل (العين ) نونا ساكنة إذا جاورت ( الطاء ) ، وذلك في لغة : سعد بن بكر ، وهذيل ، والأزد ، وقيس ، والأنصار وغيرهم ..... يقولون : ( أنطاه درهما ) أي : أعطاه درهما .. وما زالت مستعملة في فلسطين ، والأردن ، والعراق .. وفي حديث عطية السعدي : ( اللهم لا مانع لما أنطيت ، ولا مُنطي لما منعت ، واليد العليا هي المُنطية ، واليد السفلى هي المُنطاة ..) .. وأمر الرسول – صلى الله عليه وسلم – بكتابة رسالة إلى حِميَر باليمن عن الزكاة يقول فيها : ( وأنطوا الثَّبجة .. وفي السُّيوب الخمس ... الحديث ) .
ويسمى هذا الإبدال بالاستنطاء ، وهو شائع في لغة الأعراب بصحارى مصر ، والعراق ، والشام ، واليمن ..
كما وردت كلمتا ( الكهف ... والرقيم ) على ألسنة بعض شعراء الجزيرة قبل الاسلام وبعده .. قال ( أمية بن أبي الصلت ) :
وليس بها إلا الرقيم مُجاوراً ....وصيدهم والقوم في الكهف هُجَّدُ .
ووردت كلمة ( الرقيم ) في شعر ( كثير عزة ) في قصيدته التي بشر بها ( يزيد بن عبد الملك ) بالخلافة بقوله :
يزرن على تنائيه يزيداً....... بأكناف الموقر والرقيم .
تهنئه الوفود إذا أتوه .......بنصر الله والملك العميم .
والموقر قرية بجوار( الرقيم- الرجيب) في منطقة ( سَحاب ) جنوب شرق مدينة عمان التي كانت من حواضر الدولة الرومانية العشر . وتعتبر المنطقة كلها من مضارب ( بني أمية ..) ففيها – ما تزال – قصورهم .
والموقر كذلك : قصر أموي ... يشرف على قرى كثيرة منها : زيزياء .. والقسطل .. وسحاب .. والموقر : ( اسم القرية التي يقع بها القصر ..وكانت إلى عهد قريب من استراحات الحجيج الشامي ) والرجيب : التي حُرِّفت عن ( الرقيم ) كما أسلفنا . ...حتى أن أبا عبد الله البشاري المقدسي .اعتمد على شعر – كثير عزة – في تحديد مكان – الرقيم - ، إذ بحث عن مكان قريب من ( قصر الموقر ) المعروف ، إلى أن اهتدى إلى قرية ( الرجيب ..) وقال : إنها محرفة عن ( الرقيم ..) .
وجاء في كتاب ( أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ) : والرقيم : بلد في شرقي الأردن بالقرب من ( عمان ) ، حيث وجدت مغارة ( كهف ) فيها عدد من الجثث غير البالية .. وأيد هذا الرأي من الجغرافيين المسلمين كل من : السائح الهروي .. وياقوت الحموي ..الذي قال في معجم البلدان : عمان : بلد في أطراف الشام ، وكانت قصبة أرض البلقاء ،))))
--- وإذا كانت قبة الصخرة دُرَة المسجد الاقصى, وهي أجمل ما فيه من أبنية, فإن مرافق الأقصى وأبنيته الأخرى لا تقل أهمية عن هذا المبنى الجميل, وقد شهد بهذه الحقيقة علماء أجلاء منذ مئات السنين. فهذا ياقوت الحموي يقول: إن من أعظم محاسن الأقصى أنه إذا جلس إنسان فيه ، في أي موضع منه ، يرى أن ذلك الموضع هو أحسن المواضع وأريحها ، ذلك أن الله نظر اليه بعين الجمال ، ونظر الى المسجد الحرام بعين الجلال. ولكن كلام الحموي عن الأقصى لا يجوز أن يُنسي العرب والمسلمين على امتداد العالم والإنسانية الواقع الاليم الذي يعيشه المسجد اليوم, فالأقصى يوشك أن يفقد وجوده في هذا العصر، فرغم أن وسائل الاعلام المرئية قد نجحت في نقل العديد من الصور الفوتوغرافية للأقصى ، الا أن المعنى الحقيقي لهذا المسجد قد تشوش في أذهان معظم الناس حتى المثقفين والمتعلمين ، فنجدهم في كثير من الأحيان ينتقدون تركيز وسائل الاعلام على نقل صورة قبة الصخرة على سبل المثال ، ويقولون: إن التركيز يجب أن يكون على صورة المسجد القبلي ، ومثل هذا الحديث يوحي بأن هناك تفريقاً بين مبنى القبة ومبنى المسجد في ذهنية الكثيرين، وكأنهما شيئا منفصلان عن بعضهما البعض ، أو كأن هناك من يريد أن يحل أحدهما محل الآخر، وبالتالي فإن معظم الناس لا يقيمون وزناً للساحات التي تفصل بينهما إلا بقدر قربها أو بعدها عن هذين المبنيين. والحقيقة : أن مبنى المسجد المسقوف (القبلي) ، ومبنى قبة الصخرة جزءان من المسجد الأقصى، وكذلك كل ما هو موجود داخل السور .. . ولا شك في أن مبنى القبة يظل المبنى الأجمل داخل المسجد الأقصى. وتبدأ حدود المسجد الأقصى بمجرد تخطي عتبة أي باب من الأبواب الموجودة في السور، وهذا ما يجب أن يتم تثبيته في العقول ، فعناصر المسجد المختلفة تزيد من إثراء مفهوم المسجد ، وتشير المصادر التاريخية الى أن هذا المبنى قد تعرض للهدم والدمار مرات عديدة عبر تاريخه الطويل. ويرجع المختصون المعماريون ذلك إلى عدم ارتكاز أساساته الى الصخر الطبيعي ، وعدم وجود دعائم وعقود تحته لتدعمه بدل الصخر الطبيعي، وكذلك بسبب موقعه في أقصى الجهة الجنوبية ، ووجوده فوق حافة مُنحَدَر حاد لم يساعده كثيراً في مقاومته عوارض الزمن. ومن اللافت للنظر أن قبة الصخرة لم تنهدم بفعل هذه الزلازل الكثيرة التي ضربت القدس وما حولها ، والتي كانت تطيح في كل مرة بمبنى الجامع الأقصى ، نظراً لصلابة أساسات الأعمدة القائمة التي تحمل قبة الصخرة. ويفصل مبنى القبة عن مبنى الجامع القبلي (المسجد المسقوف) القائم في صدر الجهة الجنوبية مسافة مائة متر تقريبا..
.لماذا يشكك اليهود في مكانة ومكان المسجد الأقصى عند المسلمين؟!
لا شك أن هذا التشكيك هو في دائرة المؤامرة لهدم ( المسجد القبلي ) وهو جزء من المسجد الأقصى المبارك، ليبني الصهاينة مكانه معبدهم المزعوم: «هيكل سليمان»! ولقطع الرابط بين فلسطين وبيت المقدس ومسجدها الأقصى المبارك. فقد أصر اليهود على التشكيك في كل ما جاء في الكتاب والسنة حول فضائل المسجد الأقصى المبارك ليقولوا - كاذبين - بأن القدس لا مكانة لها، ولا رابط ديني بينها وبين الإسلام! وأن المسجد الأقصى هو مسجد آخر غير مسجد القدس، هو مسجد في السماء! أو في الجعرانة ، فقد ساءهم تعلق المسلمين بمحبته والنظر إليه؛ فعملوا على تقويض إجماع المسلمين على قداسة مدينة القدس، وتعظيم حرمتها في الإسلام...ونقول لكل من يشكك في مكانة المسجد الأقصى من يهود ، وذيولهم كالروائي يوسف زيدان ، أو الشيخ المزعوم المتنصر مصطفى راشد ، والصبي الغِرّ المدلس أمين صبري ، اللذان يقولان إنه في سبناء ، أو محمد شحرور المغرور الذي يقول إنه في جبال السراة جنوبي مكة وحاملا نعاله فراس منير ، وفراس السواح ، وسسامر اسلامبولي وغيرهم :..ونقول لهم ولغيرهم : شئتم أم أبيتم فالمسجد الأقصى هو أول قبلة للمسلمين، وثاني مسجد وضع في الأرض، وبارك الله فيه وبارك حوله، وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، ومسرى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- ، ومعراجه إلى السموات العلا، وصلى النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- فيه بالأنبياء إمامًا،((( رحلة الإسراء برسولنا – صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد الأقصى ، ولقائه بالأنبياء جميعاً وإمامته لهم ، إيذان بأن النبوة قد انتقلت من ولد إسحاق – عليه السلام - إلى ولد إسماعيل - عليه السلام - وإعلان أيضاً من العلي القدير ر أن مواريث الأنبياء جميعاً ، وبيت المقدس قد آلت إلى خاتم الرسل ، و أن بيت المقدس قد دخل في مقدسات الإسلام، وأصبح منذ هذا الحدث في حَوْزة المسلمين. )))) ويضاعف فيه أجر الصلاة، وبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - بفتحه. ...والمسجد الأقصى محل دعوة الأنبياء إلى توحيد الله - تعالى - ، ورباط المجاهدين القائمين، ورغبة المجاهدين الفاتحين، ومنارة للعلم والعلماء ، دخله من الصحابة جمع غفير ، ويرجى لمن صلى فيه أن يخرج من خطيئته كيوم ولدته أمه، وهو مقام الطائفة المنصورة، وأرض المحشر والمنشر، وفيه يتحصن المؤمنون من الدجال ولا يدخله . والمسجد الأقصى أثنى النبي -صلى الله عليه وسلم -على فضله وعظيم شأنه، وأخبر بتعلق قلوب المسلمين به لدرجة تمني المسلم أن يكون له موضع صغير يطل منه على المسجد الأقصى أو يراه منه، ويكون ذلك عنده أحب إليه من الدنيا وما فيها. ...وهذا ما أخبرنا به الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم -بقوله: «وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خيرا له من الدنيا جميعًا»، أو قال: «خيرا من الدنيا وما فيها» ، وهذه منزلة لم يبلغها أي مسجد آخر. وستبقى القدس وأقصاها المبارك وديعة رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - عندنا، وأمانة عمر - رضي الله عنه - في أعناق المسلمين ، طال الزمان أو قصر، وستعود إلينا بإذن الله، وهذا وعده سبحانه، لا وعد الدجال ترامب ؟! والله لا يخلف الميعاد .
فوائد شرعية عن ( صخرة الأقصى ) تعريفها ، بناء قبتها ، حكم تعظيمها : صخرة الأقصى المبارك هي صخرة طبيعية ، غير منتظمة الشكل ، تقع في أعلى نقطة من المسجد الأقصى ، في موقع قلب المسجد بالضبط، تتراوح أبعادها بين حوالي 13 و18 متراً، وارتفاعها حوالي المترين تقريباً، وقد دارت حولها القصص الخيالية غير الصحيحة بشكل كبير، فمن قائل أنها طائرة في الهواء ، ومن قائل أنها طارت خلف النبي – عليه الصلاة والسلام – حين عروجه ، ومن قائل أن لها ضوءاً وغير ذلك. والحقيقة أنها صخرة عادية ليس لها أية ميزة ، إلا أنها كانت قبلة أنبياء بني إسرائيل قبل النبي محمد – صلى الله عليه وسلم - ، وقيل إن النبي محمد – صلى الله عليه وسلم - عرج من فوقها للسماء ليلة الإسراء والمعراج، وفيها مغارة صغيرة تسمى (مغارة الأرواح ) وهي تجويف طبيعي أيضاً، وليس لها كذلك أي ميزة خارقة للعادة. وقد بني مسجد قبة الصخرة فوق الصخرة المباركة ، وهي ظاهرة للعيان إلى اليوم. القصص الشعبية حول الصخرة : حاكت القصص الشعبية خيالات وخزعبلات كثيرة حول الصخرة المباركة ، ذكرها الكثير من القصاص والحكواتيين ، ومن هذه الخزعبلات والأكاذيب:
• كان عليها ياقوته تضيء بالليل كضوء الشمس، ولا تزل كذلك حتى خرّبها بختنصر.
• أنها من صخور الجنّة.
• سيدة الصخور صخرة بيت المقدس.
• الصخرة معلّقة من كل الجهات.
• عليها موضع قدم النبي محمد – عليه الصلاة والسلام -.
• عليها أثر أصابع الملائكة.
• أنها على نهر من أنهار الجنّة.
• المياه العذبة والرياح اللواقح تخرج من تحت صخرة ببيت المقدس.
• عرش الله الأدنى، ومن تحتها بسطت الأرض.
• الصخرة وسط الدنيا، وأوسط الأرض كلها.
• ارتفعت وراء النبي - صلى الله عليه وسلم – حين عروجه إلى السماء،وأشار لها جبريل أن اثبتي.
• لها مكانة الحجر الأسود في الكعبة.
وقد أنكر علماء المسلمين هذا التعلق بالصخرة، وبينوا أنها صخرة من صخور المسجد الأقصى، وجزء منه، وليس لها أية ميزة خاصة.
رأي أهل الذكر بالصخرة :
بين شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك فقال :
( أما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظّمون الصخرة، وما يذكره بعض الجهال فيها من أن هناك أثر قدم النبي– صلى الله عليه وسلم - ، وأثر عمامته، وغير ذلك، فكله كذب، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب، وكذلك المكان الذي يذكر أنه مهد عيسى كذب، وإنما كان موضع معمودية النصارى، وكذا من زعم أن هناك الصراط والميزان، أو أن السور الذي يضرب بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبني شرقي المسجد، وكذلك تعظيم السلسلة أو موضعها ليس مشروعاً.) ( )
والصخرة لم يُصَل عندها عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - ، ولا الصحابة ، ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر، وعثمان، وعلي ، ومعاوية ، ويزيد، ومروان، - رضي الله عنهم أجمعين - . وبنى عليها عبد الملك بن مروان القبة.
ولما فتح عمر بن الخطاب – رضي الله عنه - بيت المقدس ، قال لكعب الأحبار: أين ترى أن أبني مُصَلى المسلمين؟ قال: ابنِهِ خلف الصخرة: قال خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها، فإن لنا صدور المساجد.
فبنى هذا المصلى الذي تسميه العامة "المسجد الأقصى"( الذي هو مكان المسجد القبلي حاليا ) وهو البناء الأول للجامع القبلي ولم يبق من بناء عمر بن الخطاب- رضي الله عنه - شيء ، "أما البناء الحالي فهو بناء أموي"، ولم يتمسّح بالصخرة، ولا قَبَّلها ، ولا صلى عندها، كيف وقد ثبت عنه في الصحيح: أنه لما قبل الحجر الأسود قال: ( والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم - يقبلك لما قبلتك. ) .
وقد ضعّف الإمام ابن القيم كل الأحاديث الواردة في الصخرة، فقال : ( وكل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى، والقدم الذي فيها كذب موضوع ، مما عملته أيدي المزورين، الذين يروجون لها ليكثر سواد الزائرين، وأرفع شيء في الصخرة أنها كانت قبلة اليهود، وهي في المكان كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها هذه الأمة المحمدية الكعبة البيت الحرام، ولما أراد أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب – رضي الله عنه - أن يبني المسجد استشار الناس : هل يجعله أمام الصخرة، أو خلفها؟ فقال له كعب يا أمير المؤمنين ابنه خلف الصخرة، فقال يا ابن اليهودية،خالطتك اليهودية! بل أبنيه أمام الصخرة حتى لا يستقبلها المصلون، فبناه حيث هو اليوم).( )
وقال عبد الله بن هشام في كتابه : ( قد بلغني أن قوماً من الجهلاء يجتمعون يوم عرفة بالمسجد، وأن منهم من يطوف بالصخرة، وأنهم ينفرون( كنفرة عرفات ) عند غروب الشمس، وكل ذلك ضلال وأضغاث أحلام.)( )
ومما تدل عليه عبارة صاحب المخطوطة: أن هناك تجاوزات لبعض عامة الناس في تقديس الصخرة، وكان رفضاً واضحاً من علماء المسلمين لهذه التجاوزات، وتحذيراً للعامة منها.
ومما يذكر في سيرة الصحابة وأئمة المسلمين أنهم إذا دخلوا المسجد الأقصى قصدوا الصلاة في المصلى الذي بناه عمر، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأما المسجد الأقصى فهو أحد المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها الرحال، وهو الذي يسميه كثير من العامة اليوم: الأقصى، والأقصى اسم للمسجد كله.... )( ) فصخرة بيت المقدس باتفاق المسلمين لا يسن استلامها، ولا تقبيلها، ولا التبرك بها كما يفعله بعض الجهال، وليس لها خصوصية في الدعاء، ويجب تحذير المسلمين من هذا الفعل. ولم يثبت حديث صحيح في فضل الصخرة، وكل ما قيل فيها لا يصح سنده على رسول الله – صلى الله عليه وسلم - . وقد برّر البعض ممن كتب في فضائل بيت المقدس التساهل في التدقيق بالأحاديث الواردة ، من باب أنه في فضائل الأعمال يعمل بالأحاديث الضعيفة، وقد تجاوز البعض حتى نقل المكذوب والموضوع، وأخذ من كلام القصاص مما لا ينبغي ذكره. ويقول شهاب الدين أبو محمود المقدسي في مخطوطة (مثير الغرام إلى زيارة القدس والشام) وهو يرفض التجاوز في تقديس المسجد الأقصى، والوصول به إلى ما فوق المنزلة المقبولة في عقيدة الإسلام:( قاتل الله القصاصين والوضاعين، كم لهم من إفك على وهب وكعب، ولا شك في فضل هذا المسجد، ولكنهم قد غلوا. ) . ومن المعروف أن كعب الأحبار ، ووهب بن منبه ، أسلما بعد أن كانا يدينان باليهودية. والبعض يسرد تلك الأحاديث، ولا يشير أدنى إشارة إلى ضعفها ووهنها، بل يروونها وكأنها من الصحاح التي لا خلاف فيها. وتنبيه الناس على أمر صخرة بيت المقدس لا يقلل من فضائل المسجد الأقصى ، وبيت المقدس بالبركة والفضيلة، وثبت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - في كتب الصحاح والسنن الكثير من الأحاديث التي نصت على ما حباه الله تعالى من الخير والبركة، وبينت الخصائص التي تميز بها المسجد الأقصى وأرضه لما لها من مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة في الشرع الإسلامي. وقد حدث القرأن بفضائل المسجد الأقصى: ("سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير".) فبركة المسجد الأقصى ثابتة بالكتاب والسنة، ولنا غنى في الصحيح منها عن الموضوع والمكذوب. وهذا يعني أن كل ما قيل في هذه الصخرة أصله من أهل الكتاب، وليس له أصل في كتب العقيدة الإسلامية، ولا في الصحيح من حديث النبي – صلى الله عليه وسلم - . ( )
بناء القبة على الصخرة : ذكرت المصادر التاريخية أن بناء القبة على الصخرة يرجع إلى عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان( )، حيث أمر سنة 66هـ ببناء القبة على صخرة بيت المقدس تكنّ المسلمين من الحر والبرد ، وعمارة الجامع الأقصى ، وقد كمل البناء سنة 70هـ وقيل 73هـ ، وقد وكل عبدالملك للقيام بذلك رجاء بن حيوة ، ويزيد بن سلام وولداه . مكانة الصخرة في الإسلام :
قال الله تعالى: ( سَيَقُولُ السُّفهَاءُ من النَّاسِ مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لله المَشْرِقُ والمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلى صِرَاط مُسْتَقِيمٍ)( البقرة: 142 ) وقال تعالى: ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)( البقرة: 144 ) لقد كان النبي – صلى الله عليه وسلم- يستقبل في الصلاة بيت المقدس أول الأمر وهي قبلة اليهود، وكان – صلى الله عليه وسلم- يحب التوجه إلى الكعبة فأنزل الله تعالى (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السَّمَاءِ.. الآية) فقال السفهاء من الناس وهم اليهود والمنافقون: ما صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟( )
وجاء في الصحيحين عن البراء بن عازب – رضي الله عنه- أنه قال: (صلينا مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم- نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم صُرِفنا نحو الكعبة)( ) وجاء في صحيح البخاري عن البراء – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم- صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشرة شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان يُعجبه أن تكون قبلته قِبَل البيت،.. الحديث)( (.
والمقصود مما تقدم : أن بيت المقدس كانت قبلة المسلمين الأولى، ولكن هل المراد بهذه القبلة صخرة بيت المقدس بالذات؟ .
وللإجابة على هذا أقول: إن هناك آثاراً لبعض التابعين صرحت بذكر الصخرة وأنها كانت القبلة .من ذلك ما رواه الإمام الطبري – رحمه الله- بإسناده عن عكرمة والحسن البصري ، أنهما قالا: (أول ما نُسخ من القرآن القِبلة، وذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم - كان يستقبل صخرة بيت المقدس، وهي قبلة اليهود، فاستقبلها النبي – صلى الله عليه وسلم- سبعة عشر شهراً...)( )
كما أن الإمام ابن كثير – رحمه الله- عند تفسيره للآيات السابقة قد جزم بأن تلك القبلة كانت الصخرة .
فقد قال – رحمه الله- بعد كلام تقدّم: ( وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس، فكان بمكة بين الركنين، فتكون بين يديه الكعبة، مستقبل صخرة بيت المقدس، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما، فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس، قاله ابن عباس والجمهور) ( )
وقد أورد صاحب كتاب ( إتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصى) ما يفيد أن صخرة بيت المقدس كانت قبلة المسلمين، وأن أنبياء بني إسرائيل كانوا يصلون إليها، واستدل لذلك بما روي في فتح بيت المقدس أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- استشار كعباً أين يضع المسجد، فقال : اجعله خلف الصخرة، فتجتمع القبلتان، قبلة موسى، وقبلة محمد – صلى الله عليه وسلم - فقال: (ضاهيت( ) اليهودية)( )( )
وأخيراً : لا شك أن اعتقاد كون الصخرة خاصة قبلة المسلمين الأولى يحتاج إلى دليل قطعي يُعتمد عليه، ومهما كان الأمر، فعلى افتراض صحة ذلك ، فإن الأمر لا يعدو القول بأن صخرة المقدس كانت قبلة للمسلمين فترة وجيزة، ثم نسخت بالكعبة . حكم تقديس الصخرة : لايجوز تقديس الصخرة ؛ لمايلي :
1 - إن المسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة من حيث جواز شد الرحال إليه، ومضاعفة الصلاة فيه .جاء في الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه- أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال: ( لا تُشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى)( صحيح البخاري 2/56 )
2 - إن الإسراء بالرسول – صلى الله عليه وسلم- كان إلى المسجد الأقصى، ثم العروج منه إلى السماء، كما قال تعالى: ( سُبْحَانَ الَّذي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ المَسْجِدِ الحَرَامِ إلى المَسْجِدِ الأقْصَى الَّذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) ( الإسراء: 1 )
3 - إن الأقصى اسم للمسجد كله، ولا يختص بالمسجد القائم بالناحية القبلية الجنوبية، كما يظنه بعض الناس((.
4 - ليس ببيت المقدس مكان يُقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى،كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية( ) 5 - العبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام، فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد: الطواف بالكعبة، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحرج الأسود. وأما مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم- والمسجد الأقصى وسائر المساجد فليس فيها ما يُطاف فيه، ولا ما يُتمَسَّحُ به، ولا ما يُقبَّل، فهذا كله ليس إلا في المسجد الحرام خاصة، كما نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-.( (
6 - زيارة المسجد الأقصى للصلاة فيه، والدعاء والذكر والقراءة، والاعتكاف مشروعة في أي وقت، ولا علاقة لهذه الزيارة بالحج، كما ظنه بعضهم( (
من خلال ما سبق اتضح لنا عدم اختصاص الصخرة بمزية معينة في الإسلام، وإنما هي واقعة ضمن حدود المسجد الأقصى، وتسري عليها أحكامه، كمضاعفة الصلاة عندها .
وإن قصارى ما يمكن أن يقال عن مكانتها في الإسلام أنها كانت قبلة لليهود، وأما المسلمون فقد كانت قبلة لهم فترة من الزمن أول الإسلام، ثم نسخ ذلك باستقبال الكعبة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه الصخرة (كانت قبلة، ثم نُسخت، وهي قبلة اليهود، فلم يبق في شريعتنا ما يوجب تخصيصها بحكم، كما ليس في شريعتنا ما يوجب تخصيص يوم السبت) ( (
وقال ابن القيم – رحمه الله -:( وأرفع شيء في الصخرة أنها كانت قبلة لليهود، وهي في المكان كيوم السبت في الزمان، أبدل الله بها هذه الأمة المحمدية: الكعبة البيت الحرام) (( .
وبما أن العبادات مبناها على التوقيف والإتباع لا على الهوى والابتداع؛ فلا يجوز تخصيص تلك الصخرة بعبادة، كتخصيص زيارتها للصلاة عندها، كما لا يجوز تعظيمها، ولا التبرك بأي وجه كان، كتقبيلها، أو التمسح بها، أو الطواف حولها، ونحو ذلك . قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( لا تُستحب زيارة الصخرة، بل المستحب أن يصلى في قبليّ المسجد الأقصى الذي بناه عمر بن الخطاب للمسلمين)( (
وقال عن حكم الطواف بغير الكعبة: ( لا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي – صلى الله عليه وسلم-، ولا يغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء... بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يُطاف بالكعبة) ( (
وذكر الشيخ محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله - من بدع بيت القدس: تعظيم الصخرة بأي نوع من أنواع التعظيم، كالطواف بقبتها تشبهاً بالطواف بالكعبة، أو التمسح بالصخرة، أو تقبيلها، ونحو ذلك( (
ومن الأدلة على ماسبق أيضًا :
أولاً: لم يرد في مشروعية ذلك دليل من الكتاب ولا من السنة .
ثانياً: لم يفعل ذلك الصحابة ولا التابعون ممن زار منهم بيت المقدس .
ثالثاً: إن تعظيم الصخرة وتقدسيها فيه مشابهة لليهود( )، وقد أُمرنا بمخالفة الكفار، ونُهينا عن التشبه بهم وخاصة أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى .
ولهذا فإن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- حين كان في بيت المقدس لما أشار عليه كعب الأحبار أن يصلي خلف الصخرة أنكر عليه ذلك وقال: ( ضاهيت اليهودية، لا. ولكن أصلي حيث صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فتقدم إلى القبلة فصلى) ( (وفي قول عمر (ضاهيت اليهودية) إشارة إلى أن تعظيم الصخرة من شأن اليهودية، فكيف نتشبه بهم في ذلك؟ .
هل صلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - عندها؟
لم أقف على دليل صحيح يثبت صلاة الرسول – صلى الله عليه وسلم- عند الصخرة، بل جاء في مسند الإمام أحمد في قصة بيت المقدس – كما تقدم – قول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- لكعب لما أشار عليه بالصلاة خلف الصخرة: (لا، ولكن أصلي حيث صلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، فتقدم إلى القبلة فصلى (.( )
هل عُرج بالرسول - صلى الله عليه وسلم - من عندها ؟
إن الروايات الصحيحة لحديث الإسراء والمعراج لم تحدد موضع العروج من المسجد الأقصى، لاعن الصخرة ولا عن غيرها .فقد جاء في صحيح مسلم على سبيل المثال في النبي – صلى الله عليه وسلم-: ( ثم عُرج بنا إلى السماء ) ( ).
تحقيق ماورد في فضلها :
لقد وردت عدة أحاديث وآثار في فضل الصخرة، منها المرفوع والموقوف والمقطوع .
ولكن بعد التأمل فيها ودراسة أسانيدها اتضح أنها لا تنهض دليلاً على أن للصخرة مزية تُعظَّم لأجلها، ولهذا قطع العلامة ابن القيم – رحمه الله- بأن كل حديث في الصخرة فهو كذب مُفترى(( .
قد يتعلق البعض بما أُثر أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- حين فتح بيت المقدس أمر بإزالة ما على الصخرة من كناسة كانت النصارى قد ألقتها عليها( )، حتى إنه كنسها بردائه وكنسَ الناسُ( (.
وللرد على هذه الشبهة : نقول : إن ما فعله عمر – رضي الله عنه- لا يدل على تعظيم الصخرة ولا تقديسها، حيث إن الأمر لم يتجاوز إزالة قمامة موضوعة في بعض أجزاء المسجد الأقصى – والصخرة تقع في وسط المسجد الأقصى كما تقدم -.. والدليل على ذلك أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه- لم يصلِ عند الصخرة ولا تمسَّح بها، بل تقدم وصلى في قبليّ المسجد ( أي أمامها )، مع أنه كان بإمكانه أن يصلي خلف الصخرة مستقبلاً القبلة كما أشار عليه كعب، ولكنه – رضي الله عنه- لم يفعل ذلك
قال الإمام ابن كثير – رحمه الله- بعد سياقه قصة عمر – رضي الله عنه-: (فلم يعظّم الصخرة تعظيماً يصلي وراءها وهي بين يديه، كما أشار كعب الأحبار - وهو من قوم يعظمونها حتى جعلوها قبلتهم، ولكن منَّ الله عليه بالإسلام فهُدي إلى الحق – ولهذا لما أشار بذلك قال له أمير المؤمنين عمر (ضاهيت اليهودية) ولا أهانها إهانة النصارى، الذين كانوا قد جعلوها مِزبلة، من أجل أنها قبلة اليهود، ولكن أماط عنها الأذى، وكنس عنها الكناسة بردائة . ويعتقد بعض الناس وجود بعض الآثار النبوية وغيرها في صخرة بيت المقدس، وأن هذا من دواعي التبرك بها وتقديسها .ولقد أجاب العلماء المحققون عن هذه المزاعم، فأنكروا صحتها، وبينوا بطلانها، وأنها لا أصل لها ولا سند ، إلا مجرد الشهرة فقط بين أوساط جهلة الناس .
ومن أشهر ما نسب للصخرة من الآثار: أثر قدم النبي – صلى الله عليه وسلم- في أعلى الصخرة عندما صعد عليها ليلة المعراج .قال شيخ الإسلام ابن تيمية منكراً ذلك وأمثاله: ( وما يذكره بعض الجهال فيها – أي الصخرة - من أن هناك أثر قدم النبي – صلى الله عليه وسلم-، وأثر عمامته، وغير ذلك؛ فكله كذب، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب) ( (
وقال ابن القيم – رحمه الله – ( والقدم الذي فيها كذب موضوع، مما عملته أيدي المزوِّرين، الذين يروِّجون لها ليكثر سواد الزائرين) ( )، فأثر القدم على الصخرة – كما نبه ابن القيم- من اختراع أصحاب المصالح تمويهاً على الناس حتى يحرصوا على زيارتها .. فالصخرة لا تختص بمزية معينة في الإسلام ، وإنما هي واقعة ضمن حدود المسجد الأقصى ، وتسري عليها أحكامه ، كمضاعفة الصلاة عندها ، وأن قصارى ما يمكن أن يقال عن مكانتها في الإسلام أنها كانت قبلة للمسلمين فترة وجيزة ثم نُسخت بالكعبة ، وأنه لا يجوز تخصيصها بعبادة ، ولا تعظيمها ، ولا التبرك بها بأي وجه كان .. لعل من أهم أسباب الأخطاء المتعلقة بالصخرة ، اختلاق الأحاديث والآثار في فضائل الصخرة ، وترويجها بين الناس ، وبناء القبة المتميزة ، ذات البناء الفخم ، وادعاء بعض الآثار الفاضلة عند الصخرة . لا شك أن هذه الأمور ونحوها قد نتج عنها آثار سيئة ، فقد كان شأنها إضفاء القداسة على هذه الصخرة وتعظيمها في نفوس الناس ، ومن ثم نشأت الأمور المحدثة حولها ، حتى شبهوها بالكعبة ، وكل هذا بدعوى التقرب إلى الله تعالى في مكان فاضل مقدس ، واعتقد البعض في وقتنا الحاضر أن تعظيم الصخرة والاعتناء بها هو من باب المحافظة على الآثار الإسلامية !. ويلحظ التساهل الشديد عند نقل الأخبار والحكايات في الكتب المؤلفة في باب الفضائل ، ومنها فضائل المواضع ، كما قال الإمام الشوكاني رحمه الله : ( وقد توسع المؤرخون في ذكر الأحاديث الباطلة في فضائل البلدان ، ولا سيما بلدانهم ، فإنهم يتساهلون في ذلك غاية التساهل ، ويذكرون الموضوع ولا ينبهون عليه ) , وقال بعد ذلك : ( فليحذر المتدين من اعتقاد شيء منها أو روايته ، فإن الكذب في هذا قد كثر وجاوز الحد ) . ثم أشار إلى سبب هذا الكذب وكثرته بقوله : ( وسببه ما جُبلت عليه القلوب من حب الأوطان والشغف بالمنشأ )( ) فينبغي إذن للقارئ الانتباه لهذا الأمر وتقدير خطورته ، وتحري الصحة سنداً ومتناً . وعلى المؤلفين والمؤرخين أن يتقوا الله تعالى فيما يكتبونه ، وألا يتهاونوا فيما ينقلونه ، حتى وإن كان في باب الفضائل ، فإن التفريط في ذلك وعدم الاهتمام به يؤدي إلى آثار سيئة ومفاسد عظيمة لا تُحمد عقباها ، وكفى بذلك إثماً وخطيئة .( )
الأسماء المشهورة للمسجد الأقصى : للمسجد الأقصى أسماء متعددة ، تدل كثرتها على شرف منزلتها ، وعلو مكانتها ، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى ، وقد جمع للمسجد الأقصى وبيت المقدس أسماء تقرب من العشرين اسما وردت في الكتاب والسنة ، اشتهر منها خمسة أسماء؛ نفصلها على النحو التالي:
1 - المسجد الأقصى المبارك : وسمي بالمسجد : باعتبار ما سيئول إليه ، وهو لون من ألوان المجاز المرسل في اللغة العربية ( ) ، كقوله تعالى : ( إني أراني أعصر خمرأ) ( يوسف : 36) . ويشير المعنى اللغوي للفظة " الأقصى " إلى دلالة البعد، فأقصى الشيء أي أبعده ( ) وقيل : سمي بالأقصى: لبعد ما بينه وبين المسجد الحرام بمكة المكرمة، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض . أو: لأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد كما يقول الزمخشري ، والبيضاوي ، والقرطبي . ( ) أو : لبعده عن المسجد الحرام كما يقول النووي .( ) وقيل : لبعده عن الأقذار والخبائث.. وقيل : لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئا ولا ينقص( ).وقيل غير ذلك ...... والصواب : لأنه أبعد المساجد الثلاثة ( المسجد الحرام ، مسجد المدينة ، الأقصى ) التي تشد إليها الرحال عن المسجد الحرام ، ويبتغى بذلك الأجر ، وهو الأظهر ..إذ هناك في الأرض مساجد أبعد منه وهي غير مقصودة في الحديث .. .. وهذا الاسم قرآني، أسماه به الله - عز وجل - ، بل هو أهم أسمائه على الإطلاق. يقول سبحانه في مطلع سورة الإسراء : [[ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ ]] ( الاسراء : 1 ) وهذه الرحلة الأرضية انطلقت من مسجد إلى مسجد، والتسمية للمسجدين هي تسمية ربانية، ( وليست عمرية ولا أموية كما يزعم جعفر العاملي وغيره ) ، مما يعني وجود تطابق بين الاسم والمسمى، وأن هذا الاسم هو في الحقيقة صفة وخاصية للمسمى. المسجد الحرام، يحرم فيه القتال، وهو حرم آمن من زاوية التشريع ، ومن زاوية الموقع، فالناس من لدن إبراهيم - عليه السلام- ، التزموا غالباً برعاية حرمة هذا المسجد، حتى كان الواحد منهم يرى قاتل أبيه في الحرم فلا يمسه بأذى. ومن جهة أخرى فإن الله تعالى قد جعل هذا المسجد في شبه الجزيرة العربية، في منطقة لم تكن عبر التاريخ هدفاً للغزاة، ولا مطمعاً للمستعمرين ، هذا فيما يتعلق بالمسجد الحرام.
أما صفة " الأقصى " فهي مبنى تفضيل من الأصل اللغوي " قصا – يقصو" بمعنى أبعد وابتعد، لبعده من مكة المكرمة، ومؤنثه "القصوى"، ومما يزيد في بعده نفسيا أن بينه وبين مكة المكرمة بِيدًا وفيافيَ خاوية، على العكس من الطريق إلى اليمن، لا سيما إذا كانت عبر جبال السراة ، حيث تنتشر المياه والأشجار على طول الطريق إليه.
غير أن في هذه الصفة ما يدعو إلى التساؤل، ويثير في الذهن ما يستوجب التوضيح، إذ إن " الأقصى " صفة للتفضيل، فهذا قَصِيّ وذلك أقصى، فأين هو القصي غير المذكور ، لا في الآية ولا في كلام العرب؟ فسورة الإسراء مكية، أي أنها نزلت قبل أن يشاد مسجد قباء ، والمسجد النبوي، أليس في هذا إشارة مسبقة إلى ما كان من شأن المسجدين اللذين أقيما من بعدُ في المدينة المنورة؟ ... قبل أن يكونا؟.... وربما يساعدنا في تقريب الصورة قول المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ( عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية) ((((أخرجه أبو داود: 1/ 205، برقم: 547، والحاكم في المستدرك: 1/ 330، برقم: 765، وقال الألباني: حسن صحيح، ومما يساعد في تقريب معنى الأقصى .. قول المصطفى _عليه الصلاة والسلام_: "عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية". الذئب المقصود هنا هو الشيطان، الذي يتفرد بالقاصي البعيد عن الجماعة ، كما يستغل الذئب الحقيقي فرصة انفراد شاة عن القطيع... فهل يريد المصطفى _عليه الصلاة والسلام_أن يقول لنا:إياكم أن تتفرقوا وتبتعدوا عن الجماعة فتجتالكم شياطين الإنس والجن .. ثم إن المسجد الأقصى مقارنة بالمسجد الحرام هو الأبعد عن وصف الحرمة والحماية، والمعرض على الدوام لخطر الشياطين، واستهداف الذئاب، وهذا ما يتضح من واقع المسجد الأقصى وتاريخه، حيث إنه في أرض ذات موقع استراتيجي، ولذلك فقد كانت فلسطين على الدوام مطمعاً وهدفاً للغزاة والمستعمرين، فضلاً عن أن أهل الكتاب يتذرعون بعلاقة عدد من الأنبياء السابقين بالأقصى وفلسطين، ليغلّفوا أطماعهم بدوافع دينية. واستفتاح الآية بكلمة التسبيح من دون سبق كلام مُتضمّنٍ ما يَجب تنزيه الله عنه ، يؤذن بأن خبراً عجيباً يستقبله السامعون دالاً على عظيم القدرة من المتكلم ، ورفيع منزلة المتحدث عنه....
.. سُبْحَانَ"من تنزه عن النقص وثبت له الكمال، إذ خلق الشيء ونقيضه، فجعل أحد المسجدين حرماً آمناً، وقدّر أن يكون المسجد الثاني مهدداً بل مستباحاً في أوقات كثيرة، كما خلق الموت والحياة، والخير والشر... وقد أفاض الدكتور صلاح الخالدي في كتابه ( حقائق حول القضية الفلسطينية ) وكذلك الدكتور بسام جرار في الحديث عن مظاهر وشواهد بركة وقدسية هذه الأرض المحيطة بالأقصى للعالمين، ضمن كتابه (من أسرار الأسماء في القرآن الكريم)، حيث إنها الأرض التي لا يعمر فيها ظالم، ففيه كانت نهاية الدولة الرومانية الشرقية في معركة اليرموك، وكذا نهاية البطش المغولي في عين جالوت، ونهاية الغزو الصليبي في حطين ، وتحطمت أحلام نابليون على أسوار عكا، وفيها سينتهي الإفساد اليهودي المعاصر الذي تحدثت عنه آيات الإسراء والذي يأخذ أبعاداً عالمية، وستكون فيها نهاية المسيح الدجال، ونهاية يأجوج ومأجوج. إن الله تعالى يستدرج الطغاة المفسدين إلى الأرض المقدسة المباركة، ليجعل نهايتهم فيها ، ويريح البشرية من شرورهم، وفي الوقت ذاته يستنهض الأمة الإسلامية كي ترجع إلى دينها، وأن لا تكون أمة الأقصى كالغنم القاصية ، بعيدة عن الجماعة ، وتتوحد مع بقية الأمة لرد العدوان ، وتحرير المقدسات ، واستئناف الدور الحضاري وإقامة الخلافة في الأرض. ( انظر مقال الآستاذ طارق مصطفى حميدة (المسجد الأقصى.. والشاة القاصية) بتصرف يسير . ))))
أما المبارك: فنعت اقترن به، مستمد مما ورد في كتاب الله - عز وجل-(الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ.)(الإسراء : 1 ) حيث نعت بالاسم الموصول وصلته{الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} أي الذي باركنا فيه وفيما حوله بأنواع البركات الحسية والمعنوية..(((( هامش : التعبير عن البركة الربانية بالفعل الماضي "باركنا" يدل على ثبوت واستقرار البركة لهذه الأرض، ولأن الفعل الماضي يفيد الثبات والاستقرار، فالله سبحانه قد شاء استقرار البركة في هذه الأرض، وجعلها ثابتة فيها. )))) والبركة التي ذكرتها الآية الكريمة هي – كما يصرح المفسرون – بركة دينية تتمثل في النبوة والشرائع والرسل الذين ضَمَّهم هذا المكان المبارك، فكان مُتَعَبَّدًا للأنبياء وقبلةً لهم، كما هي بركة دنيوية تتمثل في كثرة الزروع والثمار... ولو لم تكن له فضيلة إلا هذه الآية لكانت كافية، وبجميع البركات وافية .. لأنه إذا بورك حوله، فالبركةُ فيه مضاعفة. والمبارك اسم مفعول من "بارك" الذي يفيد مبناه معنى المبالغة؛ والتكثير ، فكأنه خُص بالبركة من الله عز وجل مرة بعد مرة، بكثرة ما أقام فيه من أنبياء الله ورسله - عليهم السلام - ، حتى لكأن المسجد الأقصى يمثّل ملتقى الأنبياء والرسل، ففي خبر إسراء النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى المسجد الأقصى ، أنه التقى فيه بجميع الأنبياء من آدم إلى عيسى عليهم جميعاً وعلى رسولنا أفضل الصلاة والسلام، وتقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، فقال له جبريل: "تقدم يا محمد فصلّ بالأنبياء إماما" ( ) . وقد تظافرت الروايات على أنه -صلى الله عليه وسلم- صلى بالأنبياء في المسجد الأقصى ، وسواء صلى بهم قبل عروجه إلى السماء أم بعد العروج، فالمهم أنَّ الصلاة في المسجد الأقصى رواها الجمهور من الصحابة."وقد جمع الله تعالى الرسل والأنبياء لمحمد - صلى الله عليه وسلم - تلك الليلة، في المسجد الأقصى، ومنهم أنبياء ورسل بني إسرائيل، فأمهم في الصلاة، أي صلى هو بهم إماماً، وصلوا هم خلفه مأمومين ، وجمعهم هذا جمع غيبي، لا نعرف كيف جرى، وهو غير خاضع للأسباب المادية، لأن الرسل غادروا هذه الحياة الدنيا، والتحقوا بالرفيق الأعلى ، لكنهم عند الله تعالى أحياء، حياة خاصة غيبية كالشهداء ، كما أراد الله سبحانه، ثم إن صلاتهم في المسجد الأقصى مأمومين خلف الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - ، يعني أن الرسل السابقين سلموا مفاتيح الارض المقدسة لمحمد - صلى الله عليه وسلم- ليلة الاسراء، أعلنوا بذلك عن انتهاء استخلاف اقوامهم من يهود ونصارى، وانتهاء مسؤولية هؤلاء الاقوام على الارض المقدسة ، وتحويل هذه الخلافة والمسؤولية لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وانتقال الاشراف على الأرض المقدسة إلى هذه الأمة ، واستمرار هذه المسؤولية فيها حتى قيام الساعة !
2- بيت المَقدِس: وقد كان المسجد الأقصى يُعرَف ببيت المقدس قبل نزول التسمية القرآنية له ، وبهذا الاسم ورد في بعض أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد روى ابن حنبل في حديث الإسراء عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:)حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ ، حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، قَالَ : " أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ ، طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ ، وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ ، قَالَ : فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، قَالَ : فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ ، قَالَ : ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ، ثُمَّ خَرَجْتُ ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلَام - بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ ، فَقَالَ جِبْرِيلُ : اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ ... إلى آخر الحديث)( أخرجه أحمد 3: 148 . ومسلم من طريق حماد بن سلمة رقم : 238 ) . وهذه التسمية يستفاد منها معنى الأرض المقدّسة أيضا.
3- البيت المُقدّس: وهو مشتقّ من الاسم السابق لتأكيد صفة (القدسية) التي يمتاز بها، والتقديس رفع المنزلة. وقد ورد هذا الاسم في بيتين من الشعر لابن حجر العسقلاني عند زيارته للمسجد الأقصى المبارك:
إلى البيت المقدَّس جئت أرجو .... جِنانَ الخُلدِ نُزلاً من كريـم
قطعنا في محبته عِقاباً .... وما بعد العِقابِ سوى النعيمِ ( )
وجدير بالذكر أن كلمة " قدس" وما يشترك معها في حروفها الأصلية تنصرف لمعنى التنزيه والتطهير، كالمقدس ، وبتشديد الدال، والأرض المقدسة. ومعناه المكان المطهر من الذنوب ، واشتقاقه من القدس وهي الطهارة والبركة. والقدس اسم مصدر في معنى الطهارة والتطهير ؛ لأنه روح مقدسة ، والتقديس : التطهير ، ومنه قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) ( البقرة : 30) أي: ننزهك عما لا يليق بك. فمعنى بيت المقدس : المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب. ويقال : المرتفع المنزه عن الشرك.
4 - مسجد إيلياء: كانت مدينة القدس تسمى باسم ( إيلياء ) في زمن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وإلى عهد عمر – رضي الله عنه - ، وقد وصل كتاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الذي أرسله مع دحية الكلبي إلى قيصر – عظيم الروم – وهو بمدينة إيلياء ( القدس ) ، فلما جاء قيصر كتاب رسول الله– صلى الله عليه وسلم – قال حين قرأه ، التمسوا إلى ههنا أحدا من قومه لأسألهم عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، قال ابن عباس : فأخبرني أبو سفيان أنه كان بالشام في رجال من قريش ، قدموا تجارا في المدة التي كانت بين رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبين كفار قريش ، قال أبو سفيان : فوجدنا قيصر ببعض الشام ، فانطلق بي وبأصحابي حتى قدمنا إيلياء ، فأدخلنا عليه ... الحديث ) (صحيح البخاري ، ج4 : ص 54) . وورد أيضا في بعض الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة مضافا إليها ( مسجد إيلياء ) ، ففي صحيح مسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : (إنما يسافر إلى ثلاثة مساجد ، مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيلياء ) (صحيح مسلم : ج3: ص 541 ) .وجاء في لسان العرب : وإيلياء : مدينة بيت المقدس .... وقال الفرزدق :
وبيتان ، بيت الله نحن ولاته ....وبيت بأعلى إيلياء مشرف . ( )
وإيلياء ، معناه بيت الله ، وهو منسوب للمدينة التي يقع فيها المسجد.كما ورد هذا الاسم في
العهدة العمرية لأهل القدس . ( ) ..وأسماء أخرى كثيرة ... وكل هذه الأسماء تدل على عظمة
وقدسية وبركة المسجد الأقصى بالنسبة للمسلمين. وهو – عز و جل – الذي ربط بين المسجد الأقصى في القدس الشريف وبين بيته الحرام في مكة المكرمة ، وهو الذي باركه وبارك حوله، وخصه الله وحده ببركة ما حوله من بين سائر المساجد المنتشرة في أرجاء المعمورة ، وللمسجد الأقصى قدسية كبيرة عند المسلمين ارتبطت بعقيدتهم منذ بداية الدعوة . فهو يعتبر قبلة الانبياء جميعاً قبل النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو القبلة الأولى التي صلى إليها النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - طيلة ( 17) شهرا قبل أن يتم تحويل القبلة إلى مكة. وقد توثقت علاقة الإسلام بالمسجد الأقصى ليلة الاسراء والمعراج حيث أنه أسرى بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ، وفيه صلى النبي - صلى الله علية وسلم - إماماً بالانبياء ، ومنه عرج النبي إلى السماء. وفي السماء العليا فرضت عليه الصلاة. ويعتبر المسجد الأقصى هو المسجد الثالث الذي تشد إليه الرحال، فقد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المساجد الثلاثة الوحيدة التي تشد إليها الرحال هي المسجد الحرام، والمسجد النبوي ، والمسجد الأقصى.
حدود المسجد الأقصى المبارك ومعالمه :
يعتقد الكثيرون أن المسجد الأقصى هو فقط الجامع المبني جنوبي قبة الصخرة (المصلى القبلي)، وهو الذي تقام فيه الصلوات الخمس الآن للرجال، والصحيح أن المسجد الأقصى هو اسم لجميع المسجد ، وهو كل ما هو داخل سور المسجد ويشمل الساحات الواسعة، والجامع القبلي وقبة الصخرة والمصلى المرواني والأروقة ، والقباب ، والمصاطب ، وأسبلة الماء ، والحدائق ،وكل ما تحت ارض المسجد وفوقه، وغيرها من المعالم، وعلى أسواره من المآذن ، والمسجد كله غير مسقّوف سوى بناء قبة الصخرة والمصلى القبلي الجامع. وهذا ما اتفق عليه العلماء والمؤرخون، وعليه تكون مضاعفة ثواب الصلاة في أي جزء مما دار عليه السور . وتبلغ مساحته تقريباً: 144000 متراً مربعاً .
يقع المسجد الأقصى المبارك جنوب شرق القدس، ويحده من الجنوب : الزاوية الختنية ويليها مدينة سلوان.. ومن الشرق : السور الشرقي المشترك للقدس والمسجد ، يليه مقبرة باب الرحمة، ثم وادي هنم ، ثم جبل الزيتون الذي يطل على المسجد. ويحده من الشمال: كل من حارة باب حطة ، وجزء من حارة الغوانمة . ويحده من الغرب : حارات إسلامية مختلفة ، منها جزء من حارة الغوانمة ، وحارة باب الناظر، وسوق القطانين ، وحارة باب السلسلة، وموضع حارة المغاربة التي هدمتها جرافات الاحتلال عام 1967م .. والمسجد الأقصى هو ثاني مسجد وُضع في الأرض ، والأرجح أن أول من بناه هو آدم - عليه السلام - ، اختط حدوده بعد أربعين سنة من إرسائه قواعد البيت الحرام، بأمر من الله تعالى، دون أن يكون قبلهما كنيس ولا كنيسة ، ولا هيكل ولا معبد... وهذا يعني أن المسجد الأقصى و من المستحيل في تفكير أي عاقل أن يكون هناك بناء حجر أو بناء كان تحت المسجد الأقصى.
وكما تتابعت عمليات البناء والتعمير على المسجد الحرام، تتابعت على الأقصى المبارك، ومع الفتح الإسلامي للقدس عام 636م (الموافق 15 للهجرة)، بنى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الجامع القبلي، كنواة للمسجد الأقصى. وفي عهد الدولة الأموية، بنيت قبة الصخرة، كما أعيد بناء الجامع القبلي، واستغرق هذا كله قرابة 30 عاما من 66 هجرية -/685ميلادية ، 96 هجرية/715 ميلادية ، ليكتمل بعدها المسجد الأقصى بشكله الحالي.
وتبلغ مساحة المسجد الأقصى حوالي من 144 دونماً (الدونم = 1000 متر مربع)، ويحتل نحو سدس مساحة القدس ، وهو على شكل مضلع غير منتظم، طول ضلعه الغربي 491م، والشرقي 462م، والشمالي 310م، والجنوبي 281م
والمسجد الأقصى المبارك هو اسم لكل ما دار حوله السور الواقع في أقصى الزاوية الجنوبية الشرقية من مدينة القدس القديمة المسورة بدورها، ويشمل كلا من قبة الصخرة (ذات القبة الذهبية) والموجودة في موقع القلب منه، والجامع القِبْلِي (ذو القبة الرصاصية السوداء) والواقع أقصى جنوبه ناحية "القِبلة"، فضلا عن نحو 200 معلم آخر تقع ضمن حدود الأقصى ، ما بين مساجد، ومبان، وقباب، وأسبلة مياه، ومصاطب، وأروقة، ومدارس، وأشجار، ومحاريب، ومنابر، ومآذن، وأبواب، وآبار، ومكتبات.
ويشتمل المبنى على المسجد، في صدر الساحة من جهة القبلة، والمبنى الواقع تحت هذا المسجد والذي اصطلح عليه باسم " الأقصى القديم"، ومسجد قبة الصخرة، والمصلى المرواني، الواقع تحت الجهة الجنوبية الشرقية.
على هذا الأساس، ندرك بشكل واضح أن المساحة القائمة كلها؛ أي حدود ما دار عليه سور الأقصى المبارك، هي جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك، والسور المحيط بهذه المساحة هو جزء لا يتجزأ منها، بمعنى أن السور وكل الأبواب الموجودة في السور جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك، فالسور الغربي على سبيل المثال هو جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك، وحائط البراق الذي يعتبر جزءا من السور الغربي جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك، ورباط الكرد الذي يعتبر جزءا من السور الغربي هو جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك، وهكذا كل أبواب السور الغربي كباب المغاربة، وكذلك كل مباني السور الغربي كالمدرسة التنكزية، هذه كلها جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك ، والساحات الترابية المزروعة بالزيتون والأشجار الحرجية هي جزء لا يتجزأ من الأقصى المبارك، والسبل والقباب والمساطب ، وبقية المباني هي جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى المبارك. وأهمية بيان هذه المسألة أنها تحدد البقعة التي يُضاعَف أجر الصلاة فيها؛ فمن دخل الأقصى فأدى الصلاة، سواء تحت شجرة من أشجاره، أو قبة من قبابه، أو فوق مصطبة، أو عند رواق، أو في داخل قبة الصخرة، أو الجامع القبلي، فهو كمن أدى مائتين وخمسين صلاة ، أو خمسمائة صلاة كما قيل ، فيما سواه عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي.
وبالتالي فإن العلم بهذا وفهمه مقدمة ضرورية لحفظ الأقصى المبارك طاهرا كريما حراً ولو كره الكافرون، ومن عرف هذه الحقائق سيدرك أن هناك اعتداء صارخا على الأقصى المبارك إلى هذه اللحظات، منها على سبيل المثال تحويل حائط البراق الذي هو جزء من الأقصى المبارك إلى ما يسمونه اليوم - وهما وتضليلا - "حائط المبكى" ( )
المسجد الأقصى المبارك في القرآن الكريم
من المتفق عليه أن المسجد الأقصى كان القبلة الأولى للأمة الإسلامية ، ومسرى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ومعراجه ، وما دام المسجد الأقصى يتميز بهذه المكانة فقد كان من الطبيعيّ أن يذكر في القرآن الكريم، صراحة أو كناية في عدة مواضع.
فقد ذُكر المسجد الأقصى صراحة في القرآن الكريم مرة واحدة في سورة الإسراء حيث يقول تعالى:
[[ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ ]]( الاسراء : 1 ) وأول ما نلاحظه في هذه الآية الكريمة؛ أنها خصّت المسجد الأقصى بالبركة ( ) ، في حين اكتفت بذكر المسجد الحرام دون تخصيصه بوصف، على علو منزلته ، وسموّ مكانته، وإن كان ذلك يدل على شيء، فهو إنما يدل على أهمية المسجد الأقصى ، ليس فقط في عصر صدر الإسلام، بل إلى أن تقوم الساعة. كما أننا نلحظ بوضوح هذا الربط الإلهي الحكيم، بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى ليلة الاسراء والمعراج ، لتتم عملية التوأمة الإلهية الأبدية الخالدة، بين هذين المسجدين، ليكتسب كل منهما شرفا إلى شرفه. ولا يقتصر التشريف لبيت المقدس على حادثة الاسراء والمعراج فقط ، ولا لكونها تحنضن في ربوعها المسجد الأقصى ، ومسجد الصخرة ، بل يتخطاه إلى فضائل أخرى ، مرت إشارات عديدة لها في القرآن الكريم . ففي تفسير قوله تعالى : ( ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين .) ( البقرة : 58) . قال مقاتل : هي بيت المقدس .وفي قوله تعالى : ( وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ) ( المؤمنون : 50) هي بيت المقدس .وأقرب بقعة في الأرض إلى السماء : بيت المقدس . ويمنع الدجال من دخولها ، ويهلك يأجوج ومأجوج دونها . وعن ابن عباس – رضي الله عنهما - قال : ( البيت المقدس بنته الأنبياء ، وسكنته الأنبياء ، وما فيه موضع شبر إلا صلى فيه نبي ، أو أقام فيه ملك )( ). ويظهر مما سبق أن بيت المقدس ليست بقعة عادية من الأرض ، وإنما بقعة مقدسة ، نالت تقديسها منذ قديم الزمان ، ودلت الكثير من النصوص والكتابات التاريخية على ذلك ، وهذا مما جعلها تحتل مكانة كبيرة ، خاصة أن الكثير من الأنبياء والمرسلين والصالحين مروا بها أو أقاموا فيها ، والكثيرون سعوا إلى سكناها ، والرغبة في الدفن فيها .

في رحاب أوائل سورة الإسراء
شاءت إرادة الله سبحانه أن يجعل بيت المقدس .. أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، محطة للإسراء والمعراج ... ليثبت في يقين الأمة الإسلامية ومشاعرها معنى الوحدة بين أرجاء الوطن الاسلامي ، ويرمز إلى الرباط الوثيق بين المسلمين أينما كانوا ، وبين مسرى نبيهم الكريم ومعراجه ، وليشعرهم بأن عليهم أن يحافظوا عليه محافظتهم على المسجد الحرام ، وليؤكد لهم أنه مكان إسلامي مقدس ، عليهم رعايته والدفاع عنه ضد تحديات الأعداء ، وتخليصه من أيديهم إن سقط فيها .
وكلمة (سُبْحَان) التي افتتحت بها السورة : اسم مصدر منصوب - على أنه مفعول مطلق - بفعل محذوف، والتقدير: سبحت الله - تعالى – سبحانا، أي تسبيحا، بمعنى نزهته تنزيها عن كل سوء. وافتتاح السورة بكلمة التسبيح من دون سبق كلام مُتضمّنٍ ما يَجب تنزيه الله عنه ، يؤذن بأن خبراً عجيباً يستقبله السامعون دالاً على عظيم القدرة من المتكلم ، ورفيع منزلة المتحدث عنه. إذن: جاءت كلمة (سُبْحَان) هنا لتشير إلى أنَّ ما بعدها أمرٌ خارج عن نطاق قدرات البشر، فإذا ما سمعتَه إياك أنْ تعترضَ أو تقول: كيف يحدث هذا؟ بل نزِّه الله أن يُشابه فِعْلُه فِعْلَ البشر، فإن قال لك: إنه أسرى بنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - من مكة إلى بيتَ المقدس في ليلة، مع أنهم يضربون إليها أكباد الإبل شهراً في الذهاب وشهرا في الإياب ، فإياك أن تنكر...فربك لم يقُلْ: سَرَى محمد، بل أُسْرِي به. فالفعل ليس لمحمد ، ولكنه لله، وما دام الفعل لله فلا تُخضعْه لمقاييس الزمن لديك.. وحُفّت السورة كلها بالتسبيح والتحميد في بدايتها ونهايتها ، ولعلّ في هذا إشارة إلى أنه- صلى الله عليه وسلم - سينُقل إلى مكان وعالَم وجو مليء بالتسبيح ( عالم الملائكة ) الذين (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ)( الأنبياء : 20 ) فالسورة إذن مشحونة بالتسبيح ..
والتعبير عن الذات العلية بطريق الموصول دون الاسم العَلَمْ ، للتنبيه على ما تفيده صلة الموصول من الإيماء إلى وجه هذا التعجيب والتنويه وسببه، وهو ذلك الحادث العظيم .
وأسرى من السُّرى ، تفيد السير ليلاً ، وقد يكون من معانيها التسرية عن الرسول – صلى الله عليه وسلم - بعد ما لاقاه في عام الحزن ، وما حصل له في الطائف ، فأراد الله تعالى أن يُسرّي عن رسوله ويريه كيف تكون حفاوته في السماء بعد أن هان على الكفّار في قريش والطائف ، فآذوه ولم ينصروه...وإن لم يقل بذلك أحد من السابقين . وقوله :(بعبده ) : والمراد ( بعبده ) خاتم أنبيائه محمد - صلى الله عليه وسلم - ، والإِضافة للتشريف والتكريم. ولم يقل برسوله ، ولا بمحمد ، وإنما قال بعبده. فاختيار كلمة عبد حتى لا يُدَّعى له مقام غير مقام العبودية. فمقام العبودية لله هو أعلى مقام للخلق وأعلى وسام يُنعم الله تعالى به على عبادهالصالحين ( )
وهناك مَنْ يقول: إن الإسراء كان منَاماً، أو كان بالروح دون الجسد.
ونقول لهؤلاء: لو قال محمد لقومه: أنا رأيتُ في الرؤيا أو في المنام ، بيت المقدس، هل كانوا يُكذِّبونه؟ إذن: في إنكار الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكذيبهم له ، دليل على أن الإسراء كان حقيقة تمت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - برُوحه وجسده . والعبد كلمة تُطلق على الروح والجسد معاً، هذا مدلولها، لا يمكن أن تُطلَق على الروح فقط . وقد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استعمل في رحلته البراق التي لا يعلم حقيقتها إلا الله ، وبهذه الأداة التي اشتق اسمها من البرق كانت الرحلة ، واستعماله البراق يدل على أن هذا الحادث كان بالروح والجسد ، وفي اليقظة لا في المنامرغم أنف المخبول فراس السواح ؟!. وقال ( أسرى بعبده ) دون سرّى بعبْدَه، وهي التلويح إلى أن الله تعالى كان مع رسوله في إسرائه بعنايتهِ وتوفيقه، لأنه صادق العبودية لله، وما دام هو عبده فقد أخلص في عبوديته لربه، فاستحق أنْ يكون له مَيْزة وخصوصية عن غيره، فالإسراء والمعراج عطاء من الله استحقَّه رسوله بما حقّق من عبودية لله...وفَرْق بين العبودية لله والعبودية للبشر، فالعبودية لله عِزٌّ وشرف ، يأخذ بها العبدُ خَيْرَ سيده، قال القاضي عياض :
وَمِمّا زَادَني شَرَفاً وَتِيها ... وكِدْتُ بأخْمُصِي أَطَأَ الثُّريَّا.
دُخُولِي تَحْتَ قولِكَ يَا عبَادِي.... وَأنْ صَيَّرت أحمدَ لِي نبيّاً.
أما عبودية البشر للبشر فنقْصٌ ومذلَّة وهوان، حيث يأخذ السيد خَيْر عبده، ويحرمه ثمره كَدِّه.
وتنكير ( ليلاً ) للتعظيم، أي هو ليل عظيم باعتبار جعله زمناً لذلك السرى العظيم . قال صاحب الكشاف: " فإن قلت: الإِسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل؟. قلت: أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير، تقليل مدة الإِسراء، وأنه أسرى به بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، فالتنكير فيه قد دل على معنى البعضية ،( ) ، أي : التَّنكير يفيد التقليل ، لأن الإسراء تم في جزء من الليل فقط ، وليس الليل كله.( وهنا قال العبقري المجدد ، المغرور شحرور في جواب سؤال وجه اليه : فما دام الله سبحانه قال ليلا .. والسري يكون بالليل .. فيكون قوله ليلا حشو .. اذن المقصود بالاسراء والسري هو الذهاب للسراة ، أي أن الاقصى في جبال السراة وليس في القدس ) ؟؟!!
فالحق سبحانه أسرى بعبده ، فالفعل لله تعالى، وليس لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، فلا تَقِسْ الفعل بمقياس البشر، وقد استقبل أهل مكة هذا الحدث استقبال المكذِّب. فقالوا: كيف هذا ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وهم كاذبون في قولهم؛ لأن رسول الله لم يَدَّع أنه سَرَى ، بل قال: أُسْرِي بي..ومعلوم أن قَطْع المسافات يأخذ من الزمن على قدر عكس القوة المتمثلة في السرعة.
أي: أن الزمن يتناسب عكسياً مع القوة، فلو أردنا مثلاً الذهاب إلى بيت الله الحرام ، سيختلف الزمن لو سِرْنا على الأقدام عنه إذا ركبنا سيارة أو طائرة ، فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن، فما بالك لو نسب الفعل والسرعة إلى الله تعالى، إذا كان الفعل من الله فلا زمن.
فإنْ قال قائل: ما دام الفعل مع الله لا يحتاج إلى زمن، لماذا لم يَأْتِ الإسراء لمحةً فحسْب، ولماذا استغرق بعض ليلة؟ نقول: لأن هناك فرْقاً بين قطْع المسافات بقانون الله سبحانه ، وبين مَرَاءٍ عُرِضَتْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في الطريق، فرأى مواقف، وتكلَّم مع أشخاص، ورأى آيات وعجائب، هذه هي التي استغرقت الزمن..إنك حين تنسب الفعل إلى فاعله يجب أن تعطيه من الزمن على قَدْر قوة الفاعل. هَبْ أن قائلاً قال لك: أنا صعدتُ بابني الرضيع قمة جبل " إفرست" ،هل تقول له: كيف صعد ابنك الرضيع قمة " إفرست "؟ هذا سؤال إذن في غير محلِّه، وكذلك في مسألة الإسراء والمعراج يقول تعالى: أنا أسريتُ بعبدي، فمن أراد أنْ يُحيل المسألة ويُنكرها، فليعترض على الله صاحب الفعل لا على محمد - صلى الله عليه وسلم- . أفهمتم أيها المخبولين من الحداثيين والعلمانيين ؟
قد يقول قائل: لماذا لم يحدث الإسراء نهاراً؟
نقول : حدث الإسراء ليلاً، لتظلَّ المعجزة غَيْباً يؤمن به مَنْ يصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلو ذهب في النهار لرآه الناس في الطريق ذهاباً وإيابا ، فتكون المسألة - إذن - حِسيّة مشاهدة ، لا مجالَ فيها للإيمان بالغيب.
لذلك لما سمع أبو جهل خبر الإسراء طار به إلى المسجد وقال: إن صاحبكم يزعم أنه أُسْرِي به الليلة من مكة إلى بيت المقدس، فمنهم مَنْ قلّب كفَّيْه تعجُّباً، ومنهم مَنْ أنكر، ومنهم مَن ارتد.
أما الصِّدِّيق أبو بكر- رضي الله عنه - فقد استقبل الخبر استقبالَ المؤمن المصدِّق، ومن هذا الموقف سُمِّي الصديق، وقال قولته المشهورة: " إن كان قال فقد صدق ".
عُمدَتُه أن يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وطالما قال فهو صادق، هذه قضية مُسلَّم بها عند الصِّدِّيق- رضي الله عنه - .... ثم قال: " إنَّا لَنُصدقه في أبعد من هذا، نُصدِّقه في خبر السماء (الوحي)، فكيف لا نُصدّقه في هذا "؟
إذن : الحق سبحانه جعل هذا الحادث محكّاً للإيمان، ومُمحِّصاً ليقين الناس، حتى يغربل مَنْ حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا يبقى معه إلا أصحاب الإيمان واليقين الثابت الذي لا يهتز ولا يتزعزع.لذلك قال تعالى في آية أخرى: ( وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّؤيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّا.. ) [الإسراء: 60 ] وهذا دليل آخر على أن الإسراء لم يكُنْ مناماً، فالإسراء لا يكون فتنة واختباراً إلا إذا كان حقيقة لا مناماً، فرؤى المنام لا يُكذِّبها أحد ، ولا يختلف فيها الناس.
لكن لماذا قال عن الإسراء (رُؤْيَا) يعني المنامية، ولم يقُلْ ( رؤية ) يعني البصرية؟
قالوا: لأنها لما كانت عجيبة من العجائب صارت كأنها رؤيا منامية، فالرؤيا محل الأحداث العجيبة.
يقول فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي : ( ويقولون ( الرؤيا ) لا تستخدم إلا لما يرى في المنام ، أما ما يرى في اليقظة ، فإننا نقول عنه ( رؤية ).. نقول : إذا كان المقصودهنا رؤيا منامية فكيف تكون فتنة للناس ؟ يصدقها بعضهم ويكذبها البعض الآخر ؟! لو كانت رؤيا منامية ...فلا يمكن أن يناقشها أحدتصديقا أو تكذيبا ... عندما يتحدث الناس عن الأشياء الغريبة التي تشبه الحلم فإنهم يستخدمون ( رؤيا) .. وهذا يكون إذا رأوا أمامهم أمرا عجيبا ، وإلا لو كانت الرؤيا منامية ما كانت فتنة للناس ، فلا أحد يناقش الأحلام كذبا أو صدقا ..)( )
من المسجد الحرام: أكثر العلماء يقولون أن الإسراء لم يتم من المسجد الحرام ، وقيل أُسرِي به من بيت أم هانئ بنت أبي طالب، فيكون المراد بالمسجد الحرام: الحرم لإِحاطته بالمسجد والتباسه به. ويمكن الجمع بين هذه الروايات، بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقي في بيت أم هانئ لفترة من الليل، ثم ترك فراشه عندها ، وذهب إلى المسجد، فلما كان في الحِجْر أو في الحطيم بين النائم واليقظان، أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به إلى السماوات العلا. ثم عاد إلى فراشه قبل أن يبرد - كما جاء فى بعض الروايات -، وبذلك يترجح لدينا أن وجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تلك الليلة فى بيت أم هانئ، لا ينفي أن الإِسراء بدأ من المسجد الحرام، كما تقرر الآية الكريمة . والمسجد الحرام هو بيت الله: الكعبة المشرفة، وسُمّي حراماً؛ لأنه حُرّم فيه ما لم يحرُمْ في غيره من المساجد. وكل مكان يخصص لعبادة الله نسميه مسجداً، قال تعالى: ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ..)[ التوبة: 18 ]
ويختلف المسجد الحرام عن غيره من المساجد، أنه بيت لله باختيار الله تعالى، وغيره من المساجد بيوت لله باختيار خَلْق الله؛ لذلك كان بيت الله الذي اختاره الله ، قِبْلة لبيوت الله التي كانت باختيار خَلْق الله.
وقد يُراد بالمسجد المكان الذي نسجد فيه، أو المكان الذي يصلح للصلاة، كما جاء في الحديث الشريف: ( .. وجُعِلَتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً )( : صحيح البخاري - الصلاة رقم (427) ) . أي: صالحة للصلاة فيها. ولا بُدَّ أن نُفرِّق بين المسجد الذي حُيِّز وخُصِّص كمسجد مستقل، وبين أرض تصلح للصلاة فيها ، ومباشرة حركة الحياة،أما المسجد فللصلاة، أو ما يتعلق بها من أمور الدين كتفسير آية، أو بيان حكم، أو تلاوة قرآن.. إلخ ولا يجوز في المسجد مباشرة عمل من أعمال الدنيا.
" لذلك حينما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً ينشد ضالته في المسجد، قال له: ( لا رَدَّها الله عليك )( ). ذلك لأن المسجد خُصِّص للعبادة والطاعة، وفيه يكون لقاء العبد بربه عز وجل، فإياك أن تشغل نفسك فيه بأمور الدنيا، ويكفي ما أخذتْه منك، وما أنفقته في سبيلها من وقت.
والمسجد لا يُسمَّى مسجداً إلا إذا كان بناءً مستقلاً من الأرض إلى السماء، فأرضه مسجد، وسماؤه مسجد، لا يعلوه شيء من منافع الدنيا، كمَنْ يبني مسجداً تحت عمارة سكنية، ودَعْكَ من نيته عندما خَصَّص هذا المكان للصلاة: أكانت نيته لله خالصة؟ أم لمأرب دنيوي؟ وقد قال تعالى: (وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً ) [ الجن: 18].
فمثل هذا المكان لا يُسمّى مسجداً؛ لأنه لا تنطبق عليه شروط المسجد، ويعلوه أماكن سكنية يحدث فيها ما يتنافى وقدسية المسجد، وما لا يليق بحُرْمة الصلاة، فالصلاة في مثل هذا المكان كالصلاة في أي مكان آخر من البيت. لذلك يحرم على الطيار غير المسلم أن يُحلِّق فوق مكة؛ لأن جوَّ الحرَم حَرَمٌ.
والمسجد الأقصى : أي: الأبعد، وهو مسجد بيت المقدس لم يكن آنذاك مسجداً لكن هذا إشارة إلى أنه سيكون مسجداً . ( إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا.. } وفي بُعْد المسافة نقول: هذا قصيّ. أي: بعيد. وهذا أقصى أي: أبعد، فالحق تبارك وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أنه سيوجد بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى مسجدٌ آخر قصيّ، وقد كان فيما بعد مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .(أو: الأقصى أي الأبعد بالنسبة للمساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ) .
الذي باركنا حوله: صفة مدح للمسجد الأقصى . والنون للعظمة ، أسند تعالى المباركة لنفسه للدلالة على التعظيم ، ولم يقل بورك حوله ، أو باركناه ، بل قال باركنا حوله ، لأنه لو قال باركناه لانحصرت المباركة بالمسجد فقط ، أما باركنا حوله فهو يشمل كل ما حوله ، وهو تعظيم للمسجد نفسه ، وإشارة أن المباركة حول المسجد أيضاً. ولم يقل: باركنا ما حوله لأنها عندئذ تعني الأشياء ، فإذا زادت الأشياء زادت المباركة ، وإذا ذهبت ذهبت المباركة . وكونُ البركة حولَه كنايةٌ عن حصول البركة فيه بالأوْلى، فإنْ كان سبحانه قد بارك ما حول الأقصى، فالبركة فيه من باب أَوْلى، كأن تقول: مَنْ يعيشون حول فلان في نعمة، فمعنى ذلك أنه في نعمة أعظم.
وكلمة "حوله" في هذه الآية، تدلّ على "أنّه هو أصلُ البركة ومنبعُها، والتي طفَت وعمّت وتوسّعت لتصلَ إلى ما حوله" . فهو "وصفٌ يرسمُ البركةَ حافّةٌ بالمسجد، فائضةٌ عليه، وهو لم يكن ليلقيه تعبير مباشر مثل: باركناه، أو باركنا فيه، وذلك من دقائق التعبير القرآنيّ العجيب" ، "أي أنّ الأقصى هو فعلاً أصل هذه البركة وسببها ومصدرها، بمعنى آخر: وجود الأقصى هو سبب بركة الأرض التي بارك الله فيها" . وكما يقول الدكتور أسامة الأشقر :"وكون البركة حوله، كنايةٌ عن حصول البركة فيه بالأولى، لأنّها إذا حصلت حوله، فقد تجاوزت ما فيه؛ ففيه لطيفة التلازم، ولطيفة فحوى الخطاب، ولطيفة المبالغة في التكثير باستخدام صيغة المُفاعلة التي تُفيد التكثير (باركنا(.. لكن بأيّ شيء بارك الله حوله؟
لقد بارك الله حول المسجد الأقصى ببركة دنيوية، وبركة دينية:
بركة دنيوية بما جعل حوله من أرض خِصْبة عليها الحدائق والبساتين التي تحوي مختلف الثمار، وهذا من عطاء الربوبية الذي يناله المؤمن والكافر.
وبركة دينية خاصة بالمؤمنين، هذه البركة الدينية تتمثل في أن الأقصى مَهْد الرسالات ومَهْبط الأنبياء، تعطَّرَتْ أرضه بأقدام إبراهيم وإسحاق ويعقوب وعيسى وموسى وزكريا ويحيى، وفيه هبط الوحي وتنزلتْ الملائكة.
والمباركة كانت مطلقة تشمل أشياء معنوية وماديّة وروحانية بما أودع الله تعالى من رزق ، وخير ، وإرسال الرسل ، ولا تختص المباركة بشيء معين واحد ، وإنما تشمل كل هذه الأشياء. وتسمية ذلك المكان بالمسجد الأقصى تسمية قرآنية باعتبار ما سيكون مسجداً ، واستقبله المسلمون في الصلاة من وقت وجوبها المقارن ليلة الإسراء إلى ما بعد الهجرة بستة عشر شهراً . ثم نسخ استقباله ، وصارت الكعبة هي القبلة الإسلامية. وقد قيل فى خصائص المسجد الأقصى: أنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلا.. وأولى القبلتين ، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه.
لنريه: ولم يقل ليرى ، أو ليُرى إنما جاءت (لنُريه)وهذا إكرام وتشريف آخر من الله تعالى لرسوله – صلى الله عليه وسلم - في هذا الرحلة. وإضافة الآيات إلى نفسه تعالى تأتي من باب الإحتفاء بالرسول – صلى الله عليه وسلم - .
والآية في اللغة : هي الأمر الخارق للعادة .. فهي تشبه المعجزة في أنها خارقة للعادة ..إلا أنها غير مُتَحَدَّى بها .. وكلمة الآيات : تطلق على الموجود العجيب ، كأن تقول : هذا آية في الحسن ، آية في الشجاعة .. فالآية هي الشيء العجيب .. و( من ) للتبعيض لأن ما رآه النبى - صلى الله عليه وسلم - وإن كان عظيما ، إلا أنه مع عظمته بعض آيات الله بالنسبة لما اشتمل عليه هذا الكون من عجائب. أي: أسرينا بعبدنا محمد ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله، ثم عرجنا به إلى السماوات العلا، لنطلعه على آياتنا، وعلى عجائب قدرتنا، والتى من بينها: مشاهدته لأنبيائنا الكرام، ورؤيته لما نريد أن يراه من عجائب وغرائب هذا الكون.
إنه هو السميع البصير: سياق الآيات تقتضي ذكر قدرة الله تعالى ، والحقيقة أنه لو قال إنه هو القدير، أو إنه على كل شيء قدير ، لا يزيد شيئاً على معنى الآية ، لأن ما في الآيات اثبات لقدرة الله تعالى ، والرسول– صلى الله عليه وسلم - أُسري به ليسمع ويرى أشياء لم يسمعها ولم يرها من قبل ، لذلك ناسب سياق الآيات أنه ما يراه الرسول– صلى الله عليه وسلم - يراه ربّه ، وما يسمعه يسمعه ربّه ، لذلك إنه هو السميع البصير.أو : سميع لأقوال الرسول – صلى الله عليه وسلم – بصير بأفعاله ، أو سميع لأقوال المشركين ، حينما آذوا سَمْع رسول الله وكذَّبوه، وتجهَّموا له، وبصير بأفعالهم حينما آذوه ورَمَوْه بالحجارة . أو: أنه - سبحانه - هو السميع لأقوال عباده: مؤمنهم وكافرهم، مصدقهم ومكذبهم. بصير بما يسرونه ويعلنونه، وسيجازي كل إنسان بما يستحقه من ثواب أو عقاب، بدون ظلم أو محاباة.
لماذا قدم السمع على البصر؟
1 - السمع أهمّ من البصر في مجال الدعوة ، فاقد البصر يمكن أن يبلّغ في مجال الدعوة ، أما فاقد السمع فيصعب تبليغه.
2- الإسراء في الليل ، والليل آيته السمع. وفي القرآن عندما يأتي ذكر الليل تأتي الآيات بـ(أفلا يسمعون). وعند ذكر النهار تأتي ( أفلا تبصرون) . فكلّ آية تناسب وقتها ، فالليل للسمع ، والنهار للإبصار.
3 - قُدّم السمع على البصر في القرآن إلا في مواطن قليلة منها في سورة الكهف (قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا . ) ( الكهف : 26 ) لأن السياق يقتضي ذلك، فقد خرج أهل الكهف فارّين واختبأوا حتى لا يراهم أحد ، لكن الله تعالى يراهم في ظلمة الكهف ، وفي تقلبهم ذات اليمين وذات الشمال. وفي سورة السجدة( وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ)( السجدة :12 ) قدّم البصر هنا لأنهم كانوا يسمعون في الدنيا ويكذبون في الآخرة ، وأبصروا العذاب والحقيقة ، وقولهم يعني انهم موقنون ، واليقين لا يتأتى إلا بالإبصار وليس بالسمع (عين اليقين) لأنهم رأوا العذاب عين اليقين.
4 - وربما يجد المشكِّكون في الإسراء والمعراج ما يُقرّب هذه المعجزة لأفهامهم ، بما نشاهده الآن من تقدُّم علمي يُقرِّب لنا المسافات، فقد تمكَّن الإنسان بسلطان العلم أنْ يغزوَ الفضاء، ويصعد إلى كواكب أخرى في أزمنة قياسية، فإذا كان في مقدور البشر فعل ذلك ، أتستبعدون الإسراء والمعراج، وهو فِعْل لله سبحانه؟! وأما في بقية الآيات الكريمة التي ذكرت المسجد الأقصى، فقد ورد ذكره كناية لا صراحة، وغالبا ما كان يشير الله تعالى للمسجد الأقصى والديار التي حوله بقوله تعالى "الأرض التي باركنا فيها" أو "الأرض المقدسة" ومن ذلك قوله تعالى: (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا.. ) (الأعراف : 137) والحديث في هذه الآية عن بني إسرائيل حين خرجوا من مصر إلى بلاد الشام. وأيضا قوله تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء : 71) والضمير في (نجيناه) يعود على إبراهيم- عليه وعلى نبينا السلام- حيث نزل بفلسطين ونزل لوط - عليه السلام – بالمؤتفكة(المؤتفكة المنقلبة ، قرئ : " والمؤتفكات " والمشهور فيه أنها قرى قوم لوط). قال ابن كثير الدمشقي في تفسير هذه الآية الكريمة: "يقول تعالى مخبرا عن إبراهيم أنه سلّمه الله من نار قومه ، وأخرجه من بين أظهرهم مهاجرا إلى بلاد الشام، إلى الأرض المقدسة منها" وقول ابن كثير "إلى الأرض المقدسة منها" يدل بوضوح على أن هجرة إبراهيم ولوط - عليهما السلام - كانت إلى جزء من بلاد الشام، وهو ما يسمى الأرض المقدسة، وإن الأرض المقدسة هي بيت المقدس." وقوله تعالى: (وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ) ( الأنبياء : 71) يقول المفسرون : إن المقصود بالأرض التي باركنا فيها هي فلسطين ، وقوله: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) (سبأ : 18). والحديث في هذه الآية الكريمة عن أهل سبأ في اليمن، فقد جعل الله تعالى بين اليمن والأرض المباركة وهي بلاد الشام قرى متواصلة.
وقد استدلّ علماء التفسير بإجماع، على أن المقصود بالأرض المباركة في هذه الآيات كلها هي أرض فلسطين وما حولها من بلاد الشام، وذلك استنادا إلى الآية التي سبق ذكرها من سورة الإسراء والتي تنصّ صراحة على أن المسجد الأقصى هو الأرض التي بارك الله حولها. إضافة إلى عدة أدلة نقلية وعقلية أخرى.. يقول الأستاذ عبد الحميد طهماز، وهو من مدينة حماة السورية: "والأرض التي بارك الله فيها للعالمين هي أرض بلاد الشام، بين ذلك سبحانه في عدد من الآيات الكريمة، "وفلسطين هي أفضل أرض في بلاد الشام، لأن فيها أولى القبلتين المسجد الأقصى، ومسرى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهي الأرض المقدسة التي ذكرها سبحانه في قوله الكريم على لسان نبيّه موسى - عليه السلام -: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم، ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين)( المائدة : 21 ) .وعندما جاء ملك الموت إلى موسى - عليه السلام - سأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر.. وهي أرض فلسطين". ( ).
وقد تحدثت السورة عن علاقة المسلمين بالمسجد ، وأن المسجد للمسلمين حيث أسرى بنبيهم إليه ، ثم أخذت السورة في الحديث عن الفساد والعلو لليهود ، والتدمير الذي سيلحق بهم ، وأنهم سينازعون المسلمين أرض الاسراء والمعراج .. وهنا لا بد أن نقرر أن علماء التفسير اختلفوا اختلافا كبيرا في ( العلو والافسادين ) الذين أشار إليهما قوله تعالى : - ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا .فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ..) ( سورة الإسراء / 4 ، 5 )
فقال قوم : - أرسل عليهم أهل العراق بقيادة ( نبوخذ رصر _ بختنصر ) فسباهم إلى بابل.. وقال آخرون : - أرسل عليهم ( جالوت ) فقتلهم ، فهو وقومه أولي بأس شديد وقيل : - أرسل عليهم الرومان بقيادة ( تيطس ) فشتت شملهم ودمر هيكلهم . وقيل :-أرسل عليهم جُندا من أهل فارس .. إلى غير ذلك من الأقوال المتضاربة ..
وحين ننظر إلى الآيات نظرة موضوعية نرى الأمور التالية : -
الآيات السابقة مكية .. وتتحدث عن علو وإفسادين لليهود ، فهل معنى ذلك أن العلو والإفسادين وقعا قبل نزول الآيات .. أم أنهما آتيان ..؟
مما لا شك فيه أن اليهود تعرضوا للإذلال أكثر من مرة قبل الإسلام نتيجة لإفسادهم المستمر ، وهذه الآيات تتحدث عن إفساد آت .. لقوله تعالى : - ( فإذا جاء وعد أولاهما ..) ، وإذا : ظرف لما يُستقبل من الزمان ، ولا علاقة لما بعدها بما قبلها ، فوجود كلمة ( إذا ) في الآية يدل على أن الإفساد الأول ثم التدمير لهذا الإفساد آت لا محالة ، وسيقع بعد نزول الآيات … كما أن مجيئ ( إذا ) للمرة الثانية في قوله تعالى : ( فإذا جاء وعد الآخرة ..) يدل على أن الإفساد الثاني والأخير وتدميره آت كذلك لا محالة .. ويدل قوله تعالى : ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار …) على أن الذين سيتولون تدمير الكيان اليهودي أول مرة بعد نزول الآيات السابقة الذكر : هم من المؤمنين .. إذ أن الله سبحانه حين يضيف كلمة ( العباد ) لذاته تكون في موضع التشريف .. ويخص بها المؤمنين .. قال تعالى : ( وعباد الرحمن ) ، وقال :( سبحان الذي أسرى بعبده ) وهذا التشريف والتكريم الإيماني لا ينطبق على البابليين ، ولا على الرومان ، ولا على الفرس ، لأنهم جميعا من الوثنيين ..ولا ينطبق هذا الوصف إلا على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحبه الكرام الذين هاجروا للمدينة ، ولليهود فيها نفوذ سياسي واقتصادي كبير ، ونتيجة لغدرهم ، ونقضهم للعهود سلط الله عليهم المسلمين .. فجاسوا خلال الديار والحصون اليهودية في المدينة وخيبر .. وقضوا على إفسادهم الأول ، فزال سلطانهم ، ثم أخرج سيدنا عمر – رضي الله عنه – من تبقى منهم في الجزيرة ، حيث أوصى الرسول – عليه الصلاة والسلام – أن لا يبقى في جزيرة العرب دينان .(((( هامش : هذا الحديث رواه البخاري (3168) ومسلم (1637) وليس منسوخاً ، بل هو من الأحاديث المحكمة التي يجب العمل بها . وقد جاءت عدة أحاديث ، تدل على المعنى نفسه :
1 - عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - : ( لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً ) أخرجه مسلم (1767)
2- عن أبي عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه قال : آخرُ ما تكلَّم به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: ( أخرجوا يهودَ أهل الحجاز ، وأهل نجران من جزيرة العرب ، واعلموا أن شرار الناس الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) رواه أحمد (3/221) وصححه ابن عبد البر في "التمهيد"(1/169) ، والألباني في "السلسلة الصحيحة" (1132) . والمراد بجزيرة العرب في هذه الأحاديث : الجزيرة العربية كلها ، التي يحيط بها البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي ، وتنتهي شمالا إلى أطراف الشام والعراق . ))))
.وقد وضحت سورة الحشر ذلك – والقرآن يفسر بعضه بعضا - فقالت : - ( هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبرا يا أولي الأبصار ..)( سورة الحشر / 2 ) .
ثم تحدثت سورة الإسراء عن الإفساد الثاني وعلو اليهود الكبير الذي نعيشه هذه الأيام ، والماثل أمام أعين الناس .. قال تعالى : - ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ) ( سورة الإسراء / 6 ) .. بحيث أصبحت العلاقة بين الوجود الإسرائيلي وقوى الصراع الدولية علاقة جدلية ، غير قابلة للإنفصام ، وهذا هو النفير الذي جعله الله كبيراً في هذه المرحلة لليهود .. فأوروبا الغربية تتحرك داعمة للصهيونية.. بكل قواها المادية والمعنوية ، وأمريكا بكل ما لديها من عتو وقوة مادية وسياسية ، وكذلك الدول الاشتراكية والشيوعية ، كلها تقف معها لتحقق أكبر قدر من تعجيز الانسان العربي المسلم ، وبالتالي إتاحة أكبر قدر من حرية الحركة لإسرائيل ، فإسرائيل كما قضى الله سبحانه في حركة التاريخ ليست مسألة استيطانية فحسب ، بل إنها إفراز وتجسيد لمنهجية عالمية كاملة الأبعاد ، مضادة لمنهجية الحق الإلهي ، إن العالم الصراعي – وفي مقدمته دولة الاحتلال – يزحف نحو العرب والمسلمين بقوة هائلة ، ليدمر كل مقومات الوجود العربي الإسلامي في كل مكان ، الشرق والغرب يتخذان موقفا واحداً رغما عن فوارق الاتجاه في المصلحة وما تعجز عنه إسرائيل تنفذه قوى العالم الصراعي الأخرى .. والأمر يجري على وتيرة واحدة ، وكأنهم تجمعهم ليليا طاولة تنسيق واحدة .. .. ويكفينا تحققا من النوايا الأوروبية - على الرغم مما يشاع عن موقفها الإيجابي أحيانا - ذلك الفشل الذريع الذي انتهت إليه آخر محاولات العرب للتفاهم مع أوروبا ، وأعني بذلك النتائج السلبية للحوار العربي الأوروبي في كوبنهاجن .. وتونس .. وغيرهما ، بل فشلنا في الحصول على تفاهم أدنى لنقل التكنولوجيا .. أما المشاريع التي يبدو أننا نحققها بالتعاون مع أوروبا فهي مجرد صناعات تجميعية .. إن أوروبا الغربية هي البيئة الحاضنة لدولة الاحتلال ومؤخرتها .. وستظل كذلك .. رغما عن كل واضعي السياسات الخارجية العربية ومستشاريهم من ذوي الأدمغة الفارغة إلا من قصاصات : النيوز ويك ، ودير اشبيغل ، والتايمز ، هذا إذا كانوا يقرأون … أما الموقف الأمريكي فهو امتداد للموقف الأوروبي الغربي ، ولا ترجع المسألة – كما يفترض الكثيرون – إلى قوة اللوبي اليهودي في دوائر الحياة المالية والسياسية الأمريكية فقط .. وإنما يرجع إلى أن أمريكا نفسها هي زعيمة مطلقة للقيم التي تجسدها دولة الاحتلال .. فواشنطن هي القطب الأساس الدولي لمنهجية الصراع العالمي .. و دولة الاحتلال هي في الإطار – الشرق أوسطي – امتداد حقيقي لمنهجية الصراع العالمي الأمريكية .. وليست اسرائيل مجرد حاملة طائرات غير قابلة للغرق ..
ففي حرب 1948م التي انتهت باغتصاب معظم فلسطين ، كشف الأرشيف الصهيوني عن أمور في غاية الأهمية والإيحاء ، منها : أن الولايات المتحدة ومختلف دول الغرب كانت وراء توريد متطوعين أجانب للقتال في جيش الكيان لاغتصاب فلسطين، أطلقوا عليهم اسم [ الماخال ] ، وكانت الأنظمة العربية تدفع باليهود العرب وتسهل هجرتهم إلى فلسطين...كقوة احتياط للعدو اليهودي ؟! فالماخال هم المتطوعون من غير اليهود...الذين قاتلوا إلى جانب اليهود في حرب 1948م ضد العرب: ” كان هناك حوالي 1,000 من الولايات المتحدة، مع 250 آخرين من كندا، و 800 متطوع من جنوب إفريقيا، و 600 من بريطانيا، و 250 من شمال إفريقيا، و250 من أميركا اللاتينية، وهناك آخرين من بلجيكا وفرنسا. وكان هناك أيضاً عدداً متفرقاً من استراليا، والكنجو البلجيكية، وروديسيا، وفنلندا، وروسيا... أتوا من 37 دولة مختلفة لدعم الدولة اليهودية الجديدة في أقصى ساعات حاجتها لهم..إلى جانب 3500 متطوعين من 29 دولة مما وراء البحار.
كما أنه بين 1947 و 1948 كان هناك 3600 متطوع من المحترفين تدفقوا إلى فلسطين المحتلة وقاتلوا إلى جانب عصابات اليهود : البالماخ والهجناة، وبعد إعلان قيام الدولة عام 1948م انخرطوا في جيش الدفاع الإسرائيلي”...والدرس المستفاد من هذا ان اصطفافاً رسميا عالمياً كان وراء هذا الكيان وهو موجده !.
” والحقيقة أن أول آمري سلاح البحرية، واول فنيي الرادار، وأول طبجيي( قادة ) المدفعية الثقيلة، وأول قادة الدبابات، وأول قادة القوات البرية ، وأول طيارين مقاتلين وقاذفين، وأول جراحي العيون المصابة والإصابات الأخرى ، كانوا من متطوعي الماخال. إن المتطوعين هم الذين قادوا سفن “القادمين رقم ب” التي جلبت 31,000 من الناجين من المحرقة- حسب زعمهم - إلى فلسطين الواقعة تحت الانتداب ، على مرأى من المحتل البريطاني . كما أن قرابة نصف الأميركيين والكندينن خدموا في سلاح الجو” ....وبعد أن خدموا الدولة اللقيطة في وقت حاجتها لهم، فإن بعض المتطوعين عادوا إلى بلادهم الأم، إلا أن غالبيتهم بقوا أو عادوا بعد وقت قصير من مغادرتهم ليجعلوا من الكيان الغاصب موطنهم، وهذا بحد ذاته من العلو الكبير الذي أشارت له أوائل سورة الإسراء ...وأولادهم وأحفادهم يخدمون الآن في جيش الاحتلال … كما ذكر الاستاذ الكبير عادل سمارة في مقال له(((( د. عادل سمارة، مجلة كنعان، العدد 152 كانون ثاني 2013))),

. وكما ذكر الصحفي الهندي ) كارانجيا) في كتابه ( خنجر إسرائل ) ..
إن العلاقة بين الوجود الاسرائيلي وقوى الصراع الدولية علاقة جدلية ، غير قابلة للانفصام، وهذا هو النفير الذي جعله الله كبيرا في هذه المرحلة لليهود .. ولن يطرأ أي تحول على هذا الموقف العالمي الذي سيظل يمد اسرائيل بالمعونات الفلكية الأرقام .. وبمجانية التكنولوجيا .. والعقول المهاجرة .. إلى أن يفيق المسلمون ؟! إنهم يقاتلوننا كافة ..وبوعي... لتحطيم كل مقومات الوجود العربي المسلم .. وكل يؤدي دوره ضمن حجمه وإمكاناته ..مع تبادل الأدوار وتنسيقها بشكل تظهر معه كل إبداعات الحضارة الأوروبية الأمريكية .. وكل مقومات الخبث اليهودي ..لكي لا تتكرر ظاهرة انبعاث الاسلام من جديد ،فهم لا يريدون أن تتكرر حملة ( طريف) على الأندلس عام ( 710 للهجرة ) وفتحها عام ( 711) على يد ( طارق بن زياد ) بعد أن استقر الاسلام في القيروان عام ( 670 ) و.. و…وسيثبت لليهود الذين عادوا من أعماق التاريخ ، ويزعمون أن الله قد وعدهم بالعودة إلى فلسطين ؟؟!!
والواقع : أنه قد جاء بهم إلى قبر كبير .. حسب منطوق ومفهوم الآيات التي تخبرنا بأن الله سيجعل لليهود الكرة عليهم .. أي : على أبناء الذين جاسوا الديار أول مرة . ..
والكَرَّة : الدولة والسلطان .. وحين أراد الله لليهود أن يكروا على المسلمين استعمل حرف العطف ( ثم ) .. وهو يقتضي ثلاثة أمور : التشريك في الحكم ، أو الترتيب ، أو التراخي والمهلة .. ونقول : هل كر اليهود على البابليين أو الرومان ..؟ وهل كان لليهود سلطان عليهم ..؟ لم يحدث ذلك في التاريخ .. إذن لا بد أن تكون الكرة على أبناء الذين جاسوا خلال الديار أول مرة وهم العرب المسلمون .. فقد كر اليهود على فلسطين .. قبلة المسلمين الأولى .. وانظروا إلى بقية الآيات حيث تمضي في وصف الواقع الذي يعيشه المسلمون .. ويعيشه اليهود .. إذ بعد أن جعل الله الكرة لليهود على المسلمين يقول سبحانه : - ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا ..) ( سورة الإسراء / 6 )
وهنا نتساءل : هل أمد الله اليهود بأموال وبنين بمثل المرحلة التي نعيشها الآن ..؟ لم نعرف أن ذلك قد حدث .. فالغرب يمدهم بالمال .. والشرق – وغيره - يمدهم بالمهاجرين .. ! والكل رأى وسمع كيف تحرك العالم واستنكر عندما أسر أبناء حماس أحد جنود العدو المسخ ( جلعاد شاليط ) ... بينما لم يرف لهم جفن لآلاف الأسرى من الشباب والأطفال والبنات والنساء من الفلسطينيين في سجون الاحتلال ولا لمقتل شعب لا يملك ما يدافع به عن نفسه سوى الحجر ..وتشريده في المنافي والمخيمات بعيدا عن موطنه ، فهذا هو العلو الذي جعله الله كبيراً في هذه المرحلة ..
أما الإفساد الثاني : فها هم اليهود في كيانهم يرتكبون أفظع الجرائم .. ولم يرحموا طفلاً صغيراً ، ولا شيخاً كبيراً ، ولا امرأة ، فقتلوا الأبرياء ، وانتهكوا الحرمات ، في قبية ، والسموع ، وصبرا وشاتيلا ، وبحر البقر ، وكل مكان طالته أيديهم ، ودنسوا المقدسات وهنا تأتي البشارة من الله سبحانه بأن الله سيعاقبهم على ما اقترفوا من الإثم والجرائم .. فتقول الآيات بأن كيانهم لن يستمر ، ولن يستمر إفسادهم ولا علوهم ..
يقول سبحانه :- (فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا ..) ( سورة الإسراء / 7 ) …. والمسلمون دخلوا المسجد الأقصى مرتين : مرة في زمن الخليفة الراشد عمر – رضي الله عنه – ( 15 للهجرة- 638 م) حيث استسلمت فيها المدينة له بعد أن طهر المسلمون ما حول المسجد والمدينة من جيوب المقاومة ، والمرة الثانية في زمن القائد المظفر : صلاح الدين .. والذي وصفه يوسف زيدان المسخ المخمور ( بأنه أحقر شخصية في التاريخ ؟!) ( الذي دخل القدس في يوم الجمعة 12/10/ 1187م الموافق للسابع والعشرين من رجب 583 للهجرة ) ، وستسلم القدس نفسها هذه المرة من جديد كما سلمت مفاتيحها لابن الخطاب – رضي الله عنه – بعد تتبير وتفتيت ما حولها .. ولذلك نلاحظ أن الله سبحانه حين أخبر عن زوال وتتبير وتدمير الكيان اليهودي ، استعمل حرف العطف ( الفاء ) الذي من معانيه التعقيب ، ولم يستعمل حرف العطف ( ثم ) الذي يفيد المهلة والتراخي .. وتعقيب كل شيئ بحسبه ، وبما يناسبه ، وهو يدل على السرعة المناسبة في حصول المقصود ..وليس المقصود من قوله تعالى ( وعد الآخرة ) يوم القيامة ، إنما المقصود – والله أعلم – هو : ذهاب عُلُوِّهم وإفسادهم الأخير من ديار المسلمين ..
وإذا ربطنا الآيات – التي ذكرناها - من سورة الإسراء بالأحاديث الكثيرة التي تخبرنا عن مقاتلة المسلمين لليهود ، كقول الرسول -صلى الله عليه وسلم -: ( لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين ، لعدوهم قاهرين ، إلا ما أصابهم من لأوائه ، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك ، قالوا يا رسول الله : وأين هم ..؟ قال : ببيت المقدس .. وأكناف بيت المقدس ..) ((((مسند الإمام أحمد: : ج5 : ص269 ، البخاري (3640)، ومسلم (1921) ))) أيقنا لماذا لم ولن تنجح كل المحاولات لتثبيت أقدام الكيان اليهودي في قلب العالم الإسلامي .. وقبلتهم الأولى .. وسينقلب السحر على الساحر .. بفضل من الله ، وبمعاونة من اليهود أنفسهم .. حيث سيرفضون كل ما يُعرض عليهم .. حتى يأتي يومهم الموعود ، وقدرهم المرصود .. فالعد التنازلي قد بدأ .. وسيزول كيانهم بآثامه وشروره إلى مزابل التارخ ..كما زالت من قبلهم كيانات التتار والصليبيين .. ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) ( يوسف : 21 ) ونقول لليهود ولمسانديهم : - إن نظرة عجلى لتماوجات الشعوب والحضارات وتداخلها في هذا الممر الآسيوي الإفريقي ، توضح لنا أنه ما من قوة كانت قادرة على الاستمرار والبقاء في هذه المنطقة الحيوية من العالم .. فنفقة الحياة في هذه المنطقة صعبة ، وهي أكبر مما تطيقه القوى والحضارات والأمم .. اللهم إلا الحضارة العربية الإسلامية ، فلم تبق فقط على سطح الحضارات التقليدية .. بل عَرَّبته .. وظل القرآن محفوظا وباسطا سيطرته على أهم رقعة للاتصال العالمي الحضاري والجغرافي السياسي ..
وإنني لعلى يقين بأن زوال هذا الكيان بات قريبا ، رغم كل المؤشرات التي تنبئ بعكس ذلك .. فهذا الكيان الظالم لن يعيش طويلا برغم عمليات الإنعاش التي تفتقت عنها أذهان حماته .. والتي مدت في عمر هذا الكيان اللئيم .. وسيفيق العرب والمسلمون على التحديات المتربصة بهم وبمصالحهم ، والتي تخطط لمصادرة مصيرهم .. وإخراجهم من حركة التاريخ .. وسيجتازون مرحلة التواصي بالحق إلى مرحلة العمل الصالح .. بتنسيق الجهود المتباعدة .. والخروج على العالم باستراتيجية عربية إسلامية .. تكون الجذع المشترك الذي ستتحطم عليه المخططات اليهودية كما تحطم أسلافهم من قبل .. من تتار وصليبيين .. ( ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا ..) ( الاسراء:51)
وبعد : فقد مرت أمتنا بحالات مشابهة للحالة التي تمر بها أمتنا الآن .. فعرفت كيف تجتث الداء وتبقى سليمة معافاة .. فعندما اجتاح التتار العالم الإسلامي ..ووضعوا في رقاب المسلمين السيف .. إلى أن تمكن الوهن في قلوبهم .. حتى أصبحوا لا يصدقون بهزيمة التتار قال ابن الأثير في تاريخه الكامل : -[[ ( إنه سمع من بعض الأكابر – وما أكثرهم في زماننا – أنه قال : من حدثك أن التتار ينهزمون فلا تصدقه …!! إلى أن يقول ابن الأثير : ووقع رعبهم في قلوب الناس ، حتى كاد أحدهم ( أي التتار ) إذا لقي جماعة قتلهم واحدا واحدا وهم دَهِشُون ..! ودخل رجل منهم دَرْباً فيه مئة رجل ..فما زال يقتلهم واحدا تلو الآخر حتى أفناهم .. ولم يمدد أحد يده إليه بسوء ..؟! ثم قال ابن الأثير : - لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحوادث استعظاما لها .. كارها لذكرها .. فأنا أقدم إليه رجلا وأؤخر أخرى ..فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك ..؟ فيا ليت أمي لم تلدني .. ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ..! ) ومع ذلك لم يتبه المسلمون .. ولم يفيقوا من غفلتهم .. ولم يغيروا ما بأنفسهم حتى يغير الله ما بهم .. فحق عليهم قول ربهم :- ( ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ..) ( المؤمنون : 76) واستمروا على ما هم فيه من غفلة ولهو وظلم .. قال ابن الأثير : ( فما نرى في أمراء المسلمين من له رغبة في الجهاد – وكأنه يقصد ولاة أمور المسلمين هذه الأيام – بل كل منهم مقبل على لهوه .. ولعبه .. وظلم رعيته .. وهذا أخوف عندي من العدو .. قال تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة …)( الأنفال : 25) ]] …. ولكن المسلمين عندما أفاقوا من غفلتهم .. وأصلحوا شأنهم .. وأعدوا للنصر عدته .. هزموا التتار الذين لم يكونوا في ظنهم يعرفون الهزيمة ، هزمهم المسلمون في عدة مواقع ، كانت خاتمتها في موقعة ( عين جالوت ) على مقربة من ( حطين ) التي هزم المسلمون فيها الصليبيين وكلا الموقعين على مقربة من مدينة ( بيسان ) المحتلة …….ووصف الحافظ السيوطي موقعة ( عين جالوت ) في كتابه ( تاريخ الخلفاء ) بقوله : - ( فهزم التتار .. وانتصر المسلمون ولله الحمد .. وقتل من التتار مقتلة عظيمة .. وولوا الأدبار .. وطمع الناس فيهم .. يخطفونهم وينهبونهم …) وبكل يقين وتأكيد لن يكون مصير الغزو اليهودي التتري بأفضل من مصير أسلافهم .. وصدق الله العظيم حيث يقول : - ( قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين . هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين . ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين . إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين . وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين . أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ) ( آل عمران / 137-142) .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف