الأخبار
بايدن ونتنياهو يجريان أول اتصال هاتفي منذ أكثر من شهرإعلام إسرائيلي: خلافات بين الحكومة والجيش حول صلاحيات وفد التفاوضالاحتلال يفرج عن الصحفي إسماعيل الغول بعد ساعات من اعتقاله داخل مستشفى الشفاءالاحتلال يغتال مدير عمليات الشرطة بغزة خلال اقتحام مستشفى الشفاءاشتية: لا نقبل أي وجود أجنبي بغزة.. ونحذر من مخاطر الممر المائيالقسام: نخوض اشتباكات ضارية بمحيط مستشفى الشفاءالإعلامي الحكومي يدين الانتهاكات الصارخة التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق الطواقم الصحفيةمسؤول الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي"إسرائيل حولت غزة لمقبرة مفتوحة"تقرير أممي يتوقع تفشي مجاعة في غزةحماس: حرب الإبادة الجماعية بغزة لن تصنع لنتنياهو وجيشه النازي صورة انتصارفلاديمير بوتين رئيساً لروسيا لدورة رئاسية جديدةما مصير النازحين الذين حاصرهم الاحتلال بمدرستين قرب مستشفى الشفاء؟جيش الاحتلال يعلن عن مقتل جندي في اشتباكات مسلحة بمحيط مستشفى الشفاءتناول الشاي في رمضان.. فوائد ومضار وفئات ممنوعة من تناولهالصحة: الاحتلال ارتكب 8 مجازر راح ضحيتها 81 شهيداً
2024/3/19
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

حوار مع الروائى أحمد صبرى أبو الفتوح

حوار مع الروائى أحمد صبرى أبو الفتوح
تاريخ النشر : 2020-03-30
حوار مع الروائى أحمد صبرى أبو الفتوح

تاريخ كفاح المصريين كمتتالية روائية واحدة
__حاوره: سمير الأمير

____________________

هو أحد أبناء جيل " السبعينيات"، هذا الجيل الذى شهد تراجيديا صعود الأحلام الوطنية الكبرى وسقوطها المدوى بعد هزيمة 1967 وكان أيضا من أبرز شباب الحركة الوطنية المصرية الذين ارتبطوا بثورة يوليو ارتباطا واختيارا إنسانيا وجماليا متحررا من الضرورة كونه أحد أبناء العائلات الكبرى بريف الدقهلية وهى عائلة احتل أبناؤها المتعلمون وظائف هامة فى دواوين الحكومة فى العهد الملكى وفى عهد الثورة على السواء ولذا لم يجد "أحمد صبرى أبو الفتوح" فى حركة يوليو نقيضا لكفاح الوفد من أجل الاستقلال والتحرر، بل استكمالا لما عجز الوفد والحركة الوطنية فى الأربعينيات عن تحقيقه وهذا المفهوم ساعده كثيرا كمبدع وكروائي على تشكيل رؤية متفردة ترى نضال المصريين من أجل التحرر والتقدم كمتتالية روائية واحدة ومتصلة، وتقيم علاقة عضوية بين هذا التاريخ العام وبين النصوص الروائية التى يبدعها ليكتب تاريخا لمصائر وأحداث بعينها كانت تجرى تحت سطح الأحداث الكبرى التى ينشغل بها المؤرخون، ومرجع ذلك أنه كمبدع روائى يرى فى تلك المصائر والأحداث وسيلة أعمق لرصد سلوكيات الأفراد وتطور أو تراجع وعيهم تحت تأثير المجريات العامة التى أثرت على شكل وجودهم ومحاولاتهم الدائمة للتحقق على هذه الأرض التى تحتضن نهر النيل الخالد
فى مطلع الثمانينيات قدم " أبو الفتوح" استقالته من النيابة العامة بعد أن كان قد وصل إلى منصب " رئيس نيابة" مدفوعا بالرغبة فى مباشرة مشروعه الروائى "الضخم"، وربما يذكرنا ذلك " باستقالة توفيق الحكيم" من منصبه كوكيل للنائب العام، غير أن الأمر يختلف باعتبار الحكيم كان متورطا فى الكتابة قبل منصبه القضائى أساسا فقد كان قد بدأ مشروعه فى الكتابة الإبداعية قبل هذا المنصب بعشر سنوات على أقل تقدير، أما " أبو الفتوح" فلم تنهمر كتاباته إلا بعد استقالته من القضاء، فكتب رواية “طائر الشوك"، ثم المجموعة القصصية "وفاة المعلم حنا"، ثم رواية " جمهورية الأرضين " وبعدها تفرغ لكتابة ملحمته الروائية " السراسوة" وبعد أن انتهى من جزئها الرابع داهمته أحداث ثورة يناير فكتب رواية " أجندة سيد الأهل" وبعدها عاد لاستكمال " السراسوة"، ثم أخيرا جاءت رواية " برسكال"
لقد كان من حسن حظى أن قرأت مجمل أعماله، ولفت نظرى هذا الإنجاز الضخم فى فترة قصيرة فدارت بيننا حوارات كثيرة، كان دافعى فى معظمها الرغبة فى تلمس الملامح العامة لإبداعه والوقوف على منابع رؤيته وهذا واحد من تلك الحوارات وليس آخرها بالتأكيد.
........................................................................

- *-كيف واجهت ككاتب ينتمي لانحيازات اجتماعية وسياسية واضحة ومحب لثورة يوليو وللزعيم جمال عبد الناصر بعض النقاد الذين رأوا أن رصدك لعصر يوليو كان مشوبا برغبتك في تبرئة التجربة ومسامحة أخطائها؟

= لو وجه هذا السؤال إلى نجيب محفوظ وصلته بثورة 1919 وانتصافه تاريخيا للوفد لضحك ضحكته المنطلقة الشهيرة، لا أحد يكتب كتابة جيدة وهو مجرد مانفيستو، الكتابة الجيدة هى التى تكون مهمومة بالناس، بالإنسان، بالإنسانية، وانتمائى لثورة يوليو يعرفه الكافة، ولى أصدقاء كثر من خصومها، وأنا لم أرصد عصر يوليو إلا فى نهاية الرواية الرابعة فى ملحمة السراسوة “شياطين. . .ملائكة" وفى الرواية الخامسة التى شملت فترة الردة الساداتية التى قادت إلى كل ما نحن فيه، وكذلك رصدته فى روايتى الأخيرة "برسكال" عندما غيرت الشونة التى أنشأتها الحكومة وجه الحياة فى قرية مصرية صغيرة، ولهذا أجد أن رصدى لها لم يكن مشوبا بالرغبة فى تبرئتها أو مسامحة أخطائها، فثورة يوليو هى إحدى المحطات الكبرى فى تاريخ مصر والمنطقة والعالم الثالث، وهى إحدى المقاربات الهامة مع الاشتراكية وواحدة من أهم التجارب العربية عبر التاريخ الحديث، سواء كان رصدى مشوبا بالرغبة أو غير مشوب بها، فليدعوا الرغبات جانبا ويتحدثون عن الكتابة.

* تنوعت لديك أساليب السرد فى الأعمال المختلفة وداخل العمل الواحد ففى حين يمككنا الوقوف على مناطق بالغة الرهافة والشعرية فى طائر الشوك ورصد بالغ النعومة لعلاقة الحب، نجد تناولا يخفى سخرية جادة فى " جمهورية الأرضين"، بينما تتوحد كل الأساليب لتنتج عملا متجانسا شديد التماسك ومعبرا عن المروى وغير المروى، بل وتحضر فيه أزمنة لا يتناولها العمل بشكل مباشر وكأنك عثرت على لحظة زمنية مفصلية أدت إليها أزمنة وأحداث حاضرة وماضية، هل يمكننا القول أنك تفعل ذلك بوعى ذهنى وبقرار مسبق أم أن الأمر متروك لتداعيات الخلق والإبداع وبتلقائية تعبر عن إجهاد العقل الواعى وترك الأحداث تعبر عن نفسها؟

= هذا يقودنا بالأساس إلى معضلة الكتابة، أنت تبدأ بحكاية صغيرة، مثلا تعجبك صورة رئيس يقود انقلابا على أسرته، حكاية صغيرة فيها مفارقة مضحكة، فالذى ينقلب هو الرئيس، ومن ينقلب عليهم هم أفراد أسرته، إن كتابة رواية تتمدد فى جنباتها هذه الحكاية تجعلك طوال الوقت ميالا للسخرية، فإذا مضيت فى طريقك ستجد أنك ترصد شخصا يختلف عمن تعرفهم، تربى على التجسس والرغبة فى الصعود عبر أكثر السلوكيات خسة، وعبر روح ميتة لا يعيش فيها إلا الرغبة فى البقاء فوق العرش إلى ما لا نهاية، هى إذن السخرية الجادة التى تحدثت أنت عنها، هذا عن "جمهورية الأرضين"، أما طائر الشوك فحكاية أخرى، كان لدى صديق فى منظمة الشباب، وقابلت مصادفة بعد أكثر من عشرين عاما وعرفت أنه يمتلك تجارة كبيرة لمواد البقالة بالجملة، وكان الزمن غير الزمن، فلما تذكرنا ما كان وجدته لم يعد ذلك التاجر الذى يستبق الوقت ليلحق بربحه، بل إن عينيه اغرورقتا، أعجبتنى هذه الحكاية الصغيرة، ورأيتها بعين وجدانية وروحية، بالأحرى بعين شاعرية، وطالما هناك شعر هناك الحب، والحب أيضا رأيته بعين وجدانية وروحية، بعين شاعرية، إنها تلك الحكاية الصغيرة التى تنظر إلى الماضى بعينين ضارعتين وقلب معمور، وملحمة السراسوة لم تكن لتكتب إلا بتلك الطريقة، التراتبية التاريخية والكلاسيكية العظيمة، مطعمة بألعاب صغيرة ومرحة، كأن يظهر الكاتب فى بعض المواضع ليصير الراوى العليم المجهول معروفا، إذ لم تكن هنا حكاية صغيرة، بل جيوش من الحكايات كتبت فى هذه الملحمة النذر اليسير منها، أخدتها عبر سياق أحداث التاريخ، لأنها فى الأساس حكايات عن هذا التاريخ فى صورته الاجتماعية، وهى لهذا كتبت على نحو ما رأيت، كنت طوال الوقت حريصا على ألا تتكرر الشخصيات، سواء فى سماتها أو فى قضيتها وصراعها مع الحياة ومع الآخرين، وكنت أكتب وإلى جوارى أكثر من مائتى كتاب أرجع إليها، نعم، بلا مبالغة، مائتا كتاب، وفى "أجندة سيد الأهل" الحكاية بدأت بتلك الليلة التى كاد فيها واحد من البلطجية أن يقتلنى، رفع السنجة عاليا ثم نظر فى عينى، ولم ينزلها، وأفقت فلم أجده، من هذا، إنه حكاية صغيرة، واحد من أرباب السوابق الذين أعرف بعضهم بطبيعة عملى كمحام، فى الحقيقة كان البلطجية أحد أضلاع مثمن الثورة فى 25 يناير، لهذا كتبت الرواية وأنا مملوء بالرغبة فى إلقاء الضوء على هؤلاء، كمنتج اجتماعى لنظام الحكم الذى ثرنا عليه، وكنت متأثرا ببؤساء هوجو، فخرجت الرواية على نحو ما قرأت، وأخيرا فى "برسكال" فالحكاية كانت أسهل، ماذا لو أراد كاتب أن يكتب حكاية طفلة كانت تعمل عربجية مع أبيها فكانت تملأ أركان القرية صخبا وعراكا وهى يتيمة الأم وأبوها مزواج، حكاية صغيرة من الحياة، فغرستها فى تربة الوطن الذى حكمته الملكات وبعد آلاف السنين صارت وجوههن عورة، الوطن الذى نهض لحظة ثم عاد إلى التقهقر، أن تشق طريقك عبر كل تلك الهزائم وتبقى معجزة، أسطورة، لهذا صار عبد العاطى ملش أسطورة، وكذلك برسكال ابنته، التى نصبته ساكنا لمقصورته الشريفة داخل مقامه فوق تلك الربوة، الوعى فى الحقيقة هو فى عثورك على تلك الحكاية الصغيرة، ونظرتك لها، وإحساسك بها، وما أن تؤمن بها كقلب لرواية مكتوبة حتى تكون قد اخترت طريقك فى السرد، هنا يتحقق الأمران، الوعى وتداعيات الخلق والإبداع.

جاوب هنا.. *-في السراسوة رصدت كيف تحافظ البرجوازية الريفية علي قيمها..كيف تعيد إنتاج نفسها مرة اخري دون أن تستجيب لشروط الانتهاك والاستلاب..وفي برسكال رأينا كيف ينتقل البسطاء من هامش الحياة في القرية إلي متنها..قبلهما كانت طائر الشوك أيضا..وجاءت أجندة سيد الأهل لتبحث فيما وراء ظاهرة 25 يناير محللة أسباب ما آلت إليه حياة المصريين...متي تنتهي من المشروع الروائي للبحث عن جذور العائلات ومصائرها ومتي تبدأ الرواية الأخري التي ربما تكون متأثرة أكثر بعملك في السلك القضائي الذي جعل معظم حياتك الفعلية في المدينة ؟

= لكل كاتب عالمه الروائى، لا يوجد استثناء، من هذا العالم يخلق الكاتب رواياته، لم يطالب أحد خيرى شلبى بالكتابة خارج عالمه الروائى، ومن قبله محفوظ، ومحمد عبد الحليم عبد الله، إنه مخزن الكاتب هذا العالم الروائى المليء بالجواهر، خارجه يكون كالسمكة خارج الماء، إنه يستطيع أن يتعمق فى أية شخصية ويضعها فى مآزق حقيقية ويخوض معه صراعات كتلك التى نراها فى الحياة، مهما بلغت غرابتها، وأنا أكتب من عالمى الروائى، ولا أرصد التحولات والقيم الزائلة والسائدة إلا فى شخوص وبيئة وأفكار هذا العالم، وبطبيعة نشأتى كواحد من أبناء البرجوازية الريفية انتمى إلى تجربة يوليو عشت هذا العالم وأعرف شخوصه وقضاياه وقيمه وأحلامه، ولما عشت فى المدينة أضعاف ما عشت فى الريف رأيت المدينة على حقيقتها، صخب وزحام وأحلام صغيرة مجهضة، شوارع طويلة وحارات وأزقة ضيقة وحياة سريعة بالنسبة لمن يعيشون فى الريف، لقد رأيت المدينة التى لم يرها أبناؤها، رأيتها خليط من الناس جاءوا من كل مكان، إن لم يكن هم فآباؤهم وأجدادهم، إذ كانت العائلات الكبيرة غير حريصة على الإقامة فى المدينة إلى آخر المدى، سرعان ما يسافرون إلى الخارج أو إلى العاصمة، وتبقى أخلاط القادمين من خارج المدينة ومعظمهم من الريف لتجرى عملية ترييف للمدينة على حساب قيمها الجمالية و(الوعيوية) إن جاز التعبير والكوزموبوليتانية أيضا، وهذا فى مخزون عالمى الروائى، وكذلك تلك الخبرات الطويلة عما وراء ظاهرة الإجرام وقصور العدالة وتضخم آلة الدولة، وقد كتبت من كل هذا، من المدينة كتبت أجندة سيد الأهل وجمهورية الأرضين، ومن الريف كتبت طائر الشوك والسراسوة، وإن احتوتا على مشاهد فى المدينة، وكذلك برسكال، وفى وفاة المعلم حنا نشرت قصصا من الريف وأخرى من المدينة، المدينة التى كنت أزورها وأنا طفل ليوم أو لأيام معدودة، والتى عشت فيها محدودا فى علاقاتى الاجتماعية كأثر من آثار منصبى كوكيل أول لنيابتها الكلية، ثم رئيسا لها، وللحقيقة دعنى أعترف لك أنه بعض محفوظ ويحيى حقى وفتحى غانم وخيرى شلبى فقدت الرواية المصرية بوصلتها، كانت تعثر عليها أحيانا مع صبرى موسى ويحيى الطاهر عبد الله وابراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم وإدريس على ومحمد المنسى قنديل وإبراهيم عبد المجيد، الذين قدموا نماذج بشرية روائية لا تنسى، ولكن ذلك كان فى وجود مرجعية كبيرة كمحفوظ وكخيرى شلبى، مرجعية تمسك بعناق الرواية المصرية ولا تفلته، الآن لم يعد هناك سوى صنع الله إبراهيم، آخر مرجعية معتمدة من عموم الروائيين، لهذا لا يجب أن تختفى الرواية المصرية المؤسسة، التى تحرث أرضا لم يسبق للمحراث أن فجرها، الرواية التى تتحدث عن مكونات هذا الشعب العظيم الصابر المطحون، الذى رضع مع لبن الأم حبا لبلده وارتباطا وصبرا وانطبع فى جيناته كل مفردات الحضارة، الرواية المؤسسة هى البديل الآن عن المرجعية الروائية الكبيرة.

* هل نتوقع أن تكون رواية " برسكال" بداية لمشروع روائى يسعى لاستكناه مصائر الفقراء والمهمشين فى الريف المصرى أم أنها استثناء يؤكد قاعدة مشروع البحث فى جذور ومصائر البرجوازية الريفية ممثلة فى العائلات الكبرى المشهورة، أسألك طبعا لمعرفتى أنك كاتب تنتمى لليسار المصرى بالمعنى العام وأنك لابد قد اطلعت على كتاب انجلز أصل العائلة والملكية الخاصة؟
= أنظر يا صديقى، أنا أحب الحكى، وأزعم أننى أجيده، وتتلمذت فى بداية وعيى على كتاب أنجلز، أحيانا أحكى كما أتمنى أن أكتب، وأنا لا أعرف إن كان عيبا او ميزة أن يكون هؤلاء الذين أكتبهم من شخوص عالمى الروائى، وانتمائى لليسار شرفنى بميزة الوعى الإنسانى بالضعف البشرى، الإنسان فى فقره ومرضه وموته، فى أحلامه وواقعه، فى أعدائه وأصدقائه، ومع الأغيار، مع العولمة وآلة الرأسمالية الجبارة وخبرات البرجوازية الكبيرة والمثيرة للغضب، ومع التكنولوجيا وعصر الإنترنت الذى أصاب الخصوصية بجرح بالغ الأذى، الإنسان المكرم المسلوب الكرامة، الإنسان الذى يسحقه الفقر وتحوله البيئة إلى مجرم، وهذا لا يتعارض مع كونى من أنصار استمرار وجود الرواية المؤسسة، التأريخ الأدبى الاجتماعى، التى تضبط إيقاع الرواية وتجعل الاقتتال جريا وراء الجوائز والترجمات والذكر الرخيص هدفا ثانويا.

*-في الجزء الرابع من ملحمة السراسوة سنشهد نشأة الكيانات العائلية الصغيرة..مع تطور هام في وعي السراسوة الذي شكل خروجهم الأول بعد قتلهم' قفل" محاولة لإنقاذ عائلتهم ثم إعادة تكونها كبرجوازية ريفية عبر صراعها مع مخاوف الكشف عن أصلها ومع البدو المحيطين بكيان استقرارهم في منطقة السنبلاوين المتاخمة للشرقية حيث نقترب من صحراء الصالحية ويكثر وجود البدو..سنلحظ أن وعيا جديدا نشأ متوازيا مع تناقص الوعي بالعائلة كهدف وجودي يشكل جوهر الإحساس بالانتماء..تمثل هذا الوعي الجديد في مشاركتهم في معركة الاستقلال الوطني التي قادها سعد باشا في ثورة 19 وتحول بيت سليمان إلي دار يلتقي فيه الباحثون عن استقلال وآمان عائلة اكبر من كل عائلات السرسي وصقر والشاذلي والأمير وأباظة وغيرها من العائلات المصرية،
هل ترى أن الثورة ورجالها تجاهلوا كفاح الوفد ورجاله؟

= أنا وفدى قبل أن أكون ناصريا، فأنا ابن أسرة ريفية وفدية، وأبى كان وفديا، ولم تنطل عليه وهو شاب خدعة الأخوان المسلمين، ومن لا يعرف نضال الوفد تنقصه الكثير من المعلومات عن تشكيل ومسار الوطنية المصرية، بل وهويتها العربية، وأنا كناصرى نشأ فى أسرة وفدية أدرك تماما أن ثورة يوليو لم تشوه تاريخ الوفد، لأنه ببساطة حلقة كبيرة من حلقات تاريخ الوطنية المصرية، لقد درسنا ونحن فى الابتدائى فى نهاية خمسينيات وبداية ستينيات القرن الماضى ثورة 19، وحفظنا صورة سعد زغلول باشا فى كتاب الوزارة، ودرسنا مؤامرات القصر ودار المندوب السامى البريطانى ضد الوفد، ودرسنا حادث 4 فبراير، ودرسنا إلغاء معاهدة 1936، الثورة لم تشوه تاريخ الوفد، كما لم تشوه تاريخ أسرة محمد على، فكتب وزارة الثورة هى التى حببتنا فى إبراهيم باشا ابن محمد على باشا مؤسس الأسرة العلوية وبطولاته فى الحرب، وهى التى علمتنا محبة الجيش المصرى ودوره فى تاريخ مصر الحديثة، إذن أنا لم أر يوما أننى مطالب بالتذكير بنضال الوفد، لقد كان النضال قائما ببساطة وكتبت قبسا منه، وهذا أيضا فى إطار الرواية المؤسسة، الرواية التى تعيد البوصلة للرواية المصرية، ليس فى بنائها أو طرائق سردها، فكل هذه مجرد قوالب، ولكن فى إحاطتها بالجوانب التى لم يطرقها من قبل أحد، أو بتسليط المزيد من الضوء عليها، والرغبة الملحة فى معرفة خبايا النفس البشرية وعلاقتها بالمجتمع فى مكان بعينه وزمان بعينه فى ربوع هذا الوطن، أو حتى فى صحاريه وجباله.

*-في روايتك الأخيرة "برسكال"بدا أن لديك يقينا بانتصار الثقافة الشعبية علي الرياح القادمة من الصحراء والتي كادت أن تخفي معالم هذا التراث الشعبي بحيله وألاعيبه و تصوفه بمعناه الاحتفالي والعقائدي..هل يمكن اعتبار ذلك مجرد رغبة شكلتها الأفكار الذهنية للروائي وان المعطيات الواقعية والدعم المالي والرعاية الأمريكية لتجريد مصر من ملامحها ودورها هم في واقع الأمر قد جعلوا المقاومة في أقصي درجات ضعفها..بمعني آخر أننا لم نعد نري الأمر علي حقيقته جيدا؟
= يا عزيزى إنها ليست مجرد ثقافة شعبية، لدينا فى اللاوعى المصرى حكايات تكفى عشر ديانات، عن الصدق وعن الأمانة وعن الشجاعة وعن الجشع وعن الكياسة وعن الخصوصية وعن الدعاء وعن الشكوى وعن الصلاة وحياة المعابد، وعن العدالة، بالأخص عدالة الحساب بعد الموت، ولدينا فى اللاوعى المصرى يقين بأنه لا أحد يصل إلى نهاية المشوار إلا الواصلون، المؤيدون لشرف نفوسهم، هؤلاء هم الأولياء، والتبرك بهم ليس بدعة، لأنهم لا يعبدون، وإنما يقول المصرى: عدنى يارب واحدا من أتباع أحبائك، لم تستطع المسيحية أن تغير كثيرا من وجدان الشعب المصرى وطبيعة علاقته بالدين، ليس كحاكم قابض على السيف، ولكن كنبراس، تحت ضوئه تجرى مصالحات كثيرة، مع تصاريف الحياة ومع الظواهر الغريبة ومع مصائر الأرواح التى تصطف إلى ما لا نهاية لتوزن أعمالها، ولم يستطع الإسلام أيضا أن يمحو من قلوب المصريين وأرواحهم ذلك التراث الفريد، وصبغت الروح المصرية المتسامحة فى الأصل وغير الاستعمارية هذه الأديان بصبغتها، فما جدوى ما يفعلون، فى الريف ستظل المرأة إلى ما شاء الله عنصرا من عناصر العمل لا يمكن الاستغناء عنه، وسيخرجن فى غبش البحر إلى الغيطان وينتظمن فى صفوف وهن يغنين ويتمازحن ويتشاحن، لا يمنع من ذلك نقاب أو حجاب، مهما فعلوا لن يغيروا أى شىء، وسيظل المصرى يصف زوجته بجماعته، وسيظل يعرف لها قدرها ودورها مهما تعالت صرخات إدانتها واحتقارها واعتبارها مجرد وعاء تتلقى فيه ماء زوجها.
*-في رواية "برسكال"أيضا لا تخطئ العين انحيازات سردية لشخصية " عبد العاطي ملش" يتم تصدير هذه الانحيازات للقارئ باعتبارها مسلمات لا تسمح للقارئ بالحكم سلبيا علي الشخصية. طبعا من المفهوم أن الصانع لا يكره صنعته. ..ويبحث دائما عن مبررات خارج الشخصية لتكون مبررا لأفعالها لتصبح تلك الأفعال استجابة لمثيرات موضوعية..بينما يري البعض أن ما انبنت عليه تلك الأفعال هي بواعث لا تجعل من مقاومته أو استجابته نقاط مفصلية في وعي القارئ يمكن أن تفيده إذا ما رغب أيضا في الانتقال من هامش المقهورين إلي متن القابضين علي اللجام الضاربين بالكرباج؟
= الأمور لدى عبد العاطى ملش ليست كما تقول، الأمور تتعلق بأسطورة اسمه عبد العاطى ملش، لديه من قوة الروح ما يجعله يجعل من مشوار قصير بحكم المكان والزمان بداية الخلق أو الانبعاث، وهذه هى الأسطورة، لم يكن جسده هو من يحب النساء، كانت روحه، ولم تكن يده القابضة على اللجام والضاربة بالكرباج، كانت رايته، إن كانت تلك هى مسلمة كما تقول فاعذرنى، فأنا أكتب عن أسطورة، فى زمانها كان هناك ملايين مثله، وآلاف فعلوا ما فعل، ولكن لم تكن لهم ابنة كبرسكال، وهذا هو جمال ما رأيت فى تلكما الشخصيتين النادرتين، الأسطوريتين، الناضحتين بماء الأبدية، المنبثتين فى كل الربوع ولا نراهم، كن صاحب روح كروح عبد العاطى، وحيلة ونباهة كحيلة ونباهة برسكال، وصبر كصبر أيوب، وإخلاص كإخلاص إيزيس فتنتقل إلى متن القابضين على اللجام الضاربين بالكرباج، وساعتها ستعرف كم هى جميلة وساحرة وعذبة ومقاومة هذه الروح المصرية.
* هل تشعر بالزهو حين يذكرون اسمك مقرونا " بصاحب السراسوة" أم أنك تريد أن تتجاوز " ملحمة السراسوة" إبداعا واقترانا بها؟
= طبعا أشعر بالزهو، ولم لا؟ فهيمنجواى كان يشعر بالزهو لأنه صاحب العجوز والبحر، ومو يان كاتب الصين العظيم يشعر بالزهو لأنه صاحب الذرة الرفيعة الحمراء، وهكذا، وهذا لا يقلل من قيمة الأعمال الأخرى، والاقتران بالسراسوة هو حكم القراء والنقاد، وهذا جيد، فالسراسوة بالفعل وحتى الآن هى أكبر إنجاز حققته وأهم وأحب أعمالى إلى نفسى، وإلى أن أكتب عملا آخر فى أهميته سأظل أزهو باقترانى بها، فقط سأقول ساعتها، وصاحب كذا أيضا، أرجو أن أكون قد رسمت على وجهك ابتسامة.
* ماهو تقيمك للمشهد الروائي المصري الآن وهل تري أن روائيين عرب من المشرق أو المغرب قد أنجزوا أكثر في غياب الدور المصري الرائد لاسيما منذ منتصف السبعينيات

= لا يزال المشهد الروائى المصرى هو أهم مشهد فى المحيط العربى، صحيح أنهم فى الجزائر قدموا واسينى الأعرج وفى المغرب قدموا محمد برادة وفى ليبيا قدموا إبراهيم الكونى وفى السودان قدموا الطيب صالح، وكذلك فى المشرق العربى قدموا فى العراق وسوريا والجزيرة العربية كتابا مهمين كعبد الرحمن منيف وغالب هلسا وأميل حبيبى وغيرهم، إلا أن المشهد المصرى هو المشهد الأهم بامتياز، إنك إذا دخلت مقهى واحد من مقاهى وسط البلد فى القاهرة ستجد على الأقل عددا من الروائيين يفوق أعداهم مثلا فى أى مدينة عربية، حتى مع ضعف المشهد الروائى المصرى، ولكن الحديث عن ضعف المشهد الروائى سيقود بالضرورة إلى الحديث عن ضعف المشهد النقدى الأدبى، الذى يقود المشهد الروائى لمزيد من الانحدار أو التبعثر عبر تطبيقات مجرمة لم تكن تعرفها مصر حتى عهد السادات، عندما قاد المشهد النقدى نقاد بلا ضمير دمروا قيمة النقد وجعلوه لمن يطلب، أو لمن يخوفهم، لم يسيروا على درب أسلافهم العظام طه حسين وأنور المعداوى ولويس عوض، إلى أن وصلنا إلى الجوائز الممنوحة سلفا وإلى تربيطات جوائز الدولة وإفساد كل المعانى، وعندما شاخوا واقتربوا من مغادرة المشهد كانوا قد سيطروا على المشهد الثقافى كله، فصار النقد سكك وحوارات وشلل وتبادل منافع إلا من رحم ربى، إن النقد الأدبى الجاد ليس تابعا للأدب، هو فى أحد معانيه متابع، وفى المعنى الأكبر أحد البوصلات الهادية إلى الاتجاه الصحيح، والاتجاه الصحيح هو الاقتراب من الإنسان فى أزمته المستحكمة المعاصرة، حيث يصطلى العالم كله بنار الرأسمالية المتوحشة.
***
خاتمة
ربما وجد البعض هذا الحوار طويلا مقارنة بالحوارات التى يجريها الصحفيون المحترفون مع المبدعين ولكنى أقرر أن هذا الحوار كان فقط غيض من فيض من حواراتى مع الكاتب أحمد صبرى التى لم أدونها، فقد كانت تمتد لساعات طويلة ممتعة باعتبارها مادة طبيعية لصديقين منشغلين بالكتابة وإن كنت أكتب شعرا ويكتب سردا، لكن يجمعنا الانشغال أكثر بمحبة أهالينا فى كل ربوع المحروسة، واشتملت هذه الحوارات على رؤى وأراء " أبو الفتوح" لأعمال الروائيين الكبار فى مصر والعالم بأسره وتقيمه لأعمالهم ولأهميتهم، فضلا عن حوارات أخرى حول روايات يتمنى أن يكتبها وحكايات كثيرة عن تاريخ القرى والعائلات فى مصر، مما جعلنى على قناعة أيضا أن كل ما كتبه ليس سوى قمة جبل الجليد الرابض تحت مياه محيط شاسع ومعرفة ممتدة، أتمنى أن يسعنى الوقت لاكتشاف مناطق أخرى منها فى قابل الأيام، فهى رحلة داخل وجدان وعقل حكاء مصرى كبير جديرة ببذل الجهد والعناء.
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف