
مفردات الألم في لغة الآي آي ليوسف إدريس
د. أحمد جبر
اللغة مادة الأدب، فلا أدب بدون لغة، ولا أدب بدون خيال وانفعال ومشاعر وأحاسيس، فالأدب نص يخرجه الأديب ممزوجا بعد عملية تفاعل في نفسه وقد خلطه وجبله بكل ما سيطر عليه من مشاعر وانفعالات ساعة كتابته، وشحنه بكل ما يلفت الانتباه ويثير المشاعر ويحفز المتلقي على الإقبال عليه ومتابعة تفاصيله ومفرداته الجذابة، لذلك وفي ذلك يتنافس الأدباء في انتخاب الألفاظ التي تؤدي المعاني المطلوبة والتي غالبا ما تكون موضع إثارة وجذب، ولهم في ذلك معاجمهم وأساليبهم وطرائق عرضهم التي تشكل اللغة رسما محدد الأبعاد والأطر، يجن في طياته مسرح خيال الأديب.
وكثيرا ما نسمع عن لغة الإشارة ونسمع عن لغة العيون وعن لغة الجسد، ولكننا لم نسمع عن لغة الآي آي شيئا إلا ما كتبه وأخرجه الأديب الراحل يوسف إدريس في قصته القصيرة التي حملت العنوان ذاته، وهي قصة تمثل ذلك التمازج الجيد بين الأدب كفن وشعور وانفعالات من جهة والطب كعلم قائم على البحث والتجريب والتشخيص، لذلك نقول بان التخصص قد يترك أثرا واضحا في ما يبدعه الأدباء ، وهذا ما حدث مع يوسف إدريس في أكثر من عمل أدبي له.
لغة الآي آي، عنوان لقصة من مجموعة قصصية نسجها الأديب المصري يوسف إدريس، وتدور أحداث هذه القصة حول علاقة أهل القرية بأهل المدينة وبالتحديد مع أهالي القرية الذين سكنوا المدن وأصبح لهم شان كبير، لذلك يعمد أهل القرية المدينة لطلب العون والمساعدة من أهل قريتهم في المدينة في الأمور التي لا يستطيعون إيجاد حل لها، ومن هنا جاءت زيارة وفد من قرية زينين في صعيد مصر لزيارة الحديدي في المدينة مطالبين بمساعدته لهم في علاج فهمي رفيق دربه وفترة تعلمه في القرية قبل أن يسكن المدينة، وقد كان فهمي يعاني من مرض سرطان المثانة الشرس المؤلم وكان مستشفى القرية قد اخبرهم أن فهمي يحتاج إلى أشعة وهذا موجود في " مصر" أي القاهرة، وهناك في مكتبه في القاهرة كان اللقاء بأهل قريته ورفيق صغره ( فهمي ) الذي أصر على أخذه لينام في بيته على الرغم من معرفته المسبقة لرفض زوجته مثل هذا التصرف فهي تعيش عيشة ارستقراطية لها عاداتها وتقاليدها ومجتمعها وسمعتها وسط الأسر المشابهة لها.
وينهج يوسف إدريس في قصته القصيرة هذه إلى عملية انتخاب للأصوات التي تؤدي الغرض المطلوب وقد أجاد ذلك وكيف لا وهو الطبيب المختص الذي عرف الآلام وشخصها ويقدر ما تثيره من آلام وأوجاع وبخاصة إذا كان الألم ناتجا عن سرطان المثانة الذي أصيب به فهمي وهو رفيق مرحلة دراسته في زينين التي ولد فيها ونما وترعرع حتى غادرها إلى المدينة ليصبح رجلا ذا مال وجاه.
يوسف إدريس وهو الأديب الذي جمع بين الطب والأدب، كان لتخصصه الأثر الكبير في كثير من قصصه، كما كان له أطيب الأثر في انتقاء الألفاظ المعبرة الدالة على الحدث وتجسيد ذلك في قالب لغوي مطابق للحال الذي قد يعجز الكلام عن إيجاد التعبير الخاص به أو المكافئ له، ويبدو أن أديبنا قد وضع مقصده وهدفه وفكرته الكلية في العنوان الذي حمل ألفاظا جديدة على معجم المفردات العربية، حيث جعل للألم لغة خاصة مساوية له ومعبرة عن أدق تفاصيله ودرجاته، ذلك الألم الذي عادة ما يتفجر في ساعات الليل حيث تبدأ قطرات البول في التسرب إلى الخلايا السرطانية محدثة حريقا ولهيبا لا يمكن لإنسان أن يتحمله أو يتصوره، وهو المرض الذي جعل من فهمي كخرقة مهلهلة فيها عينان غائرتان وعظام بارزة في كل مكان من جسده، فقد أتى المرض على جسمه ليجعل منه شبحا وخيالا وظلا باهتا لا حيز له، وكان الحديدي قد هيأ المطبخ لينام فيه فهمي.
الصرخة الأولى: يقول يوسف إدريس مشخصا تلك الصرخة تشخيص الطبيب والأديب بأنها لم تكن بالضبط صرخة ولكنها كانت الأولى بعد منتصف الليل بقليل، تصاعدت غير آدمية بالمرة حتى الحيوان ممكن إدراك كنه صوته ولكنها بدت كصليل عظام تتكسر وتتهشم تمسكها يدا عملاق خرافي القوة والنية صارمة لا رحمة فيها تدشدشها" وقد كان ذلك فجأة وفي منزل هادئ مظلم فاخر الإظلام في حي مترف وقد تصاعد ذلك الشيء الغريب الغامض الأول مفاجئا وكالطعنة الملتاثة حافلا بانين التمزق وكأنه صادر عن حنجرة تتمزق أحبالها الصوتية لتصدر الصوت ويكاد يمزق طبلة أي أذن يقع عليها وقد مر الصوت مفاجئا غير مألوف وفي هذه اللحظ ماءت زوجته مواء طال بعض الشيء ولم تستيقظ الأمر الذي أراح الحديدي الذي كان يخشى هذه اللحظات والمواقف. وقد مرت الصرخة دون تحديد مكان انطلاقها.
أما الصرخة الثانية: فقد كانت كطوفان هادر ورعد تنفثه السماء في ماسورة مكتومة ما لبثت أن فتحت وسلكت في استغاثة راعدة مولولة ممدودة يخاف صاحبها أن ينهيها وكأنما الموت عند نهايتها وكانت مزعجة ولكنه المرة عرف مصدر الصوت ليحدد مكان انطلاقتها الكائن في مطبخ بيته إضافة إلى استيقاظ زوجته ومعرفتها بما فعل وهنا يدور حوار بين الزوج وزوجته حول الأمر
في حين كانت الصرخة الثالثة: كصفير انطلق معذبا متألما متظلما باكيا غاضبا كافرا مستغيثا بائسا مؤلما زاهدا ... آي ، آي ، آي ، آي، طويلة وقصيرة ممدودة ومبتورة عالية بكل قواه يرفعها منخفضة بجماع إرادته يخسفها مجروحة دامية لاسعة كالنار كاوية كصبغة اليود في الحلق حارقة كآثار الحامض المركز وتتالى الصرخات أي أي أي أي ي ي ي يا يا ياي وووووووووو يييييييه واج الواج الواج الواج، وتتالى الصرخات تباعا، محدثة في ذلك المنزل الانيق دويا يخيم بحزنه وقوته عليه متسببا في كثير من الخصومات واللوم والعتب والفزع في أهل البيت الذين اعتادوا حياة مترفة.
إن الآي ليست من لغة الحياة، بل هي من لغة الأعماق الأكثر تعبيرا عن الألم في هذه القصة وهي التعبير الصادق المتناغم مع الحالة المرضية والألم الناتج عنها وكان يوسف إدريس يهيئ لكل صرخة جوها المناسب فيصف المكان وصفا دقيقا وكأنه يشخص حالة مرضية، انه صوت الألم النابع من الأعماق والصرخات التي يتمنى صاحبها استمرارها من اجل تحمل الألم وان كبتها فان أزيزا وزمجرة وعاصفة ستهب منطلقة من حنجرته مقاومة للألم.
د. أحمد جبر
اللغة مادة الأدب، فلا أدب بدون لغة، ولا أدب بدون خيال وانفعال ومشاعر وأحاسيس، فالأدب نص يخرجه الأديب ممزوجا بعد عملية تفاعل في نفسه وقد خلطه وجبله بكل ما سيطر عليه من مشاعر وانفعالات ساعة كتابته، وشحنه بكل ما يلفت الانتباه ويثير المشاعر ويحفز المتلقي على الإقبال عليه ومتابعة تفاصيله ومفرداته الجذابة، لذلك وفي ذلك يتنافس الأدباء في انتخاب الألفاظ التي تؤدي المعاني المطلوبة والتي غالبا ما تكون موضع إثارة وجذب، ولهم في ذلك معاجمهم وأساليبهم وطرائق عرضهم التي تشكل اللغة رسما محدد الأبعاد والأطر، يجن في طياته مسرح خيال الأديب.
وكثيرا ما نسمع عن لغة الإشارة ونسمع عن لغة العيون وعن لغة الجسد، ولكننا لم نسمع عن لغة الآي آي شيئا إلا ما كتبه وأخرجه الأديب الراحل يوسف إدريس في قصته القصيرة التي حملت العنوان ذاته، وهي قصة تمثل ذلك التمازج الجيد بين الأدب كفن وشعور وانفعالات من جهة والطب كعلم قائم على البحث والتجريب والتشخيص، لذلك نقول بان التخصص قد يترك أثرا واضحا في ما يبدعه الأدباء ، وهذا ما حدث مع يوسف إدريس في أكثر من عمل أدبي له.
لغة الآي آي، عنوان لقصة من مجموعة قصصية نسجها الأديب المصري يوسف إدريس، وتدور أحداث هذه القصة حول علاقة أهل القرية بأهل المدينة وبالتحديد مع أهالي القرية الذين سكنوا المدن وأصبح لهم شان كبير، لذلك يعمد أهل القرية المدينة لطلب العون والمساعدة من أهل قريتهم في المدينة في الأمور التي لا يستطيعون إيجاد حل لها، ومن هنا جاءت زيارة وفد من قرية زينين في صعيد مصر لزيارة الحديدي في المدينة مطالبين بمساعدته لهم في علاج فهمي رفيق دربه وفترة تعلمه في القرية قبل أن يسكن المدينة، وقد كان فهمي يعاني من مرض سرطان المثانة الشرس المؤلم وكان مستشفى القرية قد اخبرهم أن فهمي يحتاج إلى أشعة وهذا موجود في " مصر" أي القاهرة، وهناك في مكتبه في القاهرة كان اللقاء بأهل قريته ورفيق صغره ( فهمي ) الذي أصر على أخذه لينام في بيته على الرغم من معرفته المسبقة لرفض زوجته مثل هذا التصرف فهي تعيش عيشة ارستقراطية لها عاداتها وتقاليدها ومجتمعها وسمعتها وسط الأسر المشابهة لها.
وينهج يوسف إدريس في قصته القصيرة هذه إلى عملية انتخاب للأصوات التي تؤدي الغرض المطلوب وقد أجاد ذلك وكيف لا وهو الطبيب المختص الذي عرف الآلام وشخصها ويقدر ما تثيره من آلام وأوجاع وبخاصة إذا كان الألم ناتجا عن سرطان المثانة الذي أصيب به فهمي وهو رفيق مرحلة دراسته في زينين التي ولد فيها ونما وترعرع حتى غادرها إلى المدينة ليصبح رجلا ذا مال وجاه.
يوسف إدريس وهو الأديب الذي جمع بين الطب والأدب، كان لتخصصه الأثر الكبير في كثير من قصصه، كما كان له أطيب الأثر في انتقاء الألفاظ المعبرة الدالة على الحدث وتجسيد ذلك في قالب لغوي مطابق للحال الذي قد يعجز الكلام عن إيجاد التعبير الخاص به أو المكافئ له، ويبدو أن أديبنا قد وضع مقصده وهدفه وفكرته الكلية في العنوان الذي حمل ألفاظا جديدة على معجم المفردات العربية، حيث جعل للألم لغة خاصة مساوية له ومعبرة عن أدق تفاصيله ودرجاته، ذلك الألم الذي عادة ما يتفجر في ساعات الليل حيث تبدأ قطرات البول في التسرب إلى الخلايا السرطانية محدثة حريقا ولهيبا لا يمكن لإنسان أن يتحمله أو يتصوره، وهو المرض الذي جعل من فهمي كخرقة مهلهلة فيها عينان غائرتان وعظام بارزة في كل مكان من جسده، فقد أتى المرض على جسمه ليجعل منه شبحا وخيالا وظلا باهتا لا حيز له، وكان الحديدي قد هيأ المطبخ لينام فيه فهمي.
الصرخة الأولى: يقول يوسف إدريس مشخصا تلك الصرخة تشخيص الطبيب والأديب بأنها لم تكن بالضبط صرخة ولكنها كانت الأولى بعد منتصف الليل بقليل، تصاعدت غير آدمية بالمرة حتى الحيوان ممكن إدراك كنه صوته ولكنها بدت كصليل عظام تتكسر وتتهشم تمسكها يدا عملاق خرافي القوة والنية صارمة لا رحمة فيها تدشدشها" وقد كان ذلك فجأة وفي منزل هادئ مظلم فاخر الإظلام في حي مترف وقد تصاعد ذلك الشيء الغريب الغامض الأول مفاجئا وكالطعنة الملتاثة حافلا بانين التمزق وكأنه صادر عن حنجرة تتمزق أحبالها الصوتية لتصدر الصوت ويكاد يمزق طبلة أي أذن يقع عليها وقد مر الصوت مفاجئا غير مألوف وفي هذه اللحظ ماءت زوجته مواء طال بعض الشيء ولم تستيقظ الأمر الذي أراح الحديدي الذي كان يخشى هذه اللحظات والمواقف. وقد مرت الصرخة دون تحديد مكان انطلاقها.
أما الصرخة الثانية: فقد كانت كطوفان هادر ورعد تنفثه السماء في ماسورة مكتومة ما لبثت أن فتحت وسلكت في استغاثة راعدة مولولة ممدودة يخاف صاحبها أن ينهيها وكأنما الموت عند نهايتها وكانت مزعجة ولكنه المرة عرف مصدر الصوت ليحدد مكان انطلاقتها الكائن في مطبخ بيته إضافة إلى استيقاظ زوجته ومعرفتها بما فعل وهنا يدور حوار بين الزوج وزوجته حول الأمر
في حين كانت الصرخة الثالثة: كصفير انطلق معذبا متألما متظلما باكيا غاضبا كافرا مستغيثا بائسا مؤلما زاهدا ... آي ، آي ، آي ، آي، طويلة وقصيرة ممدودة ومبتورة عالية بكل قواه يرفعها منخفضة بجماع إرادته يخسفها مجروحة دامية لاسعة كالنار كاوية كصبغة اليود في الحلق حارقة كآثار الحامض المركز وتتالى الصرخات أي أي أي أي ي ي ي يا يا ياي وووووووووو يييييييه واج الواج الواج الواج، وتتالى الصرخات تباعا، محدثة في ذلك المنزل الانيق دويا يخيم بحزنه وقوته عليه متسببا في كثير من الخصومات واللوم والعتب والفزع في أهل البيت الذين اعتادوا حياة مترفة.
إن الآي ليست من لغة الحياة، بل هي من لغة الأعماق الأكثر تعبيرا عن الألم في هذه القصة وهي التعبير الصادق المتناغم مع الحالة المرضية والألم الناتج عنها وكان يوسف إدريس يهيئ لكل صرخة جوها المناسب فيصف المكان وصفا دقيقا وكأنه يشخص حالة مرضية، انه صوت الألم النابع من الأعماق والصرخات التي يتمنى صاحبها استمرارها من اجل تحمل الألم وان كبتها فان أزيزا وزمجرة وعاصفة ستهب منطلقة من حنجرته مقاومة للألم.