الأخبار
2025/7/5
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

ايثار وبطولة بقلم: حسين حمّاد

تاريخ النشر : 2020-03-14
ايثار وبطولة بقلم: حسين حمّاد
ايثار وبطولة
قصة: حسين حمّاد
نهض بعد أسقطته سرعته، استجمع قواه، وعاد بشجاعة وبطولة لأمتار قليلة، ليوجه ضربة من غضب لجندي أمسك بصديقه الذي آثر نفسه على أن يمسك به، فأرداه أرضاً بمساعدة صديقه الذي كان على الأرض، وأمسكا بأيدي بعضهما وانطلقا مبتعدين، تراقصا وسط الرصاصات التي أطلقها تجاههم جنود الاحتلال، حتى لاح لهما الأمان..
في يوم مشرق من أيام المواجهة على تلة الزيتون في تل الزعتر بمخيم جباليا إبّان انتفاضة الحجارة، تمركز منتصر وصديقه عبد الله من مجموعة من المنتفضين" شباباً ويافعين" على التلة، بعد أن إغلاق الطريق الواصل بين طريق صلاح الدين شرقاً ومفترق المسلخ ومدخل بيت لاهيا غرباً، بينما أخذ الكشّافة مواقعهم شرقي وغربي التلة لمراقبة الاتجاهين ورصد جيبات الاحتلال..
مرح المنتفضون أعلى التلة، غنى وموّل بعضهم بينما لعب البعض الآخر "لعبة الإدريس" فيما ركض الصغار منهم خلف بعضهم البعض كانت أجواء عائلية رائعة في مهمة نضالية واجبة؛ ووسط هذا الهدوء الذي اكتنف المكان مختلطاً بأصوات زقزقة العصافير، صرخ محمّد من الشرق: دورية جايّة يا شباب..
كان بمثابة جرس الإنذار، استعد الجميع وأمسكوا بحجارتهم ومصدر إلهامهم، كمنوا ثم توقفوا منتصبين كالمَرَدة ومن ثمّ أمطروا جيبين عسكريين كانا يسيران على الشارع؛ بوابل من حجارتهم، توقف الجيبان، ثم تراجعا هرباً من الحجارة الساقطة عليها كالصواعق، ثم توقفا بعيداً إلى الشرق، ترجل الجنود منهما وأخذوا يطلقون النار، وهو المشهد الذي انتظره المنتفضون لكي يُلهب حماسهم، استخدموا المقلاع والزجاجات الحارقة لقذف الجنود والوصول إلى مكانهم البعيد، بل دفعت الحماسة بعضهم للنزول من التلة إلى بيارة مسعود التحتانية (أسفل التلة من الشرق) لمفاجئة الجنود، وأمام هذا الموج الهادر من العنفوان الثوري، انسحبت الجيبات للخلف أكثر، ولكنهم كانوا يمكرون..
هلل المنتفضون انتصاراً، وتوعّدوا الجنود الذين نظروا إليهم بعين الهزيمة، ليباغت الجميع صوت مخنوق لأحد الرفاق من الغرب: الجيش يا شباب..
فوجئ الشبّان واليافعين بجنود الاحتلال يحيطون بهم من الاتجاهين الغربي والجنوبي، كان بعضهم من أفراد الجيش باللباس الكاكي، والبعض الآخر مدنيين يحملون أسلحة خفيفة (عوزي)، دبّت المكان حالة من الفوضى، وأطلق الجنود النار في كل الاتجاهات، شعر المنتفضون بالأعيرة تضرب أوراق أشجار الزيتون، فتوزعوا يميناً ويساراً، وكلّ منهم اتخذ قراره.
منتصر وعبد الله قررا الاتجاه جنوباً واختراق وسط الجنود الذين تفرقوا ملاحقين الجمع المُتشتت..
ركضا بكل سرعة وبطريقة متعرجة، قفزا وارتميا أرضاً، تعدّا أمتاراً بين أشجار الزيتون حتى لاحت لهما أشجار البرتقال ايذاناً بوصولهما لمرحلة أقل خطراً نحو بيارة الحمضيات إلى الجنوب، وصلها منتصر أولاً مع أنّ عبد الله كان اسرع منه!! بحث عن صديقه بطرف عينه فلم يجده!!
نظر منتصر خلفه خلسةً فشاهد صديقه عبد الله يتوقف ليمنع جندياً من اللحاق به، آثر عبد الله نفسه على صديقه وقرر المواجهة، أمسك الجندي به، عاركه عبد الله ببسالة محاولاً انقاذ صديقه والنجاة. حدث ذلك في ثوانٍ معدودات..
سقط منتصر أرضاً بعد أن حاول إيقاف جسده من فرط السرعة، ثمّ نهض مستجمعاً قواه، وعاد لأمتار قليلة تجاه عبد الله الذي أسقطه الجندي على الأرض، قرر ألّا يترك صديقه وحيداً، عاد بسرعة لكي يوجه ضربة لذلك الجندي، لم يفكر بمصيره حينذاك، فقط كان همّه رد جميل صديقه والنجاة سوية من بين أيدي المحتل، كانت ضربته من غضب، سحقت وجه الجندي، وساعده عبد الله من على الأرض بأن عرقله، فهوى رمز الشر أرضاً. بينما مدّ منتصر يده لصديقه عبد الله في وحدة جسد وروح ووطن.
نهض عبد الله وركضا معاً أيديهما تتشابك وروحيهما تتعانق، تراقصا وسط الرصاصات التي أطلقها تجاههم الجندي وجنود الاحتلال الآخرين، سمعا أزيز الرصاصات وشاهدا الرمال تتناثر من حولهما، التفّا برشاقة حول جذوع أشجار البرتقال وبين الرصاصات، حتى وصلا أقصى جنوب البيارة حيث أشجار الليمون، ثمّ إلى الهوّة الرملية خارج البيارة، وأخيراً إلى مزرعة "دبور" حيث خط نهاية الخطر.
وهناك؛ تركا جسديهما لتعانق الرمل من فرط التعب.. ارتاحا في بيارة "فرح"، بينما سمعا صوت إطلاق النار، الذي استمر، تملّكهما الخوف على بقية الرفاق، في الوقت الذي شعرا فيه بالانتصار، لقد كانت مواجهة شرسة ومطاردة قاتلة، ولكنهما وصلا برّ الأمان، وضرب عبد الله مثالاً للإيثار بينما ضرب منتصر مثالاً للبطولة؛ فكان يوماً لا ينسى..
كان هذا يوماً من أيام الإيثار، كتبه الصديقان منتصر وعبد الله، فكان يوماً مشهوداً من أيام تلة الزيتون، وتلك كانت يوميات انتفاضة الحجارة، حيث ناطحت الكف المخرز، ورسمت البطولة ملامح الوطن. رحل عبد الله شهيداً بعد ذلك بسنوات حاملاً معه ذكريات جميلة وأليمة ما زالت تقصّ وتحكى طالما عاش الشهود، بينما لا زالت الانتفاضة مستمرة. نعم انتهت انتفاضة الحجارة ولكن ما بقي الاحتلال فالانتفاضة مستمرة..
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف