الأخبار
2025/7/5
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

لحضرتك انتماء النبض والأشواق بقلم:فرج الجطيلاوي

تاريخ النشر : 2020-03-12
(1)
يا وجعي من فراقها الطويل !
شكا الأفتقاد إلي الشوق أوجاعه.
كيف حالك يا شوق ؟
أجاب الشوق:
سل القلب الذي أسكنه.
سأل الافتقاد القلب :
كيف تحس بالشوق يا قلب ؟
أجاب القلب المترع بالأشواق: تجرعت حبها مذ كنا صغيرين في فصول و فناءات المدرسة الابتدائية القديمة.
فيا ليتني إلي اليوم لم اكبر ولم تكبر أسوار البعاد ليزداد معها نزف الجرح وحرائق الأشواق ، يأيها التوأمان الوجع والأشواق محبوبتي لاتزال طفلة رائعة الجمال سوداء العينين مكحلولتيهما بالفطرة، مشرقة الوجه كالبدر.
جمعنا فناء المدرسة وهي بهذا الزهو في الصباحات.
فيا شوقي ! يا فناء المدرسة ! يا أختلاج عشقها ! يا سيد الإختلاجات
تعلمنا في المدرسة أبجدية القراءة والكتابة، وفي البدء ما تيسر من الافتقاد.
أول إحساس بها كان الافتقاد إليها، أرتبك وأنا ألقي إليها بتحية الصباح، تتسلل إلي أعماقي نبرة صوتها الطفولي الحنون الدافئ ، كما يسلك الماء طريقه في جذور نبتة عطشى، امتطى الاشتياق بعد حين صهوة قلبي، ابحث عن ابتسامة تبلل ظمأ القلب ، قلب مشتاق إلى الظمأ،لا يكتمل إحساسه بالارتواء مهما أنغمر في الينابيع.
أدمن قلبي أشواقها، لا تسعني الدنيا حين تكون مني قريبة ، اقسم أنني ولدت يومئذ، انتظر بزوغ شمس صباح كل يوم لأركض نحو المدرسة الغالية.
شعرت أن حياتي نهر معذب ينتظر هطول أمطار في بقعة بعيدة كي يتدفق، بقعة بعيدة هي جبال شاهقة لاتنقطع عنها ألأمطار في كل الفصول.
يا وجعي ! اعالى الجبال هي ربوع أعماق المحبوبة الصغيرة ، ربوع تكسوها الخضرة دائما، وأنا هذا الطائر الدائم الترحال عبر سماءها.
يقبل نهار كل يوم، تبزغ شمسه، عند مدخل المدرسة، انتقل ببصري نحو الطريق الذي تسلكه وهى قادمة صوب المدرسة، أقابلها في الممرات، يهرع قلبي الي تحيتها:
"صباح الخير".
يتدفق الدم في عروقي، يلهج النبض بهذا الصباح والخير، يبتهج الفؤاد بطلتها الجميلة:
"زيدني عشقا زيدني يا أحلي إشراقات عشقي الطفو لي"
ينهمك كل منا في يوم درسي، يغمرني الافتقاد وتحلق في سماء خيالي الأشواق، عندما يحب طفل طفلة يكون الشوق هو الجواد الذي يركض باحثا عنهما تلك كانت حياة اثنين أنا وهي طالبان في الشهادة الابتدائية، تنمو العلاقة كما تنمو شجيرة صغيرة، شجيرة تكبر بجوار فسائل النخيل في أعماق الأرض، تحيا عواطفي وتزدهر في كل موسم .
في الربيع يفوح عبير الزهور يعبق الحب الطفولي قلبين طاهرين.
فيا ليتهما لم يكبرا! يا ليتهما بقيا إلي اليوم ولم تكبر مسافات البعاد!.
عندما يبدأ موسم العطلة الصيفية ، يتعلق الأمل، يذرع الشوق الطرقات في انتظار قدوم عام دراسي جديد. (2)
إذا ماشرعت المدرسة ابوابها معلنة قدوم العام الدراسي الجديد، نركضوا كعادتنا ابتهاجا نحو المدرسة، تشرق شموس جديدة، يسور الفرح الدروب ، .يطرب الشوق فينا ويغرد، يتشعلق بخيوط الشمس، يرفض قدوم ليل الشتاء الطويل، فيا ليتها بقيت تلك المواسم تتوالي، يهزنا الشوق تارة ويغمرنا الحنان تارة أخرى.
تنجح الحبيبة الصغيرة في الشهادة الابتدائية، يهرع قلبي المتيم باعثا لها بالتهنئة .
تنقطع الرفقة في زمن المرحلة الإعدادية الغير المختلطة لمدة ثلاث سنوات ، كانت الطرقات والدروب الترابية هي الملتقى، أو عبر إذاعة المدرسة التي كانت هي المنبر أثناء طابور الصباح وتحية الراية، تبث إذاعة المدرسة برامجها ، تنصت ربوع القرية عبر مكبرات الصوت إلى البرنامج الصباحي، تصدح الكلمة والخاطرة في فضاء القرية الوادعة.


(3)
لم تكن المرحلة الإعدادية مختلطة لذلك كان الملاذ الوحيد الذي لجأت إليه هي وصال الدروب فكنت فقط أغتنم فرص رؤيتها في الذهاب والإياب صحبة رفيقاتها، تزهو العينان برؤية الغزالة ليس المهم الظفر بالاصطياد، ألأهم ان تمتد الجسور،تمارس الاعماق نزقها وحبورها، يظل قلبي مبللا بشذى إطلالتها، يقيم مهرجانا احتفاء بكل طلة من هنا وأخري من هناك حتي أعتاد الفؤاد على هذا الوصال العابر عبر الطرقات.
بالرغم من أن هذا الوصال حقق قدرا من سد الافتقاد إلا انه لم يتجاوز النظر عن بعد، لذلك فتش القلب وسط لهفته وأشواقه عن كنية دلال لهذه المعشوقة ، الصبية الممشوقة القد الرهيفة الحس المفعمة با لحيوية كنية الدلال هذه تهدهد النبض والمشاعر فيما الأشواق تلهج بهذا الدلال الذي يدغدغ ويفرك المضغة اللاهثة، يبلل عروقها فتسبح بحمد الله.
يقيم قلبي عالما خياليا، يرسم جغرافيا حالمة، تترنم أشواقي باسمها, كما تدلل الأم طفلتها الرائعة الجمال أو كما تحتضن طفلة عا لمها العامر المزدهر بالألعاب.
"يا قلبي يا سندباد صارت مراكبك الأشواق، أشواق أبحرت في خضم لا متناه ، عوالم يكون فيها الحبيب قريب بعيد".
(4)
تجذرت عشبة الود ، تعبت مراكب الأشواق، الأولي تتمدد جذورها في الاعماق والجسد والثانية لا شواطئ لها، أنقضت غربة السنوات الثلاث هي عمر المرحلة ألإعدادية، عاد زمان الوصل في أول فصل من المرحلة الثانوية،عادت الدراسة المختلطة أو عدنا نحن إليها بعد أن مكثت أحصي ألأيام والليالي، ها نحن نلتقي في الصف الأول من المرحلة الثانوية ، نفس مبنى المدرسة التي أحتضنت ميلاد أول نبض لقلب طفل في مقاعد التعليم ألابتدائي، نفس الفناءات التي شهدت أول تشكل للخارطة الودية، ذات الفناءات ترعى من جديد تحايا الصباح وتكون شاهدا على لهفة الحنين.
انبثقت الأشياء في المكنون بإحساس جديد، تعاظم الافتقاد والشوق واللهفة، أزداد الإصرار علي الانتماء إليها، ألأشياء التي اعتراها الجزع وساورها اليأس، تحركت في الجوانح بين الضلوع.
الطفلة التي ولجت الى خاطري كشعاع الشمس في فصول المدرسة ألابتدائية تعلمت من حضورها وطيفها ووسائل إيضاحها ألف باء الود، تتمدد الآن في شراييني وترسم أفق حياتي على نحو يكسو عظامي ويتدفق بعنف في كياني، لم اعد ابحث عن طلتها عبر الدروب هنا وهناك، يحيط حضورها بكل ما حوالي، انتهي الفطام المؤقت الجبري الذي عاشه الفؤاد اضطراريا، حضورها صار مسيطرا على شؤون ألأعماق كلها وفي برامج إذاعة المدرسة.
(5)
"ياواحة في شقاء حياتي! ياحياتي المكتظة بالأسئلة! صيرتيني طائر الواحات المغرد في الصباحات, طائر طواف يمارس النزق العفوي ويتطلع نحو أمنيات رائعة".
"يا وطني الصغير العامر الذي احتضن طفولتي, حماني من ظلام التشاؤم وحزام التصحر الذي يطوق المدينة الصغيرة".
تكبر الأشياء، عندما تكبر الأشياء المصيرية تحت ظروف استثنائية فإن للقلب تكون وظيفة أخرى غير وظيفة النبض، يصير ممارسا جيدا لحا لة المعاناة.
معاناة تموج بخاطري ود يكون جسرا على امتداد الوطن.
عندما يزعل احدنا من الآخر ونحن نتجاذب أطراف الحديث وسط الزملاء، تتعثر الأشياء الحنونة. ألجأ الي الإبحار في عينها وقد اعتراهما عتاب عذب، أنا تشغلني انتفاضة البوح، وجع اشد مضاضة من" وقع الحسام المهند"، لم يكن ما يربطني بها ثقافة مراهقة، جسور الود هي الرابط الموثوق في ثقافة الوصل بيننا، وهبت من أجلها جهدي واجتهادي، في الشتاء القارص افرك كفي بحثا عن الدفء، وأنا اتجه من بيتنا إلى المدرسة، يغمرني الإحساس بالدفء لمجرد إطلالتها.
تتفجر ينابيع في أعماقي عند سماع حديثها، يتدثر كياني بالحنان واللهفة.
أوجست خيفة من أن يقع قلبي فريسة للقحط والجفاف مثلما هو الحال الذي ألت إليه الواحات إذ غاب عنها المطر، لم يعد يهطل.
الخوف واليباس يحفزاني على أخذ زمام المبادرة ،فلابد من حماية المحبوبة من مواسم الجفاف والجفاء ، ان اجعل الأنهار تتدفق ولا تتوقف، احمي الود من الذبول ليبقى مخضرا مبتهجا تحت الشمس.
قررت تفجير ثورة البوح، ثورة يقودها عقلي ممسكا بزمام عواطفي، تكتسح يباس الجغرافيا. تجعل التاريخ مشرقا، أبتهل إلى الله ان تأتي مواسم الهناء والتألق.
(6)
هذا أنت يا مستقبل تطرق أبوابي يصاحبك رفيقك الحب،تحرضني على البوح "أصدح بالود لعينيها : حذاري أن تعتبر الدراسة حجرة عثرة "،" لا تؤخر إعلان حالة الود التي سكنت كل كيانك صمتا"،تلعثم اللسان في حضرتها، كم مرة وانا ارصف طريق الأمل، محاولا الحديث معها بشكل صريح عن حالة الود، تخذلني الكلمات، يحرن جواد البوح ، يتفصد العرق، تهرب أماني المستقبل، تحاصرني التلميذة النابغة بصمتها، يتمدد الصمت في شراييني وأوردتي، تتسارع دقات الفؤاد.
يا جواد البوح لماذا تخش الصهيل؟ صعبة هي اللحظة التي تحتبس فيها الرؤى!
يفقد الفؤاد صوابه، يفشل في التصريح بمشاعره الصادقة نحو محبو بته، هذه المحبوبة التي بهذا التألق، محبوبة سيطرت منذ البدء على مد اخل ومخارج الاعماق، سيطرت على تاريخ وجغرافية الحاضر والقادم.
أنا كنت حالة خاصة في حضرة هذه المعشوقة الرائعة، فيا ليت شعري! ياليتها بقيت انهار عشقي حبيسة قفصي الصدري ولم تبحر هذا الإبحار اللاعودة،وهذا الترحال في المدى الامنتاهي.
(7)
المدرسة الثانوية التي اجتمعنا في فنائها ودرسنا في فصولها هي الوطن الذي أزدهر فيه هذا الود العفيف، كان هذا الود طفلا صامتا هادئ الطبع دمث الخلق رافضا للابتذال، أرسل اغنيات فيروز المنتقاة عبر إذاعة المدرسة.
من أغنيات السيدة فيروز؛ مراسيل ود" حبيبتك تا نسيت النوم"؛
" يا طيرا طيري يا حمامة جيبيلي من حبي علامة"
ورائعة الراحل فريد ألأطرش" يا حبيبي يا غليين وحشيني يا غيبين ".
أفتش عن نبضي وسط هذا الزخم الهائل من أوجاع البعاد، أشواقي لا ترتوي لمجرد رؤيتها العابرة، يجب أن يتم التلاقي الدائم ، هذه المضغة مصدر العطش لاترعوي،هي من تركض صوب النبع البعيد.
"أيها المدللة أنت نبضي منبع عطائي سبب تفوقي وحضوري ،من أجلك أعطاني الله نعم الحياة, إكراما لودك يلهج القلب".
(8)
امتحانات الشهادة الثانوية علي الأبواب، يزداد حصار الريب وأسوار الصمت يبدأ العد التنازلي للحظة البوح، البوح حالة تفضي إلى أنعتاق ألأشياء الحنونة ،تفجر طاقات الحب، تعتقه من الحبس بين جدران الضلوع، لقد حان موسم حصاد ألأشواق، لم تكن المهمة سهلة وسط أوجاع الأفتقاد والحنين، إعلان ميلاد مستقبل وتشكيل مسار لقضية حب يكلف الكثير، أنا لا أملك سيف عنترة ولا جنون أبن الملوح،أنا طالب على أبواب الشهادة الثانوية تقيدني تقاليد محصنة, السيف والجنون بالنسبة لي هما إيماني بأن الحب قضية مقدسة,مسألة راقية،والبوح سمو بالحب بعيدا عن أقبية المراهقة, بوح فوق ألأرض وتحت الشمس، لقد أعددت خطاب بوح يستند إلى سمو الغاية.
"أيتها الرائعة,ياهذه الصبية النقية التي يعرفك جيدا كل الزملاء والزميلات وكذلك أعضاء هيئة التدريس والخفراء.
أيها الود الحاني، أنت مستقبلي الذي أرنو إليه، حبي لك نهر رهو، يتدفق نحو مصبه بهدوء، بوحي لا يتسلل في الليل، لا يتلفع بالمراوغة، يحدد مساراته نحو مستقبل زاهر فيما لا يغضب ألله".
ما يفصلني عن لحظة البوح هذه فرصة تتاح قبل طابور الصباح أو لقيا سعيدة أثناء ألاستراحة المدرسية، هذا ما حصل بكل بساطه، الأشياء الصغيرة التي يمتلكها المتواضعون هي مفاتيح المقصد، أجندة اللقاء قصائد وكلمات عذبة،ووعد بمستقبل حالم.
اللقاءات التاريخية الفاصلة لا تقتصر على زعماء السياسة فقط، هناك لقاءات يتم فيها تتويج الوجع والأشواق بفوز يرتقي إلى مستوى الأشياء المقدسة.
(9)
تتحقق فرصة اللقاء ، ونصر ألأشياء المقدسة ينجز، فأجمل نبضات الحياة تحدث في رمشة عين.
هنذا أتقدم بخطى واثقة نحو الفصل الدراسي، ايقنت ان المحبوبة تتجه بصحبة إحدى رفيقاتها إليه لتضعا حقيبتي كتبهما في مقعديهما كجزء من الاستعداد لطابور الصباح في يوم ربيعي،خطة الشروع في إعلان البوح نجحت بحمد الله.
دلفت الي الفصل خلفهما، أشارت رفيقتها الي قدومي، لقد صرت في حضرة المحبوبة ،ألتفتت هي الي مبتسمة ،حاولت صديقتها مغادرة المكان كأن ذلك كان من ضمن خطة مرسومة في موعد لم يتم ألاتفاق عليه مسبقا، طلبت منها عدم المغادرة لتحضر احتفالية البوح فيما انطلقت جذلى تحايا الصباح والترحاب :
- صباح الخير
- صباح النور
تلعثمت في البدء الكلمات، سرعان ما تحررت، اشتعلت كل الأشياء بداخلي " الشوق والحب والتجلي ". أستدعيت بوحا من أشعار محمود درويش :
"حبنا ان تضغط الكف علي الكف ونمشي
وإذا جعنا تقاسمنا الرغيف
وفي ليل البرد أحميك برمشي
وبإشعار على الشمس تطوف".
أحسست أنني وولدت من جديد, حبوت، مشيت، ركضت في أن معا، ولى حصار الريب ،تلاشت أسوار الصمت.حمدت الله ، احتضنتني بابتسامتها المشرقة المفعمة بصباح النور، أجدني أقف أمام إنسانة شامخة واثقة، تملكني إحساس بأنني في حضرة وطن رحب متألق الجغرافيا، وطن يتمتع تاريخه بسمعة رائعة ، الاورع من ذلك كله غمرتها هي سعادة رائعة وأنا ألقي إليها بحنين أشواقي كما يلقي المتعب أحماله بعد شقاء مضن، أسمعتها خفقان القلب وهو يموسق ايقاعتة.
تطلعت في عينيها ، ملأ فؤادي نفسه من رؤيتها بوضوح وشفافية ، عشت في خضم نهر سعادتها الهادئ الذي التقي بنهر توقي الطامح.
أمطرتها بوابل مشاعري الناضحة بالود ، العابقة بالصحو،الطافحة بالحنين. طوقت أعماقي بعينيها المزهوتين بنور البوح، هطلت شأيبب السرور، سالت أودية الابتهاج ، تدفق نهران نحو مصب واحد.
اختلج النهر الواحد ،ارتوت الأحاسيس بينابيع البوح , فيما ثغرها يرسل ابتساماتها الرحبة المفعمة بالحياء, تألقت كل ملامحها رافعة رايات الرضا القدسي الخجول، هللت بغبطة لا حدود لها ، وانا أهديها باقة ودي التي سقيتها وترعرعت بداخلي :" لحضرتك أنتماء النبض والأشواق ". فرج الجطيلاوي
يونيو 1979
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف