الأخبار
2025/7/5
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

ليلة موت عبدالقادر بقلم:حسين المناصرة

تاريخ النشر : 2020-03-11
ليلة موت عبدالقادر بقلم:حسين المناصرة
ليلة موت عبدالقادر
قصة قصيرة
حسين المناصرة
من هنا، على هذه المساحة الواسعة الممتدة إلى ما لا نهاية، تطل قرية (الرحمانية) الواقعة على شاطئ البحر الميت جنوبًا. سميت باسمها مشتقًا من الرحمة التي نزلت عليها في ذلك التاريخ الديني القديم، حيث سمح الله تعالى لنبي الله لوط -عليه السلام- أن ينظر إلى مملكته العاصية المدمرة في ذلك المنخفض السحيق، حيث تقبع أخفض منطقة في العالم؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- خسف بأهلها العاصين الأرض، ولم يترك منهم أحدا. كأنّ شيئًا لم يكن قبل هذا!!
على جبل (الياقوت) في (الرحمانية)، التقى نبينا إبراهيم -عليه السلام- بابن أخيه نبينا لوط -عليه السلام-؛ فتيقّنا من قدرة الله -سبحانه وتعالى- على تدمير فاحشة المنكرات لدى أولئك العصاة الهالكين... وما زالت القرية تنظر بقدسية إلى كونها تضم قبر لوط عليه السلام، وآثار قدمي إبراهيم عليه السلام. وأضيف إليهما في العهد الفاطمي قبر بنات الحسن والحسين؛ في مغارة منحوتة بجمالية خاصة، تتوهم النساء غير المنجبات أن إشعال الشمع والصدقات فيها، يسهل أمر حملهن بعد العقم، ثم لم تنجب أية واحدة منهن أبدا...!!
في الوادي المحاذي لجبل (الياقوت)، تتناثر القبور، تظهر فيها بعض العظام بفعل التعرية، هي من بقايا تلك المعركة المشرّفة بين الثوار والانتداب الإنجليزي في ثلاثينيات القرن العشرين، وبعضها قديم جدًا منذ أجدادنا الكنعانيين العرب قبل خمسة آلاف عام. وفي المنطقة أيضًا بقايا حجارة ضخمة لقصر ضخم، أرضيته فسيفسائية واسعة جميلة، لكن الرعاة دمروها وهم يبحثون عن كنوز رومانية مدفونة ، بل كاد الراعي عودة - كما روى - أن يعرف موقع الكنز الأكبر، لكنه خسر الرهان في آخر لحظة، عندما خرجت له الجنية حارسة الكنز الجميلة؛ لتخبره عن مكانه، وكان ينبغي له ألا ينطق بكلمة واحدة، مهما كان تصرفها في مرحلة اختباره؛ إلى أن تعجز عن إغرائه بالكلام والحركات التي تدرب على صدّها، كما تعلمها من خرافات الرواة، ومن ثم تعطيه الكنز، أو هي نفسها تتحول إلى دنانير ذهبية...
بدأت تتعرى من ملابسها، وهو جامد في مكانه فاتحًا عينيه، بلا صوت أو حركة، ثم وصلت إلى خلع القطعة الأخيرة عن جسدها، فخسر كل شيء؛ فاختفت الجنية، بعد أن قال لها: "تستري يا بنت الجان"!! كان دومًا يأكل أصابعه ندمًا... كان عليه أن يبقي عينية مفتوحتين، بحسب شرطها، ولا يتكلم، حتى لو رآها عارية تمامًا، حينئذ يحصل على كنزه الثمين!! لكنه فشل... وقالوا له:" احمد ربك أن عقلك بقي معك، وما طار".
***
في منتصف المنحدر نحو الخسف، ثمة صخرة ضخمة، ناصعة البياض، مختلفة عن كل الصخور من حولها؛ توارث كثيرون حكاية أنها تلك الصخرة السماوية التي أرسلها الله -سبحانه وتعالى- من السماء؛ لتدفن العاصية زوجة النبي لوط عليه السلام، فهي عجوز شمطاء، هلكت مع الهالكين، كما أهلك الله جدتها زوجة نبي الله نوح -عليه السلام- في ذلك الطوفان العظيم.
استولى جيش الاحتلال الصهيوني على معظم جبل (الياقوت) الضخم ووادي (الياقوت)، فبنوا مستوطنة (بيت عقر)، مستوطنة سرطانية خبيثة ضخمة، يسكنها ثلاثة مستوطنين فقط، إضافة إلى ثكنة عسكرية يقيم فيها ما يقارب عشرين مجندًا ومجندة، أهم أعمالهم ممارسة الجنس في بيوت المستوطنة الواسعة. كذلك استولوا على الأراضي من حولها، فصارت كلها منطقة عسكرية؛ ولم يسمحوا لأهل قرية الرحمانية سوى زيارة المبنى المتواضع الذي أقامه المماليك مقامًا للنبي لوط عليه السلام، وفيه بئر عميقة، مخيفة؛ لا يزال الحالمون بالذهب ينظرون إليها على أنها كنز تحرسه الأفاعي الجنية، فلا يجرؤ أحد على النزول إليها خوفًا من سطوة الجان الذين يحرسون كنوزها، وكذلك رهبة من جيش الصهاينة، الذين لم يتركوا شبرا في المنطقة إثر بحثهم الأثري عن أجدادهم، ولا يجدون غير ما يدل على آثار أجدادنا الكنعانيين العرب ؛ فيزعمون أن هذه الآثار لأجدادهم، ومن ذلك ما فعلوه بالحجرين الرخاميين في صخور إحدى المغر؛ خلعوهما، وزوروا الكتابة عليهما، وأعادوهما إلى مكانهما، وجعلوا المكان مزارًا تراثيًا لأجدادهم المزعومين.
***
في تلك الليلة التي مات فيها عبد القادر؛ حدثت أشياء كثيرة جدًا، لم يتنبه لها أهل القرية، إلا بعد أن مات عبد القادر، ومن ثم اعتقدوا أن قريتهم لم يمر عليها في التاريخ أسوأ مما حدث في تلك الليلة:
بعد أذان مغرب تلك الليلة المشؤومة، ولما انفتحت أبواب الجن والشياطين، للخروج من أوكارهم المعتمة، نادى مؤذن المسجد أهل القرية، ليس للصلاة، وإنما إلى التوجه إلى حارة "الدحاشيش" لفك النزاع بين الدحاشيشيين، بسبب الاختلاف بين عائلتي الأخوين دحشوش ودحاش. وسبب النزاع اختفاء دجاجة من بيت دحشوش، وأنها كانت طعامًا لبيت دحاش، الذين بدأت رائحة مرقة لحم الدجاجة تجوب الحارة...وقد امتلأت العيادة بالمصابين، وكذلك مركز الشرطة بالموقوفين.. وصلى الناس صلاة المغرب بعد أذان العشاء.
***
كذلك شاعت حكاية سحمان السرسري بين الناس، فهو لا شك أنه أجمل شباب القرية؛ لكنه لا يمتنع عن ممارسة الحرام؛ حيث أقسم يعقوب الروفي أنه رآه في وادي الرعيان قبيل مغرب تلك الليلة مع امرأة متزوجة، وأقسم بالله أن يخفي اسم المرأة إلى أن يدفن في قبره، لأنها متزوجة، ومنجبة، وبهذا القسم صارت نساء القرية المتزوجات متهمات...!!
ويبدو أن أهل الرحمانية قد ضمروا لسحمان السرسري ما يستحقه، خاصة أن بعضهم يزعم أنه عميل للاحتلال الصهيوني... ومن ليلتها اختفى سحمان من الوجود. يقال أن إحدى الخلايا الثورية اختطفته بعد أن أهدر أقاربه دمه. حققوا معه، فاعترف بتهمة العمالة للصهاينة، فدفن مع الجيف في بئر عربيةكنعانية، وربما من بقايا الاستعمار الروماني لفلسطين، ليس لها قرار!!
***
جاءت أخبار، على لسان محرز المحرز، إلى القرية غير موثقة، تقول: إن بعض البدو تحالفوا مع جيش الاحتلال الصهيوني، واحتلوا أرض القرية المشاع في (سهيلة الراس) المجاورة لمياه البحر الميت مباشرة، وبدأوا يبنون مكان بيوت الشعر بيوتًا من الحجارة؛ وشجعهم جيش الاحتلال الصهيوني على هذه "الحرمنة"؛ حتى يساعدوه في منع تسلل الفدائيين من الأردن إلى فلسطين؛ وقد سلحهم جيش الاحتلال بالأسلحة والرز والسكر لهذه الغاية، ولإثارة الفتنة بين البدو الرحل وأهل القرية.
***
طلّق أبو رحل امرأته التي أنجبت له في عشر سنوات تسع بنات، وفي كل سنة كان ينتظرها أن تنجب له ولدا يحمل اسمه، ويرث ملكه الذي لا يتجاوز خشة بيته، كان مصرًا على أن يسميه فارسًا ؛ فينتهي من (رحل) الذي لزمه بالوراثة، فهو لقب منحه الناس لجده، الذي كان يصنع رحال الجمال بحسب التوصية، وبمقاسات خاصة. لامه الناس على طلاق المسكينة، وطالبوه أن يعيدها إلى بيتها، لتربي بناتها، والله يعطيها العافية على أنها تحملته عشر سنوات، وهو المعروف بشحه، ونتانة ثيابه. لم يقنعه كلام الناس الفاهمين أنّ التقصير منه، فهو المسؤول عن إنجاب الذكور...والله وحده هو المعطي والمانع، ولا أحد سواه !!
***
سقط ابن الحاج علي في بئر الماء، في أثناء سقايته للغنم، والله ستر، فالماء كان شحيحًا... لكن حوضه كسر، ويده اليمنى، والحمد لله أن رأسه وعموده الفقري سالمان، والولد -ما شاء الله- الأول على صفه؛ وهو وحيد والديه، رغم إنجاب العائلة ثلاث بنات.
***
طلّق أبو راشد بالثلاثة، وهو أكثر من يطلق في القرية، أنه شاهد نعمة بنت محنش، تضرب زوجها أبو محسن في حوش بيتهم بالحفاية، وأنه كان يضحك وهو يقول لها: " لا يشوفك أحد من الجيران ويفضحنا"!!، وكان طلاق أبو راشد بالطلقات الثلاث؛ ليؤكد لهم كذب أبو محسن لما "يتمرجل" قدامهم، ويزعم أنه زلمة البيت، والحقيقة أنه النعجة وامرأته الكبش في أمور بيتهم... وندم أبو راشد على أنه طلّق.. ثم طلّق بالثلاث على أن لا يطلق بعد هذا اليوم.. وهنا قال له موسى اللابس: "راحت منك أم راشد، بدها فتوى، وأكيد ما تجوز لك من كثرة طلاقاتك".
***
الختيارة أم حيمد فقدت "عسمليتها" الذهبية التي كانت مهرها يوم أن تزوجها أبو حيمد -رحمه الله، فالكل يعرف أن سقيفتها سهلة لأطماع السرقة، ويبدو أنها كانت مستغرقة في نومها، حتى قطعها أحدهم من رقبتها من غير أن تشعر به. وربما كان السارق امرأة، تعودت على الدخول إليها، وذكر جارتها أسماء كثيرة مشبوهة... وربما تكون جارتها!!
***
تطاول أحمد بن أبو يابوق على جارهم الأستاذ عارف، وشتم أجداده، إن كان صادقًا في اتهامه، حيث اتهمه الأستاذ بالبصبصة على البنات في الحوش من "برندتهم" العالية٠٠٠ ولام الناس أحمد، وطلبوا منه أن يكسر الشر، ويحترم الأكبر منه سنًا، ولا يخرج إلى "البرندة" بتاتًا، فالبيوت لها حرمات، والجار قبل الدار... لكن الأمر في عرف أحمد :طز!! إذا لم تستح فافعل ماشئت"!!
***
بعد منتصف الليل حدث إطلاق نار في حارة (الدبابير) المجاورة لحارتنا، وبعد نصف ساعة من إطلاق النار، حامت الغربان الصهيونية في شوارع القرية، وهي تنعق : "يا أهل القرية ممنوع التجوال من الآن إلى إشعار آخر" ...كانت الجيبات العسكرية الصهيونية الداكنة تسير بسرعة جنونية، وزعيقها متواصل...وقد تسللت أم رباحية من عند ابنتها التي كانت على وشك الولادة تلك الليلة، لكنها لم تلد..!
مرت أم رباحية بجانب بيتنا وهي تولول: "يارب استر يا ستار... استر يا رب". سألتها أمي عن الشارع... فقالت وهي لا تكاد تلتقط أنفاسها:
-جثة ممددة في الشارع...جثة ممددة في الشارع...!!
- جثة مين؟!
- جثة في الشارع ...!!
- جثة مين؟!
- ما بعرييييف... ما بعرف!!
صار كل همنا أن نعرف من هو صاحب الجثة... من المؤكد إنه ليس من حارتنا حارة (البرِكات)؛ لأن الناس الذين في الحارة تفقدوا بعضهم بعضًا .. فلم يغب منهم أحد.. وصار الكل يقول: الصباح رباح!! خاصة أنّ التجوال ممنوع...!
لم ينم أهل الحارة، وهم ينتظرون الصباح...!!
منذ أن بدأ نور الشمس في الانتشار... تغير النداء من ممنوع التجوال... إلى : "كل الرجال الذين معهم هويات يتوجهون إلى مدرسة الأولاد"...يصرخ بها الجنود الصهاينة في الجيبات المنتشرة في الأحياء... بل إنهم أجبروا المؤذن على أن يؤذن ، فكان أذانه:
الله أكبر على الظالمين
الله أكبر على كل أفاق أثيم...
يا جماعة الخير ... إلى مدرسة الأولاد... كل من معاه هوية!!
الله أكبر عليهم
الله أكبر الله أكبر.
أعاد الأذان عدة مرات!!
كانت هذه المرة الأولى التي أتوجه فيها مع الرجال إلى المدرسة، فقد غدا عمري ستة عشر عامًا، وصار عندي هوية منذ أسبوعين فقط... كنت فخورا بأنني رجل... خرجت قبل أبي، الذي سمعته يكيل الشتائم للكلاب الصهاينة على هذا اللعب بأعصاب الناس؛ فالعادة يأخذون الرجال إلى الملعب المدرسي الواسع، ويجلسونهم من الصباح الباكر حتى المساء بدون طعام أو ماء؛ إلا ما يتسلل به بعض البائعين من البيوت المجاورة للملعب، ويجبرون أحياناً على الوقوف، ووضع الأيدي على الرؤوس!!!
***
اختلف الناس حول تفسير وجود جثة عبد القادر في قريتنا، بعد معرفة أنه من قرية (سعسوعة) المجاورة لقريتنا، وكثيرون أكدوا أنه قد حمل بعد مقتله من قريتهم؛ ليرمى في قريتنا، ومن ثم تحميلنا دمه.
كان للناس أقوال كثيرة في تفسير ما حدث:
- هذا مؤامرة صهيونية القصد منها الفتنة بين الناس.
- هذا واحد حرامي، قتلوه جماعته الحرامية ؛ لخلاف بينهم على توزيع الحصص المسروقة، والشاهد وجود كيس سكر بجانب الجثة.
- ربما معه شركاء من قريتنا...
- هذا العجوز، طول عمره وهو في الثورة الفلسطينية، وكان يتخفى تحت ستار الحرامية؛ ليحمي نفسه من الصهاينة، الذين قتلوه، ليتهموا البلد بدمه.
- عميل للمخابرات الصهيونية، وصفته الثورة جسديًا عندما اكتشفت عمالته، وأبعدته عن قريته، حتى لا يثار النزاع بين أهل قريته.
- قتله جاء سدادًا لثأر عشائري قديم... وبشر القاتل بالقتل، والقاتل أبعده عن البلدة المجاورة، ووضع بجانب الجثة بعض المسروقات ؛ ليتهم بلدنا بقتله لصًا!!
- لا يوجد دم حوله، ربما أصابته نوبة قلبية، وقتلته في مكانه !!
- يا جماعة، الرجل شبع من عمره، فهو فوق السبعين، ويسرق... لا تجوز على الميت إلا الرحمة... الله يرحمه.
***
ليلة موت عبدالقادرة لم يمر مثلها، كان الناس يشعرون أن الجسد الذي غزاه الشيب، ويحمل بارودة إنجليزية قديمة، وبيده الأخرى كيس السكر وبعض المسروقات، ولا دماء حوله... لوحة كاريكاتورية ممدة على الشارع، صنعها جنود الاحتلال الصهيوني ؛ ليمارسوا القمع بالقرية؛ وليثيروا النعرات القبلية بين قريتنا والقرية المجاورة...
عرفنا أنّ اسمه عبدالقادر، وعرفنا أن قريتنا لا علاقة لها بما حدث له، وعرفنا أن الصهاينة ورثوا ذلك الشعار الإنجليزي اللعين :" فرق تسد"!!
تحملت قريتنا دية قتله، لوجود جثته فيها... هذه عادة عشائرية...!!
لكن أهل القرية المجاورة أعادوا الديّة، لاكتشافهم أن موته كان في قريتهم، وأنّ قاتله حمله من هناك إلى هنا.. ولا تجوز على الميت إلا الرحمة!! رحمه الله!!
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف