
الشعر والعصبية المذهبية
للشعر العربي منزلة في النفوس لا تساميها آيه منزلة حاشا منزلة القرآن الكريم فللشعر تأثيره ، وله مكانته وقديماً كان الشاعر يستطيع أن برفع بشعره قبيلة منحطة ويستطيع أن يزري بقبيلة لها مقامها بين القبائل ، وذلك معروف من قديم الزمان ، فلقد كانت قبيلة بنو حنظلة بن قريع بن عوف بن كعب لا يأبه بها العرب ، ويرونها أحط من أن تقف في صف القبائل ، وكانوا يُنعتون بـ«بني أنف الناقة» في الجاهلية، وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراً وقسَّم اللحم فجاء حنظلة وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبياً، فجعل يجره؛ فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلُقِّب به، وكانوا يغضبون من هذه التسمية، ولكن هذه القبيلة استطاعت أن تقف مع أكبر القبائل في ساحة واحدة ، وتوارى عنها هذا الذل الذي كان يلاحقها عندما جاء الشاعر الحطيئة وقلب السحر على الساحر وأنشد أبياته التي جعلت من ذمهم مدحاً لهم ومدعاة للفخر، فقال:
قومٌ هم الأنفُ والأذنابُ غيرُهمُ ... ومن يسوِّي بأنفِ الناقةِ الذنبا ؟
ويأتي جرير الشاعر فيحط من شأن قبيلة بني نمير عندما بلغه خبر أقامه و أقعده ، و هو أن عرادة النميري – نديم الفرزدق – اتخذ طعاماً و شراباً و دعا إليه الراعي عبيد بن حصين – أحد بني نمير –حين قدومه البصرة ، و جلس يؤاكله و يشاربه ، و في خلال ذلك قال عرادة النميري : يا أبا جندل ، إنك من شعراء الناس ، أمرك ضخم بينهم ، فقل شعراً تفضل به الفرزدق على جرير !
فقال الراعي عبيد بن حصين:
يا صاحبيَّ دنا الأصيلُ فسيرا... غَلَبَ الْفَرَزْدَقُ في الهِجَاءِ جَرِيرَا
فما إن كان من جرير إلى نظم قصيدة أطلق عليها اسم " الدامغة "يهجو بها الراعي عبيد بن حصين بن نمير وهدم مكانة قبيلته بين القبائل وخاصة البيت الذي يقول فيه:
فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ... فلا كَعبـًا بلغتَ ولا كِلاباً
وقيل إن الراعي كمد بسبب هذه القصيدة ومات.. وهذا النوع من الهجاء يندرج تحت العنف اللغوي الشعري، وهو عنف قولي متعمد يقصد إيقاع أقصى وأقسى أنواع الأذى بالخصم، وتُبَيّتُ النيةُ فيه لتشويه المهجو وانتهاك هويته، مما يترتب عليه تدمير وقتل رمزي وأحياناً يتعدى أثر الهجاء إلى كمد وموت حقيقي.
هكذا كانت منزلة الشعر عند العرب ، ولا تزال تؤثر هذا التأثير مع فارق قليل أو كثير بحسب قوة الشعر والنفوس المتلقية ، ولهذا القول بأن دور الشعر في إثارة العصبية المذهبية كان واضحاً في حياة الناس.
روى ابن قتيبة في عيون الأخبار أن شيق البلخي مدح أبا حنيفة بمدينة مرو ، فقال له علي بن إسحاق لا تطره بمرو ، فإن أهلها لا يحتملون ذلك ، فقال شقيق: قد مدحه مساور الشاعر حيث قال:
إِذَا مَا النَّاسُ يَــوْماً قَايَسُــونَا ... بِآبـــــِدَةٍ مِنَ الفُـــــتْيَا طَـرِيفَهْ
أَتَيْنَــــــاهُمْ بِمِقْيَاسٍ صَــحِيحٍ ...مُصِيبٍ مِنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَهْ
إِذَا سَمِعَ الفَقِيهُ بِهَا وَعَــــاهَا... وَأَوْدَعَهَا بِحِبْرٍ فِي صَـحِيفَهْ
فقال علي بن إسحاق : قد أجابه بعض أصحابنا
إِذَا ذُو الرَّأْيِ خَاصَمَ عَنْ قِيَاسٍ...وَجَاءَ بِبِدْعَةٍ مِنْهُ سَخِيفَهْ
أَتَيْنَاهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ فِيهَا..وَآثَارٍ مُصَحَّحَةٍ شَرِيفَهْ
فَكَمْ مِنْ فَرْجِ مُحْصَنَةٍ عَفِيْفٍ ... أُحِلَّ حَرَامُهُ بِأبِي حَنِيْفَة
وأخذ شاعر بمدح أهل الكوفة ، وبفضلهم على أهل المدينة في الفقه ، وهو يمثل مدرسة الرأي فقال:
وَلَيْسَ يَعْرِفُ هَذَا الدِّينَ نَعْلَمُهُ...إِلَّا حَنِيفِيَّةٌ كُوفِيَّةُ الدُّورِ
لَا تَسْأَلْنَ مَدِينِيًا فَتُحْرِجَهُ...إِلْا عَنِ الْيَمِّ وَالْمَمْشَاةِ وَالزِّيرِ
فأجاب رجل من أهل المدينة:
لَقَدْ عَجِبْتُ لِغَاو سَاقَهُ قَدْرٌ...وَكُلُّ أَمْرٍ إِذَا مَا حُمَّ مَقْدُورُ
قَالَ الْمَدِينَةُ أَرْضٌ لَا يَكُونُ بِهَا...إِلَّا الْغِنَاءُ وَإِلَّا الْيَمُّ وَالزِّيرُ
لَقَدْ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ بِهَا...قَبْرَ الرَّسُولِ ، وَخَيْرُ النَّاسِ مَقْبُورُ
د/عبدالوهاب القرش
للشعر العربي منزلة في النفوس لا تساميها آيه منزلة حاشا منزلة القرآن الكريم فللشعر تأثيره ، وله مكانته وقديماً كان الشاعر يستطيع أن برفع بشعره قبيلة منحطة ويستطيع أن يزري بقبيلة لها مقامها بين القبائل ، وذلك معروف من قديم الزمان ، فلقد كانت قبيلة بنو حنظلة بن قريع بن عوف بن كعب لا يأبه بها العرب ، ويرونها أحط من أن تقف في صف القبائل ، وكانوا يُنعتون بـ«بني أنف الناقة» في الجاهلية، وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراً وقسَّم اللحم فجاء حنظلة وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبياً، فجعل يجره؛ فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلُقِّب به، وكانوا يغضبون من هذه التسمية، ولكن هذه القبيلة استطاعت أن تقف مع أكبر القبائل في ساحة واحدة ، وتوارى عنها هذا الذل الذي كان يلاحقها عندما جاء الشاعر الحطيئة وقلب السحر على الساحر وأنشد أبياته التي جعلت من ذمهم مدحاً لهم ومدعاة للفخر، فقال:
قومٌ هم الأنفُ والأذنابُ غيرُهمُ ... ومن يسوِّي بأنفِ الناقةِ الذنبا ؟
ويأتي جرير الشاعر فيحط من شأن قبيلة بني نمير عندما بلغه خبر أقامه و أقعده ، و هو أن عرادة النميري – نديم الفرزدق – اتخذ طعاماً و شراباً و دعا إليه الراعي عبيد بن حصين – أحد بني نمير –حين قدومه البصرة ، و جلس يؤاكله و يشاربه ، و في خلال ذلك قال عرادة النميري : يا أبا جندل ، إنك من شعراء الناس ، أمرك ضخم بينهم ، فقل شعراً تفضل به الفرزدق على جرير !
فقال الراعي عبيد بن حصين:
يا صاحبيَّ دنا الأصيلُ فسيرا... غَلَبَ الْفَرَزْدَقُ في الهِجَاءِ جَرِيرَا
فما إن كان من جرير إلى نظم قصيدة أطلق عليها اسم " الدامغة "يهجو بها الراعي عبيد بن حصين بن نمير وهدم مكانة قبيلته بين القبائل وخاصة البيت الذي يقول فيه:
فَغُضَّ الطَرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ... فلا كَعبـًا بلغتَ ولا كِلاباً
وقيل إن الراعي كمد بسبب هذه القصيدة ومات.. وهذا النوع من الهجاء يندرج تحت العنف اللغوي الشعري، وهو عنف قولي متعمد يقصد إيقاع أقصى وأقسى أنواع الأذى بالخصم، وتُبَيّتُ النيةُ فيه لتشويه المهجو وانتهاك هويته، مما يترتب عليه تدمير وقتل رمزي وأحياناً يتعدى أثر الهجاء إلى كمد وموت حقيقي.
هكذا كانت منزلة الشعر عند العرب ، ولا تزال تؤثر هذا التأثير مع فارق قليل أو كثير بحسب قوة الشعر والنفوس المتلقية ، ولهذا القول بأن دور الشعر في إثارة العصبية المذهبية كان واضحاً في حياة الناس.
روى ابن قتيبة في عيون الأخبار أن شيق البلخي مدح أبا حنيفة بمدينة مرو ، فقال له علي بن إسحاق لا تطره بمرو ، فإن أهلها لا يحتملون ذلك ، فقال شقيق: قد مدحه مساور الشاعر حيث قال:
إِذَا مَا النَّاسُ يَــوْماً قَايَسُــونَا ... بِآبـــــِدَةٍ مِنَ الفُـــــتْيَا طَـرِيفَهْ
أَتَيْنَــــــاهُمْ بِمِقْيَاسٍ صَــحِيحٍ ...مُصِيبٍ مِنْ قِيَاسِ أَبِي حَنِيفَهْ
إِذَا سَمِعَ الفَقِيهُ بِهَا وَعَــــاهَا... وَأَوْدَعَهَا بِحِبْرٍ فِي صَـحِيفَهْ
فقال علي بن إسحاق : قد أجابه بعض أصحابنا
إِذَا ذُو الرَّأْيِ خَاصَمَ عَنْ قِيَاسٍ...وَجَاءَ بِبِدْعَةٍ مِنْهُ سَخِيفَهْ
أَتَيْنَاهُمْ بِقَوْلِ اللَّهِ فِيهَا..وَآثَارٍ مُصَحَّحَةٍ شَرِيفَهْ
فَكَمْ مِنْ فَرْجِ مُحْصَنَةٍ عَفِيْفٍ ... أُحِلَّ حَرَامُهُ بِأبِي حَنِيْفَة
وأخذ شاعر بمدح أهل الكوفة ، وبفضلهم على أهل المدينة في الفقه ، وهو يمثل مدرسة الرأي فقال:
وَلَيْسَ يَعْرِفُ هَذَا الدِّينَ نَعْلَمُهُ...إِلَّا حَنِيفِيَّةٌ كُوفِيَّةُ الدُّورِ
لَا تَسْأَلْنَ مَدِينِيًا فَتُحْرِجَهُ...إِلْا عَنِ الْيَمِّ وَالْمَمْشَاةِ وَالزِّيرِ
فأجاب رجل من أهل المدينة:
لَقَدْ عَجِبْتُ لِغَاو سَاقَهُ قَدْرٌ...وَكُلُّ أَمْرٍ إِذَا مَا حُمَّ مَقْدُورُ
قَالَ الْمَدِينَةُ أَرْضٌ لَا يَكُونُ بِهَا...إِلَّا الْغِنَاءُ وَإِلَّا الْيَمُّ وَالزِّيرُ
لَقَدْ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ إِنَّ بِهَا...قَبْرَ الرَّسُولِ ، وَخَيْرُ النَّاسِ مَقْبُورُ
د/عبدالوهاب القرش