
الغربة والحنين في ديوان أشجان حصرية
للشاعر محمد الشيخ علي
بقلم: د. انتصار علي أبو شاويش
سأبقى في بلاد المجـــد لا أفنى ولا أرحل
أُمَني النفسي بالآتي وأحلُم في غدٍ أجمل
وهل لي غير أحلامي إذا ما الدربُ قد أقفل ص7
بهذه السيمفونية الراقية استهل شاعرنا محمد الشيخ علي باكورة أعماله في هذا الديوان ليعلن أنه سوف يطلب أرضه، ويكسر قيده، ويأتي من غربته ليفتح بيته، ويترع ماء ساقيته بعد غيابه الطويل، حيث جمع بين براعة التصوير وعذوبة الموسيقى، وجمال الألفاظ، فما عاناه في منفاه أذاب الشهد بالحنظل، وهذا من
براعة الاستهلال؛ لذا يعلنها مدوية بقوله:
أنا ما عـُـــــــدت أخشـــــــاك ولا آبه بما
تفعـــــــــــــــل
أُحبُّ العيشَ في أرضي وغيـــــر القدس لا أقبــــــل
ص7
وبمقاربة نصوص الديوان نجدها تتقاطع حيناً، وتتفاعل أحياناً؛ لتجسد تجربته الملتهبة، وذاكرته النازفة في دروب الحنين والغُربة والتيه، والباكية على بقايا الوطن السليب في ليالي المخيم واللجوء، إنه يبكي أثار هجرته وأحلام عودته، يقول:
يا وطناً يروق لنا حلُماً / ويسكن في هواجسنا
وإن تاهت مراكبٌنا/ ينير لنا موانئنا
ويرسم درب عودتنا / لكي نرجع ونستبصر ص123
ويمكننا أن نقف على عدة عتبات في مقاربتنا لهذا الديوان:
1-عنوان الديوان: اختزل الشاعر فيه مضامين القصائد والنصوص، وعنوان الديوان عادة يكون من قصائده، ولكنه عدل عن ذلك المألوف ولخصها بقوله في مقدمة الديوان:(هنا يتنفس الناس، يأكلون ويشربون، يلعبون ويعملون، يفرحون ويحزنون،
يحبون ويكرهون، لكن الحصار فرض عليهم مذاقه الخاص ففعلوا كل شيء بطريقتهم وكانت أشجان حصرية).إن الديوان يكتنز المعاني، ويُكثف الدلالات، ويتلمس شهقات العاشقين في دروب المجد، إلى ترنحات الوجدان في أزقة المخيمات، إلى تمرد
الأحلام في مواسم الحصار حيث لا حضور ولا غياب، ولا اختفاء ولا إياب، حيث تبقى المشاعر في القلوب صابرة كشواهد القبور، ثم أحلام العودة المنشودة إلى الكرمل وإلى يافا والقدس... يقول:
ينساب حوله ذراعان كالأعلام في رحلة العودة
كموج البحر إن جزرَ وإن مدَّ
يغذًّ السيرَ من مُدّة/ إلى القدس ويستنفر
هناك الحُلمُ قد رقدَا/ هناك خليفةٌ سجدا/ هناك العهد قد عُقِدا
ص34
2- لوحه الغلاف: فهي رسالة بصرية تشي بما يحمله الديوان بين نصوصه وأشعاره من دلالات وانفعالات وهي تعد من الرموز التي تفتح شهية القارئ ليقف على تلك الحياة الجميلة التي عاشها الفلسطيني في بحر عسقلان ويافا، وعكا، وحيفا وكل فلسطين وهي لوحة للفنانة دعاء شراب، فيها كل ألوان الحنين لذلك البحر الهادئ الذي تحلق فوقه الطيور بلا خوف ولا وجل، وتحلق فوقه أحلامنا المفقودة...
واختفاء شمس الأصيل وما تشي به من ألم الغياب والرحيل إلى ما وراء الأفق حيث المجهول، فهي تثير الشجن والحنين للذة الماضي الجميل الذي عشناه بكل شغف، يقول:
كتبت بضعة أسطرٍ/ شعراً يجيشُ في قلوب العاشقين
وألقيت نظرةً نحو الشمال / أغازل أطلال الديار
ومشيت والبحرَ/ وشوشتُه بكل ما أخفيه عنكِ من أشعار ص21
3- المعجم الشعري: تماهت المشاعر مع الماضي التليد، والحاضر المأزوم، والآتي المأمول، فداعب الشاعر مفردات اللغة وطوع مفرداتها باقتدار، لقد حمل بوحه ونوحه على مساحةٍ واسعةٍ من صفحات الديوان، حيث غطت مفردات الغربة والحنين
والشوق إلى الماضي الجميل، وألم الهجرة وأمل العودة مساحات كبيرة من أسطر الديوان حيث اكتوى الشاعر كباقي اللاجئين من ألم الهجرة التي عاشها الآباء والأجداد، ورمته في أحضان التيه مثل:(عذابات/ العاشقون/ جدي/ الزمن الجميل/ شراييني/ دمي/ الأموات/ هجرة/ مأساة/ استشهد / أسافر/ رحلة / العودة/ فلسطين
/ الشوق/ ذكريات) يقول:
تُسائلني جميلة عن عمري وعن ذاتي
وأيامي التي تمضي حياواتٍ وميتات
وأشلائي التي صمدت/ بقايا من بؤسي وآهاتي
ومحراثي التي انغرست برحم السنبل الآتي ص40
ويقول:
هذه أرض السلام نبتلى بالحاقدين
قد أراقوا الدم سيلاً لم يراعوا فينا دين ص95
وكذلك انتشرت مفردات البحر بكثافة: (الأمواج / الصيد / المياه / الشاطئ/ الجزيرة/ الأفق البعيد/ الحدود) وهذا يعكس تلك التجربة الشعرية المرتبطة بعشق البحر والصيادين والشواطئ يقول:
دعي الأمواج تحمل الرسائلَ/ ربما تلتقي على صفحاتها أحلامُنا
وتكمل المسيرةَ/ أنا حرٌ طليقٌ أرسم الحدودَ من حولي/ وأسكب الألوان على ما وراءَ الأفق البعيد ص11
وكذلك الحصار اللعين وتجربة السفر والارتحال على شواطئ الموت من أجل لقمة العيش حيث يداري الشاعر ما بقلبه من شجن، بسبب ظلمة الليل الحالك، ووحشة السلك الشائك، والفقر المدقع في غزة الشماء، وما خلَّفه الحصار من ضنك العيش، وهو
يرى الحزن يغطي كل الوجوه، يقول:
في غزة/ تنحبس أنفاسي
أستطيع أن أتدبر أمري/ في طابور الراتب الطويل
ودفتر الدين العليل/ والشارع الموسوم بحمى الانتظار.....
في غزة/ تنحبس أنفاسي إذا مرت عروسٌ بثوبها الأبيض
وتنحبس أنفاسي/ إذا دوى فوق رأسي صاروخ برأسه الأسود.... ص131-ص132
والشاعر ينبذ الاقتتال الداخلي والتنازع بين أبناء الشعب الفلسطيني، الذي أثخن فينا الجراح، نتيجة هذه العصبية الحزبية التي أثارت فينا نزعات قبلية جاهلية، حيث تأتينا الأوامر من علو، ورغم أننا نمضي في نفق مظلم طويل، فنحن نبتغي العيش الرغيد، ولسنا من عشاق الحرب، يقول:
بأسنا فينا شديد/ قد تركنا اللين غيًا
أيها العازف فينا / فوق أوتار الطوائف
تنبش التاريخ حقدًا/ تدعي هول السفاسف ص94
4-الموسيقى والنهج الشعري:
زاوج الشاعر في ديوانه بين الشكل الموسيقي التراثي والشكل المعاصر، إذ التزم الشاعر بالشعر العمودي المقفى في قصيدتين الأولى (أنشودة البقاء) وهي على وزن الهزج (مفاعيلن مفاعيلن) حيث يقول:
بعزمٍ سوف أطلبها وأكسر قيدها المُسدل
سرابٌ هذه الدنيــــا بلا حقلٍ ولا مِعـــــوَل ص7
والقصيدة الثانية (أهزوجة التيه) وهي من مجزوء الرمل: فاعلاتن فاعلاتن إنما نحن شعوبٌ نبتغي العيش الرغيد
لسنا من عشاق حربٍ بأسنا فينــــا شديــــــد ص94
وفي كثير من النصوص لم يلتزم الشاعر بتفعيلة محددة في النص الواحد، وخرج عن الوزن المألوف لشعر التفعيلة، فهي أقرب إلى النثرية، وقد يرجع ذلك لطغيان الحدث وتكثيف الأفكار والدلالات والوقائع التاريخية التي اهتم بتوثيقها، لكن هذا لم يمنع من التقاط الموسيقى الداخلية في كثير من الأسطر الناتجة عن تجمع
بعض حروف الغنة(النون) وهذه الغنة تكثّف الإيقاع الممتد مع الصياغة، حيث تضفي على النص جوًا هادئًا سجيًا كقوله:
لا تلمني فيما قضت به السنون/ فأنا وليد قرنٍ/ ساده بلفور وهتلر/ وأورثني جدي/ ألف عام من الديون/ وتركني حاسرًا أمام رموز الحضارة/ وأوهام نيرون ص27 وكذلك في(نداء المآذن) تنساب الموسيقى الداخلية الناتجة من تكرار حرف(الحاء) الحلقي المهموس الرخو والمسبوق بحرف المد بالألف الذي يمتد معه النَّفَس طويلاً الأمر الذي يريح النفس من أعبائها وأثقالها، ويضفي على النص راحة نفسية وموسيقى شجية تتلاءم مع أجواء الألم والشوق والحنين في قوله( الأشباح/ أرواح/ أفراح/ الفوَّاح/ صاح/ الصَّباح/ الصدَّاح/ الأقداح/ الرَاح....) وقد تحمل المقابلة بين العبارات جمالاً موسيقيًا نتيجة التضاد في قوله:
أيها الأموات/ أيها الأحياء
لمَ لم تسمعوا صوته؟ لمَ لم تفهموا لغته؟ لمَ لم تطربوا للحق؟.. ص17- 19 حيث تحمل الأسطر أبعادًا نفسيّةً عميقةً أسهمت في تشكيل الدلالة، فكأنَّنا نتابع بخيالاتنا كلَّ مشاهد البعث والحياة من جديد بعد الدمار.
5- النص الدرامي:
يعدُّ التعبير الدرامي من ركائز الفنون الأدبية المعاصرة، لما يتسم به من موضوعية مبنية في أساسها على الحركة- الصراع – الحوار، وفي هذا الديوان نجد الشاعر يتماهى بالشخوص، ويبرز أصواتها في حوار هادئ وسخرية لاذعة لنقد الواقع الأليم يقول:
-من أين أنت؟
-فلسطين
-تسمرت عيناها وانتظرت مني مزيدًا من الثرثرة
-ما زلتم تنتفضون؟
-بعضنا
وانشغلت في إيجاد أوصاف للبعض الآخر/ من النائمين والحائرين والسماسرة
-مهاجرٌ أنت؟
-بل أنا من أمةٍ مهاجرة/ هجرنا أمجادنا البائدة / ننتقل ما بين العصور وننتقي ما يكفل لنا العيش الرغيد/ والعمرَ المديدَ/ بلا تعب ولا نصب ولا مخاطرة!
وفي الختام، فإن الشاعر بكى غربته وأحلامه ومجد آبائه وحصار شعبه، وأنشد ما يجيش في قلوب العاشقين وأمل اللاجئين، وعزف أغنيات السلام وأهازيج العودة.
للشاعر محمد الشيخ علي
بقلم: د. انتصار علي أبو شاويش
سأبقى في بلاد المجـــد لا أفنى ولا أرحل
أُمَني النفسي بالآتي وأحلُم في غدٍ أجمل
وهل لي غير أحلامي إذا ما الدربُ قد أقفل ص7
بهذه السيمفونية الراقية استهل شاعرنا محمد الشيخ علي باكورة أعماله في هذا الديوان ليعلن أنه سوف يطلب أرضه، ويكسر قيده، ويأتي من غربته ليفتح بيته، ويترع ماء ساقيته بعد غيابه الطويل، حيث جمع بين براعة التصوير وعذوبة الموسيقى، وجمال الألفاظ، فما عاناه في منفاه أذاب الشهد بالحنظل، وهذا من
براعة الاستهلال؛ لذا يعلنها مدوية بقوله:
أنا ما عـُـــــــدت أخشـــــــاك ولا آبه بما
تفعـــــــــــــــل
أُحبُّ العيشَ في أرضي وغيـــــر القدس لا أقبــــــل
ص7
وبمقاربة نصوص الديوان نجدها تتقاطع حيناً، وتتفاعل أحياناً؛ لتجسد تجربته الملتهبة، وذاكرته النازفة في دروب الحنين والغُربة والتيه، والباكية على بقايا الوطن السليب في ليالي المخيم واللجوء، إنه يبكي أثار هجرته وأحلام عودته، يقول:
يا وطناً يروق لنا حلُماً / ويسكن في هواجسنا
وإن تاهت مراكبٌنا/ ينير لنا موانئنا
ويرسم درب عودتنا / لكي نرجع ونستبصر ص123
ويمكننا أن نقف على عدة عتبات في مقاربتنا لهذا الديوان:
1-عنوان الديوان: اختزل الشاعر فيه مضامين القصائد والنصوص، وعنوان الديوان عادة يكون من قصائده، ولكنه عدل عن ذلك المألوف ولخصها بقوله في مقدمة الديوان:(هنا يتنفس الناس، يأكلون ويشربون، يلعبون ويعملون، يفرحون ويحزنون،
يحبون ويكرهون، لكن الحصار فرض عليهم مذاقه الخاص ففعلوا كل شيء بطريقتهم وكانت أشجان حصرية).إن الديوان يكتنز المعاني، ويُكثف الدلالات، ويتلمس شهقات العاشقين في دروب المجد، إلى ترنحات الوجدان في أزقة المخيمات، إلى تمرد
الأحلام في مواسم الحصار حيث لا حضور ولا غياب، ولا اختفاء ولا إياب، حيث تبقى المشاعر في القلوب صابرة كشواهد القبور، ثم أحلام العودة المنشودة إلى الكرمل وإلى يافا والقدس... يقول:
ينساب حوله ذراعان كالأعلام في رحلة العودة
كموج البحر إن جزرَ وإن مدَّ
يغذًّ السيرَ من مُدّة/ إلى القدس ويستنفر
هناك الحُلمُ قد رقدَا/ هناك خليفةٌ سجدا/ هناك العهد قد عُقِدا
ص34
2- لوحه الغلاف: فهي رسالة بصرية تشي بما يحمله الديوان بين نصوصه وأشعاره من دلالات وانفعالات وهي تعد من الرموز التي تفتح شهية القارئ ليقف على تلك الحياة الجميلة التي عاشها الفلسطيني في بحر عسقلان ويافا، وعكا، وحيفا وكل فلسطين وهي لوحة للفنانة دعاء شراب، فيها كل ألوان الحنين لذلك البحر الهادئ الذي تحلق فوقه الطيور بلا خوف ولا وجل، وتحلق فوقه أحلامنا المفقودة...
واختفاء شمس الأصيل وما تشي به من ألم الغياب والرحيل إلى ما وراء الأفق حيث المجهول، فهي تثير الشجن والحنين للذة الماضي الجميل الذي عشناه بكل شغف، يقول:
كتبت بضعة أسطرٍ/ شعراً يجيشُ في قلوب العاشقين
وألقيت نظرةً نحو الشمال / أغازل أطلال الديار
ومشيت والبحرَ/ وشوشتُه بكل ما أخفيه عنكِ من أشعار ص21
3- المعجم الشعري: تماهت المشاعر مع الماضي التليد، والحاضر المأزوم، والآتي المأمول، فداعب الشاعر مفردات اللغة وطوع مفرداتها باقتدار، لقد حمل بوحه ونوحه على مساحةٍ واسعةٍ من صفحات الديوان، حيث غطت مفردات الغربة والحنين
والشوق إلى الماضي الجميل، وألم الهجرة وأمل العودة مساحات كبيرة من أسطر الديوان حيث اكتوى الشاعر كباقي اللاجئين من ألم الهجرة التي عاشها الآباء والأجداد، ورمته في أحضان التيه مثل:(عذابات/ العاشقون/ جدي/ الزمن الجميل/ شراييني/ دمي/ الأموات/ هجرة/ مأساة/ استشهد / أسافر/ رحلة / العودة/ فلسطين
/ الشوق/ ذكريات) يقول:
تُسائلني جميلة عن عمري وعن ذاتي
وأيامي التي تمضي حياواتٍ وميتات
وأشلائي التي صمدت/ بقايا من بؤسي وآهاتي
ومحراثي التي انغرست برحم السنبل الآتي ص40
ويقول:
هذه أرض السلام نبتلى بالحاقدين
قد أراقوا الدم سيلاً لم يراعوا فينا دين ص95
وكذلك انتشرت مفردات البحر بكثافة: (الأمواج / الصيد / المياه / الشاطئ/ الجزيرة/ الأفق البعيد/ الحدود) وهذا يعكس تلك التجربة الشعرية المرتبطة بعشق البحر والصيادين والشواطئ يقول:
دعي الأمواج تحمل الرسائلَ/ ربما تلتقي على صفحاتها أحلامُنا
وتكمل المسيرةَ/ أنا حرٌ طليقٌ أرسم الحدودَ من حولي/ وأسكب الألوان على ما وراءَ الأفق البعيد ص11
وكذلك الحصار اللعين وتجربة السفر والارتحال على شواطئ الموت من أجل لقمة العيش حيث يداري الشاعر ما بقلبه من شجن، بسبب ظلمة الليل الحالك، ووحشة السلك الشائك، والفقر المدقع في غزة الشماء، وما خلَّفه الحصار من ضنك العيش، وهو
يرى الحزن يغطي كل الوجوه، يقول:
في غزة/ تنحبس أنفاسي
أستطيع أن أتدبر أمري/ في طابور الراتب الطويل
ودفتر الدين العليل/ والشارع الموسوم بحمى الانتظار.....
في غزة/ تنحبس أنفاسي إذا مرت عروسٌ بثوبها الأبيض
وتنحبس أنفاسي/ إذا دوى فوق رأسي صاروخ برأسه الأسود.... ص131-ص132
والشاعر ينبذ الاقتتال الداخلي والتنازع بين أبناء الشعب الفلسطيني، الذي أثخن فينا الجراح، نتيجة هذه العصبية الحزبية التي أثارت فينا نزعات قبلية جاهلية، حيث تأتينا الأوامر من علو، ورغم أننا نمضي في نفق مظلم طويل، فنحن نبتغي العيش الرغيد، ولسنا من عشاق الحرب، يقول:
بأسنا فينا شديد/ قد تركنا اللين غيًا
أيها العازف فينا / فوق أوتار الطوائف
تنبش التاريخ حقدًا/ تدعي هول السفاسف ص94
4-الموسيقى والنهج الشعري:
زاوج الشاعر في ديوانه بين الشكل الموسيقي التراثي والشكل المعاصر، إذ التزم الشاعر بالشعر العمودي المقفى في قصيدتين الأولى (أنشودة البقاء) وهي على وزن الهزج (مفاعيلن مفاعيلن) حيث يقول:
بعزمٍ سوف أطلبها وأكسر قيدها المُسدل
سرابٌ هذه الدنيــــا بلا حقلٍ ولا مِعـــــوَل ص7
والقصيدة الثانية (أهزوجة التيه) وهي من مجزوء الرمل: فاعلاتن فاعلاتن إنما نحن شعوبٌ نبتغي العيش الرغيد
لسنا من عشاق حربٍ بأسنا فينــــا شديــــــد ص94
وفي كثير من النصوص لم يلتزم الشاعر بتفعيلة محددة في النص الواحد، وخرج عن الوزن المألوف لشعر التفعيلة، فهي أقرب إلى النثرية، وقد يرجع ذلك لطغيان الحدث وتكثيف الأفكار والدلالات والوقائع التاريخية التي اهتم بتوثيقها، لكن هذا لم يمنع من التقاط الموسيقى الداخلية في كثير من الأسطر الناتجة عن تجمع
بعض حروف الغنة(النون) وهذه الغنة تكثّف الإيقاع الممتد مع الصياغة، حيث تضفي على النص جوًا هادئًا سجيًا كقوله:
لا تلمني فيما قضت به السنون/ فأنا وليد قرنٍ/ ساده بلفور وهتلر/ وأورثني جدي/ ألف عام من الديون/ وتركني حاسرًا أمام رموز الحضارة/ وأوهام نيرون ص27 وكذلك في(نداء المآذن) تنساب الموسيقى الداخلية الناتجة من تكرار حرف(الحاء) الحلقي المهموس الرخو والمسبوق بحرف المد بالألف الذي يمتد معه النَّفَس طويلاً الأمر الذي يريح النفس من أعبائها وأثقالها، ويضفي على النص راحة نفسية وموسيقى شجية تتلاءم مع أجواء الألم والشوق والحنين في قوله( الأشباح/ أرواح/ أفراح/ الفوَّاح/ صاح/ الصَّباح/ الصدَّاح/ الأقداح/ الرَاح....) وقد تحمل المقابلة بين العبارات جمالاً موسيقيًا نتيجة التضاد في قوله:
أيها الأموات/ أيها الأحياء
لمَ لم تسمعوا صوته؟ لمَ لم تفهموا لغته؟ لمَ لم تطربوا للحق؟.. ص17- 19 حيث تحمل الأسطر أبعادًا نفسيّةً عميقةً أسهمت في تشكيل الدلالة، فكأنَّنا نتابع بخيالاتنا كلَّ مشاهد البعث والحياة من جديد بعد الدمار.
5- النص الدرامي:
يعدُّ التعبير الدرامي من ركائز الفنون الأدبية المعاصرة، لما يتسم به من موضوعية مبنية في أساسها على الحركة- الصراع – الحوار، وفي هذا الديوان نجد الشاعر يتماهى بالشخوص، ويبرز أصواتها في حوار هادئ وسخرية لاذعة لنقد الواقع الأليم يقول:
-من أين أنت؟
-فلسطين
-تسمرت عيناها وانتظرت مني مزيدًا من الثرثرة
-ما زلتم تنتفضون؟
-بعضنا
وانشغلت في إيجاد أوصاف للبعض الآخر/ من النائمين والحائرين والسماسرة
-مهاجرٌ أنت؟
-بل أنا من أمةٍ مهاجرة/ هجرنا أمجادنا البائدة / ننتقل ما بين العصور وننتقي ما يكفل لنا العيش الرغيد/ والعمرَ المديدَ/ بلا تعب ولا نصب ولا مخاطرة!
وفي الختام، فإن الشاعر بكى غربته وأحلامه ومجد آبائه وحصار شعبه، وأنشد ما يجيش في قلوب العاشقين وأمل اللاجئين، وعزف أغنيات السلام وأهازيج العودة.