الأخبار
صحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيرانمؤسسة أممية: إسرائيل تواصل فرض قيود غير قانونية على دخول المساعدات الإنسانية لغزةوزير الخارجية السعودي: هناك كيل بمكياليين بمأساة غزةتعرف على أفضل خدمات موقع حلم العربغالانت: إسرائيل ليس أمامها خيار سوى الرد على الهجوم الإيراني غير المسبوقلماذا أخرت إسرائيل إجراءات العملية العسكرية في رفح؟شاهد: الاحتلال يمنع عودة النازحين إلى شمال غزة ويطلق النار على الآلاف بشارع الرشيدجيش الاحتلال يستدعي لواءين احتياطيين للقتال في غزة
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

ثمانٍ شِداد بقلم:سلمى عُثمان

تاريخ النشر : 2020-02-20
ثمانٍ شِداد

سلمى عُثمان 

ماذا اشتريتِ من المتجر .. أريني ؟

= اشتريت بسكويتاً .. نوع جديد من البسكويت

- أعطيني قطعة لأتذوقه

أضم الكيس لصدري بقوة الطفولة وأجيب بنبرة هجومية

= لا إنه لي وحدي .. لن أعطيك

يبتسم الجد ويضحك .. " أيتها البخيلة .. سأسميكِ من اليوم بسكوته لأنك لا تعطين أحداً منه "

كانت تلك هي المرة الأولى التي يُطلق فيها جدي عليّ هذا الاسم .. وكثيراً ما أطلق الأجداد على أحفادهم تلك الكنية .. لكن المعنى الذي اقترن بكنيتي كان مميزاً عن كل الكُنى التي عرفتها يوماً .. كنت " بسكوتة " في نظر جدي ليس دلالة على رقتي ودلالي وإنما لبخلي
ثم بعد فترة من الزمن أطلق جدي عليّ كُنية جديدة حين لاحظ عادتي في التكوم على نفسي حين أشعر بالبرد .. تماماً كما يتكوم القنفذ على نفسه .. وصارت كنيتي الجديدة " قنفوذة " كان يقولها ضاحكاً متعجباً مرونتي التي تمكنني من القيام بذلك

تمر الأعوام حاملة في طياتها كنيتاي المميزتان .. وحُب جدي الكبير

وفي عامي العشرين .. تبدأ الثماني الشِداد 
" مُصابٌ بالفشل الكلوي .. ولابد من إجراء الغسيل الكلوي بشكل دوري له "

دوت الكلمة في آذاننا كما المطارق .. وهوت قلوبنا على أثرها .. لكن وحده كان الصابر على ذلك .. لم يجزع ولم يقنط .. ولم يذرف دمعة واحدة كما ذرفنا نحن في الخفاء .. ومضت الأيام تحمل اعتيادنا على ألمه في جلسات الغسيل الكلوي حتى أتت طامة أخرى أذهبت ما بقي من صبرنا المفقود 

" قلبه ضعيف .. نسبة ضخ الدم في جسده تصل إلى اثنى عشر بالمئة  "

لدهرٍ كنت قد نسيت مرض جدي بالقلب .. وصدمت من وقع تلك الجملة على نفسي ..  " اثنى عشر بالمئة " .. كان وقعها يشبه السقوط من حافة جبل .. أو السباحة في القطب الجليدي .. هل يعقل أن قلب جدي الكبير بالحُب قد ضاق بالهموم لدرجة جعلت قلبه يلفظ كل ما بداخله فلا يقوى على ضخ الحياة سوى بنسبة تساوي أرقام الساعة !

في اللحظة التي أعلن القلب فيها تمرده علينا تواترت سرعة الأحداث بشكل جنوني .. مُنع الجد من الحركة وبذل أي مجهود .. صارت حركاته قليلة تكاد تكون معدومة .. وصبره يزداد .. وحزننا يزيد لمرأى عجزه الذي يتنامى في كل يوم عن سابقه .. بعد أسبوع .. بدأت قدماه بالتحول إلى اللون الأزرق وتيبست أظافره لدرجة أن بعضها سقط .. مع برودة تشع من أوصاله .. هرعنا إلى الطبيب ليخبرنا بأن قلبه عاجزٌ عن إيصال الدم لأطرافه لذا لابد من تغطيتها وتدفئتها ومساعدتها ببعض الأدوية .. لكن الرياح تجري بما لا تشتهي السفن

بعد يومين أو أكثر .. بدأ مفعول الدواء يظهر بدماء تخرج من قدميه .. وكأن كل الخلايا امتنعت عن استقبال الدم فراحت تلفظه للخارج .. عدنا للطبيب بفجع يُفتت قلوبنا حين تحول الدم النازف من قدميه إلى نزيف كامل .. لكن نزيفه كان متجلطاً .. قطع من الدم تخرج منه فيدخل مكانها صبرٌ وثبات 

أتذكر ذلك اليوم بالتحديد .. كان منتصف الشهر .. بعد أسبوعين من الصراع مع قلبه المُنهك انقلب الصراع إلى محاولات إيقاف النزيف .. رأيته ذلك اليوم شاحب الوجه .. كانت يداه ترتعشان بشدة لدرجة جعلت قلبي يرتعش معها من الألم .. هاتان اليدان وهذان الكفّان الكبيران ألم يكونا هما ملجأ الآمان بالنسبة لي ؟ .. لقد سكنت بينهما سنيناً والآن ينهار المسكن بزلزال

لم أستطع يومها المكوث معه أكثر .. فررت من وجعه إلى حزني .. في ذلك اليوم .. نُقل إلى المشفى لندخل دوامة أخرى من العجز عن التخفيف عنه .. وعن صبره الذي لا ينتهي

أسبوع تام مكتمل مكثه لإيقاف النزيف دون طعامٍ أو كلام .. لا شيء يفعله سوى الصلاة بعينيه الخضراوين اللتين أحبهما جداً

وبعد أسبوع أخرجوه عُنوة لأن النزيف توقف ولا شأن للمشفى به بعد الآن .. وسؤالنا مٌعلقٌ في الهواء " وماذا عن بقية مرضه ؟ " .. لكن لا جواب

يوم الاثنين .. كان في المنزل لآخر مرة قبل نقله لمشفى جديد في مدينة أخرى لأن كل مشفى في مديتنا لا يقبله لتدهور وضعه ولأن وضعه تطور لدرجة تستدعي بتر ساقيه .. تجمعنا .. وجمعنا هو بحُبه الذي مازال يملأ قلبه رغم الوهن .. تحدثنا وتسامرنا حتى الليل .. وحين أخلدنا جميعاً إلى النوم في غرفة واحدة .. معه .. تسرب لأنفي رائحة غريبة .. رائحة لا أعرف كُنها .. في تلك الليلة كان جدي يستيقظ فزعاً من نومه يسألني " أصليت العشاء ؟ " .. فأجيب نعم ياجدي ونحن ننتظر الفجر الآن .. فيغشاه النعاس ليستيقظ فزعاً بعد دقائق يسألني أأذن الفجر ؟ .. فأجيب ليس بعد 

قضينا الليل بطوله مابين سؤاله عن الصلاة فزعاً وسنة النوم التي تغشاه

في السابعة صباحاً نُقل جدي إلى مشفى خارج مدينتنا بسيارة إسعاف .. نظرت له بحنو في اللحظة التي كان المسعفان فيها يدخلانه إلى السيارة .. ابتسمت له وقبلت كفه المرتعش .. واستودعته عند الله في داخلي .. ومضى إلى حيث لم أستطع المُضي معه 

الثاني من مارس/آذار .. السابعة صباحاً .. تلقيت اتصالاً من أختي تخبرني أن جدي عائدٌ للبيت بعد أن تحسنت حالته .. أخبرتني أنه يود منا الاجتماع في بيته .. أغلقت الهاتف وقلبي مضطرب .. أيقظت أختي الصغرى على عجل وانطلقنا حيث منزل جدي  .. خلال الطريق كان عقلي مشتتاً بالكامل .. وقلبي مضطرب .. ولساني يلهج بدعاء لا أعرف لماذا رددته حينها " يارب .. الهمنا القوة "

الثامنة صباحاً .. وصلنا لمنزل جدي ورأيت العديد من الكراسي أمام الباب .. ورجال .. أقارب وأغراب .. وصوت مذياع يطلق من ثناياه صوتاً مألوفا ..  صوت " المنشاوي " .. وقفت مذهولة مما رأيت .. سارعت الخطا نحو الطابق الثاني لكنني لم أجده .. كل ما وجدته هو أمي الذاهلة من الصدمة .. وجدتي الباكية .. وسواد يغطي الجميع .. وفاجعة أصابت قلوبنا في مقتل .. وحقيقة هربنا منها لثماني شهور شداد

" لقد مات جدي " .. رحل مخلفاً وراءه حفيدة ورثت منه موهبتها في نسج الحرف الذي بُتر بموته .. ترك " بسكويتته والقنفوذة الصغيرة " .. رحل دون أن يحتضن وجهي لآخر مرة بكفيه الكبيرين ويبتسم لي بعينيه الخضراوين .. رحل بعد أن عرفت أن الرائحة التي شممتها في آخر زيارة كانت رائحة الموت تنبعث من قدميه

 ألا رحمة الله عليك يا جدي .. ورحمته علينا في فاجعتك .. وفي الثمانية الشداد وقت مرضك .. وثمانٍ مروا دونك .. عجاف
_________________________________

بين لَاميّنْ

سلمى عُثمان  

يتناسق الألم مع الأمل .. يسيران في اتجاهٍ واحد .. خُلقا من مصدرٍ واحد .. وإلى مصيرٍ واحد

محصورة أنا بين حروفهما .. يدفعني الأمل أحياناً لأقاوم الألم .. ويقتل الألم كثيراً الأمل .. وبينهما يكون الملأ من حولي .. ضدي

رُزقا والداي بي بعد طول انتظار .. كنت بالنسبة لهما مُهجة القلب وبلسمه .. نور العين .. الذي فُقد

بعد مُضيّ شهور من ولادتي لاحظتْ أمي أن هنالك خطباً ما بي .. في البداية كان والدي يُطمئنها بأن كل شيء سيكون على ما يرام وأنه محضُ توعك عابر .. بيد أن القلق ملأ قلبها فأذعن والدي لها واصطحباني لطبيب .. لتكون الصدمة لهما

" ابنتكم لا ترى "  .. كيف ومتى ولماذا .. لا أحد يدري

لم تُبدِ أمي حينها أي ردة فعل .. فقط أحكمت قبضتها عليّ كأنها تخاف فقدي كما فقدتُ بصري

 وبعد أن عُدنا للبيت بدأ نحيبها المتصل .. فزعها .. وضمتها لي

على النقيض كان أبي .. صامداً صلباً .. لم يجزع .. ولم يبكِ .. ولم يُظهر أي تأثر

تقبل والداي مأساة كون ابنتهما الوحيدة التي طال انتظارها " كفيفة " لن تُبصرهما ذات يوم .. لكن المجتمع لم يقبلني كما فعل والداي .. رأى الجميع أن كوني كفيفة قد سلبني كل حقٍ في الحياة .. لم يأت الأهل والجيران ليواسوا أمي في مرض ابنتها .. بل أتوا ليقدموا لها شفقتهم تجاه عجزي كما وصفوه

 ومع مرور كل يوم كانت تزداد أمي حُباً لي فوق حُبها .. حتى شعرت أني أرى بعيونها هي .. رغم كل الألم الذي اعتصر قلبها لأجلي كانت تهمس في أذني قبل النوم " أنتِ هي أملنا في هذا العالم .. خُلقتِ لتكوني أملاً وحسب "

كنت طفلة مفعمة بالنشاط كثيرة السؤال .. اسأل عن كل شيء 

- أمي .. ما شكل السماء ؟

= واسعة .. وزرقاء .. وفيها سحاب يشبه القطن لونه أبيض

- كيف يبدو اللون الأبيض ؟

= لون جميل كلون قلبك .. والسحاب

ثم تُضمني لقلبها وتبكي

غمرني والداي بكل الرعاية والاهتمام .. لكن بمرور كل عام أكبره كان العالم يلفظني منه أكثر .. كانت المشاعر مُتضاربة داخل قلبي الصغير الذي لم يتجاوز السادسة .. ولخوف أمي عليّ تقرر تأجيل أمر دراستي لعامٍ آخر

حين أبحث في ذاكرتي لا أجد ذكرى لأبي وهو يمسح عني الحزن أبداً .. فقط ما أذكره يوم أن أبلغني وأنا ابنة الثامنة أنه قد حجز لي مقعداً في صفوف الدراسة بمدرسة متخصصة للمكفوفين .. وقبل أن يتركني لأغرق في فرحتي الصغيرة مسح على شعري بحنان تخلله الألم ومضى إلى حيث لم أرى

بلغتُ العاشرة ومازالت أمي تُصر على مرافقتي للمدرسة .. رغم أنها جوار البيت .. لكنها تخبرني في كل صباح أنها تخاف عليّ .. لأني لا أرى

ذات يوم في ربيعي الثاني عشر سألت أمي بكل الألم الذي يمكن لطفلة أن تحمله

 " لماذا خلقني الله عمياء ؟ " .. لا تستطيع ذاكرتي تذكر ماذا كانت إجابتها بالتحديد .. لكنني أتذكر بوضوح بكاؤها المتصل بعد أن خبأتني جوار قلبها

تكومتُ يومها على ألمي وأملي وجلست أفكر .. ماذا أكون بالنسبة لهما ؟ .. ألمٌ أم أمل !

منذ ذلك اليوم قررت أن أصمت للأبد .. لن أخبرهم بألمي .. فقط سأكتفي بكوني الأمل .. أليس اسمي أملاً على كل حال

يمر العام وراء العام ساحباً في يده اهتمام أمي بي بعد مولودها الثاني .. أحبته تماماً كما أحبتني .. أو أشدّ حُبا .. لأنه " مُبصر "

أحببت ذلك الطفل الصغير الذي يصغرني بأكثر من خمسة عشر عاماً .. لكن الجميع أبعده عني .. كان السبب الأول والأخير بأني سأؤذي الطفل لا محالة .. فقط لأنني لا أرى

لكن الصغير ببكائه وصراخه زرع في قلبي - رغم كل الألم - بذرة أمل .. أن هُنالك أملاً ربما سيشرق ذات يوم في حياتي

كنت أتسحب خلسة في المساء لأجلس إلى جوار سريره .. أتنسم عبقه الطفولي الرائع .. ألمس وجهه لأرسم ملامحه في ذاكرتي .. وأدعو من أعماق قلبي أن يكون مُبصر القلب والعين

كبر الصغير .. وكان بلسم الحنان بالنسبة لي .. تعلق بي لدرجة جعلت أمي تطمئن لقربي له

ابتسمُ بل وأضحك من أعماق قلبي في كل مرة تنقطع فيها الكهرباء ويأتي الصغير راكضاً إليّ يبكي الظلام

أهدهده وأضمه .. أقربه لقلبي فيطمئن .. ثم يهمس لي بعفوية

 - أنتِ قوية يا أمل

 = لماذا ؟

 - لأنكِ لا تخشين الظلام

أشدّدُ ضمته وابتسم .. " أنا لا أرى سواه فكيف أخشاه ! " 

كبر الصغير فبات رجلاً .. وكبرت أنا لأصير عالة كما يدعوني المجتمع من حولي .. حقق الصغير كل أحلامه حُلماً وراء حُلم .. وكبرت أنا دون أحلامي .. " لماذا ؟ " .. لأن الجميع سلبني الحق في الحياة .. قتلوا أحلامي .. وكأنني بُعثت لهم من عالم الأموات .. حتى إذا ما رأوني زموّا الشفاه وتمتموا بالكثير من الدعاء لوالداي على تحملي كل تلك الفترة .. ما ذنبي في أنني عمياء !

في الحقيقة .. أدركت الآن وأنا ابنة الثلاثين من عمري أن البصر لا يكون بالعين وإنما بالقلب .. هي لا تعمى الأبصار .. وإنما تعمى القلوب التي في الصدور

" أملٌ أحيل إلى ألم "
__________________________

على وتر اللقاء   
سلمى عُثمان 

على أطراف أنامله تسلّل في دُجى الفجر .. بهدوءٍ عرج على غرفة صغاره يودعهم بشجن .. قبّل مابين أعينهم وهمس يُخبرهم كم يحبهم وكم سيشتاق لهم .. رفع يديه للسماء داعياً الله أن يحميهم ثم غادر 

تابع تسلّله ليقف أمام غرفة والدته فيصل لمسامعه صوتها الباكي وهي تتضرع لله أن يحفظه .. ندى الألم على قلبه وترقرق الدمع بعينيه لكنه سرعان ما استجمع عزمه من جديد ليتابع تسلّله للخارج

على باب البيت وقف يودّع أيامه .. أحلامه وذكرياته .. لاح على شفتيه ابتسامة وهو يستدير ليغادر البيت إلى اللارجعة لكن تلك اليد المُمتدة في لُجّ الظلام منعته من الرحيل قبل وداعٍ آخر .. وعناق 

كانت رفيقة الدرب الشاق وحبيبته .. كومها بين ذراعيه مُلملاً كل كمالها لنُقصانه يلثم وجهها بكُل الشوق فيه ويشدّ على قلبها يخفف من وطأة الفقد الآتية عليه

جلسا بعد حينٍ تحت غصون الزيتون يُخلل أصابعها بأصابعه ..  نظرت له وتأملته بدمع العين ثم ملست على وجهه بحنان .. امسكت بيديه تتلمس فيهما خارطة الوطن لتقول له 

- هاد الجرح كان بعكّا .. وهاد بحيفا .. وهاد بنابلس .. وهاد بغزّة .. وهون بالقُدس .. ما ضل بإيدك مكان لجرح تاني .. برضاي عليك ما تروح .. أنا خايفة عليك كتير

ضمّ يديها وابتسم .. ليرفع رأسه بشموخٍ ويُجيب 

= لو هالإيد ما عاد فيها مكان لجرح تاني فأنا لسه عندي إيد تانية وجسم كامل أضحي فيه كِرمال فلسطين .. ضايلي جرح برام الله ويافا وبيت لحم والخليل وطبريّا وكل شبر بهالأرض إلها مكان بجسمي لحتى أحررها .. ماتخافي .. الله معانا وما بيضيعنا وان شاء الله الرجعة تكون قريبة
- دير بالك ع حالك 

= لا إله إلا الله 

- محمد رسول الله 

وقف ليغادر فوقفت .. نظر لها وكأنها آخر نظرة .. اقترب منها يطبع صورة وجهها في قلبه .. قبّل رأسها وسكن بين يديها كما سكنت روحه لروحها .. ودّعها باشتياقٍ ورحل وكلماته تتردد في الأجواء من حولها 

" ديري بالك ع حالك وع الأولاد وع إمي .. لُقانا بالجنّة بإذن الله "

وانطلق يطوي الأرض من تحت قدميه طيّا .. تلّثم وأعدّ العُدة  ،اختبأ بين الأحراش ،جال بعينيه في المكان يستطلعه فرأي جنوداً أكثر مما توقع وخطط ،انتشى انتصاراً بما هو قادم ،كان سينطلق منفذاً عمليته لكنه تراجع في آخر لحظة ،عاد يرقب ويرصد ليرى الغنيمة تزداد بقدوم جنودٍ آخرين .. وياللمفاجأة .. معهم ضابطٍ من أهم رجال الشاباك فعلت شفتيه ابتسامة نصرٍ مؤكد ،تفحص بندقيته ليتأكد من تمامها لكنه صُعق بنفاذ الرصاص إلا من اثنتين .. طار نصره أدراج الرياح 

" رباه ما العمل الآن والهدف جاهزٌ أمامه !  "

انسحب بهدوءٍ كما أتى ،ذهب راكضاً لمقر مجموعته السريّة ليأتي بما ينقصه ،ملأ بندقيته بالرصاص اللازم وأخذ قنبلة يدوية ومسدس ،وكما أتى أول مرة فعل ،ترصد بالعدو لدقائق وصدره يعلو ويهبط متوتراً ،خطى خُطوة واتبعها بالزحف حتى وصل للمكان الأنسب للإطلاق ،امسك قنبلة الغاز بيده ،كبّر وسمى ثم رمى فغشّى الغاز كُل المكان لتُعمى أبصارهم إلّاه ،حالة من الجنون اجتاحتهم وهم يفزعون فجميعهم يعلم يقيناً ماهو قادم  فراح بعضٌ منهم من يطلق رصاصه بعشوائية ظناً منه أنه بذلك سينجو ولعلّ رصاصة منه ستصيب مُتربصهم ومنهم من فرّ واختبأ خوفاً أن يقتل ومنهم من ترصدّ وراقب كل حركةٍ وسَكنة تنفيذاً لأمرٍ أسند إليه ،وهو من مكانه أطلق رصاصات العز ليُرديهم قتلى واحداً تلو آخر ،زاد فزعهم وهم يرون سقوط الجنود تِباعاً فازداد إطلاقهم للرصاص وراحوا يستنجدون علّ المساعدة تصل إليهم قبل نهايتهم ،وعلى حين غُرة منه أصابته رصاصة من رصاصاتهم العشوائية في قدمه ،تأوه لكنه سرعان ما كتم ،تابع حصد أرواحهم لكن رصاصه نفذ قبل أن يجنيهم جميعا ،سكن صوت إطلاقه ليعلو صوت إطلاقهم ،ترقّب الفرصة حتى حانت فانسحب بهدوءٍ يجرُّ نفسه جرا وبيده مسدسه 

وصل المدد وانتشر الجنود بين الأحراش والأشجار يبحثون عن قاتلهم

في المساء جلست تنتظره بحذرٍ ترقب رجوعه من خلف النافذة .. اطفأت كل الشموع وتركت ضوء القمر دليلاً له .. حضّرت له الخبز والزعتر وسكبت له الشاي الساخن وهي تعلم أنه سيشربه ككل مرة .. بارداً 

لم تنم عينهُ ليلتها وهو يحاول تضميد جرحه.. ولا نامت أعينهم وهم يبحثون عنه .. ظنّ أنه نجى وقد نجح بعملية عُظمى .. تذكر كيف أفلت من قبضتهم بأعجوبة حين قرر الانسحاب إلا أن إصابته كانت بليغة فشلّت حركته وعسّرتها .. ظل يزحف ودماؤه تترك وراءه الأثر .. شُلّ عقله وهو يحاول أن يجد من ذلك خلاصا .. واتته الفكرة فنفذ .. شقّ أحد أكمامه وربط بها قدمه بعد أن ملأ الجرح بالرمال والأعشاب ليتوقف نزيف الدم .. ورغم شدة الألم وخطورة ما فعل إلا أن ذلك كان الحل الأنسب للنجاة من موت محتم  ..  زحف طويلاً حتى وصل لمكان يصلح للاختباء فاختبأ .. وأشرق صُبح يومٍ جديد وانتشر الجنود بكل مكان بحثاً عنه لكنهم ما وجدوه .. وحين هبط الليل قرّر العودة فجراً كما اعتاد .. ابتسم حين مرّ بباله هاجسه بالفراق ليلة الأمس .. لابدّ أن زوجه الآن تنتظره .. لا بأس بالعودة الآن فالليل أوشك أن ينتصف 

تلّثم وخرج من جُحره المخفي .. تسلّل بين الأشجار عارجاً إثر إصابته .. سمعت صوتاً خارج البيت فظنته هو .. خرجت لتراه بفرحٍ لكنها ما وجدته .. وقفت قرب غصون الزيتون علّه يأتيها في أي لحظة .. سار بشقّ الأنفس حتى وصل لبيته أخيراً .. كان القمر بدراً .. رآها تقف تحت غصون الزيتون وقد أسدل البدر بأستار نوره عليها .. ابتسم بشوقٍ ثم اقترب .. فاقتربت .. مدّ اليد فمدّت .. تلاقت أصابعهما وتشابكت .. نظر لها وقبل أن يتلفظ بحرفٍ كان جسده قد مُلأ بالرصاص .. شَخَصَ بصرها تستوعب ما حدث وكيف حدث  ..  تلفتت حولها لترى جنود الصهاينة قد حاصروا البيت كله .. متى وأين وكيف ! .. لا تعلم .. لا بل تعلم .. لابد أن الصوت من قبل كان لهم وهم يحاوطون البيت ويحاصرونه .. عادت بأنظارها له فرأته يتهاوى بين ذراعيها ودماؤه تملأ المكان .. هلعت ثم صرخت .. خرّت على ركبتيها وهي تحتضن وجهه بيديها وتصرخ بهم " قتلتوه يا كفرة .. قتلتو نور عيوني وزوجي في بيته ..  ليش بتعملوا هيك يا ملاعين " .. جرت عَبراتها أنهارا .. احتضنته ثم قربت رأسه لقلبها تُخبئه منهم ومن بنادقهم .. نادته وقبّلته فنظر لها وابتسم قائلاً بآخر ما تبقى له

" ديري بالك ع فلسطين يا سمية .. عمر .. عمر لازم يكمل المشوار ويحرر هالأرض .. احكي لإمي ماتزعل .. هيك ربتنا ع حب فلسطين وهيك بنضحي كِرمالا .. لُقانا بالجنّة يا سمية .. بالجنّة "
_________________________

عصفوران تآلفا في حُب .. كان ثمرة حُبهما فرخٌ صغير .. لكن القدر لا يسير دوماً وفق ما نُريد .. لم يكد الفرخ يكبر حين اختطف رصاص الصياد والديه ابنة الخامسة تقف بثيابها الرثّة بقرب السيدة العجوز .. تمُص إصبعها الأكبر ودمع عينيها مازال يتلألأ

تلج إلى داخل الدار .. ترفع بصرها تطلّع إلى المبني المكون من طابقين .. تشدها العجوز من يدها بقوة لتُجرها إلى الداخل .. ثم تتركها هُناك وترحل هذه هي الذكرى الوحيدة عن قدومي إلى هُنا .. حيث لا أم .. ولا أب .. فقط الكثير من الأطفال حولي .. مثلي
فقدت أبي بعد ولادتي بأسبوع .. وفقدتُ أمي وأنا ابنة الخامسة .. لم تتحملني جدتي فأسرعت بإرسالي إلى " ملجأ " للأيتام .. نعم " ملجأ " وليست داراً أبداً .. فنحن إن كُنا نملك داراً لما لجأنا إلى هنا لم أتوقف عن البكاء لمدة ثلاثة أيام .. كُنت أصرخ في كل من يقترب مني ولا أردد سوى " ماما " 

في النهاية حين يأس الجميع مني تُركت في غرفة كبيرة .. وحدي .. حتى إذا ما أتعبني البكاء غفوت .. ثم ما ألبث أن استيقظ فلا أجد أمي فأعود لبكائي من جديد

بعد مُضيّ أسبوع فقدت فيه بعض وزني بدأت أحاول التعرف على المكان .. لقد كان بائساً جداً .. كل الجُدران فيه كانت منزوعة الطلاء مُتشققة .. الأرض رطبة فُرشت أجزاء منها بسجاد مهترئ .. في الطابق الأول كان يوجد خمس غُرف .. غرفة للطعام .. وغرفة للمكتبة .. وغرفة للتلفاز .. وغرفة المديرة والمطبخ .. أما الطابق الثاني فقد كان يحوي ثلاث غرف كبيرة .. كُلها للنوم .. واحدة للفتيات .. وأخرى للفتيان .. والثالثة للرُضع

لم أستطع التأقلم على هذه البيئة أبداً .. كنت دائماً وحيدة .. أجلس في رُكن الغرفة أراقب الأطفال وهي تندمج مع غيرها بينما أنا لا .. حين يحاول طفلٌ ما مشاركتي للعب كنت أبكي بقوة وأهرب بعيداً .. كنت أخاف صراخ الصغار وبُكائهم .. وكثيراً ما كانت مديرة الملجأ تعنفني لأني لست كبقية الأطفال حين أتممت السابعة كُنت وحيدة بالكامل .. لم يعد الأطفال يطلبون اللعب معي .. ولم أعد أحب الجلوس لمراقبتهم من زاوية الغرفة كما السابق .. بس صرت دائماً ما أجلس في زاوية المطبخ أرسم السيدة حنان – مسؤولة الطعام – وهي تعد لنا طعام الغداء لقد كانت امرأة كبيرة مُسنة .. لكن قلبها كان جميلاً .. أخبرتني ذات مرة أنها سألت المديرة عن اسم والداي .. وفرحت كثيراً وهي تهمس لي باسمهما

" ماما كان اسمها سعيدة " .. تصمت لتضحك وهي تُعقب .. " لابد أنها كانت سعيدة دوماً .. ولاشك أنها كانت تحبك كثيراً .. وبابا كان اسمه حسن .. لابد أنه كان حسن الوجه لأنكِ جميلة مثله " 

يدق قلبي طرباً لأن ماما أحبتني ولأني أشبه بابا .. ثم أسرع إلى دفتري لأرسم ماما سعيدة وبابا حسن وأنا أقف في المنتصف بينهما

كنت قليلة الكلام بشكل ملحوظ .. منعزلة منزوية عن العالم أجمع .. ولم يهتم أحداً ليحاول دمجي من جديد في هذا العالم .. على كل حال عالمي كان يقتصر على طابقين لا أكثر

أتت ذات يوم فتاة جميلة جداً .. كانت تُشبه الأميرات .. اسمها ريم .. أخبرتني السيدة حنان أنها متطوعة أتت لتعمل في الملجأ في ساعات الفراغ .. ابتسامتها أسرتني .. فركضت لأرسمها في دفتري وأكتب تحتها " الأميرة "

كنت أخاف منها رغم حُبي الخفيّ لها .. لم أغير عاداتي المنطوية .. لكنها لاحظتني فاخترقت عزلتي بهدوء

- ماذا ترسمين ؟

أفاجئ بها تقف فوق رأسي وأنا أرسم في المطبخ .. فتتسع ابتسامتها وتجلس بقربي .. تمُد يدها لي تخبرني أنها تريد التعرف عليّ .. فأقبل على استحياء

- اسمي ريم .. وأنتِ ؟

= حياة

- اسمكِ جميل جداً .. ماذا ترسمين ؟

= أرسم بحراً وأسماك
- هل زُرتي البحر قبلاً ؟

= لا

تبتسم ثم تعدني أننا سنزوره ذات يوم .. سوياً

اتسع عالمي رويداً حين ولجت إليه ريم .. كنت أشعر بأنها دافئة كماما .. وجميلة كبابا .. كانت تحب أن تجلس معي وتشاهدني أرسم وكثيراً ما غار بقية الأطفال من ذلك

رغم أنها كانت تأتي يومين فقط في الأسبوع فترة الصباح إلا أنها كانت بالنسبة لي المُتسع الوحيد في هذا الملجأ الحزين .. سألتني ذات مرة بعد أن دست في يدي قطعة سكاكر

- لماذا تجلسين دائماً لوحدك ؟

= لأنني لا أريد الجلوس في الخارج

- لماذا لا ترسمين في الخارج إذاً ؟ .. لماذا تجلسين دوماً في المطبخ

= أخاف من بقية الأطفال .. حين يبكي أحد الصغار أشعر بصوت بكائه يخترق أذناي حتى أكاد أُصم .. أنا لا أحبهم .. فقط أحبكِ وأحبك السيدة حنان

تلتمع عينا ريم ثم تضمني .. أسمع صوت قلبها يدق بقوة فاستكين بين ذراعيها

بلغت التاسعة ومازال عالمي مقتصراً على ريم والسيدة حنان ودفتر الرسم الخاص بي .. لاحظت ريم أني أحب الرسم كثيراً فبدأت تبتاع لي دفاتر جديدة وألوان .. ولكم رفرفت فرحاً بتلك الهدايا

- غداً يوم اليتيم .. ماذا تتمنين أن تفعلي في هذا اليوم ؟

= أنا لا أحب هذا اليوم

- لماذا ؟

= لأن كثيرا من الناس يأتون يوزعون الهدايا بصحبة أطفال آخرين وحين أفرح لأن هناك من هو سعيدٌ كماما وحسنٌ كبابا ما يلبث أن يرحل ولا يأتي مجدداً .. لماذا ياريم يرحل معهم الأطفال ولا أرحل أنا من هذا المكان ؟ .. أنا لا أحب هنا

تصمت ريم .. ثم تسأل بشجن

- لماذا لا تحبين المكان هنا ؟ .. هل يضربكِ أحد ؟

= أنا أخاف من المديرة .. دائماً ما تصرخ فيّ لأني لا أحب الجلوس مع بقية الأطفال وقت الطعام وأكل في المطبخ 

- ولماذا لا تأكلين معهم ؟

= لأنهم لا يحبونني

- لكنني أحبكِ

= وأنا كذلك

أحضرت لي دُمية جميلة جداً حين بلغت الثانية عشر .. فرحت بها وخبأتها بعيداً عن بقية الأطفال .. لكنني سرعان ما رفضت هديتها حين علمت أنها ستتوقف عن القدوم إلى الملجأ بسبب زواجها الذي اقترب موعده .. بكيت كثيراً .. وامتنعت عن الحديث معها لمدة أسبوعين .. ورميت دميتها للأطفال الصغار .. لكنهم حين مزقوا ذراعها تشاجرت معهم وأخذتها عنوة لأجلس في زاوية المطبخ فأبكي

أخبرتني السيدة حنان بعد انقطاع ريم لمدة شهر أننا مدعوين لحفل زفافها .. واتسعت ابتسامتها وحين تخبرني أنها خاطت لي فستاناً خاصاً مميزاً عن بقية الأطفال

حين رأتني المديرة صرخت في وجه السيدة حنان لأنها ميزتني عن بقية الأطفال .. لكنني كنت مميزة حقاً لأن ريم صديقتي وحدي .. ووحدي من أرى فيها سعادة ماما وحسن بابا

كانت ريم جميلة جداً ذلك اليوم .. انفلتت من عيناي دمعة حاولت كتمها لكي لا تحزن ريم في يوم سعيدٍ كهذا .. لكنني كنت حزينة لأن ريم سترحل .. أجلستني ريم بقربها وهمست لي أن زوجها اسمه " حسن " فنسيت كل الحزن الموجود في هذا العالم

بعد أن انتهى الحفل كنت حزينة قليلاً .. لكن السيدة حنان أخبرتني أن ريم حتماً ستعود لزيارتي من جديد

الآن بلغت الخامسة عشر .. وريم لم تعد بعد .. بكيت كثيراً لأنها لم تعد .. لكنني بشكل ما نضجت وفهمت أن الجميع سيفارقوننا لا محالة .. بالأمس فارقني والداي .. واليوم ريم .. ولأنني لا أريد أن أفارق المزيد غداً قررت ألا أحب أحداً آخر .. سأظل وحدي في هذا الملجأ .. حتى أموت

الفرخ الصغير كبر وحاول الطيران .. لكنه في إحدى محاولاته وقع على الأرض وانكسر جناحاه .. ولم يجد من يداوي جُرحه .. لأنه يتيم

 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف