أين البرهان؟
بقلم: حسين عمر دراوشة(كاتب وباحث فلسطيني)
هرع أهل الحي على قعقعة السلاح التي جابت الأرجاء والنواحي، وأصيب الحي بالشلل، وحدث مناوشات لكن الجيش العرمرم قضى نحب كل من تسول له نفسه في المواجهة، واتّبع أسلوب همجي في تصفية الرجال دون النساء والأطفال في تجماعات جماهيرية، وكانت آمنة أنجبت طفلها البرهان حديثاً من زوجها معتوق الذي طالته يد الردى بكل أريحية...
***
بقيت آمنة ووليدها البرهان وتوشحت بالسواد وأصبحت لياليها سوداء وضاقت بها الدنيا بما رحبت في ظل الهمجية الغادرة التي قامت بها غربان السوء التي حلّت بالمكان والفناء... وناحت تلكم المرأة وحمحمت حتى ابتلت وجفت مآقيها لذلك المصاب الجلل والغمام الذي ملأ الرحب أمام ناظريها ... وتتأمل في عيون برهانها ويعتصر قلبها ألماً تفكر في حاله ومآله ...
***
مرّت الأيام وآمنة على عهد معتوق متمسكة، وعاش البرهان في كنف أخواله، فالخال والد، وتحاومن النسوة حولها من أجل أن تتزوج، ولكنها تأبى ذلك، وتريد أن تحشر مع زوجها الشهيد وتحافظ على عهده ووعده وميثاقه، تلك هي عزة أعزها الله لمن يريد من البشر، ترعرع البرهان في أحضان والده الحنونة وأخواله، وكما هي الحياة لا تخلو من اضطرابات وأحداث صغيرة وكبيرة لكنها تستمر...
***
وقعت إحدى الوقائع إبان التحاق البرهان في الجامعة، وأخذ يعلو صوته الرافض للعدوان السافر، واشتدت صوت حنجرته وعلا أمام الجموع... واتّجهت الأنظار حوله...
وطاردته قوات الاحتلال ولاحقته في أرجاء الحي وأصبح مطلوباً لا يشق له غبار، وهام في الصحاري والبراري، هي تلك عاقبة معتوق الذي حرق دمه وجسده وماله للفناء في سبيل الله ثم الوطن ... وهذه ثمار أينعت تعهدتها آمنة بمرارة صبرها على قسوة الحياة وجور الأيام... لتزداد اللوعة... بعد مطاردة حبيبها الوحيد البرهان الساطع ...
***
قارع البرهان ثم قارع وقارع... وانهزم الاحتلال وولى الدبر... وتعالت الزمجرات وتناثرت العبارات، وحمل البرهان على الأكتاف، وأطلق آمنة الزغاريت فرحةً بذلك... وتهمس في نفسها بكم تزهو المناصب يا نسل معتوق وآمنة... واستمرت الاحتفالات المجيدة وعمت ربوع الوطن الحبيب...
وكلّف البرهان بتولي زمام الأمور وتكوين الهيكل القيادي لربوع أهل الحي ومجلس إدارتهم، وتبدلت النظرات وتغيرت مع تقادم الزمن حول الحلول والمقترحات لأهل الحي وارتباطاتهم فيما بينهم وما عداهم ... واستكان البرهان وأزيل عن المشهد، وركب الموجة غيره وأخذ ينقر الدفاف ويدق الطبول في حالة من الدعة والطمأنينة ...
***
وبين الهرج والمرج ... سقط الزمام إلى الحضيض واستشاط البرهان ورفاقه ليصحوا من غفوتهم والسِّنة التي حطّت الغمامة على أعينهم وهم تتمايل أجسادهم وأرجلهم مبسوطة على تلك الكراسي الخشبية التي آلمت ظهورهم برهة من الزمن...
ونكس البرهان على عقبيه وعاد الكرة مرة أخرى، وهلل وصفق له الرفاق وحملوه مرة أخرى على أكتافهم الأسل الظماء ... حقيقة اللحظة الحاسمة التي فيها العاطفة الجارفة للوطن وأراضيه ... ومرت فترة زمنية لينجلي عجاج الزمن وتكنس غبار الأتربة ... ويفرح صدقي بالكرسي الاسفنجي، ويقول للبرهان:
إن هذا الكرسي مريح يا برهان...
ضحك البرهان، هذا جديد لذلك مريح، فهو أفضل من الكرسي الخشبي ...
***
وبدأت النعرات تبرز على السطح ... وتطفو الخلافات في حالة من النزاع والاقتتال بين الرفقاء على الأماكن الخلابة والقذرة في حين واحد، ودق بينهما عطر منشم، وتوارت الأفكار الخبيثة والطيبة وصالت بينهم مرات ومرات ...
زمجر البرهان ونفح من جوفه نفخةً غاضبة كنست كل من تراوده نفسه على أن الاستيلاء والسيادة، وحكم ورسم في الشؤون والأحوال، وكان وفيّاً قد دارت عليه الدوائر في حماية حي أهله، وأجبر على إسعاد الحي بإقامة علاقات مع القرى والأحياء المجاورة، التي يسكنها أعداء ألداء، ولكن من قلب الحي تدخل أناس وسطاء... وأجلسوا البرهان مع كبير الشيوخ في الحي المجاور الذي كثير ما يُؤذي سكانه حلال ومال وعيال حي أهل برهان.. وكبير الشيوخ قد كان بوذياً يبعض ملة البرهان وأهله، لكن مكره أخاك لا بطل، واستلهم البرهان من جوفه أن يناجى ربه ويستخيره في أمر الجلوس مع كبير الشيوخ... واستكان قلبه في حالة بين الثبات واليأس والقنوط... وتم الأمر ... ونسى أن أبوه لقى ربه بسبب فتوى من نسل ذلك البوذي... إنها غشاوة وبطانة...!!!
***
قرع الخبر آذان الرفاق وشاع وعم على مسمع الجميع، وعضت آمنة أصابع الندم على ذلك ولات حين ينفع الندم، وأخذت تضرب على بطنها وتؤذي نفسها على ما جنته هي ومعتوق على نفسها، وغاب عنها في لحظة الغضب العارم ما حدث مع النبي نوح عندما آوى ابنه إلى الجبل لكي يحميه، ولكنه ابنها آوى لكرسي مريح يجلس عليه، وعاقبته إلى التراب فكل الذي فوق التراب تراب...
وزمجرت أسود الحي وزلزلت الأركان لكنها زوبعة في فنجان... وحال لسانهم يقول: أين البرهان يا برهان... ؟!
بقلم: حسين عمر دراوشة(كاتب وباحث فلسطيني)
هرع أهل الحي على قعقعة السلاح التي جابت الأرجاء والنواحي، وأصيب الحي بالشلل، وحدث مناوشات لكن الجيش العرمرم قضى نحب كل من تسول له نفسه في المواجهة، واتّبع أسلوب همجي في تصفية الرجال دون النساء والأطفال في تجماعات جماهيرية، وكانت آمنة أنجبت طفلها البرهان حديثاً من زوجها معتوق الذي طالته يد الردى بكل أريحية...
***
بقيت آمنة ووليدها البرهان وتوشحت بالسواد وأصبحت لياليها سوداء وضاقت بها الدنيا بما رحبت في ظل الهمجية الغادرة التي قامت بها غربان السوء التي حلّت بالمكان والفناء... وناحت تلكم المرأة وحمحمت حتى ابتلت وجفت مآقيها لذلك المصاب الجلل والغمام الذي ملأ الرحب أمام ناظريها ... وتتأمل في عيون برهانها ويعتصر قلبها ألماً تفكر في حاله ومآله ...
***
مرّت الأيام وآمنة على عهد معتوق متمسكة، وعاش البرهان في كنف أخواله، فالخال والد، وتحاومن النسوة حولها من أجل أن تتزوج، ولكنها تأبى ذلك، وتريد أن تحشر مع زوجها الشهيد وتحافظ على عهده ووعده وميثاقه، تلك هي عزة أعزها الله لمن يريد من البشر، ترعرع البرهان في أحضان والده الحنونة وأخواله، وكما هي الحياة لا تخلو من اضطرابات وأحداث صغيرة وكبيرة لكنها تستمر...
***
وقعت إحدى الوقائع إبان التحاق البرهان في الجامعة، وأخذ يعلو صوته الرافض للعدوان السافر، واشتدت صوت حنجرته وعلا أمام الجموع... واتّجهت الأنظار حوله...
وطاردته قوات الاحتلال ولاحقته في أرجاء الحي وأصبح مطلوباً لا يشق له غبار، وهام في الصحاري والبراري، هي تلك عاقبة معتوق الذي حرق دمه وجسده وماله للفناء في سبيل الله ثم الوطن ... وهذه ثمار أينعت تعهدتها آمنة بمرارة صبرها على قسوة الحياة وجور الأيام... لتزداد اللوعة... بعد مطاردة حبيبها الوحيد البرهان الساطع ...
***
قارع البرهان ثم قارع وقارع... وانهزم الاحتلال وولى الدبر... وتعالت الزمجرات وتناثرت العبارات، وحمل البرهان على الأكتاف، وأطلق آمنة الزغاريت فرحةً بذلك... وتهمس في نفسها بكم تزهو المناصب يا نسل معتوق وآمنة... واستمرت الاحتفالات المجيدة وعمت ربوع الوطن الحبيب...
وكلّف البرهان بتولي زمام الأمور وتكوين الهيكل القيادي لربوع أهل الحي ومجلس إدارتهم، وتبدلت النظرات وتغيرت مع تقادم الزمن حول الحلول والمقترحات لأهل الحي وارتباطاتهم فيما بينهم وما عداهم ... واستكان البرهان وأزيل عن المشهد، وركب الموجة غيره وأخذ ينقر الدفاف ويدق الطبول في حالة من الدعة والطمأنينة ...
***
وبين الهرج والمرج ... سقط الزمام إلى الحضيض واستشاط البرهان ورفاقه ليصحوا من غفوتهم والسِّنة التي حطّت الغمامة على أعينهم وهم تتمايل أجسادهم وأرجلهم مبسوطة على تلك الكراسي الخشبية التي آلمت ظهورهم برهة من الزمن...
ونكس البرهان على عقبيه وعاد الكرة مرة أخرى، وهلل وصفق له الرفاق وحملوه مرة أخرى على أكتافهم الأسل الظماء ... حقيقة اللحظة الحاسمة التي فيها العاطفة الجارفة للوطن وأراضيه ... ومرت فترة زمنية لينجلي عجاج الزمن وتكنس غبار الأتربة ... ويفرح صدقي بالكرسي الاسفنجي، ويقول للبرهان:
إن هذا الكرسي مريح يا برهان...
ضحك البرهان، هذا جديد لذلك مريح، فهو أفضل من الكرسي الخشبي ...
***
وبدأت النعرات تبرز على السطح ... وتطفو الخلافات في حالة من النزاع والاقتتال بين الرفقاء على الأماكن الخلابة والقذرة في حين واحد، ودق بينهما عطر منشم، وتوارت الأفكار الخبيثة والطيبة وصالت بينهم مرات ومرات ...
زمجر البرهان ونفح من جوفه نفخةً غاضبة كنست كل من تراوده نفسه على أن الاستيلاء والسيادة، وحكم ورسم في الشؤون والأحوال، وكان وفيّاً قد دارت عليه الدوائر في حماية حي أهله، وأجبر على إسعاد الحي بإقامة علاقات مع القرى والأحياء المجاورة، التي يسكنها أعداء ألداء، ولكن من قلب الحي تدخل أناس وسطاء... وأجلسوا البرهان مع كبير الشيوخ في الحي المجاور الذي كثير ما يُؤذي سكانه حلال ومال وعيال حي أهل برهان.. وكبير الشيوخ قد كان بوذياً يبعض ملة البرهان وأهله، لكن مكره أخاك لا بطل، واستلهم البرهان من جوفه أن يناجى ربه ويستخيره في أمر الجلوس مع كبير الشيوخ... واستكان قلبه في حالة بين الثبات واليأس والقنوط... وتم الأمر ... ونسى أن أبوه لقى ربه بسبب فتوى من نسل ذلك البوذي... إنها غشاوة وبطانة...!!!
***
قرع الخبر آذان الرفاق وشاع وعم على مسمع الجميع، وعضت آمنة أصابع الندم على ذلك ولات حين ينفع الندم، وأخذت تضرب على بطنها وتؤذي نفسها على ما جنته هي ومعتوق على نفسها، وغاب عنها في لحظة الغضب العارم ما حدث مع النبي نوح عندما آوى ابنه إلى الجبل لكي يحميه، ولكنه ابنها آوى لكرسي مريح يجلس عليه، وعاقبته إلى التراب فكل الذي فوق التراب تراب...
وزمجرت أسود الحي وزلزلت الأركان لكنها زوبعة في فنجان... وحال لسانهم يقول: أين البرهان يا برهان... ؟!