الأخبار
بلومبرغ: إسرائيل تطلب المزيد من المركبات القتالية وقذائف الدبابات من الولايات المتحدةانفجارات ضخمة جراء هجوم مجهول على قاعدة للحشد الشعبي جنوب بغدادالإمارات تطلق عملية إغاثة واسعة في ثاني أكبر مدن قطاع غزةوفاة الفنان صلاح السعدني عمدة الدراما المصريةشهداء في عدوان إسرائيلي مستمر على مخيم نور شمس بطولكرمجمهورية بربادوس تعترف رسمياً بدولة فلسطينإسرائيل تبحث عن طوق نجاة لنتنياهو من تهمة ارتكاب جرائم حرب بغزةصحيفة أمريكية: حماس تبحث نقل قيادتها السياسية إلى خارج قطرعشرة شهداء بينهم أطفال في عدة استهدافات بمدينة رفح"عملية بطيئة وتدريجية".. تفاصيل اجتماع أميركي إسرائيلي بشأن اجتياح رفحالولايات المتحدة تستخدم الفيتو ضد عضوية فلسطين الكاملة بالأمم المتحدةقطر تُعيد تقييم دورها كوسيط في محادثات وقف إطلاق النار بغزة.. لهذا السببالمتطرف بن غفير يدعو لإعدام الأسرى الفلسطينيين لحل أزمة اكتظاظ السجوننتنياهو: هدفنا القضاء على حماس والتأكد أن غزة لن تشكل خطراً على إسرائيلالصفدي: نتنياهو يحاول صرف الأنظار عن غزة بتصعيد الأوضاع مع إيران
2024/4/20
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

خرخوش بقلم: حسين عمر دراوشة

تاريخ النشر : 2020-02-01
خرخوش

بقلم: حسين عمر دراوشة (باحث وكاتب فلسطيني)

غادر أبو إسحاق السبحاني إلى بلاد يطلب فيها موائد الرحمن في علوم القرآن والسنة والأثر، ويمتلك أبو إسحاق زمام نفسه يتهادى على طريق العلم والمعرفة؛ فيجوب البلدان ولا تغادره أدوات الكتابة ولا يخلو بيته من الورق، إن السبع لا يخلو بيته من العظام، وشتان ما بين غذاء الروح والهيام بذلك في حالة عشق أزلي وبين من يتلذذ في غذاء الجسد فيلهث لسد رمق جوعه ويشبع غريزته وشهوته وهو في عجب من أمره في تقديس واحد على حساب الآخر  بهذه المعمورة المسكونة بالأشكال والألوان التي تهمي العين وتذهب العقل من شدة الهول وغرابة المشهد... هي أيقونات يراها أبو إسحاق أمام ناظر عينيه...

***

وفي ذات الأيام خرج أبو إسحاق من كوخه الذي نصبه بالقرب من تلك القرية الهادئ أهلها، ويترتاد هذا الكوخ طلاب العلم، وكانت عند أبي إسحاق كثير من الفسح التي يناجى فيها ربه ويخلو فيها مع نفسه في حالة من الهذيان والتوبة من العصيان والذنوب أمام عظمة الخالق... وطرا على باله أن يُروح عن نفسه في ذات صباح... فذهب للبحيرة القريبة من كوخه يتمشى على شواطئها الساكنة وحفيف الأشجار ونسمات الصبح العليلة تنشر شذا الأقحوان ولا يسمع إلّا صرير الرياح اللطيفة والعابرة التي تسلب الألباب وتحنو منها القلوب ...

***

يستمع أبو إسحاق لصرخات إغاثة ونجدة تلج في الأفق مع هدوء الصباح وسكون البشر، ويصنت أبو إسحاق ليعي مصدر الصوت ويحدد اتّجاهه، فإذا بالزبد الأبيض في عمق مياه البحيرة الآسن، وخاف أن يكون ذلك من عفاريت سليمان المصفدة في عقر أعماق البحار ولججها التي فيها ظلمات بعضها فوق بعض، واستعاذ بالله من العفاريت وشياطين  الجن والأبالسة، ولكنه نسي الاستعاذة من عفاريت الإنسن وشياطينهم وأبالستهم ... لعل هول الحدث وفزعه في الدنيا هزّ أركان أبو إسحاق لكن اللحظات الإيمانية والأصل التقي النقي غلب على حواس أبي إسحاق وعاد إلى رشده ... ويتردد الصوت مرات ومرات... لقد ضاقت الدنيا أمام ناظريه ولم يكن من بد من الغوص في عباب البحيرة وأعماقها بالرغم من برودتها وما قد يلحق الشيخ الهرم من أذى وأسقام قد تسكن هذه البحيرة ...

***

مال على نفسه وهو صراع بين الأنا والضمير  ... خاطر أبو إسحاق ونزع ملابسه، وصغرت الدنيا وتذكر البعيد والقريب، وكان لأهل بيته النصيب الكبير ... وكنّ  رداءه وجبته، وانغمس  فارتجفت أوصاله من شدة البرد.. وأخذ يباطح تيارات الماء الجارف، ووصل  المكان فإذا به شاب في مقتبل العمر، يكاد أن تطمس معالم جسده وتختفي روحه بين الماء والهواء، والدنيا ماثله أمامه ولا حول له ولا قوة من تخليص نفسه، اقترب منه أبو إسحاق، والشاب يكاد أن يغرق أبو إسحاق، فلطمه لطمةً ليطوعه ويتحكم به عندما ينقذه، تلك القشة وذلك الغريق الذي تعلق بها، إنها قشة خفيفة يا سادتي...

لا قبلّ لأبي إسحاق في مجابهة ذلك الشاب؛ ولكنه لاحه على قفاه، بالرغم من اشتداد عوده وقوة بدنه وشراسة خلقه ورعونته وحماقته التي لم يسبق لها أن أوقعته  في خطأ مع الطبيعة ... قوى تعج بالتيارات المعاكسة وحركة الرياح الهوجاء في تلك الطبيعة  المتناثرة  بين خلق الله وصنيع الإنسان،  لقد خلق الإنسان ضعيفاً وهلوعا ... أيقن أبو إسحاق ذلك من تلك اللحظات التي تضيق فيها الدنيا، ويتمحص فيها الإنسان بين البقاء والفناء ... هذه أيقونات خالدة يسقط فيها من يسقط وتذور في غبارها من تذور وينجو فيها من أتى الله بقلب سليم وأناب له في الشدة والرخاء... تعالت حشرجات الروح وأوشك أن تزهق وتذهب كأحقر أيقونة على وجه هذه البسيطة، ولم يدرك الغلام ذلك لكنها أقدار الله ساقته لهذا ... وانزعج الشيخ من صوت الشاب الذي أغمى عليه وهو يحمله على كتفه ويعارك المياه ويجابه المخاطر من أجل إنقاذه؛ بغية التقرب لله زلفى  وطمعاً في عطائه ومغفرته، والصوت "خر وش، خر وش، خر وش" يتكرر، لقد فزع أبو إسحاق من صوت هلاك الغلام وفقدانه في تلك اللحظات العصيبة والفارقة التي تنجلي أمامها ما أجهر به وما أخفاه الغلام...

***

وصل أبو إسحاق إلى مقربة من شاطئ البحيرة، ونفض الغلام على الأرض، وأخذ يرفع رجليه ليخرج الماء الذي ارتوى منه وملأ بطنه والغلام تتناثر منه تلك القطرات القاتلة، سبحان من جعل من الماء كل شيء حي وفي لحظات قد يكون قاتلاً ... تلك مخلوقات الله من يعيش في البر والبحر والجو، ومنهم من يمشي على اثنين وأربع أو يمشي على بطنه... واستمر تناثر الزبد من فم ذلك الغلام على رمال الشاطئ الباردة والساخنة وتبقى  خرخشات تلو خرخشات... فأسعفه لكن الجثمان لم يزل هامداً ويلتقط أنفاسه بكل صعوبة... إنه الدرس القاسي أمام ناظر أبي إسحاق والشاب، وقرر أن ينقله إلى أقرب مكان للعلاج، واستعان بأبي ربحي في ذلك، الذي استكمل اسعافه بسيارته المتهالكة إلى المستشفى القريب ... لأنه لم يخبر المكان جيداً، عزم عليه أبو ربحي أن يذهب معه، لكن الشيخ اعتذر... وتفهم أبو ربحي الأمر، ولكن أبو ربحي يخشى أن يتعرض للمساءلة عنه عندما يتركه الشيخ، وهو يعلم أن الشيوخ لهم مكانتهم في هذه الدنيا والقبول المعهود لهم في هذه الحياة لحسن سمتهم الحقيقي وليس المخادع الكاذب؛ حيثُ التملق والتزلف والتطبيل والتسحيج  والهروف في غير المعروف ...  إنها نزوات السيادة وحب الرياسة يا أعزائي، نعم إنها أواني تنضح بما فيها...

***

لبس أبو إسحاق ملابسه وقد أثرت فيه هذه الحادثة تأثيراً عميقاً في فكره وذكره وذاته، واستغرب من دخوله البحيرة وقد ارتجف من شدة برودتها عندما غطّ رأسه فيها، وهو يقول في نفسه:

فقلت يمين الله أبرح قاعدًا ... ولو قطعوا جسدي لديك وأوصالي

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع

إذا كان الشتاء فأدفئوني ... فإن الشيخ يهدمه الشتاء

فأما حين يذهب كل قرٍّ... فسربال خفيف أو رداء

ولم يذهب أبي إسحاق لكوخه وإنما أكل لقمة سائغة من كوخه، وانصرف إلى مكان العلاج؛ ليطمئن قلبه ويستريح ضميره، لم يهن عليه الألم ... لكنها فحوصات الحياة في حالة الخنوع والخضوع والتمرد والبقاء... وبالكاد وصل للمكان من قلة المواصلات، ولكنه اجتهد في ذلك، ووصل المستشفى، وروى له أحد الممرضين حالة الشاب، أثنى له على أبي ربحي الذي أنقذ هذا الغلام ... وجم أبو إسحاق وصعق من الكلام الزائف الذي يعد ضرباً من الخيال وتنهت وأطلق زفراته الحارة وساحت أفكاره أمام الخبائث والمنكرات من الأكاذيب والأقاويل والأراجيف... وتذكر البعيد والقريب ... وضرب الباب والطاولة بكل ما أوتي من قوة بيده، وهو يزأر قائلاً:

أين خرخوش ... أين خرخوش...؟!

ومن ضيّق الحال وهول المجريات، وقد ذابت نظراته في الأفق السحيق وارتجّ كيانه وكاد أن يغمى عليه أو أوشك أن يقع في ذلك ...
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف