الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

الحابل والنابل بقلم: عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2020-01-30
الحابل والنابل بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
الحابل والنابل ( لعادل بن مليح الأنصاري )

في المثل العربي المعروف يقولون (أختلط الحابل بالنابل) , ويقصد هنا من شدة المعركة لم يعد يعرف من يمسك بحبل الخيل ممن يرمي بالسهام , أما اليوم فربما تنطبق الصورة على صور الخير والشر , فلم يعد البعض يملك القدرة على التمييز بين الصح والخطأ , والشعوب في عمومها يغلب عليها العاطفة وتخضع للتشكيل الإعلامي كما يريده أصحاب القرار , أما القلة التي تستطيع التمييز والتأثير فهي إما لا صوت لها أو أن صوتها يخشى عين الرقيب والذي يمكن أن تتجاوز الرقابة لما هو أبعد من ذلك , ولا يخفى علينا أن بعض المتنفذين يحرصون على توجيه أو كبح تلك الأصوات المؤثرة او التي تفهم في تلك الألعاب الخطرة , وهذه الصورة لا يتميز بها شعب دون أخر , بل من المؤكد أن كل شعوب العالم وحتى عبر تاريخهم الطويل يخضعون لنفس الحالة ولكن بطرق مختلفة ودرجات من التحكم والتوجيه قد تختلف من مكان لآخر أو من ثقافة لأخرى .
هل صارت الحقيقة نسبية ؟
هل صارت العاطفة نسبية ؟
هل صارت العدالة نسبية ؟
هل صارت الكرامة نسبية ؟
هل صار العالم علوي وسفلي ؟
لو افترضنا أن صورة العالم بتوجهاته السياسية والاجتماعية وربما الاقتصادية له حالتان , علوية وسفلية , أو بتوضيح أكثر , ماذا لو كانت صورة العالم بكل معطياته يُرى من قِبل أصحاب القرار ( العالم العلوي ) بصورة مختلفة تماما عما يراه العالم السفلي ( بقية الجماهير ) , ولنا الحق في إطلاق الخيال لكل ما يمكن أن يراه العالم العلوي من صور شتى لذلك العالم من جهتنا كعالم سفلي , ونحن هنا لا نمنحهم مبررات أو حجج لما يمكن أن يقبلوه من صور مختلفة لتوجيه العالم كما يرونه من جهتهم سواء بضغوط من الأقوى أو حسابات وضعوها لسير الحياة المجتمعية بطريقة يرونها مناسبة ولا يمكن أن نفهمها أو نقدر أبعادها ونتائجها وتقديراتها .

قد يرى البعض منا تلك التوجهات العلوية التي لا نرضى عنها كنوع من الهوان والتبعية وربما الخيانة والغدر , وآخرين ربما يرونها حكمة وبعد نظر وتصرفات مبنية على دراسات واستراتيجيات لا ندركها ولا يمكن أن نفهمها ونقدرها , ولكن الأكيد أن الأغلب منا في العالم السفلي تحركه عواطفه التاريخية والدينية والاجتماعية , ومن المستحيل أن يحيد عنها أو يميل عنها ,
فالإنسان ابن بيئته , وهي التي تشكل تاريخه وقناعاته وعواطفه وتواصله مع محيطه القريب والبعيد , وهو ابن ثقافته وعقيدته التي رسمت أفكاره وقناعاته وربما توارثها جيلا فجيل دون أن تتغير أو تتأثر بمحاولات الآخر لتغييرها أو تشكيلها .

المجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل مرت بأطوار كثيرة ومعقدة تداخلت فيها الثقافات والحضارات وأثر بعضها على بعض , سواء بالحروب أو بسيطرة ثقافة الأقوى , أو بالاستعمار , أو بالجوانب الإنسانية النبيلة التي ربما فرضت وجودها وفكرها عبر أزمان معينة , وهذا التنوع لا يخفى علينا منذ أن تشكلت المجتمعات البدائية بين أبناء أدم وحتى اليوم .

ربما كانت الحروب والتجارة والمصاهرة هي أدوات التأثير قديما , وكذلك ظهور الأديان وامتداد تأثيرها إلى خارج حدود مناطقها بسبب تعاليمها وما تغرسه في نفوس أصحابها والمتأثرين بها من توجهات إنسانية معينة تولد القدرة على التغيير وخلق الانتماءات لها , فكانت عملية الغزو والتأثير الثقافي والسياسي والاجتماعي واضحة المسالك ويمكن التصدي لها لأي قوة تملك القدرة على ذلك .

ربما كان ظهور الكتب والمطبوعات الورقية في بدايات العصر الحديث عملية انقلابية حضارية وكونية بدأت تؤتي ثمارها الواضحة في تشكيل العالم السفلي , وكان العالم العلوي يصب فيها كل ما يشاء من سياسات وتوجيه لمشاعر الجماهير حتى لو كان ذلك يتعدى حدود ثقافاته وقناعاته وتمسكه بإرثه مهما كان هذا الإرث , وبدون الدخول في أمثلة وتفاصيل كانت تلك المحاولات تجد من يتصدى لها من أصحاب العقول الثائرة , وحينا تجد هدفها لتتسلل لبعض العقول الأخرى , وليس غريبا أن يحرص نابليون عند غزوه لمصر أن يحرص على إنشاء صحيفة بعدة لغات ليحاول خلق قنوات ثقافية لتوجهاته في العقول المصرية وغيرها في ذلك الوقت , كان يدرك أهمية ذلك السلاح الفتاك الذي يتسلل للعقول قبل أن يتسلل السيف للأجساد , واستمرت الصحف والكتب في تشكيل العقول وربما تغيير القناعات المتوارثة وخلقت أجيالا تتبنى الكثير من تلك الأفكار والثقافات حتى لو كانت مصاغة من قبل أعدائها دون أن تشعر أحيانا .

لقد خلقت تلك الثقافات العشرات من التشكيلات المختلفة من التوجهات وحتى وصلت لتكوين أحزاب ونُخب وجماعات سياسية واجتماعية , بعضها يتمسك بمعتقداته الدينية بتطرف , وبعضها يفضل الوسطية , وغيرها مال للعلمانية أو الإلحاد أو الأفكار المتطرفة أيا كانت , وهذا لا يقتصر على الشرق العربي فقط , بل امتد تأثيره على العالم كله , ففي أوربا ظهرت جماعات الضغط النازية , والدينية المختلفة , وفي الشرق الأدنى ظهرت حركات الشيوعية على اختلاف مناحيها , وصار لك مجتمع صوره من صور الانتماء الخاصة به , ولا يخفى علينا استماتة اليابان مثلا في الحفاظ على هويتها الثقافية أمام المنتصر الأمريكي , وكذلك النموذج الصيني والكوري وحتى التركي , فالكل يدرك تلك الحرب الثقافية والحضارية التي يشنها الجميع على الجميع مع اختلاف الأساليب والطرق والسياسات , وليس غريبا أن تعبث الصهيونية بورقة المحرقة النازية لجلب العطف وتمرير مقاصد خبيثة للعقول في كل مكان أنها ثقافة مضطهدة من قبل عدو شرس لم يرحم إنسانيتها ووجودها .

ولكن مع ولادة العالم الجديد , وتدخل التقنية الحديثة , تغيرت الصورة بشكل جذري , أصبح الدخول للعقول المنفردة أسهل بكثير من العبث بها بشكل مجموعات , وأصبح التشكيل الفكري أكثر دقة واحترافية وأكثر تصويبا وقياس للنتيجة , وأصبحت تقوم به الحكومات وتبذل المال والجهد والتخطيط لاستخدامه كسلاح يفتك بالوعي ويصنع جنودا بطرق قد لا ينتبه لها الشخص بذاته , فالشباب الذين هم أسا أي مجتمع أصبحوا يقضون الساعات الطوال وهم ينتقلون بين ساحات التقنية الرقمية , هم في حرب سرية دون ان يشعروا , يتلقون المعلومات دون النظر لحقيقتها أو لتأثيرها على ثقافاتهم المكتسبو وحتى بعيدا عن مسلماتهم الدينية والاجتماعية , وبطريقة أخرى يشاركون الآخرين معلوماتهم وتجاربهم وآرائهم وربما يشعرون بالفخر وبقيمة الذات بممارسة نقاشاتهم ومتابعتهم لمستجدات العصر .

في العالم العلوي يدركون تلك الممارسات ويوجهونها بطرقهم المدروسة وبكل هدوء , ويعرفون أن نتائجها قادمة لا محالة , فالإنسان الحديث أصبح حقا ابن الإعلام الذي يشكله ويحيط به , وحتى المسلمات التاريخية وربما الدينية أصبحت عرضة للنقاش والتشكيك والدفاع والقذف .

هذا الوضع خلق جيلا لم يعد يعرف أين الحقيقة , أو ربما يرى الحقيقة كما تقدم له , فهو لا يملك أدوات البحث والمعرفة والقدرة على التفكير الحر البعيد عن التأثيرات المختلفة للواقع الافتراضي التقني الذي أصبح جزءا لا يتجزأ منه شاء أم أبى , يكفي أن نلاحظ أن بعض المسلمات الثقافية والدينية التي تربت عليه أجيالا عديدة أصبحت في مهب الريح العالمية التي لم يعد للأخلاق مكان فيها , أليس من العادي جدا المشاركة اليومية عبر مواقع التواصل العالمية انتهاك الحرمات والكذب والزور والبهتان والنميمة وهتك الأعراض والقذف والتخوين والتكفير والتسفيه والتجهيل والسخرية من كل شيء بما فيها الخلق والخالق والأجناس والقوميات , وكل ما مر وقت زادت تلك الممارسات وتداخلت الأخلاقيات السيئة والجيدة بشكل كاد الفارق أن يختفي بينهما للكثير من أجيال اليوم .

كأن الهدف الأسمى لأصحاب العالم الأعلى هو هدم الأخلاق أولا وأخيرا , ثم فصل الإنسان عن مسلماته الدينية والاجتماعية المكتسبة والمتوارثة لخلق إنسان عالمي جديد مرهون أخلاقيا وفكريا وروحيا بمن يُشكل له عالمه الجديد , ربما نكون في طور تاريخي غريب يقع بين الماضي والمستقبل , هم يعدون العدة لخلق مستقبل ليس له علاقة بتاتا بالماضي بعقيدته وأخلاقياته وقيمه وترابطه الاجتماعي والأسري والمكاني , هي عجلة قوية تدور في مصلحة الأقوى والمنتصر ضد تلك الشعوب التي لم تعد تجد لها مكانا لا في ماضيها ولا في مستقبلها .

ويبقى السؤال الأهم , هل هذا الوجه القبيح لعالم التقنية الذي خلط الحابل بالنابل , هو الوجه الحقيقي للعالم السفلي ؟

ربما هو كعنوان الغلاف لأي كتاب , يتصدر الصفحات ويختصر كل مابين دفتي الكتاب , ولكن ربما كان داخل هذا الكتاب كلام ليس له علاقة بالعنوان , هناك أضواء مبهرة تتصدر المشهد العام عبر تلك القنوات التي ترسم وتختصر الوقت والساعات والدقائق والعقول النائمة والمستسلمة , وربما الواعية , تلك الأضواء تتجمع حولها العقول كفراشات حائرة تبحث عن الحقيقة وربما عن التسلية وربما تمضية الوقت وربما تبحث عن متعة عابرة أو علاقة تضعنا في طريق ينتشلنا من ضياع لا نعرف نهايته , تتعدد الغايات والأهداف والأماني .

ولكن ربما لو نظرت في وجه أحدهم بعيدا عن هذا العالم المتداخل الموبوء بأصابع أصحاب العالم الأعلى وعبثهم بعقولنا , وسألته هل تؤمن بكل هذا الهراء الذي يغمرنا صباح مساء ؟

لابتسم وقال ,, نحن نعرف الحابل ونعرف النابل ,, فدعهم يخوضوا ويلعبوا حتى حين .
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف