
النّصّ الأدبيّ ظاهرة مستقبليّة في "جمّة الدّرع"** للرّوائي التونسي محمّد خريّف
حسن عجمي*
السوبر مستقبلية فلسفة ذات تطبيقات عديدة و متنوّعة منها تطبيقها على النصّ الأدبي. تؤكِّد السوبر مستقبلية على أنَّ المفاهيم و الحقائق و النصوص ظواهر مستقبلية. من هذا المنطلق تُحلِّل السوبر مستقبلية النصوص الأدبية على أنها تتكوّن في المستقبل. فإن كانت الظواهر و الحقائق و المعاني مُحدَّدة في المستقبل فقط فحينئذٍ من المتوقع أن تكون النصوص الأدبية مُحدَّدة أيضاً في المستقبل لكونها تعابير عن معانٍ و حقائق واقعية أو متخيّلة. و رواية محمد خريّف "جمّة الدرع: من يوميات حلوفة في قاع البئر" خير دليل على أنَّ النصّ الأدبي ظاهر مستقبلية.
تعتبر السوبر مستقبلية أنَّ المعاني تتشكّل في المستقبل على ضوء قراراتنا الاجتماعية ما يجعل المعاني ظواهر مستقبلية و يضمن استمرارية البحث عن تحديدها. تضمن السوبر مستقبلية استمرارية الأبحاث المعرفية و العلمية بغرض الكشف عن المعاني لأنَّ بالنسبة إليها المعاني لا تتكوّن سوى في المستقبل. و بما أنَّ المعاني تتشكّل في المستقبل فقط , إذن المعاني غير مُحدَّدة في الحاضر و الماضي ما يحرّرنا من المعاني الماضوية فيمكّننا من اكتساب إنسانويتنا الكبرى الكامنة في الحرية. هكذا يكتسب التحليل السوبر مستقبلي للمعنى فضائله كفضيلة ضمان استمرارية البحث المعرفي و فضيلة تحريرنا من مُحدَّدية المعاني و ماضويتها. و بفضل هذه الفضائل تصبح الفلسفة السوبر مستقبلية مقبولة و صادقة.
بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , التاريخ يبدأ من المستقبل ما يُحتِّم تحليل المفاهيم و الظواهر من خلال المستقبل كتحليل المعنى على أنه قرار اجتماعي في المستقبل. فالمعاني قرارات اجتماعية مستقبلية لأنَّ فقط من خلال القرارات الاجتماعية تصبح المعاني مشتركة بين الجميع (بكونها قرارات اجتماعية يشارك في انتاجها الجميع) ما يمكّننا من النجاح في التفاهم و التواصل اللغوي فيما بيننا. هكذا التحليل السوبر مستقبلي للمعاني ينجح في التعبير عن إمكانية التفاهم و التواصل اللغوي لأنه يُحلِّل المعاني على أنها قرارات اجتماعية مستقبلية مشتركة بين الجميع. و بذلك يكتسب هذا التحليل هذه الفضيلة الإضافية. فالمعاني هي ما سوف ينتجه الجميع في المستقبل على ضوء قرارات اجتماعية تتضمن قرارات متنوّعة منها القرارات العلمية و المعرفية لكونها قرارات اجتماعية أيضاً. من هنا , معارفنا و علومنا المستقبلية تشارك أيضاً في تحديد المعاني في المستقبل ما يضمن لا محالة تطوّر لغاتنا و معانيها.
إن لم تكن المعاني تتشكّل فقط في المستقبل فكانت بذلك مُحدَّدة في الحاضر و الماضي فحينئذٍ يستحيل أن تتغيّر المعاني و تتطوّر كما يستحيل عندئذٍ أن تستمر الأبحاث المعرفية و العلمية بهدف اكتشاف معانٍ جديدة. من هنا المعاني ظواهر مستقبلية لكونها قرارات اجتماعية تتكوّن فقط في المستقبل ما يؤدي إلى نتيجة أنَّ الإنسان نفسه ظاهرة مستقبلية فيتكوّن الإنسان فقط في المستقبل من جراء تكوّن معانيه في المستقبل فقط. هكذا يبدأ الإنسان من المستقبل و إلا لا يبدأ أبداً.
بالإضافة إلى ذلك , بما أنَّ المعاني تتشكّل في المستقبل , و علماً بأنَّ النصوص الأدبية تتكوّن من معانٍ , إذن النصوص الأدبية ظواهر مستقبلية تتشكّل فقط في المستقبل على ضوء ما سوف نكتشف من معانٍ لها. من هنا يبدأ النصّ الأدبي من المستقبل ما يحرّر النصّ من أية مضامين مُحدَّدة سلفاً و من أية معانٍ ماضوية ما يضمن حرية النصّ و الإنسان معاً. هكذا النصوص الأدبية نصوص إنسانوية لكونها تتضمن آليات التحرّر الإنساني بتحرير معاني لغتنا فتحريرنا من سجون المعتقدات و السلوكيات الماضوية المسجونة بمعانٍ مُحدَّدة مُسبَقاً. النصّ الأدبي آلية جوهرية في تفعيل إنسانية الإنسان. لذلك لا إنسانٌ بلا نصّ تماماً كما لا نصّ بلا إنسان.
على ضوء هذه الاعتبارات الفلسفية من الممكن قراءة رواية محمد خريّف "جمّة الدرع" الصادرة حديثا عن دار برسبكتيف "آفاق"للنشر والتوزيع بتونس . بطل هذه الرواية ميت يتحدّث بلسان الأحياء لأنَّ تاريخه يبدأ من المستقبل. نختبر الزمن و أحداثه و كأنها تعبر من ماض ٍ إلى حاضر ٍ و من ثمّ إلى مستقبل. لكن الزمن يخدعنا لأنه في الحقيقة يبدأ من المستقبل متحوّلاً إلى حاضر ٍ فماض ٍ. على أساس هذه الفلسفة السوبر مستقبلية من المتوقع أن يكتشف الإنسان حقيقة تاريخه كما فعل حلوفة بطل رواية خريّف فيقف أمام قبره متسائلاً عن كينونته الكامنة في لغته التي لم يكتشفها بعد. "أقف أمام شاهدة قبري ... أين جُمَلي؟" الوقوف أمام قبورنا ممكن و هو الواقع الأصدق لأنَّ تاريخنا يولد في مستقبلنا الذي يحرّرنا من أكاذيب حاضرنا و ماضينا.
بما أنَّ تاريخ الإنسان يبدأ من المستقبل , و المستقبل لم يتحقق بعد لأنه مستقبل و ليس الحاضر أو الماضي , إذن الإنسان لم يولد بعد. من هنا لم يولد حلوفة بعد ما جعله كائناً مجرّداً فموجوداً في كل الأمكنة و الأزمنة في آن كالكائنات المجرّدة عن المادة و سجونها التي تقيّدنا في زمكانات (جمع الزمكان) مُحدَّدة. لذا يسير حلوفة مع الآخرين في جنازته بالذات. "تراني سائراً معك في جنازتي". مجرّدية حلوفة تمكّنه من أن يكون ذاته في ذوات متعددة منها الحيّة فيسير في جنازته و منها الميتة في قاع البئر و منها التي بين الموت و الحياة كتلك التي تختنق الآن. "أطاوع شفتيّ و أفتح يديّ...تشهد لي بالطاعة , أكاد أن أختنق الآن في قاع البئر...". من المتوقع أن يكون الإنسان كائناً مجرّداً كحلوفة لأنَّ الإنسان يولد في المستقبل و المستقبل مجرّد لاختلافه عن الحاضر الموجود فعلياً و الماضي الذي وُجِدَ بالفعل.
من هنا أيضاً من الطبيعي أن يحمد حلوفة قاتله. "أطأطىء رأسي , فكأني أصلي حامداً مَن قتلني , و أنا الهالك و المهلوك معاً...". الولادة الحقيقية هي الولادة من الموت نفسه و لذلك يحمد حلوفة قاتله. الولادة الحقيقية هي الولادة في المستقبل. لكن المستقبل غير موجود الآن و ليس موجوداً في الماضي و إلا لم يكن مستقبلاً. على هذا الأساس , الولادة الحقيقية ولادة فيما هو غير موجود كواقع متجسّد و مُحدَّد بمُحدَّدية المادة. لذلك يحمد المقتول قاتله لأنَّ بغياب المقتول يتحقق حضوره الحقيقي و الفعّال.
الإنسان غير مُحدَّد تماماً كالمستقبل. و بذلك لا يولد الإنسان سوى في المستقبل اللامُحدَّد. و موت حلوفة في قاع البئر موتٌ غير مُحدَّد و لذا هو موتٌ مستقبلي يمكّنه من الحياة فصياغة كل حضوره و ماضيه في آن المستقبل و مستقبلية الآن. يحمد حلوفة قاتله لأنه مكّنه من أن يكتشف الحقيقة ألا و هي أنه كائن مستقبلي لا يولد سوى في المستقبل و إن كان منتهى مستقبله هو الموت فإنَّ بداية هذا المنتهى هي الحياة ذاتها. هكذا الحياة موتٌ يتكرّر فلا تنتهي الحياة و إن كانت صيرورة أزلية تتكوّن من نبضات الموت نفسه. من هنا , حلوفة هو المقتول و القاتل في آن فالموت الذي يميت و الحياة التي تحيي وجهان لكينونة واحدة لا تتجزأ.
الكون يتقلّب بتقلّب حلوفة. فحلوفة و بئره رمزان للإنسان و الكون. "نجمة الصبح حلوفة , و الظلمة المنيرة حلوفة... و خارطة الحلوفة عمرها أكثر من خمسين قرناً مردومة في قاع البئر". هذا الكون الذي صنعه الإنسان كونٌ غارقٌ في بئر لأنه كونٌ يخادعنا تماماً كما نخادعه. و أصل الخداع التيقن بما لا يوجد سوى في مخيلة تصوغ ما نختبر من وقائع كاذبة. حلوفة السمكة و الماء و المرتفع..حلوفة الجبل فالمُنخفَض..كيف يكون مَن هو إلا بقتال خداع المخيلة التي أنتجت زمناً كاذباً بعبوره من ماض ٍ إلى حاضر و بسجنه للمستقبل في بئر. هكذا نصّ خريّف نصّ القتال مع اللغة من أجل تفكيك مسارها و تحرير حلوفة من أوهام قاتليه.
رواية محمد خريّف رواية الإنسان الذي يحيا في حلم اليقظة فيتقلّب بين نوميْن. "أحكّ عينيّ لا أكاد أن أفتحهما و أنا بين نوميْن و لستُ الراوي إلا من باب التمويه". فالراوي لم يولد بعد لأنه يوجد في المستقبل فقط بسبب أنَّ معاني ما يروي لا تتشكّل سوى في المستقبل. لذلك قال المؤلّف "لستُ الراوي إلا من باب التمويه". هكذا الوجود الذي نختبره وجود كاذب. و هذا متوقع لأنَّ حقائق الوجود لا تتكوّن إلا في المستقبل الذي لم يتحقق بعد. من هنا , يغدو التمويه سيد الوجود و ما يُروَى عنه ما يحتِّم كذب اليقين فزواله.
"لا يقين في بئر الحلوفة سوى يقين سوء الظنّ بدلالة الألوان و عدم الإيمان بصواب اللسان". تموت اليقينيات بأكاذيب الكون و خداع لغاتنا. فحين يرينا الكون ألوانه يخدعنا فالألوان غير موجودة حقاً بل هي مجرّد انعكاس الضوء في أعيننا. و كلما حاولنا التكلّم تتكلّم لغاتنا المُحدَّدة سلفاً فتزول صوابية الحكم على اللسان بزوال وجودية الإنسان. هكذا يسود سوء الظنّ كيقين مطلق ما يعزل الإنسان و يميته. الإنسان مقتول في بئر و هو قاتل ذاته بما قاتَلَ به الآخرين. البئر رمز ولادة الحضارة فولادة الإنسان. لكنها كانت ولادة الأموات بما خادعوا أنفسهم حين تيقنوا كذباً بأنهم أحياء في الحاضر و الماضي. فمَن لا يحيا في المستقبل لا يحيا أبداً.
· ناقد لبناني يقيم بالولايات المتحدة الأميريكية
** محمد خريّف –جمة الدّرع- من يوميات حلّوفة في قاع البئر - دار آفاق /برسبكتيف للنشر والتوزيع الطبعة الأولى- تونس ديسمبر 2019
حسن عجمي*
السوبر مستقبلية فلسفة ذات تطبيقات عديدة و متنوّعة منها تطبيقها على النصّ الأدبي. تؤكِّد السوبر مستقبلية على أنَّ المفاهيم و الحقائق و النصوص ظواهر مستقبلية. من هذا المنطلق تُحلِّل السوبر مستقبلية النصوص الأدبية على أنها تتكوّن في المستقبل. فإن كانت الظواهر و الحقائق و المعاني مُحدَّدة في المستقبل فقط فحينئذٍ من المتوقع أن تكون النصوص الأدبية مُحدَّدة أيضاً في المستقبل لكونها تعابير عن معانٍ و حقائق واقعية أو متخيّلة. و رواية محمد خريّف "جمّة الدرع: من يوميات حلوفة في قاع البئر" خير دليل على أنَّ النصّ الأدبي ظاهر مستقبلية.
تعتبر السوبر مستقبلية أنَّ المعاني تتشكّل في المستقبل على ضوء قراراتنا الاجتماعية ما يجعل المعاني ظواهر مستقبلية و يضمن استمرارية البحث عن تحديدها. تضمن السوبر مستقبلية استمرارية الأبحاث المعرفية و العلمية بغرض الكشف عن المعاني لأنَّ بالنسبة إليها المعاني لا تتكوّن سوى في المستقبل. و بما أنَّ المعاني تتشكّل في المستقبل فقط , إذن المعاني غير مُحدَّدة في الحاضر و الماضي ما يحرّرنا من المعاني الماضوية فيمكّننا من اكتساب إنسانويتنا الكبرى الكامنة في الحرية. هكذا يكتسب التحليل السوبر مستقبلي للمعنى فضائله كفضيلة ضمان استمرارية البحث المعرفي و فضيلة تحريرنا من مُحدَّدية المعاني و ماضويتها. و بفضل هذه الفضائل تصبح الفلسفة السوبر مستقبلية مقبولة و صادقة.
بالنسبة إلى السوبر مستقبلية , التاريخ يبدأ من المستقبل ما يُحتِّم تحليل المفاهيم و الظواهر من خلال المستقبل كتحليل المعنى على أنه قرار اجتماعي في المستقبل. فالمعاني قرارات اجتماعية مستقبلية لأنَّ فقط من خلال القرارات الاجتماعية تصبح المعاني مشتركة بين الجميع (بكونها قرارات اجتماعية يشارك في انتاجها الجميع) ما يمكّننا من النجاح في التفاهم و التواصل اللغوي فيما بيننا. هكذا التحليل السوبر مستقبلي للمعاني ينجح في التعبير عن إمكانية التفاهم و التواصل اللغوي لأنه يُحلِّل المعاني على أنها قرارات اجتماعية مستقبلية مشتركة بين الجميع. و بذلك يكتسب هذا التحليل هذه الفضيلة الإضافية. فالمعاني هي ما سوف ينتجه الجميع في المستقبل على ضوء قرارات اجتماعية تتضمن قرارات متنوّعة منها القرارات العلمية و المعرفية لكونها قرارات اجتماعية أيضاً. من هنا , معارفنا و علومنا المستقبلية تشارك أيضاً في تحديد المعاني في المستقبل ما يضمن لا محالة تطوّر لغاتنا و معانيها.
إن لم تكن المعاني تتشكّل فقط في المستقبل فكانت بذلك مُحدَّدة في الحاضر و الماضي فحينئذٍ يستحيل أن تتغيّر المعاني و تتطوّر كما يستحيل عندئذٍ أن تستمر الأبحاث المعرفية و العلمية بهدف اكتشاف معانٍ جديدة. من هنا المعاني ظواهر مستقبلية لكونها قرارات اجتماعية تتكوّن فقط في المستقبل ما يؤدي إلى نتيجة أنَّ الإنسان نفسه ظاهرة مستقبلية فيتكوّن الإنسان فقط في المستقبل من جراء تكوّن معانيه في المستقبل فقط. هكذا يبدأ الإنسان من المستقبل و إلا لا يبدأ أبداً.
بالإضافة إلى ذلك , بما أنَّ المعاني تتشكّل في المستقبل , و علماً بأنَّ النصوص الأدبية تتكوّن من معانٍ , إذن النصوص الأدبية ظواهر مستقبلية تتشكّل فقط في المستقبل على ضوء ما سوف نكتشف من معانٍ لها. من هنا يبدأ النصّ الأدبي من المستقبل ما يحرّر النصّ من أية مضامين مُحدَّدة سلفاً و من أية معانٍ ماضوية ما يضمن حرية النصّ و الإنسان معاً. هكذا النصوص الأدبية نصوص إنسانوية لكونها تتضمن آليات التحرّر الإنساني بتحرير معاني لغتنا فتحريرنا من سجون المعتقدات و السلوكيات الماضوية المسجونة بمعانٍ مُحدَّدة مُسبَقاً. النصّ الأدبي آلية جوهرية في تفعيل إنسانية الإنسان. لذلك لا إنسانٌ بلا نصّ تماماً كما لا نصّ بلا إنسان.
على ضوء هذه الاعتبارات الفلسفية من الممكن قراءة رواية محمد خريّف "جمّة الدرع" الصادرة حديثا عن دار برسبكتيف "آفاق"للنشر والتوزيع بتونس . بطل هذه الرواية ميت يتحدّث بلسان الأحياء لأنَّ تاريخه يبدأ من المستقبل. نختبر الزمن و أحداثه و كأنها تعبر من ماض ٍ إلى حاضر ٍ و من ثمّ إلى مستقبل. لكن الزمن يخدعنا لأنه في الحقيقة يبدأ من المستقبل متحوّلاً إلى حاضر ٍ فماض ٍ. على أساس هذه الفلسفة السوبر مستقبلية من المتوقع أن يكتشف الإنسان حقيقة تاريخه كما فعل حلوفة بطل رواية خريّف فيقف أمام قبره متسائلاً عن كينونته الكامنة في لغته التي لم يكتشفها بعد. "أقف أمام شاهدة قبري ... أين جُمَلي؟" الوقوف أمام قبورنا ممكن و هو الواقع الأصدق لأنَّ تاريخنا يولد في مستقبلنا الذي يحرّرنا من أكاذيب حاضرنا و ماضينا.
بما أنَّ تاريخ الإنسان يبدأ من المستقبل , و المستقبل لم يتحقق بعد لأنه مستقبل و ليس الحاضر أو الماضي , إذن الإنسان لم يولد بعد. من هنا لم يولد حلوفة بعد ما جعله كائناً مجرّداً فموجوداً في كل الأمكنة و الأزمنة في آن كالكائنات المجرّدة عن المادة و سجونها التي تقيّدنا في زمكانات (جمع الزمكان) مُحدَّدة. لذا يسير حلوفة مع الآخرين في جنازته بالذات. "تراني سائراً معك في جنازتي". مجرّدية حلوفة تمكّنه من أن يكون ذاته في ذوات متعددة منها الحيّة فيسير في جنازته و منها الميتة في قاع البئر و منها التي بين الموت و الحياة كتلك التي تختنق الآن. "أطاوع شفتيّ و أفتح يديّ...تشهد لي بالطاعة , أكاد أن أختنق الآن في قاع البئر...". من المتوقع أن يكون الإنسان كائناً مجرّداً كحلوفة لأنَّ الإنسان يولد في المستقبل و المستقبل مجرّد لاختلافه عن الحاضر الموجود فعلياً و الماضي الذي وُجِدَ بالفعل.
من هنا أيضاً من الطبيعي أن يحمد حلوفة قاتله. "أطأطىء رأسي , فكأني أصلي حامداً مَن قتلني , و أنا الهالك و المهلوك معاً...". الولادة الحقيقية هي الولادة من الموت نفسه و لذلك يحمد حلوفة قاتله. الولادة الحقيقية هي الولادة في المستقبل. لكن المستقبل غير موجود الآن و ليس موجوداً في الماضي و إلا لم يكن مستقبلاً. على هذا الأساس , الولادة الحقيقية ولادة فيما هو غير موجود كواقع متجسّد و مُحدَّد بمُحدَّدية المادة. لذلك يحمد المقتول قاتله لأنَّ بغياب المقتول يتحقق حضوره الحقيقي و الفعّال.
الإنسان غير مُحدَّد تماماً كالمستقبل. و بذلك لا يولد الإنسان سوى في المستقبل اللامُحدَّد. و موت حلوفة في قاع البئر موتٌ غير مُحدَّد و لذا هو موتٌ مستقبلي يمكّنه من الحياة فصياغة كل حضوره و ماضيه في آن المستقبل و مستقبلية الآن. يحمد حلوفة قاتله لأنه مكّنه من أن يكتشف الحقيقة ألا و هي أنه كائن مستقبلي لا يولد سوى في المستقبل و إن كان منتهى مستقبله هو الموت فإنَّ بداية هذا المنتهى هي الحياة ذاتها. هكذا الحياة موتٌ يتكرّر فلا تنتهي الحياة و إن كانت صيرورة أزلية تتكوّن من نبضات الموت نفسه. من هنا , حلوفة هو المقتول و القاتل في آن فالموت الذي يميت و الحياة التي تحيي وجهان لكينونة واحدة لا تتجزأ.
الكون يتقلّب بتقلّب حلوفة. فحلوفة و بئره رمزان للإنسان و الكون. "نجمة الصبح حلوفة , و الظلمة المنيرة حلوفة... و خارطة الحلوفة عمرها أكثر من خمسين قرناً مردومة في قاع البئر". هذا الكون الذي صنعه الإنسان كونٌ غارقٌ في بئر لأنه كونٌ يخادعنا تماماً كما نخادعه. و أصل الخداع التيقن بما لا يوجد سوى في مخيلة تصوغ ما نختبر من وقائع كاذبة. حلوفة السمكة و الماء و المرتفع..حلوفة الجبل فالمُنخفَض..كيف يكون مَن هو إلا بقتال خداع المخيلة التي أنتجت زمناً كاذباً بعبوره من ماض ٍ إلى حاضر و بسجنه للمستقبل في بئر. هكذا نصّ خريّف نصّ القتال مع اللغة من أجل تفكيك مسارها و تحرير حلوفة من أوهام قاتليه.
رواية محمد خريّف رواية الإنسان الذي يحيا في حلم اليقظة فيتقلّب بين نوميْن. "أحكّ عينيّ لا أكاد أن أفتحهما و أنا بين نوميْن و لستُ الراوي إلا من باب التمويه". فالراوي لم يولد بعد لأنه يوجد في المستقبل فقط بسبب أنَّ معاني ما يروي لا تتشكّل سوى في المستقبل. لذلك قال المؤلّف "لستُ الراوي إلا من باب التمويه". هكذا الوجود الذي نختبره وجود كاذب. و هذا متوقع لأنَّ حقائق الوجود لا تتكوّن إلا في المستقبل الذي لم يتحقق بعد. من هنا , يغدو التمويه سيد الوجود و ما يُروَى عنه ما يحتِّم كذب اليقين فزواله.
"لا يقين في بئر الحلوفة سوى يقين سوء الظنّ بدلالة الألوان و عدم الإيمان بصواب اللسان". تموت اليقينيات بأكاذيب الكون و خداع لغاتنا. فحين يرينا الكون ألوانه يخدعنا فالألوان غير موجودة حقاً بل هي مجرّد انعكاس الضوء في أعيننا. و كلما حاولنا التكلّم تتكلّم لغاتنا المُحدَّدة سلفاً فتزول صوابية الحكم على اللسان بزوال وجودية الإنسان. هكذا يسود سوء الظنّ كيقين مطلق ما يعزل الإنسان و يميته. الإنسان مقتول في بئر و هو قاتل ذاته بما قاتَلَ به الآخرين. البئر رمز ولادة الحضارة فولادة الإنسان. لكنها كانت ولادة الأموات بما خادعوا أنفسهم حين تيقنوا كذباً بأنهم أحياء في الحاضر و الماضي. فمَن لا يحيا في المستقبل لا يحيا أبداً.
· ناقد لبناني يقيم بالولايات المتحدة الأميريكية
** محمد خريّف –جمة الدّرع- من يوميات حلّوفة في قاع البئر - دار آفاق /برسبكتيف للنشر والتوزيع الطبعة الأولى- تونس ديسمبر 2019
