الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

العقل الجمعي بقلم: عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2019-12-25
العقل الجمعي بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
العقل الجمعي ( عادل بن مليح الأنصاري )

ربما قريبا وليس بعيدا , وكشهداء على العصر لن تخضع تحليلاتنا للتاريخ وتتبع تغير الأحداث ومحاولة إقحام فلسفاتنا وتجلياتنا وآراءنا لمراجع خارجية , لو حاول البعض منا ممن تجاوز الخمسين من العمر ذلك لاستطاعوا بسهولة أن يقارنوا بين الماضي القريب واليوم , فقبل ظهور القنوات الفضائية والشبكة العنكبوتية , ربما اقتصر تشكيل السلوك الاجتماعي وتوجيه المجتمع أو ربما بما يعرف (تشكيل العقل الجمعي) , على الصحف الورقية القليلة التي كانت متاحة يومها , وكذلك بعض الكتب التي كانت تخضع لرقابة أصحاب القرار , فلذلك فقد كانت عملية تشكيل العقل الجمعي محدودة , وربما ساهم في ذلك وقتها قلة مصادر التحكم وقلة المثقفين والمهتمين بقضايا المجتمع أيضا , ولا نستطيع استبعاد عامل الرفاهية والحاجة وانشغال معظم الناس وخاصة الشباب في البحث عن لقمة العيش والاهتمام بتماسك الأسرة وتلبية حاجاتها مع الاهتمام والتفكير في تكوين اسر جديدة , لم تكن رفاهية الثقافة والاهتمام بمشاكل المجتمع القريب أو البعيد أو حتى الإنسانية برمتها مكان اهتمام أو متابعة , ولا يخفى علينا ما لهذه الحقبة من خصوصيات ومعالم خاصة وعامة , فالمشاكل السياسية المحلية أو الدولية , وكذلك مشاكل الاقتصاد والحروب والنزاعات لم تكن تعني الكثير من أبناء ذلك الجيل بسبب صعوبة الوصول للمعلومة أو عدم الاهتمام بها أو الانشغال عنها بمشاكل العيش والبيئة المحيطة بكل تنوعاتها , كان العالم بالنسبة للكثيرين عبارة عن الأسرة القريبة والقليل من العلاقات الاجتماعية المحيطة مع أخبار باهتة وعابرة عن شيء يسمى العالم الخارجي , وبكل بساطة كان مسؤول الحي أو "عمدة الحي" أو قسم الشرطة يتكفل تماما بإدارة الحي دون أن تخرج أي مشكلة لخارج هذا الحي , وكان المجتمع الصغير للحي يكتفي بترك إدارته ويخضع لتوجهات قلة من كبار ووجهاء الحي , وربما يستقي معلوماته وما ينبغي أن يقوم به من نفس هذه الدائرة , كما كان يكتفي بعلاقته بربه وبأموره الدينية والاجتماعية من إمام الحي في خطبة الجمعة مثلا , وكذلك يكتفي بكل ثقافته التي يجدها في الكتب المدرسية المقررة من الدولة , كانت تلك المنظومة بدءا من مسؤول الحي ومرورا بمفتي الجامع وخطيبه وحتى الكتب المدرسية وندرة المثقفين الذين يدركون ما وراء أسوار المدينة هي كل الأدوات التي تشكل "العقل الجمعي" وقتها .
حقيقة كانت الحياة تتسم بالبساطة المتناهية , فكل ما يشغل الشاب يومها إنهاء يومه المدرسي ثم اللعب مع أولاد الحارة ثم اللحاق بالمسلسل اليومي بعد الأخبار ثم النوم وبدء يوم آخر يدور في نفس الفلك وبنفس الوتيرة , كانت الاختلافات بين الأحياء وربما المدن غير واضحة المعالم بسبب تلك الدائرة البسيطة من المؤثرات , وكان العقل الجمعي يتسم بالبلادة والركود وسهولة التشكيل وبساطة الأداء , ولكن كان لذلك أيضا وجه إيجابي لا يمكن التغافل عنه , فقد كانت الحياة بسيطة وهادئة , ولم يكن للأحقاد والاختلافات والنزاعات وجود مؤثر , وحتى إثارة إحداث التاريخ لتغذية بعض الاتجاهات لدعم موقفها والاستعداء على الآخرين لم تكن معروفة , ببساطة كان الانغلاق والتقوقع والاهتمام بلقمة العيش الذي تفرضه طبيعة الحياة وقلة الدخل المادي وعدم ظهور وسائل اتصال ببقية العالم جعل المجتمع والذي هو أصلا مجزأ لدوائر ثقافية واجتماعية من حضر وبوادي يقبع تحت غطاء من الهدوء والتناغم الذي كان بلا شك له تأثيرات واضحة على وضع الأسرة والعلاقات الاجتماعية والسلوك الديني والأخلاقي والشعور بالانتماء المجتمعي بشكل واضح .

ولكن كل ذلك تغير وبدأ يمر بمراحل ثورية وعاصفة منذ ظهور الفضائيات ثم الشبكة العنكبوتية , ولا يمكن لمن هم في سن الخمسين مثلا أن ينكروا تلك الحقيقة التي تفوق التصور لو أننا استطعنا رسم بيانات لتلك العملية التحولية خلال ما يقارب 30 أو 40 عاما , تلك التحولات لا يمكن سردها بكلمات عابرة هنا , بل تحتاج إلى مجلدات لوصف ذلك التغير النووي "لو صح التعبير" منذ ظهور تلك التطورات التقنية في المجتمع على جميع الأصعدة , دينيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وحتى نفسيا , وفي ظل ظهور تلك الثورات التي فتحت على عقول أبناء المجتمعات البسيطة المغلقة , وبدء تغير نمط التفكير وأسلوب الحياة ومتطلباتها الصعبة والتي قد تبتغي تغير كبير في نمط التفكير وحتى بمعيار الرضا والقبول , وتفتح العقل على ثقافات ومعارف وربما التعرف على أنماط جديدة أو ظهور حقائق ربما كانت ذات وقت أمور مسلم بها لا تقبل الشك أو حتى المناقشة فأصبحت محل نقاش وتفكير وتردد وأراء تنافس بعضها ويدحض بعضها بعضا , ربما من هنا ظهر عند الكثيرين الحاجة لمرشد وطريق يزيل هموم الشك والتردد وجهة ما تتحمل عناء التفكير وأخذ زمام المبادرة ليتخذها ذلك التائه طريقا يرتاح إليه .
في فوضى التغيير الحادث وتفجر ثورات العلم والتكنولوجيا والاتصالات ومواقع التواص واختلاط الثقافات وتعرض حتى أقدس ما تربى عليه الفرد من قيم دينية واجتماعية وأسرية للنقد والتشريح والتشكيك , وفي المقابل ظهور تيارات أخرى تدعوا لرفض كل تلك المظاهر وما نتج عن الثورة العالمية في التواصل بدعوى الرجوع للماضي القريب والتمسك بكل ذلك النمط من الحياة البسيطة والمنغلقة على ذاتها دينيا واجتماعيا واسريا كردة فعل لذلك الانفلات الفكري والحياتي الذي صاحب تفجر ثورات التواص والمعلومات , وبين الحروب الثقافية بين المحافظين وبين التقدميين "إن صحت التسمية" ظهرت استراتيجيات جديدة لتسيطر على المشهد العالمي بطرق مدروسة ومحسوبة وتقنيات جاهزة لذلك , وبغض النظر عن حقيقة أهدافها إلى أن الحكومات خاصة حرصت على الإمساك بزمام المبادرة عن طريق "قيادة القطيع" والتحكم في عقلهم الجمعي لتمرير إرادتها وقطع الطريق على المبادرات الخاصة بكل أهدافها الظاهرة والباطنة , الخيّرة والشريرة .
ربما خضع الكثير أو الغالبية العظمى من الناس للخضوع لتلك الخطط مرغمين , فالأساليب المدروسة لقيادة وتشكيل العقل الجمعي لم تولد عبثا , بل وضعت لها دراسات وخطط قام بها متخصصين وعلماء لإدارة الجماهير باحترافية مدروسة , وفي نفس الوقت رغبة الكثيرين في الخروج من دائرة الضياع بين ما يطرح عليهم من أفكار وتوجهات وبين ما يودون الإيمان به والتصديق بحسن النوايا بين كل الأمور المطروحة أمامهم , لذلك سيفوز بعقولهم من يستطيع كسبهم بطريقته الخاصة وبقوة إمكاناته والمقدرات التي هيئت له .
ليس مهما أن تكون تلك الطريق التي رُسمت لهم ورَسمت معالم الطريق للجموع التائهة أن تكون صحيحة ومثالية , بل يكفي أن تكون تلك رغبة صانع القرار والمهتم بإدارة الجموع , وحتى في حالة جنوح القلة المثقفة عن تلك الطريق لاعتقادهم أن معالم الطريق الصحيحة هم اعرف بها , سواء أرادها صاحب القرار أم لم يردها , وستكون توجهاته لا تعني شيئا في ظل توجه السواد الأعظم لرغبة صانع القرار , ومن هنا تظهر لأولئك القلة ملامح الخطر في الخروج عن القطيع لأنهم عندها ربما سيتحملون وزر الخروج عن الجماعة وما ينتج عن ذلك من مخاطر ونتائج التمرد او مقاومة تشكيل العقل الجمعي والذي لا يحتاج لتفصيل أكثر .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف