الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

جئتُ لأموت: امنحوني قبراً!بقلم:علي السباعي

تاريخ النشر : 2019-12-05
جئتُ لأموت: امنحوني قبراً!
علي السباعي

صخورٌ مهشمة، أسماك يابسة، جثث حيوانات مائية، نخيل متيبس، أوانٍ صدئة، بقايا هياكل عظمية لحيوانات نافقة، نفايات، أحذية عسكرية تقطنها سرطاناتٌ مخيفة، أيادٍ مفجوعة تمسك بعدد الحفر، وزوارق خشبية محطمة. ترى كم مرةً عَبَرتْ؟ ومَنْ حملتْ عند غرقها؟ كلها أضرحةٌ تؤكد موت النهر.

المدينةُ ظمأى تبكي نهرها، يتجمهر الناس بعيونٍ قلقة، متأرجحين بين عالمين، في كل عالم يضعون قدماً، في برزخٍ بين ارتواءٍ وعطش، بين نور وظلام، بين حياةٍ وموت، بين صراخ وصمت، أبيض وأسود.

امرأة متسولة ترتدي سروالاً رجالياً أزرق، شعرها ذو تسريحة رجالية بلون الكستناء، تمسك بيدها اليسرى سيكارتها، أفعى خضراء موشومة فوق كفّها عند الإبهام، كأنها تنفث سحباً زرقاً دخانية. تمجّ نفساً طويلاً رصاصياً كالجحيم، عيناها بلون الحبر الصيني تراقب الناس ببلادة بغل. نظرات ثابتة ثقيلة. صرختْ في صوتٍ كارثيّ:

اتركوا جسد النهر يا كُفّار!

تتعانق نقاط الوشم الأربع الموزعة في زوايا فمها الأدرد ذي الشفتين البنفسجيتين، تردد نداءها:

اتركوا المدينة.

الناس ضاجّون كضجيج كورَة زنابير. يتدافعون ناحية النهر، يبحثون عن بقايا حروبهم الماضية، وآخرون يتصورونه مستودعاً يحتفظ بخيباتهم. تنفث المتسولة دخانَ سيكارتها بمتعة، سروالها يتطاير عابثاً، مالئاً الحيّز بين قدميها، تعاود زعيقها:

توبوا. اطلبوا التوبة يا خطأة!

يتدافع جيشُ الأطفال مطارداً ضفدعةً مرعوبة. النساء والرجال يتضرعون بأصواتٍ مستجيرة. أوجرت المتسولة كلماتها في صدورِ المتضرعين:

كفى. آن لكم أن تموتوا. استطردتْ: انتظروا موتكم.

هتف آخر:

لنترك المدينة.

ينادي أحدهم بتساؤلٍ خرافيّ مبتور:

مَن تنتظرون يا مساكين؟

يصدح أكثرهم سماجة بصوتٍ فيه نبرةُ انكسار:

غادِروا المدينة. لن يجري النهر أبداً!

أمواجُ البشر تلد أمواجاً أخرى، تتناسل كالذباب، يتصاعد غبارها ملتفاً دائراً يندب نفسه كنساءٍ معزّيات. ينفذ صوت المرأة المتسولة كالرمح إلى خاصرة المدينة:

- موتوا. آن لكم أن تموتوا.

* * * 

يهلوسون بكلماتٍ كالمحمومين: انتظرناك ألف ليلة وليلة، ولم تأتِ!

* * *

الشمس تتفتت كالبخار بفعل غيومٍ عاجية جعلتْ نفسها فرشاةً تغمسها بلهب الشمس صانعةً لوحةً صارخة تكثر فيها ضربات الفرشاة السوريالية. المعاول تحفر في جسد النهر آباراً فارغة، كل فردٍ يحفر لنفسه بئراً، يصبح جسد النهر مجدوراً بملايين الآبار العميقة، رائحة الطين تملأ المكان شوقاً لقطرة ماء، يحرّكهم لحن تدفّق المياه في داخلهم، يتوجّع المجدورُ من ضربات الفؤوس النابشة، المتسولةُ تستجدي وتبكي، تبكي وتستجدي بصوتٍ جنائزي:

جئتُ لأموت. امنحوني قبراً.

مجرى النهر خريطةٌ رُسمِتْ عليها مقبرةٌ حديثة، وجوه الحفّارين زرقٌ مجهدة مثل طينٍ غليظ مُزِجَ بمياهٍ آسنة، يُدهشهم استجداء المتسولة:

لله يا محسنين، قبراً لفقيرة!

يتدثر القمر بغيماتٍ بيض قطنية، يعنّفها أحدُ حفّاري الآبار الشبّان منزعجاً:

عشتِ حياتكِ كلّها في الشحاذة، واليوم تستجدين قبراً. ابتعدي.

يخرج صوتها يرافقه دخان سيكارتها ساحباً كلماتها بصريرٍ موجع كمن يسحب سريراً حديدياً على بلاط:

يا الهي لماذا يقف الإنسان ضد الإنسان؟

ينهرها ثانيةً:

ابتعدي أيتّها المجنونة.

تشعل سيكارة جديدة من عقب سيكارتها المنتهية، تمجّ دخانها نفساً طويلاً من غيومٍ رصاصية مشعثة، تقول وهي تواصل نفث عباراتها الغامضة:

مساكين أهل الأوهام يحفرون قبورهم.

يرنّ كلامها مثل ضربات فؤوس تنبش الأرض بسخط:

ادفنوا فيها أحلامكم، ذكرياتكم، حروبكم، خطاياكم، أوهامكم...

تبتلع ضربات المعاول كلماتها، تعاود موّال استجدائها الحزين:

قبراً لفقيرة!

* * *

طبول تقرع تضرعاً: متى يجري النهر؟

* * *

الغيوم عناكب خردلية نسجتْ مكوكاتها شباكاً معتمة اصطادت الشمس والبشر. البشر مطاردون بتدفق أصوات المياه، تهرول كلمات أحدهم:

احفروا. استمروا في الحفر فسنجد الماء حتماً.

تتضاحك معاولهم بأصواتها القاضمة للطين أن: لا جدوى!

يقول آخر:

واصِلوا الحفر.

يجهر صوتٌ نسائي من حفرةٍ بعيدة:

لقد جرى. لقد جرى. احفروا.

يبتلع كهلٌ ريقه باصقاً بشدة في كفّيه، يصيح مفجوعاً:

نحن متواطئون مع الشيطان!

يكفن صوته ويضعه في تابوتٍ ضيق. صراخ امرأة تحاول إرضاع طفلها من ثديها السائح كعجينةٍ ممطوطة:

حلّت نهايتنا. رحمتك يا الهي!

ذهولٌ شاحبٌ يركع في وجوه الحفارين وحركاتهم، عيونهم شاحبة باردة جاحظة في تشوّش، كأنها عيون ضفادع باردة رخيّة تستفهم ببلادة، حشودهم تنزّ عرقاً، عيون رطبة تجوس خلال الأشياء بتردد، نذور النسوة تطمرها أتربة الحفر، تطمر شموعهم. تزغرد المتسولة فرحةً:

ولّى زمنُ الغربة وعاد نهرنا يجري.

عيناها السوداوان زجاجيتان تلمعان بنداوةٍ مكابرة، تقطع الشمسُ البرتقالية آلاف القطع بسكاكين حملتها الطيور الأبابيل بمناقيرها، كأن أهل المدينة منذهلون ينظرون ناحية الطيور الأبابيل، يرفعون رؤوس أصابعهم، تتطاول رقابهم، تشخص أبصارهم لتشاهد تحت فضة القمر البليلة المتسولة خارجةً من قبرها حاملةً ما بين راحتيها اليابستين غَرفَةَ دم، دم ساخن وفائر.

حوار بين حمار وسيّده

شيء لا يصدَّق أن تجد نفسكَ تحدّث حماراً مسكيناً، يحاوركَ بكل طلاقة. هذا يذكّرك بأنكَ تعيش في منزل مهجور، أبوابه تصر في انغلاقها وانفتاحها من دون أن يحركها أحد. الذي حرّكها هو نفسه الذي جعل الحمار يتكلم. يخاطب "السيد وجع" حماره قائلاً:

- حياتي ضائعة!

تتنفس روح وجع أقداراً شوكية، تجترّ أوجاعه، أيامه، حياته كلها كالبعير الذي يجتر العاقول. يسقط بفعلها مكدوداً. يتكلم الحمار كأنه جرّاح يزيل بمباضعه ندوب الزمن الغادر:

- حياتنا ضائعة يا سيدي.

تتحرك نسمات من الهواء الصاخب، تكهرب الجو بفعل تنفس الشمس بخار الغيوم. تتصاعد من الأرض أوجاع قديمة لأرواح تلتهم الحاضر، وتجتر الماضي، كل الماضي. يقول وجع بنبرة حادة:

- حقاً، حياتنا لا شيء، خصوصاً حياة كلينا.

تنزل دمعة، بل دمعات ساخنات على وجه الحمار الحزين، مما يزيد ألم وجع. يقول مواسياً حماره:

- إنك أعزّ ما أملك.

ينهق الحمار سعيداً، تنشرح أساريره، كأنه جزء لا يتجزأ من الإحساس الرفيع الذي يملأ روح عشيقة شقية لمعشوقها. يقول لسيده:

- دعني معك نصنع ظروفنا الجديدة.

يطلق وجع ضحكة مدوية، كأنه يريد بها إخراج كل أحزانه وتفتيتها. ينجح بالفعل في جعل أحزانه تتشظى متناثرة. يقول لحماره:

- كيف؟ وأوجاعنا القديمة؟! أنسيت يا حماري المسكين أن لكل واحد منا أطناناً من الأوجاع؟

تتعانق متحدة ذرّات الشجاعة الموجودة في الجسد ساعة يندحر اليأس. يرتجف الغيم في السماء متجمعاً. تمطر السماء أملاً يسعد الأرض. هكذا! تتجمع شجاعة الحمار بغتة، فيقول لسيده:

- لا تُصنع الأقدار بالأوجاع يا سيدي.

تتجمع في ديوان السماء غيوم بيض، تتصادم، تتألق أضواؤها الفضية لامعة، وتُخرج من جوفها غضباً مكبوتاً طوال سنين مضت. يتساءل وجع بحدة:

- كيف؟

يجيبه الحمار:

- بتغيير ما بأنفسنا.

يبادره وجع متذكراً كلمات زوجته المتوفاة:

- إنك تذكّرني بزوجتي، رحمها الله. رغم فقرنا المدقع، كانت تشد من أزري وتأخذ بيدي، بقولها "معك يداً بيد نصنع حياتنا الجديدة".

كنت أجيبها، كأن شيئاً قد هتك بداخلي: "أحقاً ترغبين بذلك؟ وهل لديك القدرة على صنعها؟!".

تبتسم رغم حزنها الشديد، وتقول لي: "نعم! معك أملك قوة ليس لها حدود".

يستغرب الحمار هذا الكلام، فيسأل بسأم:

- عمّ تتحدث يا سيدي؟ هل في عالمكم شيء حقيقي اسمه الحب؟

يضحك وجع من جديد ويقول:

- أجل يا حمار! لدينا شيء اسمه الحب.

ينهق الحمار، وقد ألمّ به وجع كلمات سيده، أشبه بسحابة صيف مسافرة، تمر على أراض جافة تمرح فيها حمير الأرض تقضم أطواق البرسيم، تلتهمها، تلوكها، تشعر بالشبع، فتنهق دفعة واحدة، كأنها بنهيقها تطلق أوجاعاً حررتها بأكلها البرسيم. يقول لوجع:

- سنحصل على كل شيء بعزيمة الورود وهي تشق رمال الصحراء طرباً بهطول المطر.

يصاب وجع بالهزيمة، بخيبة أمل كبيرة، لكون مأساته تستعيد روحها، وتأخذ قالباً آخر، يتمتم في نفسه: "قالتها لي زوجتي. لكن: آه. من تخاذلي، قد خسرتها، وها أنت يا حماري تقولها ثانية".

يتكلم وجع بصوت متحشرج:

- قدرنا مرسوم كما ترسم حوافرك على الأرض آثاراً عميقة، لهذا أرفض أن أخسرك يا حماري.

يكشر الحمار عن أسنانه العملاقة، كأنه يبتسم في وجه الحياة السعيدة. يصاب وجع بالحيرة فيصرخ بحدة:

- إنني أتمزق يا حمار! أتمزق.

يضرب الحمار الأرض بأحد حافريه الأماميين، يخاطب سيده فيكون كلامه كتلك الأبواب التي تحركت من دون أن ترى أحداً يحركها:

- تستطيع أن تربط أجزاء جسمك الممزقة بأوتار من أوجاعك القديمة، فتجد قلبك، رجليك، ذراعيك، جسدك كله وقد اكتمل نسجه بفعل أوتار الحياة التي يخيطها حزنك الدائم. وكما قالت محبوبتك "تستطيع صنع قدرك الجيد بالإرادة". بل في إمكانك أن تذيب جبلاً من الجليد لو شئت ذلك.

ينظر إليه وجع ببلادة. يروح يحرك رأسه إلى الأعلى والأسفل كما يفعل الحمار. حينها شرع حماره ينهق بقوة... بقوة...

* * *

الأميرة دموع

-لا تقاطعيني، فأنا لم أُنهِ كلامي بعد.

قالها هارون الرشيد غاضباً، نظر كمن يتوجس خيفة بعيني دموع السوداوين. ظنّت دموع أن عاصفة من الغضب آتية في الطريق. إذ كان يتناهى إلى مسمعها صوت رياح عاتية، الشمس للمرة الأولى تراها دونما ألق، بادرها الرشيد قائلاً:

- تغير الزمن يا دموع! وتغير هارون، كا...

قاطعته وفي عينيها صرخة احتجاج تصدر من أعماقٍ أتعبها عزف موسيقى تتجول أصداؤها في جوف امتلأ بالأسى:

- نعم! تغيّر هارون. ظهر بدلاً منه ملايين الرجال الذين يدعون هارون!

يجيبها وصوته يسابق صوت المطر الذي أخذت تتقيأه السماء، وكأن هذه السماء خيول متعبة أضناها الجري فبدأت تتقيأ ما التهمته من صراخ الخليفة:

- ليس هارون وحده الذي تغيّر، بل كل التقاليد والعهود، الأحاسيس والإنسان، الشجر والأغصان، السحابة والمطر، السجّان والسجين. آه... كل العواطف تغيّرت، حتى البحر تغيّر. والرشيد وسط ذلك كله يقف على الساحل وحيداً بلا مركب، بعدما رحلت كل المراكب.

تختلط أصداء العواطف مع صهيل خيول العاصفة. تناهى إلى مسامع دموع التي بدت كأنها مساء ساحر اختلط فيه أنين (داخل حسن) مع صهيل خيول متمردة تنبثق من أعماق التاريخ، أصواتها سياط تلهب جسد الريح. الزمن سجن. ذيول الجياد سياط تلسع عصافير أسقمها حبسها، تنظر إليه مكتشفةً في بريق عينيه عالماً من التساؤلات، عالماً من الرغبات المكبوتة والأحاسيس المرهفة، والأفكار السجينة، مجموع ذلك كله يشكل نهراً دفاقاً من السعادة، السعادة التي إذا ما مرّت فوق عشب يابس أخضرّ ونما. قالت دموع وصوتها عذب كالسعادة:

- مولاي الخليفة! اصنعْ لنفسك مركباً وسأكون شراعك المتين!

سألها الرشيد بحزن لم تعهده:

- أنبحر في شريان الدم على رغم القتل الذي يجتاح الدنيا؟

تجيبه:

- مولاي! إن حياتنا قصيرة، عندما يمرّ بنا مركب الزمن فلن يتوقف، ولا يعود.

يضحك بحزن قائلاً:

- دموع! إنك حلوة كما الدنيا.

يدخل حاجب الخليفة متمنطقاً بسيفه، قال بعدما أدى تحية الولاء:

- مولاي! هناك أمير ينتظر المثول بين يديك. لكن. يبادره هارون الرشيد:

- لكن! ماذا؟

يجيب الحاجب متلعثماً بكلماته، مهابةً لمولاه:

- هيئته، منظره، ثيابه كلها، لا تدلل على كونه أميراً، بالإضافة إلى ذلك... يقاطعه الخليفة مغاضباً:

- بالإضافة إلى ماذا أيها الحاجب؟... تكلم.

يجيبه الحاجب بتلكؤ:

- يا مولاي الخليفة! إنه... عفوك... لا ينتعل خفاً!

أستغرب الرشيد قول الحاجب، بدا كأن الوقت – الزمن قد سحقه وأثقل عليه. تساءل في نفسه: أيكون هذا الزي الذي يدّعيه الحاجب خاصاً بملوك، وأمراء عصر غير زماني هذا؟ قال بشدة: - دعوه يدخل.

مثل نهر مهتاج، تدفق الأمير على ديوان الخليفة. لم ينحنِ لمولاه الخليفة. نظر بعينيه الزرقاوين الصافيتين كبحر أزرق، وقال:

- أنا أمير يا دموع! أنا عبد الا...

يقاطعه الخليفة حانقاً:

- تحدث معي يا أمير. ألا تعلم أنك تقف في حضرة الرشيد؟ أمير أيّ بلد أنت؟ من أين أتيت؟ هل أمراؤكم يرتدون زي الشحاذين يا...؟

يضحك الأمير بسخط حتى تعالت قهقهاته، كأنها العاصفة التي بدأت ترعد خارج القصر. أضاف الخليفة:

- ما الذي يضحكك؟ تكلم!

ما زالت كل براكين الأرض خامدة لا تستعر. لكن! في إمكان شرارة صغيرة أن تجعل الأرض تتنفس بعمق فتزفر جهنم إلى الخارج. بهذا تغرق الأرض في بحر من الحمم المستعرة، تساءل الأمير:

- دموع! كيف يعيش الإنسان وسط أنهار الدم وبرك القتل؟ كيف؟

بادره الرشيد وقد استبدت به كل ثورات الغضب:

- إنك تصر على تجاهلي يا هذا...

قاطعه الأمير مخاطباً دموع:

- أصبحت خرائطنا مرسومة بالدم بعدما قتلت أحاسيسنا، أفكارنا التي نحيا بها، ماتت التقاليد يا دموع. ماتت التقاليد.

يستشيط الخليفة غضباً، يبادره بالصراخ طالباً من الحاجب الحضور:

- أيها الحاجب. أيها الحاجب. تعال إلى هنا لكي تُخرج هذه القمامة من هنا بسرعة.

نطقت العيون الزرقاء، تحدث الجسد الهرم قائلاً:

- دموع! إن الإنسان يهرب من تعاسته بالقتل. لكن! الطيور في إمكانها الهرب من كل شيء دونما اللجوء إلى القتل. حياتنا لو كانت ثمناً لراحة العالم، سنمنحهم إياها، وهذا غير جائز معك يا أميرة. فمثلك شفافة، حلوة، تشبهين التفاحة النضرة، صعب أن تمنح حياتك من أجل... آه... حياة الآخرين!

يأتي الحاجب ومعه الجلاّد بسوطه، يأمرهما الرشيد بإخراج الأمير من ديوانه. باءت جميع محاولات إخراجه بالفشل. عاد الأمير الشيخ يتحدث إلى دموع، كأنه لا يرى غيرها في هذا الديوان، والعالم كله أصبح دموعاً. قال وصوته كصوت البحر إذا أزبد وأرغى:

- لقد علّمتني الدنيا...

تقاطعه، وقد امتلأت بالحزن كما يمتلئ قدح الماء فتفيض جوانبه:

- من أنت؟ ما بالك ترتدي الأسمال البالية؟ ما لي أراك تحمل ثلاثة أكياس؟ ما الذي تلفّ به رأسك بدل العمامة؟ ما الذي تضعه على أنفك؟

جاءها صوت الأمير بارداً عاصفاً:

- أنا من تقرّحت قدماه من السير فوق خرائط الدم، أنا عبد الأمير الشحاذ، أرتدي الأسمال البالية لأنها زيّ كل الفقراء يا مولاتي. أحمل الأكياس الثلاثة معبأة بالأواني الفارغة، والقناني، لأنها عدة كل أمير لحفلاته. الذي أضعه على أنفي قطعة من القماش تجعلني استنشق هواء نقياً لأن هواء الدنيا كلها يزكم أنفي لما فيه من نتانة، يا ملكتي.

عصف صوت الخليفة كمدفع في الديوان، أطلق قذيفته، سقطت أمامه، وحدث الذي لم يكن بالحسبان:

شحاذ، أيها الوغد! أيها الحاجب خذه وأطِح رأسه.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف