الأخبار
17 شهيداً في مجزرتين بحق قوات الشرطة شرق مدينة غزةمدير مستشفى كمال عدوان يحذر من مجاعة واسعة بشمال غزة"الإعلامي الحكومي" ينشر تحديثًا لإحصائيات حرب الإبادة الإسرائيلية على غزةغالانت يتلقى عبارات قاسية في واشنطن تجاه إسرائيلإعلام الاحتلال: خلافات حادة بين الجيش والموساد حول صفقة الأسرىالإمارات تواصل دعمها الإنساني للشعب الفلسطيني وتستقبل الدفعة الـ14 من الأطفال الجرحى ومرضى السرطانسرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

نعيق الغراب بقلم: منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-11-25
نعيق الغراب  بقلم: منجد صالح
نعيق الغراب

الشريان الرئيس بين مدينتي الخليل ونابلس ما زال يعجّ بالمركبات المسافرة، ذهابا وإيابا، بالرغم من تجاوز وقت صلاة العشاء بأكثر من ساعة. القيادة في هذا الطريق تحتاج الى تركيز مُضاعف، نظرا لطول المسافة "وعجقة" السير الدائمة. ونظرا لإنتزاع المدينة المقدّسة من صلب الطريق التاريخي والأصلي، بسبب الإحتلال البغيض العنصري، وحرف وجرف وحذف وإجبار المركبات الفلسطينية لولوج الممر الإجباري الطويل "المُتبقّي" الوحيد، الصعب المتعرّج، هبوطا وصعودا، وصعودا وهبوطا، عبر "وادي النار"، الطريق المُتاح المُباح الأوحد الأجرد الأمرد.

كان أبو جابر قد غادر لتوّه مدينة خليل الرحمن، في طريق عودته الى نابلس، مدينة جبلي عيبال وجرزيم، جبال النار. قطع بالكاد عشرة كيلومترات حين رنّ جرس هاتفه النقّال. حزام الأمان يلتف حوله ويضغط على جيب بنطاله. ليس من السهل الوصول الى جيب البنطال لإخراج هذا الكائن العجيب الجامد المتحرّك اللحوح الصارخ بإستمرار.

وليس من السهل الوقوف على جانب الطريق السريع ووتيرة المركبات من ورائه سيل جارف، مُهر جامح مُنفلت من عقاله، ينهمر باستمرار، دون سرج ولا لجام.

بصعوبة وصل الى "الجهاز اللحوح"، وضغط على الزر الأخضر. يُكثّف كلّ إهتمامه في مراقبة الطريق وسلسلة المركبات تندفع من أمامه ومن خلفه. سمع عبر الأثير صوت باهت ينادي:

-         آلو .... هل غادرت الخليل؟

-         نعم غادرت قبل قليل، أجاب أبو جابر، وهو بالكاد يفسّر معالم شيفرة الصوت الباهت الهاتف الداعي.

-         طيّب.....

-         هل من خطب ما؟!

-         نعم. هناك مشكلة. أنا "زعلان" عليك. غاضب منك. عاتب عليك. لا أستطيع أن أصبر حتى أراك. "فشربة الخروع دارت معي، في أحشائي، في أمعائي"، وتكاد تُبلل سروالي، ولا مجال للتأجيل. يجب أن "أبقّ البحصة"، من فمي ... من فمي!!! لا يهمّني إن كنت تقود سيّارتك الآن. فالأمر طارىء وعاجل وحاسم وساحق وماحق وحارق ومارق وخارق "وخازق" وطارق. ... طارق لخزّان الشاحنة المُسافرة الى الكويت، في لهيب الصحراء الحارقة، الذي لم يُطرق قط، في رواية غسان كنفاني، رجال في الشمس.

-         "يا ساتر يا رب". يبدو أن الأمر هام وجلل؟؟!!

-         الأمر في غاية الأهمّية. لا يمكن تأجيله ثانية واحدة، برهة واحدة، فسحة واحدة، فرسخة واحدة، "فسوة" واحدة. فالأمر جلل، لا يمكن معة التأجيل أو التأخير أو الكسل أو الملل. فالأمر يتعدّى في أهميّته إحتلال فلسطين وتشريد شعبها على دفعات وجولات، ويتعدّى في أهميّته الحرب الباردة والساخنة والملتهبة نار نار في سوريا وليبيا واليمن والعراق، وحرب الناقلات النفطية في مضيق هرمز ومضيق جبل طارق، ومعضلة جزيرة القرم، وتداعيات غزو أمريكا لأفغانستان والعراق، وحتى قبلها الحرب على فيتنام وهروب السفير الأمريكي، في آخر لحظة، بالهليوكبتر من على سطح السفارة الامريكية في سايغون عام 1975. والحرب الكورية، والعدوان الثلاثي على قناة السويس، والهجوم الياباني الساحق الماحق الإنتحاري على الأسطول الأمريكي في بيرل هاربر في اواخر الحرب العالمية الثانية، وقصف أمريكا لمدينتي هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرّية، لأول مرة في التاريخ، وقتل آلاف المدنيين اليابانيين دفعة واحدة، في لمح البصر، في رمشة عين. والحروب الصليبية، وتحرير صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وطرد الصليبيين من بلادنا.

-         يا لطيف تلطف فينا. الى هذه الدرجة الأمر جلل لا يحتمل التأجيل أو الملل؟؟!!

-         نعم. وأكثر من ذلك. الموضوع اكبر بكثير، أكبر من إنتصار المسلمين على المشركين في معركة بدر. وغلطة الرماة المسلمين بترك مواقعم في حماية سفح جبل أحد، في معركة أحد، مُعلنين وقتذاك نصرا مُؤزّرا لم ينضج بعد، وملتحقين بركب "زملائهم" لجمع الغنائم من الطرف المُشرك المهزوم افتراضا، الذي لم يُنهزم بعد. نصر لم يتحقق وهزيمة لم تكتمل!! أعاد الكرّة على المسلمين، ودارت الدوائر عليهم. وكان ما كان من فوضى وتراجع وتدافع وتهامز وتنابز وتمايز، حيث ثبت نفر قليل في المعركة، ومارسوا نوعا من الانسحاب الايجابي لتدارك الموقف وتقليل الخسائر. ...

ويا عجب العجاب!!! من كان صاحب فكرة وخطة الالتفاف حول الجبل ومباغتة المسلمين متلبّسين في عدّ وإحصاء غنائم لم تنضج ثمرتها؟؟ إنّه خالد بين الوليد، عندما كان كافرا لم يصل الاسلام الى قلبه بعد. والذي قال عنه النبي (ص)، بعد إسلامه وخوضه الوقائع، معركة مؤتة، إنّه سيف الله المسلول. قائد وبطل معركة اليرموك مع الرومان والتي غيّرت وجه ومجرى التاريخ.

-         "أسمع قعقعة ولا أرى طحينا"؟؟!! التاريخ مفهوم والجغرافيا معلومة، لكن مكالمتك الطارئة العاجلة، بلا طعم، غير مفهومة ولا معلومة؟؟!! ولا سبب داع لهذا الصخب، إلّا العجب، ولماذا الغضب والعتب؟؟!!

-         لقد أهنت ابني؟؟؟!!! ابني قسيم؟؟!! لقد شتمّته!!! أجاب حمد، باصرار ومن "كلّ بُدّ"، وبنزق وبلا ودّ، ونكد وبلا تردّد.

-         هل تقصد ابنك؟؟!! ما زال يتبوّل في سرواله الداخلي. "ويعملها على حاله"!!!

-         يعني ....

حصل تشويش حاد في المكالمة الهاتفية، في خط الهاتف، في الأثير الناقل للاحرف والكلمات، تشويش حاد، مُركّب، مُعقّد، أشبه بفحيح الافعى. يزداد التشويش وتعلو زنّته، وإذا به أشبه بنعيق الغراب، "نهيق غراب" مكتمل الاركان والأشكال والالوان، في الزمان والمكان.  

 صوت حمد، من كلّ بُدّ وبلا ودّ ولا تردّد وبنكد، ياتي عبر الاثير "صدّ ردّ" كنعيق الغراب:

-         "لقد شتمت ابني ... ابني قسيم".

ويتردد الصوت والصدى في التشويش على طول المدى: " ابني قسيم ... قسيم ... قسيم"!!

الصوت مُشوّش، يزداد تشويشا، يمتزج فحيح الافعى بنعيق الغراب من شدة التشويش، فالطريق طويل، ولقط الموجات عبر الاثير متفاوت، "طالع نازل"، داني شارد، بحسب قُرب أو بُعد الموقع عن اقرب برج لاقط لجوّال، لا إنتظام في المسافات ولا إنتظام في عدد الأبراج، هناك تفاوت في المسافات، ربّما لخلل ذاتي في المعرفة و"المفهوم" والتقنية والتوزيع والتركيز والتشبيك، وربما لخلل قسري، بسبب إجراءات الإحتلال وتعدد المناطق بين "ألف وباء وجيم" وخاصة جيم الممنوع فيها على شركة جوّال تثبيت أي برج تقوية إلاّ بموافقة مسبقة ومضنية من قبل سلطات الإحتلال.

التشويش مستمر، ويستمر معه خشخشات وحشرجات وفحيح الافعى ونعيق الغراب. الشيء الوحيد الممكن تفسير شيفرته، قليلا شحيحا، في خضم بحر الاثير المُتلاطم الأمواج، الفوضي العارمة في زنّة أمواج الهواء الهاب من بعيد، من منطقة باء الى منطقة جيم، الى الطريق الواسع المُخترق لمنطقة جيم، المُسيطر عليها غصبا الشيطان الرجيم، هو ذلك اللفظ المعكوك الممجوج السمج لتعبير: "اببببني قسييييم"!!!

قسيم بن حمد، طفل، ولد، لم يبلغ العاشرة من عمره بعد. هو الابن البكر لحمد، الى جانب بنتين تصغرانه سنّا. أمّا حمد، بدوره، فهو آخر العنقود لعشرة شقيقات وأشقاء، أكبرهم أبو جابر وأصغرهم حمد، وما بينهما تشكيلة ربانيّة، لوحة فسيفساء بديعة من الذكور والإناث، عطاء الله وكرمه لا حُدود له.

ولد آخر العنقود قبل أربعين عاما بالتمام والكمال، بعد تسعة بطون، أربعة ذكور وخمس اناث. أصبح عدد الاخوة والاخوات خمستين بعين الحسود. ديمقراطية تامة، خمسة ذكور، الآن، يقابلهم خمس اناث.

أصّر أبو جابر، في حينه، على تسمية المولود الجديد. على اعطاء اسم للمولود الحديث، شقيقه الصغير، ابن أمّه وأبيه، آخر العنقود.... فأسماه حمد. أملا وتيمّنا بكل ما حُمّد وعُبّد. الجذر المجرّد الحميد الأصلي لمجموعة من الأسماء الناصعة: حمد حميد مجيد ومجدي واحمد ومحمد ومحمود وحامد وحماده وحمدان. تمنّى وتوخّى وتأمّل أن يكون شقيقه، الذي يرى النور لتوّه، بوتقة يمتزج فيها هذه الاسماء كُلّها، تُنتج إكسيرا فريدا حميدا مجيدا رغيدا مديدا سديدا، يُسبغ حياته، أيامه ولياليه، بالحمد والشكر لله تعالى على نعمه وعطائه، وان يُوفّق في حياته، في دنياه، في أيّامه ولياليه، وأسابيعه وشهوره، وليكون قّرّة عين لوالديه وأشقائه وشقيقاته وذخرا وسندا لهم في المستقبل وقادم الأيام. ومن يدري ماذا تُخبّىء الأيام والسنين. لا يعلم ذلك إلّا علّام الغيوب، الله سبحانه وتعالى جلّ في عُلاه.  

أبو جابر كان في غاية الكرم مع شقيقه، يؤدي واجبه معه على احسن وجه. يؤدّي واجبه ليس إلّا. أو هكذا يعتقد، هكذا يُريد، هكذا مفهومه للأمور، وربما هكذا قدره. لا يُريد جزاء ولا شُكورا. لم يفكّر في موضوع الجزاء والشكور أصلا، مُطلقا، لم تكن في حسبانه ولا حساباته، لا في صحوه ولا في غفوته ولا في سُباته، لم يُدوّن شيئا في دفتر صغير يُحفظ في الجيب تحسّبنا لتغير الازمنة والايام. "للعضّة المسمومة من الأنياب التي ربّاها وصقلها وأحسن إليها". وربما غفلته، طيبته، سعة بحره وغزارة مياه شلّاله وعطائه، من يدري؟؟!! سيل من العطاء، نهر متدفّق من المحبة والأحاسيس. "بيعمل المعروف وبيدب في البحر". لا تقلقه الحسابات، "لا حسابات الحقل ولا حسابات البيدر"، ولا مدى تطابقهما أو تعارضهما أو تناقضهما.

عندما أنهى حمد الثانوية العامة، وحصل على شهادة التوجيهي، كان أبو جابر في الجزائر، في ربوع جبال أطلس الشامخة. في مدينة الجزائر العاصمة. كان مُدرّسا للغة العربية منذ خمسة عشر عاما. يُدرّس لغة الضاد لأبناء المليون ونصف المليون شهيد. الفرنسيون كانوا قد "فرنسوا" كل شيء في الجزائر بما في ذلك التدريس واللغة، على مدى اكثر من مئة واربعين عاما من الاستعمار. أرادوا أن تحل لغة فولتير محل لغة ابي احمد الفراهيدي.

هاتفة والده، والد أبا جابر:

-         لقد حصل أخوك الصغير حمد على شهادة التوجيهي العام، حصل على معدّل 86، ويريد أن يدرس الطب، في روسيا أو في أكرانيا، هكذا نفكّر. ما رأيك؟

-         ولماذا روسيا أو أكرانيا؟؟!!

-         هذه الدول متاحة والعديد من زملائه سيذهبون اليها.

-         لا لا. ليس أكرانيا أو روسيا. فقط أرسله لي الى هنا الى الجزائر. إبعثه "بالبنطلون والقميص" فقط. وأنا سأعيده لك طبيبا متخرّجا محترما معتبرا، ومعه "بُكجة" جديدة من الملابس. والدراسة هنا باللغة الفرنسية، لغة مهمّة على المستوى العالمي.

وصل الشاب العشريني حمد الى مطار هواري بومدين في العاصمة الجزائرية، الجزائر. كان شابا فارع الطول نحيفا، شعره "ذلّيل"، قليل الغزارة، وأظافره طويلة. يلبس بنطالا من الجينز الكالح، ربما لزوم الموضة، وقميصا أخضرا مقلّما. تعلو ثغره بسمة بلهاء، وربما ساخرة، على الارجح أنها ساخره. فحركاته توحي لك مزيدا من الحرص والذكاء وربما بعض من الخبث الدفين.

تعانق الشقيق مع الشقيق على ارض مطار الجزائر، الشقيق الكبير مع الشقيق الصغير. هكذا تسير امور الحياة دائما. الشقيق الكبير يعانق أخيه الصغير، يضمّه الى صدره، يحمية يرعاة يُكبّره يرفعه الى القمة، لا ينتظر جزاءا ولا شُكورا. وعندما يكبر هذا الشقيق الصغير، أو ربما لا يكبر أبدا إلّا لنفسه وذاته، يبقى صغيرا للآخرين، "كبير ضيف صغير محلّه"، يكنز الدرهم والدينار، ولا تخرج من جيبه ولا حتى بهبة ثورة بركان.

كان حمد قبل إنهائة التوجيهي قد إعتقل لمدة عام من قبل قوات الإحتلال، كان يُشارك في المظاهرات، في التصدّي لإقتحامات الأحتلال المستمرة والدائمة، في الإنتفاضة الأولى، ويقذف جنود الإحتلال بالحجارة "والنقّيفة"، المنجنيق الصغير.

وعندما وصل حمد الى مدينة الجزائر العاصمة أبهره جمالها وروعة أبنيتها وطرازها الحديث وحدائقها الغنّاء، فقد بناها المستعمرون الفرنسيون وهم يفكّرون بأنّهم لن يغادروها مطلقا وإنما أصبحت أرضا فرنسية لما وراء البحار. كما يحتفظون حتى الآن بغويانا الفرنسية في الكاريبي وعاصمتها كايين، ومنها يُطلق الصاروخ الفضائي الفرنسي أريان، نتيجة لصفاء طقسها.

كان "كالمضروب على رأسه"، كأنّه فقد توازنه، إختلّ كيانه، يريد أن يلتهم البنايات والشوارع والحدائق والأشجار بعينيه، فقد خرج لتوّه من المعتقل، من إنتفاضة قاسية، رمي حجارة ورمي زجاجات مولوتوف ورصاص وقمع وقنابل غاز وقنابل صوت وأزيز رصاص وبطش وإعتقالات وضرب وركل وتكسير أرجل وتكسير ايدي، وفجأة الى الفضاء الرحب الفسيح الجميل، الى السلام والوئام ونسيم جبال أطلس الشامخة، التي تعبق بذكرى وعبق ومسك مليون ونصف المليون شهيد ضحّوا بحياتهم من أجل إستقلال بلادهم. ... من أجل أن تحيا الجزائر. ... وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر، فإشهدوا إشهدوا إشهدوا ... .

دعاه يوم وصولة الى عشاء في فندق الاوراسي العريق الشهير على شاطيء البحر. وجبة من السمك الطازج، سمك "روجيه" بالفرنسية، سمك السلطان إبراهيم ذو الجلد المُحمرّ، المشوي على الفحم أو على الصاجة، ورائحته الزكية المختلطة بالبهارات تجعلك تريد اكله بأنفك قبل فمك واسنانك، يصاحبه طبق من الجمبري المشوي وآخر من الكالامار المقلي بالزيت على شكل حلقات ملتفّة. مائدة بحرية شهيّة بأمتياز، تضاهي مثيلتها من بحر غزة وبحر تونس وبحر المغرب، وكلّها تنبع وتنهل من بحر واحد، أسماك ومحاريات البحر الأبيض المتوسط الشهية، يضاف إليها في المغرب أسماك ومحاريات المحيط الاطلسي.

أمضى حمد سبع سنوات في دراسة الطب في ربوع الجزائر العاصمة، معزّزا مكرّما. كافة طلباته مستجابة وكافة تكاليفة مُغطّاه، رفاهيّته سكنه دراسته ملبسه ومأكله وفسحه مع أصحابه. وفّر له شقيقه أبو جابر كلّ ذلك، وأكثر، شقّته كي يعيش فيها الى جانب سكنه المؤمّن في المبيت الجامعي. وقضّاها دراسة وفرحا وإستجماما. لا مسؤولية مطلقا إلّا بذل مجهوده في دراسته ونجاحه فيها.

تخرّج من كلية الطب بدرجة بكالوريوس في الطب البشري، وخلال دراسته تعرّف على زميلة له في نفس العام والتخصص، تزوّجها على بركة الله بتكاليف غطّاها شقيقه الكبير أبو جابر.

وعاد الى ارض الوطن وفتح عيادة في مدينة نابلس، وجرت الفلوس في يديه ... .  

بعد كل هذه السنوات والسنين، والبنات والبنين ... يأتي حمد ويضع كلمة، وشاية، فتنة، غلطة ابنه "المفعوص"، زغب الحواصل، الذي لم يكتمل بزوغ الريش على جناحيه، ولا على ذنب مؤخّرته بعد. "والذي ما زال يتبوّل ويُخرج حاجته الثقيلة في سرواله". أمام شقيقه الكبير، يلوم شقيقه، مُربّيه، ويفتح فمه كبيرا وأكبر من فتحة جرف وادي الباذان، ويُراجع شقيقه الأكبر، بأنه كان، لسبب أو لآخر، لا يهم، قد أهان ابنه الصغير، قد شتمه أو أهانه وربّما أدّبه، أعاده لصوابه، "وفرك أذنه" ... . 

وصل أبو جابر بالسيّارة، عبرمدخل مخبم بلاطة وأصبح على مشارف مدينة نابلس. اخترقت السيّارة الشارع الفسيح من أمام مؤسسة إسعاد الطفولة، التي تتدثر بثوب كثيف من الاشجار الباسقة وارفة الظلال على مدى مساحتها على الشارع العام. يُعطيك المنظر احساس بالامان والظل والانتعاش، وخاصة في ليالي الصيف الدافئة.

كثافة الاشجار ربما حجزت حبيبات وجزيّئات الأثير الحاملة للصوت من الاختراق والوصول الى الهاتف النقّال، كما يجب، فبدا الصوت مُتقطّعا، مُتلعثما، مُتلعلعا، مُتهجّما، مُتبرّجا، مُتغطرسا، مُسنّنا، مُدبّبا، خنجرا يقطر سُمّا ....

عبر الاثير المشوّش بزنة غريبة عجيبة، بالكاد يسمع صوت شقيقه، صوت أخيه، حمد، ابن أمه وابيه، ربيبه. يأتي "ويتجلّى" ويُسمعُ باهتا مُكفهرّا مشوّشا كنعيق الغراب ... نهيق الغراب ... نعيق الغراب.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف