الأخبار
ما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيلإسرائيل ترفض طلباً لتركيا وقطر لتنفيذ إنزالات جوية للمساعدات بغزةشاهد: المقاومة اللبنانية تقصف مستوطنتي (شتولا) و(كريات شمونة)الصحة: حصيلة الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة 32 ألفا و490 شهيداًبن غافير يهاجم بايدن ويتهمه بـ"الاصطفاف مع أعداء إسرائيل"الصحة: خمسة شهداء بمدن الضفة الغربيةخالد مشعل: ندير معركة شرسة في الميدان وفي المفاوضاتمفوض عام (أونروا): أموالنا تكفي لشهرين فقط
2024/3/28
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

شعرية الفضاء الروائي في (وريث يافا) للمتوكل طه بقلم:د. زاهر محمد حنني

تاريخ النشر : 2019-11-21
شعرية الفضاء الروائي في (وريث يافا) للمتوكل طه
د. زاهر محمد حنني

أستاذ النقد الأدبي الحديث

***

ملخص :

بدأت الرواية العربية المعاصرة تتبوّأ مكانة عالمية، وصارت دراستها تشكل ميداناً مهماً في كشف جماليات القص وفضاءاته، بوصفها بنيات دلالية تحمل قيماً تعبيرية وفنية .

يتناول هذا البحث شعرية الفضاء الروائي في( وريث يافا ) للمتوكل طه، من خلال مقدمة وثلاثة محاور؛ يتوقف المحور الأول عند مفاهيم الشعرية والفضاء الروائي بوصفها مكونات أساسية في بناء الرواية الحديثة ، ثم يعرض في المحور الثاني الفضاء الروائي في (وريث يافا ) من حيث فضاء الافتتاح والمكان الواقعي والمكان التخييلي والأماكن المغلقة والأماكن المفتوحة، وفي المحور الثالث يتناول دور العناصر الروائية في بناء الفضاء الروائي . ثم ينتهي بخاتمة تبين أبرز النتائج التي توصل إليها . وقد سار البحث مهتدياً بالمنهج الوصفي التحليلي ومستفيداً من الدراسات البنيوية في تحليل النص الروائي .

الكلمات المفتاحية : شعرية، الفضاء الروائي ، وريث يافا ، المتوكل طه .

مقدمة :

لا يرتبط مفهوم الشعرية بدلالاته في نفس المتلقي وحسب ؛ وإنما يرتبط في الأساس بالمبدع، فهناك مبدع يمتلك روحاً شعرية تحلق في آفاق لا يهتدي إليها أي شاعر آخر، وأما الذي يحاول ولا يصل ، فإنه لا يمتلك تلك الروح ، والمتوكل طه شاعر مبدع قبل أن يكون قاصاً وروائياً ، فهل استطاع أن يضع بصمة شعرية في هذه الرواية ؟ وما هي ملامح الفضاء الروائي فيها ؟ وما دور العناصر الروائية في بناء فضائها الروائي ؟

وريث يافا رواية صدرت في العام 2018 م ، لكاتبها الشاعر والأديب والروائي المتوكل طه ، عن مكتبة كل شيء في حيفا ، وجاءت في (171 ) صفحة من القطع المتوسطة ، وصمم لوحة غلافها الفنان أيمن حرب .

يتناول هذا البحث دراسة تمظهرات شعرية الفضاء الروائي فيها ، في مقدمة وثلاثة محاور : الأول ، يناقش مفاهيم الشعرية والفضاء الروائي من حيث دلالتهما وأهميتهما في دراسة النص الروائي ، والثاني ، يلج إلى فضاء الرواية من حيث فضاء الافتتاح والمكان الواقعي والمكان التخييلي الأماكن المغلقة والأماكن المفتوحة ؛ ليحيط بأهمية المكان في بناء الفضاء في الرواية . والمحور الثالث يبحث في دور العناصر الروائية في بناء الفضاء في رواية وريث يافا ، مقتحماً عوالم شخوصها وتقنيات السرد فيها ولغتها وزمانها والوصف  فيها ، ليتبين لنا أنها رواية مختلفة في كثير من ملامحها . ويفضي البحث إلى خاتمة رصدت أبرز تجليات الفضاء الروائي فيها.

ولا تدعي هذه الدراسة أنها منبتة عن الدراسات السابقة التي خاضت غمار هذا المجال ؛ بل استفادت من كل الدراسات التي استطاع الباحث الوصول إليها ، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر

 ( شعرية الفضاء السردي لحسن نجمي ) و( بنية النص السردي لحميد لحميداني ) و( بنية الشكل الروائي لحسن بحراوي ) و( في نظرية الرواية لعبد الملك مرتاض ) و( النظرية البنائية في النقد الأدبي لصلاح فضل ) ، وتتغيا هذه الدراسة أن تكون ثمرة جهد متصل مع جهود الباحثين الآخرين ، في سبيل النهوض بسبر أغوار النص الروائي العربي المعاصر؛  لتجلية جوانبه الفنية، وبيان موقعه في الرواية العالمية . لهذا تطلب البحث أن يكون المنهج الوصفي التحليلي طريقاً للدراسة مع الاستفادة من كثير من آراء البنيويين على وجه الخصوص لأهميتها في الولوج إلى فضاء الرواية . ولم يخض البحث في تفاصيل الجانب التنظيري الذي ناقشه الباحثون كثيراً ، بل تجاوز إلى الجانب التطبيقي على النص الروائي ؛ لأهميته . كما لم يخض البحث في الحديث عن الكاتب؛  لأنه بعد صدور أكثر من خمسين كتاباً له ( في الشعر والسرد والنقد والفكر ) ودراسات عديدة تناولت شخصيته وأدبه ، بات معروفاً ، ومما لا يستوجب الحديث عن شخصه ، وندعو له بطول العمر .

أولا : الشعرية والفضاء الروائي

1 -الشعرية :

من أبرز ما يميز مفهوم الشعرية قابليته للتجدد ،وعدم إمكان تحديده بصورة نهائية ووضعه في إطار مغلق ؛ فلو أمكن ذلك لأصبح المفهوم قالباً جاهزاً يفتقر إلى قدرته على تحقيق الانطلاق ؛ ولهذا ظل المصطلح على اختلاف صيغ التعبير عنه ( الشعرية ، الشاعرية ، فن الشعر ، الأدبية ، الإنشائية ، الإبداعية ، .... ) قيد الدرس منذ أرسطو ( فن الشعر ) وصولاً إلى آخر ما وصل إليه النقد الأدبي الحديث،  مروراً بالمعارف الإنسانية المختلفة التي خاضت بعض غماره ( علم النفس ، علم الاجتماع ، الفلسفة، ....) وامتداده في الفنون ، حتى وصوله إلى فنون إبداعية مختلفة كالفنون السينمائية والتشكيلية وغيرها .

وقد كانت الشعرية مكوناً أساسياً في فن الرواية الحديثة ، منذ بداياتها المرتبطة بالآداب الغربية ، والشعرية وإن كانت منطلقة من الشعر في الأساس الذي أَخَذَتْ منه اسمَها (شَعَرَ ، يَشْعُرُ ، شِعْر، شِعْرِيَّة ) وظلت عند كثيرين مرتبطة بتطور الشعر وحده (1)ينظر ، كوهين ، جان: بنية اللغة الشعرية ، تر:محمد الوالي ومحمد العمري ، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1986م، ص9 يقول : " كلمة الشعرية عنت زمناً طوبلاً نظم الشعر، ونظم الشعر وحده " ، إلا أنها امتدت لتشمل غيره ، في إطاتر وصفها بأنها " تطلق على ما به يتحول الكلام من خطاب عادي إلى ممارسة فنية إبداعية " (2) السد، نور الدين : الأسلوبية وتحليل الخطاب ، دراسة في النقد العربي الحديث ، تحليل الخطاب الشعري والسردي ، دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ، الجزائر ، د.ت، ص58 .ولأنها تحمل الطاقة الإبداعية في الخطاب الأدبي ، فقد كانت " محاولة وضع نظرية عامة مجردة ومحايثة للأدب بوصفه فناً لفظياً ، إنها تستنبط القوانين التي يتوجه الخطاب اللغوي بموجبها وجهة أدبية " (1) ناظم ، حسن : مفاهيم الشعرية ، دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، لبنان ، 1994م، ص79 .  وقد ربط النقاد غالبا بين الشعرية والتخييل والبلاغة والتناقص والانزياح وغيرها ، مما أعطاها بعداً فنياً خاصاً يمكن الارتكان إليه عند القول عنها " من مرتكزات المناهج النقدية الحديثة التي تسعى إلى كشف مكونات النص الأدبي وكيفية تحقق وظيفته الاتصالية والجمالية .... وتتمحور انشغالاتها منذ القديم وإلى الآن في إستقصاء القوانين التي إستطاع المبدع التحكم بوساطتها في إنتاج نصه ، والسيطرة على إبراز هويته الجمالية ، ومنحه الفرادة الأدبية " (2) الياس ، جاسم خلف : شعرية القصة القصيرة جداً ، دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع ، دمشق ، سوريا ، ط/1، 2010م، ص13 . إن القول ( استقصاء القوانين ) لا يعني أن الشعرية تحتكم إلى قوانين ثابتة تحكمها ؛ فلست بقادر على استيعاب إمكانية أن يخضع الأدب لقوانين ثابتة البتة .

2 - الفضاء الروائي :

لم أرَ مسوّغاً للخوض في مفاهيم المكان والحيز والفضاء بوصفها إشكالية لغوية ؛ إذ تكاد معاجم اللغة تجمع على أن المكان هو : " الموضع ، والجمع أمكنة وأماكن " (3) ابن منظور ، محمد بن مكرم : لسان العرب ، ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، 1999م، مادة (مكن) . وكذلك في القاموس المحيط .

والحيّر هو " الناحية " (4) ابن فارس ، أحمد : مقاييس اللغة ، تح : عبد السلام محمد هارون ، دار الفكر ، 1979م، مادة (حيز – حوز) . وكذلك في اللسان . وقال سيبويه : " التحيُّر : هو الحوز من الأرض وهو أن يتخذها رجل ويبين حدودها فيستحقها فلا يكون لأحد فيها حق معه " (5) ابن منظور : اللسان ، مادة (حوز ) . أما الفضاء فهو : " المكان الواسع من الأرض ، ... مشترك بين الحدث والمكان " (6) ابن منظور : اللسان ، مادة ( فضا ) .ويبدو أن المكان أكثرها تحديداً بوصفه موضعاً ، والحيز أكثر إتساعاً من المكان بوصفه ناحية ، أما الفضاء فهو أكثرها إتساعاً ؛ لأنه بلا تحديد ، ليكون الفضاء شاملاً للمكان والحيز معاً .

أما مفهوم الفضاء الروائي فعلى الرغم من جعله موضع إشكال بين النقاد ، إلا أنني لم أجده مشكلاً ؛ وما الاختلاف بين استعمال مصطلح الحيز بديلاً عن الفضاء كما عند عبد الملك مرتاض (7) ينظر ، مرتاض ، عبد الملك : في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب ، الكويت ، 1996م ص141 . أو بين استعمال مصطلح المكان بديلاً أيضاً عن الفضاء كما عند كثيرين (8) ينظر ، لحميداني ، حميد : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، لبنان ، ط/2، 1993م ، ص56 . سوى اختلاف في المفاهيم المقصودة من كل واحد منها جميعا  . إن الفضاء الروائي لا يعني المكان وحده ، ولا الحيز وحده ، بل إن " الفضاء حاضر في اللغة ، في التركيب ، في حركية الأشخاص ، وفي الإيقاع الجمالي لبنية النص الأدبي " (1) نجمي ، حسن : شعرية الفضاء السردي – المتخيل والهوية في الرواية العربية ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب ، بيروت ، لبنان ، ط/1، 2000م، ص65 . وليس محصوراً  في المساحة أو المكان ، والفضاء " هو المادة الجوهرية للكتابة الروائية الجديدة ، ولكل كتابة أدبية (2) نجمي : شعرية الفضاء السردي ، السابق ، ص59 . حتى صار " إحدى العلامات المميزة للكتابة الروائية الجديدة ، أي كتابة روائية تريد أن تكون جديدة "(3) نجمي : شعرية ، السابق ، ص60 . وهذا يشمل عالم الرواية بما فيها ، إذ إن " فضاء الرواية هو الذي يلفها جميعا ، إنه العالم الواسع الذي يشمل مجموع الأحداث الروائية "(4) لحميداني حميد : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، سابق ، ص63 .وما زال البعد التنظيري للفضاء بوصفه رؤية نقدية يراوح بين هذه المعاني ، التي يتحقق كل منها في إطار الباعث أو المنطلق ؛ فالفضاء الجغرافي أو المكاني الذي يسكن مضمون القصة الروائية ، وليس الكتابة على الورق ، ولا يمكن أن يدرس " في استقلال كامل عن المضمون " (5) لحميداني ، بنية النص ، السابق ، 54 . والفضاء النصي وهو الكتابة على الورق ، ابتداءً من العنوان والغلاف والألوان والتصاميم والخطوط والبداية وغير ذلك ، ويعده لحميداني فضاء مكانياً ؛ " لأنه لا يتشكل إلا عبر المساحة ، مساحة الكتاب وأبعاده .  غير أنه مكان محدود لا علاقة له بالمكان الذي يتحرك فيه الأبطال ، فهو مكان تتحرك فيه –على الاصح-  عين القاريء ، هو ، إذاً، فضاء الكتابة باعتبار طباعة " (6) لحميداني بنية النص ، السابق ، ص56 .وهناك الفضاء الدلالي وهو الفضاء المرتبط بجغرافية المعنى وتحولاته التي لا حدود لها ؛ لأن التعبير الإبداعي ليس له معنى واحد ، وله علاقة مباشرة بالمجاز والصور وتعدد الدلالات ، بل إن الصورة في رأي جيرار جينيت " رمز فضائية اللغة الأدبية في علاقتها بالمعنى "(7) نقلاً عن لحميداني ، بنية النص ، السابق ، ص61 . وهناك أيضا الفضاء بوصفه رؤية أو منظوراً ، ويكون هذا الفضاء محكوماً بوجهة النظر التي تسيطر على الكاتب وتوجهه .

ويمكن القول إن بناء الفضاء الروائي مرتبط بخطية الأحداث السردية ، ومن ثم يكون المسار الذي يتبعه السرد (8) ينظر ، فضل ، صلاح : النظرية البنائية في النقد الأدبي لشؤون الثقافية العامة ،سلسلة آفاق عربية ، ط/3، بغداد 1987م، ص326 ، وعلى الرغم من إمكانية تحديد المكان ، إلا أن الفضاء يمكن القول بأنه رمزي وهمي مطلق زئبقي (1) ينظر ، زوزو ، نصيرة : إشكالية الفضاء والمكان في الخطاب النقدي العربي المعاصر ، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية ، جامعة محمد خيضر ، بسكرة ، ع/6 ، 2010م ، ص88 . ( ولا أعرف سبب شعور هذه الباحثة بالدونية في مقابل الآخر الوافد الأجنبي ؛ إذ عند حديثها عن النقد العربي تصفه بالتخلف كما في قولها : " نود اقتصار الحديث عن تخلف النقد العربي في طرح سؤال الفضاء ..." ص2 ، بينما عندما تتحدث عن المنجز الغربي تبدأ التغزل به ، كما في قولها : " حسن نجمي في كتابه (...) مستعينا بما أبدعته الأنامل الغربية في هذا المجال ..." ص13 ، مع أنها تقر أن العرب والغرب لم يستقر المصطلح عندهم حتى الآن . وهذا ينفي إمكانية وصف أحدهم بالمتخلف والآخر بالمبدع ) . ويمكن وصف بعض ملامحه ، ولا يمكن الإمساك به بصورة نهائية .

 

ثانياً : الفضاء الروائي في (وريث يافا)

1 -  فضاء الافتتاح :

أي فضاء قد يتسع لما يعتمل في ذاكرة أقوى من هدير الأيام، وأوسع من آفاق الأحلام ؟ إن فضاء الافتتاح يمثل وحدة من وحدات بناء شعرية الفضاء الروائي؛ كي تضع المتلقي في جو النص، ولهذا كان على القاص أن يطيل في وصف فضاء الافتتاح؛  لأن "الافتتاحيّة تحتاج إلى شيء من التفصيل يتيح للروائي فرصة بناء نص ذي وحدة وظيفيّة أساسيّة (2) روحي ، سمير: الرواية العربية البناء والرؤيا –مقاربات نقدية – اتحاد الكتاب العرب ، دمشق، 2003م، ص39. إن هذا التصدي يتطلب قدرة خارقة فمنذ الإهداء " إلى الذين ظلوا منزوعين في يافا وأخواتها "(3) طه، المتوكل: وريث يافا ، مكتبة كل شيء ، حيفا،2018م، ص5 ؛ إذ كل واحد منهم يكاد يكون أفقا بلا حدود ؛ لذا ففضاء الافتتاح يبدو أنه سيكون منفتحاً على فضاءات أخرى ، والإمساك بطرف الخيط –الذي لا بد من أن نبدأ منه – بدأ صعباً ؛ وفي العادة تُقاس افتتاحيّة الرواية استناداً إلى وظيفتها ، وهي " إدخال القاريء عالم الرواية التخييلي بأبعاده كلها، من خلال تقديم الخلفيّة العامة لهذا العالم والخلفيّة الخاصّة بكل شخصية ليستطيع ربط الخيوط والأحداث التي ستُنسج فيما بعدُ (4) قاسم ، سيزا أحمد : بناء الرواية ، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1984م ، ص43-44 .ففي فضاء الافتتاح أدخل الروائي القاريء إلى أجواء مفتوحة ، ومقيدة على نحو خاص ؛ فالدموع لها دلالاتها المحدودة ، ولكنها عندما تتعلق بالسماء تصبح فضاءً خاصاً ، منها يبدأ فضاء افتتاح الرواية :" لماذا تتعلق على سمائي الدموع ؟ وتحتلني الوحدة ؟ " (5) طه ، وريث يافا ، الرواية ، ص7 . وفي رؤية خاصة بالكاتب الذي لم يلتزم نظرة رواية تيار الوعي وحدها؛  إذ إن كتّاب رواية تيار الوعي قد استغنوا عن هذه الافتتاحية استغناء تاماً؛ إذ أصبح الماضي في رواياتهم جزءاً لا يتجزأ من الحاضر، ولا ينفصل عنه،  فهو منسوج في ذاكرة الشخصية ومخزون فيها ، تستدعيه اللحظة الحاضرة أولاً بأول على غير انتظام ، (1) ينظر قاسم ، سيزا : بناء الرواية ، سابق ، ص46 . ينقلنا (الكاتب ) إلى مساحات شعرية خاصة أيضاً : قمري باردٌ ، وغريبٌ أنا في الجهات " (2) طه ، الرواية ، ص7 . ثم يفتح أفقاً آخر هو البحر ، ويرافقه أفق محدود هو مظلة البيت وعتبته ، وغيرها من الفضاءات التي تتسم بالازدواجية في محدوديتها ولا محدوديتها؛ ليصل إلى نوم البحر وسخونة الزهور وحبات البرتقال والعيون الواسعة ، فالجنة والذكريات والصمت والشمس، وكلها يافا أو فيها، وكلها أبو صبحي، فارسها الذي وضع أحلامه في صندوق وأغلق عليها ، وبات ينفتح كلما هبت الريح ، والريح بدلالاتها التقليدية غير الريح التي تأخذ أبا صبحي إلى آفاق عالمه الخاص في يافا، التي لا يستطيع الوصول إليها بسبب الحواجز والجنود ؛ فيقف على تلة قريبة تجسد فضاء آخر ليس عابراً ، وإنما قد تسمعه عندما يصيح باسمها ، يافا التي باتت تنغلق على سواد تام ( بعد احتلالها ) ، وما زال أبو صبحي يحرس السنبلة التي حملها الفتى اللاجيء وبذورها في كل الحقول المحيطة .

أبو صبحي فضاء لا نهائي لقصة لمّا تنته ، بدأت منذ عقود طويلة ، تخالها أطول من التاريخ ، وريث يافا وسادنها الحقيق ، يافا تعيش فيه ولا يستطيع العيش فيها ، لم تتركه لكنه أُجبر على مغادرتها مع من هُجّروا ، وقد يتراءى أنه فقد عقله ، لكن ما يصدر عن وعيه ولاوعيه يثبت أنه قد يفقد أي شيء إلا يافا وذاكرته فيها . وحين يعمد القاص إلى بعثرة أفكار أبي صبحي إنما لينتقل من أفق إلى أفق جديد ، وليعيدنا دائما إلى فضاء واحد لا محدود هو فضاء يافا ، يافا التي " غزاها الفراعنة والآشوريون والبابليون والفرس واليونان والرومان ، ظلت يافا ! ... والصليبيون ... ونابليون .. وهؤلاء الذين هاجموها وذبّحوا أهلها وطردوهم ... هي الباقية الراسخة وهم راحلون زائلون لا محالة " (3) الرواية ، ص18 .

لماذا وريث يافا ؟ وهل حقا تقتضي الوراثة موت الموروث ليستحق الوارث وراثته ؟

وهل ماتت يافا ليرثها أبو صبحي ؟ إن جدلية الحياة والموت تتمثل بوضوح في علاقة أبي صبحي بيافا ، ولأن معاجم الغة (4) ينظر ، ابن منظور : لسان العرب ، باب (ورث) . لم تشترط موت الموروث كي يورث؛ فإن أبا صبحي كان الوراث الذي استحق أن يكون المعادل الفني والموضوعي ليافا ، لتكون الوراثة في عرف

عقله - الذي اتهم به - حقاً له دون غيره، أي لا يحق لأحد أن يرث يافا بتاريخها وجغرافيتها وكل موجوداتها إلا من هو كأبي صبحي   .

2. المكان الواقعي :

لا يكتب أي كاتب روايته في فراغ أو في لا مكان، فكل عناصر الرواية وأبعادها تستند إلى البعد المكاني أو الجغرافي، والمكان قرين المساحة الهندسية محدودة الأبعاد، في الوقت الذي يمتلك الفضاء -  بوصفه مصطلحاً - نوعاً من الاتساع يتعلق بالأفق الرحب، والفضاء المكاني يدل على الأمكنة الموظفة في نص روائي والتي " تتجاوز واقعيتها بمجرد تحولها إلى جسد لغوي؛ أي أنها تعمل على وضع القارئ أمام توقعات وتمثلات جديدة في مخيلة القارئ (1) توام، عبد الله:دلالات الفضاء الروائي في ظل معالم السيميائية، رواية"الآن...هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى "لعبد الرحمن منيف أنموذجاً، جامعة وهران، أحمد بن بلة (1)أطروحة دكتوراه، غير منشورة، 2016م، ص19 ، ولأن المكان هو الإطار الذي تقع فيه الأحداث، فإنه يرتبط بالإدراك الحسي (2)ينظر، حمدي، بان صلاح الدين:الفضاء في روايات عبد الله عيسى سلامة، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية، كلية التربية للبنات، جامعة الموصل، مج/11، ع/1، 2011، ص198 . للإنسان، بل إن الإنسان مرتبط بوجود المكان على هذه الأرض، فمنه بدأ وإليه ينتهي؛ لأن المكان على مستوى حياة الإنسان ليس عنصراً طارئاً أو هامشياً، بل هو من صميم مكونات وجوده ، بوصفه جزءاً مهماً في عملية تفاعله وتواصله مع الحياة والناس من حوله .(3)ينظر،البلهيد، حمد بن سعود: جماليات المكان في الرواية السعودية من 1390 حتى 1423هـ ،أطروحة دكتوراه غير منشورة، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كلية اللغة العربية، المملكة العربية السعودية،1427 هـ ، ص23 . وإذا كان معنى المكان في اللغة يقتضي توحيده مع المكانة في أصل تقدير الفعل؛ لأنه موضع لكينونة الشيء فيه (4)ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين بن مكرم : لسان العرب، دار صادر، بيروت، ط/1، 1990م، مج/13، مادة (مكن).، فإنه في الاصطلاح" شبكة من العلاقات والرؤى ووجهات النظر التي تتضامن مع بعضها لتشييد الفضاء الروائي الذي ستجري فيه الأحداث، فالمكان يكون منظماً بالدقّة نفسها التي نظمت بها العناصر الأخرى في الرواية (5)بحراوي، حسن:بنية الشكل الروائي(الفضاء، الزمن، الشخصية)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط/2، 2009م، ص 32 .. وعليه فإن المكان الواقعي هو الذي يبني عليه الروائي محور أحداث روايته، وقد يكون حقيقياً، وقد يكون موحياً بمكان واقعي، وبينه وبين الفضاء الروائي علاقة وثيقة، لكنه ليس هو، بل إنه جزء من الفضاء الروائي، لا غنى لكل منهما عن الآخر. ويمكن القول إن المكان الواقعي هو المكان داخل الرواية الذي لا يطلق من أي قيد، بل يكون محدداً تحديداً واقعياً أو موحياً، و" دلالة مفهوم الفضاء لا تقتصر على مجموع الأمكنة في الرواية، بل تتسع لتشمل الإيقاع المُنظِّم للحوادث التي تقع في هـذه الأمكنة، ولوجهات نظر الشخصيات فيها. ومن ثَمَّ يـبدو مصطلح الفضاء أكثر شمولاً واتساعاً من مصطلح المكان (1)الفيصل، سمير روحي:الرواية العربية البناء والرُؤيا- مقاربات نقدية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003م، ص 73 .

إن المكان - أي مكان- له صفته التي تميزه، وله دلالاته ، وله أثره، وقد يكون مكروهاً مرفوضاً، وقد يكون مقرباً إلى النفس كفلسطين أو أي جزء منها، ويافا جزء مهم من فلسطين، ليس لأنها في أكناف بيت المقدس وحسب؛ بل لأنها تحمل دلالات البقاء بكل أبعاده وتنوّع حيثياته، وتطل يافا في هذه الرواية بوصفها مكاناً مرتبطاً بتاريخ لم تتغير ملامحه،  كارتباطه بالإنسان الفلسطيني،  ليظل المحتل عابراً غير مقيم،  وتعود يافا برغم كل الويلات جزءاً من تراب أرض فلسطين التاريخية. فكانت يافا المكان الطبيعي، وهي بالرغم من كل ما أصابها، ما زالت يافا الضاربة جذورها في أعماق التاريخ والجغرافيا العربية الفلسطينية، ويبدو أنها ستظل كذلك،  برغم كل محاولات طمس آثارها،  وتغيير ديموغرافيتها وجغرافيتها،  ويبدو أنها ستظل شاهداً حيّاً على ما يصيب هذه الأرض جميعها من مصائب وويلات. لذا فهي ليست مجرد مكان طبيعي يبني الروائي أحداث روايته فيه، بل تمتد لتندغم في الكينونة الحية للإنسان الفلسطيني، فتظهر بقسماتها في الرواية الفلسطينية ،مكاناً، وزماناً، وإنساناً، لترسم معالم مستقبلها وهي تتحدى المحتل وتجرّعه كأس الهزيمة، فتكون يافا المكان مثل عنقاء تنهض من تحت الرماد. وبريشة الروائي الفنان تتجاوز يافا هذا الوصف أيضاً، وتصير أيقونة بقاء عابر للمكان والزمان معاً.

3. المكان التخييلي :

لقد تجاوز الروائي الفنان كتابة أحداث التاريخ كما هي وفي المكان كما هو، لأن ذلك من مهمات المؤرخ، واتكاء الروائي على مكان واقعي لا يعني بالضرورة أن يكون الهدف إبراز المكان ذاته ، وعندما يكون الروائي فلسطينياً، ويكون المكان فلسطينياً،  فهذا يحمل دلالات مسبقة في الغالب أن الرواية ستكون رواية قضية وصراع سياسي، فهل يستطيع الروائي الفلسطيني - هذه المرة - أن يتجاوز همّه الأبدي إلى الانشغال بفنية العمل الأدبي؟ ويسقط من ذهن المتلقي الفكرة المؤسسة مسبقاً بأن هذا العمل يدور في فلك أعمال روائيي القضية الفلسطينية، وبالتالي سيكون عملاً مكرراً، أو يجتر أفكار الأعمال السابقة نفسها ؟

وإذا كان المكان الواقعي " هو التأطير المكاني الذي ينقل الواقع بطريقة فنية "(1)حمدي:الفضاء في روايات عبد الله سلامة، سابق، ص 201 . ، فإن بناء المكان التخييلي في الرواية هو الذي يؤكد القيمة الفنية للعمل، ويتم ذلك من خلال تحديد جغرافية المكان بدقة وضبط حركة العناصر الفنية الأخرى، وهذا التشخيص هو الذي يجعل من أحداثها متزنة، فيوهم بواقعيتها.

عمد المتوكل طه في روايته إلى إسناد البعد الواقعي بأماكن تخييلية؛ ففي استحضاره لشخصية العملاق المائي الضبابي على ساحل يافا وتحوله إلى مسخ " فغر فاه وامتص أحد الجالسين على الرمل وابتلعه، ومضى! "

(2)الرواية، ص19 . إسناد لبعد واقعي هو الشاطئ، بوهم العملاق أو المسخ ، الذي ظل حتى نهاية الرواية دون ملامح واضحة عند كثيرين على الرغم من أن أبا صبحي قد رآه وهو يدمر ويحرق ويلتهم الناس، وهذا المسخ معادل فني للاحتلال وما يقوم به على أرض يافا، وخوف هذا الكائن من النار، إنما هو خلق فني يشي بأن النار هي المقاومة التي تتصدى للاحتلال. بل إن ظهور هذا المسخ كان بحسب رواية أبي صبحي قبل أن يكون الاحتلال واقعاً، وهذا يعني أن أبا صبحي قد (تنبأ)  بقدوم الاحتلال قبل قدومه، وأنه حاول تنبيه الناس إلى وجوده، ولكنهم لم يهتموا لما يقول، فظل الأمر أشبه بحالة جنونية تصيب أبا صبحي ويكاد هو نفسه يشك في نفسه وسلامة عقله، على الرغم من تكرر الأمر. كذلك فإن أثر هذا المسخ على الناس قد لا يظهر في التوّ واللحظة ،الأمر الذي يجعل الناس يتجاهلون وجوده، إلا أنه مع الأيام يكون واضح الأثر، وكذا الاحتلال الذي يحاول أن يلتهم هذه الأرض بكل موجوداتها شيئاً فشيئاً. والثقافة بعد آخر من أبعاد تأثير هذا الاحتلال؛ لأنه لا يمكن له أن يحقق كل ما يريده إلا إذا زعزع أركان ثقافة الناس وذلك يكون شيئاً فشيئاً أيضاً، وهنا تتبدى حالة جديدة من حالات أبي صبحي، وهي حالة رجوعه إلى الوراء ، الحالة التي تصب في خانة الاسترجاع ،ولكنه استرجاع من نوع خاص؛ فمع " عودته إلى السنوات الماضية ،يكون قد استرجع ذاكرة تلك المرحلة! أي عندما رجع إلى السبعين من عمره عادت له ذاكرة السبعين،  ولما وصل إلى عمر الستين ، حضرت أيام الستين...(3)الرواية، ص 98 . وظل يرجع شيئاً فشيئاً حتى " وصل بعودته إلى الصبا لمنتصف الثلاثينيات من عمره، ويبدو أنه توقف عند هذا العمر"(4)الرواية، ص 99 . ويراوح الكاتب بشخصية أبي صبحي بين قمة الوعي المتناسب مع السن الذي يتحدث فيه، وبين حالة من حالات غياب الوعي التي كانت تتلبسه، كما يؤديها الكاتب. فيأخذنا أبو صبحي إلى أماكن واقعية كأريحا والخليل والدوايمة وقلقيلية (وهي مرتكز أساس في الرواية ومعادل من نوع آخر ليافا)، وهذا الانتقال في الأماكن الجغرافية المختلفة، يحدث تأثيرات خفية في المتلقي "،  فيكتسب المكان أبعاداً نفسية واجتماعية وتاريخية وعقائدية "(1)توام، عبد الله: دلالات الفضاء الروائي، سابق، ص 19 . فتتحقق لدى المتلقي مقولة "لا مكان خارج المخيلة "(2)كحلوش، فتيحة: بلاغة المكان – قراءة في شعرية المكان-، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط/1، 2008م، ص 25 .، إذ يرى جاستون باشلر أن المكانية في الأدب رؤية تتحقق من خلال كونها " مجموع الصور الفنية التي تثير الذاكرة وتعيد الماضي زمن الطفولة، أو هو مجموع قيم متخيلة يختزنها العقل الباطن ثم تصبح هي القيم المسيطرة(3)باشلار، جاستون: جماليات المكان، تر: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط/3، 1407هـ ، ص 31 .. وهكذا تكتمل رؤية المكان التخييلي مع المكان الواقعي، ليؤديا معاً في رواية وريث يافا دوراً فنياً تحقق بقدرة الكاتب على سبر أغوار المكان الذي يريده في النص، وبه تتحقق شعرية الفضاء الروائي، بل يصير المكان كما يرى هنري ريماك هو" الذي  يؤسس الحكي ؛ لأنه يجعل القصة المتخيلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة(4)لحميداني، حميد: بنية النص السردي من منظور النقد العربي، المركز القافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع، الدار البيضاء، المغرب، ط/3، 2000 م، ص 65 .

4. الأماكن المغلقة :

تكتسب الأماكن المغلقة أهميتها في الفضاء الروائي من خلال تفاعلها مع الأماكن المفتوحة، إذ يرى حميد لحميداني أن الأمكنة تخضع في تشكلاتها إلى مقياس مرتبط بالاتساع والضيق أو الانفتاح والانغلاق(5)ينظر، لحميداني: بنية النص السردي، مرجع سابق، ص 72 ، والأماكن المغلقة هي" الفضاءات التي ينتقل بينها الإنسان ويشكلها حسب أفكاره، والشكل الهندسي الذي يروقه،  ويناسب تطور عصره وينهض الفضاء المغلق كنقيض للفضاء المفتوح،  وقد جعل الروائيون هذه الأمكنة إطاراً لأحداث قصصهم ومتحرك شخصياتهم"(6)حبيلة، الشريف :بنية الخطاب الروائي (دراسة في روايات نجيب الكيلاني)، عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، 2010م، ص 204 .  ولا أرى أن الأمكنة المغلقة نقيضاً للأمكنة المفتوحة كالفضاءات، بل يمكن أن يكون لها دور مكمل، أو يتكامل دورهما معاً،  بحسب ما هو موجود في مخيلة الكاتب، كما هو الأمر في رواية وريث يافا.

بعض الأماكن المغلقة في الرواية حملت دلالات قصدية، وبعضها جاء مكملاً للرؤية التي أراد الكاتب أن يعبر عنها؛  فمن الأماكن المغلقة التي حملت دلالات قصدية بيت أبي صبحي ودكانه في يافا وفي قلقيلية، التي تبين كلها أن الكاتب يمقت المغلق؛ فعلى الرغم من كونها أماكن مغلقة في إلا أن الكاتب جعلها معظم الوقت وعلى مدار الأحداث مفتوحة وكأنها تستلهم الفضاء وتسعى إليه. ونظر إلى قوله: (لقد وضع أحلامه في صندوق وأغلق عليها، وها هو ينفتح كلما هبت الريح(1)الرواية،ص 8 .ليصبح الصندوق المغلق معادلاً الفكرةٍ، وانفتاحه أمام هبوب الريح، رداً على تلك الفكرة "إن أوحت للقارئ بشيءٍ محدود". أما السجن الذي وضعوا فيه السعيد)"2"الرواية،ص65 .فهو معادل أيضاً لجنون الظالم الذي دفعه لارتكاب جريمة حجز حرية حرٍّ، وبالتالي من الطبيعي أن يكون مغلقاً، وفي الجانب الفني يؤدي دوراً موازياً لذلك الفعل. أما النفق"3"الرواية،ص129 .الذي كان له دور آخر في بناء عالم الرواية وفضائها فهو وحده فضاء؛ إذ النفق في الواقع مكان مغلق ومحدود جداً، وقد يشكل في موضع آخر عنصرَ ضغطٍ وهمٍّ وكبتٍ وحجزِ حريةٍ، إلا أن الكاتب شكله فضاءً مفتوحاً لا حدود له ،اتسع لخيال أبي صبحي وفاض عنه، وكلما أدرك أبو صبحي جزءاً منه انفتح على فضاءٍ جديدٍ لا حدود له؛ ليصير النفق متحولاً من كونه مكاناً يربط بين مغلقين هما الرحم والقبر، إلى فضاء مفتوح على الأمل والرجاء معاً. ثم إن يافا في الواقع مكان مغلق، ولكنها في الرواية فضاء مفتوح، لذا تكامل دور المكان المغلق مع الفضاء المفتوح؛ ليؤدي الدور المنوط به في الرواية، ويعكس فكرة الكاتب الذي أراد جعل يافا في إطارها التاريخي والحضاري مكاناً خاصاً بأهلها، وملكاً وحقاً لهم، وفي إطارها الفني فضاءً إنسانياً رحباً.

5. الأماكن المفتوحة :

إذا أمكننا وصف (الفضاء) المغلق مركزاً،  بوصفه قصديةً متحققةً داخل نص يمتلك قوة تعبيرية في رسم الواقعة بالكلمة التي تحيل اللغة إلى نشاط حرٍ يتابع ذاته والعالم(الروائي)داخل نسيجه الذي يحقق فعالية تود أن تبوح بأسرارها للعالم؛ بتصوير (المغلق) ظاهرةً للنفي من الداخل، وربما يكون معادلاً لفكرةٍ كونيةٍ لا يستطيع الوعي أن يعمل على محوها، فهي حتمية تعمل دائماً على تجسيد جغرافيا الحزن في خلايا الكتابة."1"ينظر،صالح،عبد الستار عبد الله :الأفق المسدود-دراسة لدال الفضاء المغلق في نماذج من القصة الموصلية-،مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية،جامعة الموصل،مج/7،ع/1،2008م،ص121. فإن (الفضاء) المفتوح مجال لتبادل التأثير بين المفكر أو المبدع والمحيط الذي قد يكون جغرافيا أو متخيلاً أو فضاءً لغوياً. وعليه فلا بد من تأكيد فكرة تكامل الفضاءات في النص الروائي.

يافا أول ما يحتل مساحة النص في رواية وريث يافا، وهي آخر ما يبقى في أذهاننا عند مغادرة القراءة، أما البحر فإنه المكان المفتوح الذي يحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية السردية في الرواية؛ لأنه جَسَّدَ استذكارً لأحلام مؤجلة، فمنذ أن كان في الصيف، تنظر إليه (فترى الأفق مع الغروب قد تشرب حمرة فياضة عميقة، ثم يبدأ هذا الغروب الأحمر بالتقاطر، كأنه سقف مغارة، تسّاقط منه نقطٌ ذائبة، تكوّن أعمدة معكوسة، تواصل ذرف حبات الماء من رؤوسها النازلة، فما كان من النساء إلا أن حملن الجرار البلورية والقناني والعبوات الزجاجية، ورحن يقفن تحت الغروب، لتسقط حباته الحمراء،  ويرجعن وقد امتلأت الجرار بالغروب،  ثم يسكبن شيئاً فشيئاً،  منه في زجاجات شفافة،  ويعرضنه، مثل التحف، للبيع في الأسواق(2)الرواية،ص 70 .إلى أن صار أبو الكاس يتجه نحو البحر (يقف على الشاطئ، ثم ينحني ويركع على ركبتيه، ويطأطئ رأسه حتى يصل إلى الموج، فيشرب ويشرب، إلى أن يرتوي، ثم يعود إلى الشوارع يذرعها، وهو أكثر ترنحاً وسكرً)(3)الرواية،ص72 .مروراً بالمنارة على شاطئ يافا المضاءة بضفائر صبايا المدينة،  ظل البحر أيقونةَ يافا،  وفضاءَها المفتوح على أبدية بدأت منذ الأزل. وما كان ذكر بعض المدن (دورا، أريحا، دير ذبان،عسقلان ، المسمية، دير ياسين...) إلا للربط بين الجغرافيا الممتدة في أعماق الإنسان الفلسطيني هنا، على هذه الأرض. أما البساتين والصحراء التي لا نهاية لها، وغيرها من الأماكن فقد شكلت فضاءً موازياً، وإن كانت تحمل في سياقاتها إحالة إلى أمكنة محددة. أما قلقيلية المكان والفضاء معاً،  فهي حاضنة أساسية للحدث تحيا به ويحيا بها ،وهي ليست جغرافيا معزولة عن دلالاتها الثقافية والاجتماعية، بل هي حالة فكرية قابلة للرصد والتأويل؛ إذا ظلت الطرف العصي على الانكسار، وخاصرة الوطن (كلا الوطن) بوصفه وحدة واحدة، ويمكن عدها مكاناً مركزياً وبؤرة لتصاعد وتيرة الأحداث، وحليف يافا في كل شيء. وأشجارها امتداد لأشجار يافا، والأشباح لا تجرؤ على الحياة بين الشجر المحروس بأهله (1) الرواية،ص34)؛ لذا كانت قلقيلية الفضاء الذهني المرتكز على مؤسسات واعية يلاحقها الكائن المسخ كما يلاحق أختها يافا. وليست فضاءات بيضاء يجب ملؤها كيفما اتفق.

قد يتراءى للبعض أن الرواية نحت باتجاه خلق شخصيات وأحداث خارقة خرافية، وأقول لا توجد في الرواية أية خوارق أو أشياء غير موجودة؛ فكل ما في الرواية حقيقي، واقعي، بل قد يفوق الواقع ما في الرواية مما يبدو وكأنه خوارق.  فتصوير الاحتلال كما هو قد يبدو أمراً خارقاً وغير واقعي في نظر من لا يعرفونه، وفي رؤية الذين لم يروا بأعينهم ما يمارسه الاحتلال من جرائم لا يتصورها عقل الإنسان السوي، فيخالها خرافة أو أسطورة.

ثالثًا: دور العناصر الروائية في بناء الفضاء في (وريث يافا) :

يتشكل الفضاء الروائي من عدد من الأنساق والعناصر التي يؤدي كل واحد منها دوره فيه، ولعل الشخوص من أبرز العناصر الروائية التي تؤدي دوراً فاعلاً في بيان ملامح الفضاء الروائي، بل ذهب جورج ماتور إلى أن(الإنسان غير منفصل عن فضائه، بل إنه هذا الفضاء ذاته(2)نقلاً عن:توام،عبدالله:دلالات الفضاء الروائي في ظل السيميائية،سابقص121 فالفضاء الروائي يحقق وجود الإنسان  فيه؛ إذ منه يبدأ وفيه ينتهي، كما أن الكاتب لا يستطيع أن يبني نصاً روئياً دون شخصيات تتفاعل مع بقية العناصر المكونة له .ولعل أبرز شخصيتين احتلتا الفضاء الروائي هما شخصية أبي صبحي وشخصية الراوي، أبو صبحي الذي صوره الكاتب متنقلاً في الزمان والمكان شكل حالة من اللاوعي في ذهن المتلقي، إذ هو في قمة المعرفة بما يتحدث عنه، وليس مجنوناً كما قال الراوي صراحةً ذات مرة، وهو يغيب عن الوعي في عرف الراوي وينتقل إلى فضاءات جديدة، ثم يعود إلى عالمه الواقعي، ويبدأ يقص على الراوي ما رآه في غيبته، وبذا فقد تشكل صورة لها ملامحها الفاعلة في إدارة عجلة الأحدث في الراوية، ولم يعش القارئ حالة ترقب كما يحدث في الروايات البوليسية، بل عاش حالة ذهول وترقب من نوع آخر؛ إذ استطاع أبو صبحي أن يخترق الفضاء الدلالي للرواية، فانتفى المفهوم الهندسي للمكان، وتم توحيد المكان مع أعماق الشخصية بصورة جعلتهما متطابقين، ولا يمكن لأحدهما الفكاك من الآخر. ويؤدي الراوي دوراً محورياً في نقل الأحداث ولم يكن مجرد راوٍ بل كان مشاركاً في توجيه دفة الصراع المتولد من صيرورة الأحداث،  والراوي الذي مثله الكاتب واتخذ اسم جاسر انصبت مهمته في التأويل والتوضيح وإبانة المبهم، ومن خلال علاقته بالشخصية المحورية( أبو صبحي ) اخترق فضاء الرواية،وأثرى ملامحها، ولم يكن متفرجاً، بل كان جزءاً من الأحداث، يتأثر ويؤثر، وقد أراد أن يقول إن الفلسطيني في حاجة ماسة إلى من يَفْهَم ويُفْهِم حيثيات قضيته، ليتسلم الراوي هذه المهمة، بوصفه يؤدي دور الصديق الودود. ويتكامل دور الشخصيتين تمهيداً لرسم فضاء طبيعي يتشكل من وعي إنساني مرسوم بطريقة فنية بجدلية الواقع والمتخيل، ليعيد تركيب ثنائية الزمان والمكان في الفضاء الروائي؛ فإذا كان أبو صبحي يؤدي دور الرؤيا فإن جاسر يؤدي دور الفكر، والتحام الفكر والرؤيا يؤدي بالضرورة إلى خلق حالة من الأمل ،وخروج أبي صبحي من حالة الوعي إلى اللاوعي تعبير عن الأنا الداخلية ومكبوتات في نفسه دامت زمناً طويلاً، واستطاع التعبير عنها بهذه الطريقة الفنية، فكان هذا التماهي بين الشخصيتين مع الأحداث نوعاً من الحقيقة أو التجسيد الواقعي للأحداث، قد يمهد لظهور فضاء طبيعي يتشكل من وعي إنساني. وقد اتخذ الفضاء هنا صورة الحلم /الرؤيا مما يؤكد صحة المقولة: (حين تقسو الحياة على أبنائها،  يهرب الإنسان إلى الحلم)(1)أبو نضال نزيه:التحولات في الرواية العربية،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط/1،2006م،ص 276 يتحدث أبو صبحي لجاسر بعد أن غاب أسبوعاً عن رحلة لم يعرف أحد أين غاب، قائلاً:» كنت ذاهباً إلى الحقل، فإذ بحراس الملك يعتقلونني، فقلت لهم: أنا فلاح من هذه البلدة، أقصد حقلي لأعمل فيه، لكنهم أخذوني معهم ،أسيراً، أدفع عجلات عربة الخيول، في موكب الملك (أماتسيا)(2)أماتسيا:أحد ملوك الدولة اليهودية التي أقيمت على أرض فلسطين (800-783ق.م)وهي اسم مستوطنة صهيونية مقامة على أراضي قرية الدوايمة الفلسطينيه المدمرة،كانت مسرحاً لمذبحة ارتكبتها عصابات صهيونيه عام 1948م،راح ضحيتها المئات من الفلسطينيين . وكان متجهاً بجيشه العرمرم لقتال الأدوميين،  فسألت جندياً:أليس أصل الأدوميين من نسل عيسو بن إسحق بن إبراهيم الخليل،

الشقيق التوأم ليعقوب؟ قال: نعم. قلت: فكيف تحاربون أولاد عمكم؟ فصرخ الجندي في وجهي وقال: اخرس،  ماذا يعني أولاد عمنا!

إنهم أصبحوا أعداءنا، ألا ترى أن مملكتهم قد اتسعت وامتدت ،وراحت تنافس المملكة اليهودية؟ قلت: ولكنهم لا يضايقونكم، ولا يحاصرونكم،  ولا يتأتى أذى من قِبَلِهم!  قال: لا وجود على هذه الأرض، وفي هذه الآفاق، إلا لأماتسيا ولشعبه الذي هو شعب الرب، الذي ميزه وأعلى شأنه ورفع مكانته، وأعطاه الإذن ليطهّر الأرض من الغرباء الأغيار، لتبقى لذرارينا النقية دون غيرنا....(3) الرواية،ص ص116-115  وهكذا ، حين أراد الكاتب أن يجعل بطله يفر من واقعه، وجدناه يفر إلى واقع له كان قبل قرابة ألفين وثمانمئة سنة، وهذا يشير صراحة إلى أن اليهود أقاموا دولتهم أول مرة على أنقاض من قتلوهم من سكان هذه الأرض، وها هم يعيدون إقامتها على جثث القتلى من الفلسطينيين في هذا العصر، فأين يمضي هارب من دمه؟ ولعل هذا التناص مع التاريخ يذكي روح الفضاء الروائي،  ويضع المتلقي

أمام حقيقة لا تقبل الجدل وهي أن هذا العدو الذي يرتكب أكبر المجازر ويبني ويشيد ، سيلاقي نهايته عما قريب لأن نهاية أماتسيا كانت بعد أن ارتكب أفظع مجازره بحق هذا الشعب، ثم بحق إنسانية الإنسان. وهنا تتحقق معادلة ثنائية في نص الجو الروائي، الطرف الأول فيها (أماتسيا /الماضي) وما تركه في التاريخ من فجيعة ، أما الطرف الثاني فهو (أماتسيا /الحاضر) وما يمثله من فجيعة جديدة رديفة لفجيعة الماضي. ويصيران معاً فضاءً ذهنياً تجريدياً أكثر من كونه واقعاً أو إيهاماً بالواقع. وبذا فقد أدت الشخصية دوراً فعالاً في خلق الفضاء الروائي من جديد بعدما سيطرت الشخصية على جل أجزاء الروية، وحملت شحنات نفسية وآلام الشخصية في علاقتها بالمكان. ولأن الزمن التاريخي تتخلق فيه الأحداث وتتطور فإن (وريث يافا) استوعبت أحداثاً تاريخية أسهمت في بناء الامتداد الفضائي لها ببناءيه الزماني والمكاني وارتباطهما بالشخصيات،مما جسد علاقة روحية ارتبطت فيها الشخصيات مع الأحداث في مدار الفضاء الكبير الممتد من يافا إلى وريثها. وبذا يتشكل الفضاء الروائي وفق الشخصيات العاملة فيه، فبالرغم من انغلاقه أو انفتاحه المادي، فإنه يمكن أن يدلل على معاني الانطلاق والتحرر والانفتاح، أو يدلل على القيد والانغلاق وفق الحالة النفسية التي تكون عليها الشخصية الحاملة للانفتاح على المكان المنغلق مادياً أو العكس، وبهذا يحدث التداخل والانفصام بين الشخصية والمكان، فكل منهما يؤثر في الآخر تأثيرات سطحية أو عميقة، ومن خلال ذلك ندرك عمق تأثير المكان في حياة الشخصية، مما يحدث أبعاداً متعددة للفضاء(1).ينظر،عبيد،محمد صابر:سحر النص،المؤسسة العربية للدراسات و النشر،بيروت،لبنان،2008م،ص183 .

من هنا كانت أهمية الزمن بوصفه أكثر العناصر الفاعلة في خلق الفضاء الروائي؛ بسبب ارتباطه بالإنسان والواقع في تطوره المادي والمعنوي والحضاري والفكري،  بل ذهب كثيرون إلى أن

(الرواية هي فنٌّ شكَّلَ الزمنَ بامتياز؛ لأنها تستطيع أن تلتقطه وتخصه في تجلياته المختلفة)(1) برادة،محمد:الرواية افقاً للشكل والخطاب المتعددين،مجلة فصول، مج/11،غ/4،1993م،ص22، وارتباط الزمن بالرواية له شكل علاقة مزدوجة؛( لأن النص الروائي يشكل في جوهره بؤرة زمنية تنطلق في اتجاهات عدة،  فالرواية تصاغ داخل الزمن، والزمن يصاغ داخل الرواية التي تحتاج الزمن كي تقدم نفسها من خلاله مرحلة وراء أخرى)(2)القصراوي،مها حسن:الزمن في الرواية العربية،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،لبنان، 2004م ص47. إن الزمن متمم لبناء الفضاء الروائي إلى جانب المكان، بل (كانت ولا تزال للزمن مكانة الصدارة في الوعي العربي))3نجمي،حسن:شعرية الفضاء السردي،م.س،ص36 . وكل عنصر من عناصر الرواية لا تظهر أهميته إلا من خلال تفاعله مع العناصر الأخرى،  وإسهامه في تجلية الفضاء الروائي. وقد ارتكز الكاتب على الزمن في وريث يافا في مستوييه

(زمن القصة وزمن السرد) لخلق العناصر الفاعلة في تألق الفضاء

الروائي؛ فتحدد زمن القصة منذ بداية معرفة جاسر بأبي صبحي وانتهاء بموت أبي صبحي،  وهو زمن ممتد،  مر بمراحل مختلفة، هي المراحل التي عبر خلالها أبو صبحي عما مرّ به من أحداث وتخيلات. أما زمن السرد وهو الذي امتد ليشمل الزمن الماضي البعيد، من خلال تناصه مع أحداث من التاريخ البعيد كأماتسيا ، ودانيال في الأسر البابلي «لم تكن تلك رؤية! إنها مقابلة رأيت فيها وجه دانيال، في بابل، بعد أيام أو شهور من السبي، ودون سؤال ،قال: لم تأكلني الأسود ،لأن الرب قد مسح على رأسي)(4)الرواية،ص89، وشمل كذلك الزمن الماضي القريب، كما في حديث أبي صبحي عن أيام يافا قبل الاحتلال وبدايات الاحتلال الصهيوني لها، وأيامه فيها (قبل يوم من عيد الأضحى، ويافا تنغل بالناس والعربات والنداءات والأضواء، رأيت المسخ يمشي وسط الشارع الرئيس،  كان يخطو فوق السائرين والمركبات، دون أن يحطمها أو يمسها بسوء، كيف؟ لا أدري..! وكان مسرعاً، لكنه توقف، ونظر نحو امرأة تبيع الورود على ناصية الشارع، فنفخ عليها، وخرج من فمه ما يشبه الغبار الداكن المكثف،  فتلاشت المرأة وتفحمت الورود.. (5)الرواية،ص 235 . والزمن الحاضر المستمر كما في وصفه لأيام أبي صبحي التي يعايشها الكاتب من خلال شخصية جاسر الذي يوثق للأحداث، وكلما مر به أبو صبحي، أما الزمن المتعلق بالمستقبل المتوقع فقد ظهر جلياً في ثنايا الرواية، وفي خاتمتها ، التي يستطيع المتلقي أن يستنتجها بوضوح، ليتأكد أن المحتل راحل لا محالة. بل (إن مسعى المجتهد يتكلل بالنجاح إلى حدّ لا يمكن أن تتخيله، وإلا لماذا خلق لله الجنة؟! وإياك أن تخسر الأمل،  وتقع في الشك،  وامنعه من أن يستهلك روحك(1)الرواية،ص171. كذلك كان الزمن التخييلي في الرواية الذي لا تتمكن من الإمساك بأطرافه، لكنك تستطيع معرفة أبعاده الدلالية، مثل زمن رحلة أبي صبحي في النفق. تكمن أهمية زمن السرد في تعاضده مع زمن القصة وصيغة تعيين الكاتب له؛ فليس ثمة شيء أكثر صعوبة يجب تأمينه في الرواية من عرض الزمن في صيغة تسمح بتعيين مداه وتحديد الوتيرة التي يقتضيها والرجوع بها إلى صلب موضوع القصة، إن عجلة الزمن متغيرة وغير ثابتة في علاقاتها بالموضوع الروائي، أما الزمن في الرواية الدرامية فهو زمن داخلي، حركته هي حركة الشخصيات والأحداث، وبانحلال الحدث تأتي فترة يبدو فيها الزمن وكأنه توقف، ويترك مسرح الأحداث خالياً (2)ينظر،موير،إدوين:بناء الرواية:تر:إبراهيم الصيرفي،مراجعة:عبد القادر القط،الدار المصرية للتأليف والترجمة،القاهرة،مصر،1965م،ص ص 97..1،2 . لم يأبه الكاتب لتسلسل الأحداث خضوعاً لمبدأ السببية، كما في الروايات الدرامية، ولم يأبه للقرائن الزمنية والمنطقية التي تنظم الأحداث ،وكان ترتيب الأحداث متراوحاً بين وتيرتي التسارع والتباطؤ، وجاء خطابه بهذا الترتيب الواعي للمادة الحكائية، ليسقط شكلاً هندسياً معقداً على خط مستقيم) (3)ينظر،رواينيه،الطاهر:الفضاء الروائي في الجازية والدراويش لعبد الحميد بن هدوقة-دراسة في المبنى والمعنى-،مجلة المساءلة،ع/1،1991ص27.  ويتمثل الخط المستقيم في صيرورة الزمن الواقعي منذ بداية احتلال يافا إلى يوم وفاة أبي صبحي ، أما الشكل الهندسي المعقد فقد جعله الكاتب يتمثل في الأحداث التي تراوحت بين الأزمان المذكورة سابقاً؛ بدءاً بالزمن البعيد وانتهاءاً بأمنيات المستقبل أو تطلعات الكاتب له.

وقد استعان الكاتب بتقنيات السرد الروائي لتحقيق زمن النص، ومن أبرز تلك التقنيات الاسترجاع أو الاستذكار الذي أدى دوراً فنياً، فكان بحق ذاكرة النص، ومن خلاله تحايل الكاتب على الزمن السردي (4)القصراوي،مها حسن الزمن في الرواية العربية،م.س،ص192، إذ لم يلتزم الكاتب بتسلسل زمني متواصل، بل اعتمد على تقسيم النص إلى فقرات،  كل فقرة تأخذنا إلى زمنها المرتبط بالفضاء الزمني العام للرواية، والمؤدي لدوره في موضعه؛ فالقسم الذي جاء بعنوان قصص الرجل،  تم تقسيمه إلى أجزء مرقمة من (1) إلى(43) هي في معظمها خطرات أبي صبحي في الزمن(الماضي) والمكان (يافا)، ثم يعود الكاتب بعدها إلى النكبة، وربطها بالحاضر؛ إذ تجاوز أبو صبحي الثمانين،  ولكن ذاكرته عادت إليه تماماً، بمعنى أن طول الزمن لم يكن عامل هدم أو هرم وتخريف، وفي البعد الدلالي يؤكد أن طول عمر النكبة لا ينسي أهل يافا حقهم فيها .

كما استعان الكاتب بتقنية الاستشراف التي من خلالها استطاع بناء رؤية متفائلة وسط إحباطات الواقع المليء بالدموية والعنف والقتل، وكلها من فعل الاحتلال ،الذي لم يذكره صراحة إلا في مواضع محددة، ففي حين جعل الأجزاء الـ (43)السابقة الذكر في قسم واحد تحت عنوان قصص الرجل،  جاء بعده بقسم وحد جعله دون ترقيم،  وأردفه بجزء جعله تحت عنوان(44) والقسم غير المرقم كان استشرافاً للمستقبل،  ومن هنا كانت أهميته في بناء زمن الفضاء الروائي،  فإلى أين تسير عجلة أحداث الزمن؟ إنها تسير باتجاه نهاية محتومة، معركة دمار شامل؛ دمار لكل ما أحدثه الاحتلال من تغيير في جوهر يافا، ووقوف شجر  الغرقد في وجه التغيير،  لكن التغيير يتم،  ويكون الناس كمن دخلوا في يوم القيامة "وتكاثف شجر  الغرقد حول مباني يافا، فبدا سوراً عظيماً صلداً، باهت اللون، أملس، تعلوه رؤوس مسننة حادة"... (1)الرواية124، إلى أن يقول: "وأشرقت الشمس، كأنها تبزغ لأول مرة على هذه البقعة من الكوكب، وخرج الناس من بيوتهم، بعد أن شرّعوا الشبابيك والأبواب، وأرهصت الأرض ببذورها"...(2) الرواية124. وعلى ما في هذه المشاهد من تناص ديني(3)عن أبي هريرة –رضي لله عنه- قال: قال: رسول لله صلى لله عليه وسلم (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد لله هذا يهودي خلفي فتعال، فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود »روه مسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة. وأخرجه الشيخان وأحمد) 2/398). إلا أنها رُسمت بطريقة خاصة، تصب في خدمة بناء الفضاء الروائي.

كما استعان الكاتب بتقنية المونولوج، وهي تقنية مهمة جداً في رفد الرواية بتأملات بعض شخوصها، وقد اتفق أن كانت هذه التقنية غالباً على لسان جاسر، الذي تنامى دوره في بيان ملامح الشخصية الرئيسة،  من ذلك قوله: "قلت في نفسي، إن لم يظهر ،سأخبر رجال الحارة، لكني لم أفعل ..."(4) الرواية114، إن حذر شخصية جاسر في الرواية جاء بوجوه متعددة أبرزها، عدم إقدامه على فعل شيء يحرف مسار الرواية عن هدفها؛ فقد ترك أبا صبحي يحدد جميع خطوط سير الحدث الروائي، دون أن يتدخل فيه. ولعل وقوف أبي صبحي مع نفسه شكل محوراً مهماً في الرواية، تجلى في حديثه عن الذكريات والأيام الخولي: "هل أتذكر ما قالته أمي –يرحمها لله:- إن أجدادك قد نبعوا من هذه الأرض!

وراح أبوك يسورها وينقيها من حجارتها وصخورها..."(5) الرواية132 وهذا مشهد جعله الكاتب يعبر عن حدس الشخصية وتأملاتها النفسية، ليرسم جواً يفيض على الفضاء الروائي عبق احترام الشخصية لتاريخها وماضيها المرتبط بالأصل (بالآباء والأجداد) ومن لا أصل له لا مستقبل له.

وقد تجلت شعرية الرواية أيضاً في لغتها وبالتحديد في وصفيتها، وقد أرجأت الحديث عنها إلى هذا الموضع كي أقف عند نصٍ روائيٍ لشاعرٍ.  والوصف ليس تقنية فنية مرتبطة بالسرد الروائي وحده، بل أكاد أربطه بالشعر في الأصل؛ إذا قلت إن الشعر هو الصورة الشعرية،  وهو في الرواية تقنية يوقِفُ فيها الكاتبُ زمنَ الروايةِ فاسحاً المجال للوصف، فهو "تقنية إنشائية تتناول وصف الأشياء الواقعية، وكأنه تصوير فوتوغرافي لما تراه العين"(1)إسماعيل،  عزوز علي: شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني،  دار العين للنشر، القاهرة، مصر ،2010م، ص37.، بل يتعدى التصوير الخارجي إلى التصوير الداخلي؛ بوصف الهواجس والمشاعر والانطباعات،  وأكثر من ذلك أيضاً برسم معالم تخييلية،  لا يستطيع التعبير عن تجلياتها إلا شاعر يمتلك زمام اللغة الشعرية،المتوكل طه واحد من قلائل يمتلكون هذه القدرة. 

عندما يأتي الكاتب على ذكر يافا في أي جزء من الرواية نراه (ينسحب من لسانه)؛ فيسترسل استرسال من لا يستطيع التوقف، ويفيض علينا من ينبوعه الثر شذرات شعرية تخالها قصيدة، يقول في وصف مشهد من مشاهد تشريد أهل يافا عند احتلالها: "لقد خرج أهلك مفزوعين، وكانوا ينظرون إلى الوراء ،ودمهم يتهاطل من أجسامهم،  ودموعهم ملء وجوههم.  وكانت الأشجار تنخلع عن عرشها الأبدي، وتجري نحوهم لتعانقهم العناق الأخير، وكانت حجارة البيوت المهدومة تتطاير باتجاههم لتقبّل رؤوسهم وأكتافهم،  وتودعهم،  وتبكي وحدتها مع الصبار..."(2) الرواية ص 9

بهذا المشهد الحار وصف الكاتب لوحة من لوحات العشق الأزلي بين يافا وأهلها الذين هُجّروا عنها، فأدى المشهد وظيفتي الوصف معاً، وهما الوظيفة التزيينية والوظيفة التفسيرية؛ فالوظيفة التزيينية تنحصر في الدور الجمالي الخالص، وقد كانت كذلك، أما الوظيفة التفسيرية فقد بين الكاتب لماذا يافا،  ولماذا أهلها،  ولماذا يجب أن نقول. مشهد فيه حرارة لحظة( الفزع)، ودموية(القتلة)، وحزن (المكلومين)، وعناق العشاق ( الأبديين)، ووحدة ( المقهورين). وفي مشهد آخر يصور الكاتب علاقة أبي صبحي بالأشجار التي زرعها في بستانه، بعد أن غاب عنها بعض الوقت: "... وألقى عكازته ونهض مثل غزال يقظ، وراح يحتضن الأشجار، ويمشي وهو يمد ذراعيه يمررها بين غصونها، ويعتذر منها، ويبكي، ويحدثها مثل نَبِيٍّ مع صديقه القديم..."(1)الرواية ص 15، هذا هو وصف العلاقة الخلاقة بين المكان والأشخاص؛ إذ كانت شبيهة بمشاهد تلتقطها عدسة الكاميرا، أو حركة العين الواصفة، ومجموع المشاهد (وهي كثيرة) شكلت منظراً بانورامياً متنوعاً، أتى في موضعه من زمن الرواية ليضفي عليها جواً من الإيقاع التخييلي المجسد للصورة المكانية في إعطائها دلالات، حققت بلاغة الوصف فيها، وعمقت معنى التوقف المؤقت للسرد، وقريب من ذلك عندما يعمد الكاتب إلى وصف الجو لنفسي لأبي صبحي، الذي كان يعيش التاريخ كله في لحظات، "...كان أبو صبحي فارداً ذراعيه كالمصلوب، ومعلقاً في الهواء، وثمة ما يدور به ويسحبه من مكان إلى مكان دون أن يلامس الجدران والشبابيك ، أو يرتطم بها، ويصرخ بكلمات، هي أسماء معارك قديمة ،شهدت مذابح مروعة: أروك، كركميش، ماراثون، قرر، كوناسكا، مجدو، موي ، سيلاميش، تيجرا، قادش، أيسوس. وكان كلما نطق شع الدم من فمه وتناثر! وكان ثوبه المنسدل رانخاً بسائل قانٍ، شديد السخونة؛ إذ يصّاعد البخار الموّار من العناقيد الدموية المتخثرة ،التي تسّاقط من أذيال الثوب..."(2) الرواية ص 112. في هذا المشهد التخييلي المرسوم بعناية فنية بعدان؛ الأول نفسي، يتعلق بما يعيشه أبو صبحي من عذاب الفاقد لحبيبته يافا وبعده عنها، والعاشق الأزلي الذي يدفع دائماً ثمن حماقات المجرمين الذين يرتكبون مجازر القتل والدمار، دون مراعاة لإنسانية الإنسان، كما فعل الصهاينة بيافا بعد احتلالها. .والثاني فني، يعمل فيه الكاتب على تنويع صيغة السرد، ويؤدي الوظيفة السردية للتتابع القصصي عن طريق الوصف، دون أن يخل بمحتوى الفكرة. على الرغم من أن الوقفة الوصفية والمشاهد شكلا نوعاً من التوسع في زمن الخطاب على حساب زمن القصة، إلا أنهما لم يعيقا استمرار سيرورة حركة السرد، فقد اندغما فيها وكانا جزءاً متمما  لحركيتها ودراميتها، فلا يشعر القارئ بالملل أو أن الكاتب أطال بغير مسوغ .

أما الحدث القصصي،  فهو في الرواية في اتجاهين؛ اتجاه الحدث الواقعي واتجاه الحدث التخيلي، وقد تعاضدا في بناء ثيمة الرواية الأساسية؛ فعلى المستوى الواقعي،  كان أبو صبحي وهو مستوحى من شخصية حقيقية ،ابن يافا وعاشقها، حال الاحتلال بينه وبينها،  وظل على أمل الرجوع إليها على الرغم من كل التغيرات التي أحدثها الاحتلال في بنيتها الجغرافية والطبوغرافية، وعلى المستوى الواقعي أيضاً قد يبدو هذا الأمل مستحيلاً، إلا أن أبا صبحي ظل يتوقد حرقة وشوقاً للعودة إليها، فكان المستوى التخييلي، الذي استطاع الكاتب من خلاله أن يرصد الحركة النفسية والتطورات العقلية للشخصية، من خلال عيشها في عالمها الخاص الذي بموجبه ترجع الشخصية إلى حضنها الدافئ، ولو في الخيال؛ ليكون الفضاء التخييلي أهم من الواقع القاسي؛ ففيه، تعود الشخصية إلى عالمها الخاص وتكون وريثةً تستحق الإرث. وهكذا جعلنا الكاتب نعيش زمناً روائياً مَثَّلَ أحداث الرواية بامتياز، دون الوقوع في شرك المباشرة، مما ساعد على التهيؤ النفسي لاستيعاب ظروف الرواية وأبعاد شخصياتها، وعلى الرغم من وجود وحدات زمنية كبرى ووحدات زمنية صغرى، إلا أن الكاتب استطاع أن يوازن بينهما، بأسلوب فني مليء بالرموز التي ينثرها في كثير من المواضع في الرواية، والرموز لها أهميتها الخاصة في رفد البعد الزمني الذي "يمثل ذاكرة البشرية، يختزن خبراتها مدونة في نص له استقلاله عن عالم الرواية،  ويستطيع الروائي أن يغترف منه"(1)قاسم، سيزا:بناء الرواية ،م.س،ص46. لهذا يمكن تأكيد فكرة سائدة في أن الرواية العربية المعاصرة "اهتمت بالتاريخ الواقعي مع مزجه بالجانب التخييلي في بناء الزمن الروائي ،الذي تعني به الحوافز الواعية واللا واعية في آنٍ واحد والمتحكمة في بناء الخطاب والقصة"(2) معتصم،  محمد: النص السردي العربي-الصيغ والمقومات- المكتبة الأدبية ،شركة النشر والتوزيع ،الدار البيضاء ،المغرب ،2004م،ص185.

لقد كانت هذه الرواية مختلفة في كل شيء؛ مختلفة في لغتها الغنية بحصيلة مراس الكاتب سنين طويلة في مداعبة المفردات وانتقائها من معجم فريد قل نظيره، ومختلفة في ثيمتها التي تقول كل شيء ثم تعود لتقوله مرة أخرى بطريقة جديدة وكأنها المرة الأولى، ومختلفة في رسم شخوصها الذين كانوا طبيعيين إلى حد يحسبه القارئ فنتازيا، مع أنه واقع، بل ربما يكون الواقع أكثر مرارة منه، وهي مختلفة في جرأتها التي تكشف عن وعي الكاتب وقدرته على تشخيص الهم الأبدي وإخراجه فنا خالصاً، وهي مختلفة في قدرتها على سبر أغوار المكان واستنطاق زواياه، ليكون أبو صبحي المعادل الموضوعي والفني ليافا وفلسطين ولكل فلسطيني أرهقه ظلم المحتل وظلم ذوي القربى، فكان من الطبيعي أن يبدو كمن أصيب بشيزوفرينيا(انفصام الشخصية)، ومختلفة في استحقاقها لقارئ ذي قدرة على التركيز الواعي لفهم مفرداتها،  وفي الوقت نفسه يستطيع القارئ العادي أن يفهمها؛ بأن يحس مرامي كلماتها وأبعاد دلالاتها. فالرواية يافا، ويافا عبقرية في نفض الغبار عن مساحات بانورامية، فيها لوحات من التاريخ والجغرافيا ولوحات من أيامنا بدءاً من مشاهد لتحول يافا، ومشاهد لجولات التفاوض المقيت،  ومشاهد للخونة وأفعالهم البغيضة،  ومشاهد شيوخ تقسموا شيعاً وأحزاباً، ومشاهد لأبراج وأسوار لم تمنع أبا صبحي من تجاوزها بسهولة، ومشاهد لغد أكيد؛ إذ من يافا وفيها تكون نهاية الظالمين برغم كل ما شادوه من تحصينات، يقول في نهاية جزء مهم منها"لقد طهرت نار يافا المتغيظة رجس الداهمين"(1)الرواية ص 126.

وجاء فيها ما يعجز الوصف عن بيانه: "يافا؛ أجمل حروف الآيات، بستان الرب، ومثال جنته الموعودة. كوكب الضوء الأخضر. غانية الدنيا، وأغنيتها التامة"(2) الرواية ص 146.

تناولت الرواية يافا لسببين ،الأول: لتقول إن يافا فلسطينية الجذور والتاريخ والتراث، وبالتالي ترد على الهجمة الصهيونية على تاريخ المدنية وهويتها.

والثاني سبب فني ؛ ذلك أن يافا بتاريخها الاستثنائي مصدر إيحاء لكل فنان؛ ففي البحر عرائسه الملهمات، وفي بياراتها تسكن آلهة الشعر،  وفي شوارعها وأزقتها ربات الحجال، وفي أحيائها رائحة البحر، وفي بيوتها عبق التاريخ. ومنذ أكثر من خمسة آلاف عام تتربع على شاطئ البحر يودع ويستقبل ميناؤها الرائحين والغادين، ولكل قصته؛ للمقيم قصته، وللمسافر قصته،  للزائر الحبيب قصته،  وللغريب المغامر قصته،  للصديق قصته، وللعدو قصته، للمغدور قصته وللقاتل قصته. وكل جانب وزاوية في حنايا تاريخها يمكن أن يشكل ثيمة لقصة أو رواية أو قصيدة فنية كما يشكل الرسام لوحته النابضة بعشق المكان .

خاتمة : تناول هذا البحث شعرية الفضاء الروائي في (وريث يافا) للكاتب والشاعر الفلسطيني المتوكل طه. فبين أن الفضاء الروائي لم يعد مجرد مكان أو حيز أو خواء، بل صار في الرواية يمثل بعداً نفسياً، وقد يعكس فكرة وفكراً وجغرافيا، وإذا كان لا بد من الحديث عن فضاء مغلق وفضاء مفتوح، فقد جسدت فلسطين في هذه الرواية فضاء مفتوحاً، والأماكن الأخرى كيافا وما يرتبط بها من فضاءات جزئية تشير إلى حدث الرواية وشخصياتها وزمانها جسدت فضاءً مغلقاً من نوع خاص،  مسانداً للفضاء المفتوح لخلق فضاء الرواية الكلي.

بيّن البحث أن يافا الفضاء تتجسد حباً أزلياً لأبي صبحي الذي كان قسيم يافا، وظل كذلك منذ أن عايشها قبل النكبة، مروراً بجميع مراحل محاولات إخضاعها،  بالمسخ(المحتل) وبالشبح وبالشيطان وبالكائنات غير المعروفة الأوصاف، وصولاً إلى بقائها حية في فكره الذي ظن البعض أنه فقد هداه بسبب هوسه بحب يافا التي ظلت تسكنه هماً أزلياً لا تغادر ذاكرته ولا ضميره، ولم يبد استعداداً ولو للحظة للتنازل عنها؛ فوَرِثَها وورَّثَها.بيّن البحث أن شعرية الفضاء الروائي لا تتحقق بواحد من عناصر الرواية منفرداً، ولا بّد من تضافر جميع العناصر الروائية في خلق بنية الفضاء الروائي، ولكل عنصر منها دوره المتآزر مع العناصر الأخرى. وفي مقدمتها جميعاً للغة.كما بيّن البحث أن هذه رواية ذاكرة بامتياز، ورواية قضية مغلّفة بانتماء الشخصية المحورية الأولى (أبو صبحي) إلى يافا ،(وطنه أرضه قضيته)؛ لذا نحن أمام رواية لها مذاق خاص، ليست تقليدية في شيء،  وهي باتكائها على التخييل بشكل كبير إنما تضعنا أمام الحقيقة التي لم نتمكن من التعبير عنها بفنية تلبس ثوب الاستعارة والمجاز وتتجاهل الواقع، بل استطاعت أن توازن بينها جميعاً بفنية خاصة وتخلق فضاءها.

***

قائمة المصادر والمراجع :

1.     مسلم ، بن الحجاج: صحيح مسلم، طبعة دار الفكر ،2003.

2.     إسماعيل،  عزوز علي: شعرية الفضاء الروائي عند جمال الغيطاني،  دار العين للنشر، القاهرة، مصر ،2010م.

3.     الياس،  جاسم خلف: شعرية القصة القصيرة جداً،  دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق ،سوريا، ط/1، 2010م

4.     باشلار، جاستون: جماليات المكان، تر: غالب هلسا ،المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ط/3، 1407هـ.

5.     برادة،  محمد: الرواية أفقاً للشكل والخطاب المتعددين،  مجلة فصول ،مج/11، ع/4، 1993م.

6.     بحراوي، حسن: بنية الشكل الروائي( الفضاء ،الزمن ،الشخصية) ،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء ،المغرب، ط/2، 2009 م.

7.     البلهيد،  حمد بن سعود:  جماليات المكان في الرواية السعودية من1390حتى 1423هـ، أطروحة دكتوراه غير منشورة،  جامعة الأمام محمد بن سعود الأسلامية، كلية اللغة العربية ،المملكة العربية السعودية ،1427هـ

8.     توام، عبد الله: دلالات الفضاء الروائي في ظل معالم السيميائية، رواية "الآن...هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى” لعبد الرحمن منيف أنموذجاً، جامعة وهران، أحمد بن بلة (1)، أطروحة دكتوراه، غير منشورة ،2016م.

9.     حبيلة،الشريف: بنية الخطاب الروائي (دراسة في روايات نجيب الكيلاني) ،عالم الكتب الحديث، إربد ،الأردن ،2010م.

10.                        حمدي، بان صلاح الدين: الفضاء في روايات عبد لله عيسى سلامة، مجلة أبحاث كلية التربية الأساسية،  كلية لتربية للبنات،  جامعة الموصل ،مج/11، ع/1، 2011.

11.                        روحي ،سمير: الرواية العربية البناء والرؤيا – مقاربات نقدية – اتحاد

الكتاب العرب، دمشق ،2003م.

12.                        زوزو،  نصيرة: إشكالية الفضاء والمكان في الخطاب النقدي العربي المعاصر، مجلة كلية الآدب والعلوم الإنسانية والأجتماعية، جامعة محمد خيضر، بسكرة، ع/6، 2010م.

13.                        السد،  نور الدين: الأسلوبية وتحليل الخطاب،  دراسة في النقد العربي الحديث،  تحليل الخطاب الشعري والسردي،  دار هومة للطباعة والنشر والتوزيع ،الجزائر، د.ت.

14.                        صالح، عبد الستار عبد لله: الأفق المسدود –دراسة لدال الفضاء المغلق في نماذج من القصة الموصلية-، مجلة أبحاث كلية لتربية الأساسية، جامعة

الموصل، مج/7، ع/1، 2008م.

15.                        طه ،المتوكل: وريث يافا، مكتبة كل شيء، حيفا ،2018م.

16.                        عبيد،  محمد صابر: سحر النص ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، البنان ،2008م.

17.                        ابن فارس، أحمد: مقاييس اللغة، تح: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر ،

1979م.

18.                        الفيصل ،سمير روحي: الرواية العربية البناء والرُّؤيا- مقاربات نقدية ،منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق ،2003م.

19.                        قاسم ،سيزا أحمد: بناء الرواية، دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ ،الهيئة المصرية العامة للكتاب ،1984م.

20.                        القصراوي،  مها حصن: الزمن في الرواية العربية ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، لبنان ،2004م.

21.                        كحلوش،  فتيحة:  بلاغة المكان –  قراءة في شعرية المكان-،  مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، ط/1، 2008م.

22.                        كوهين، جان: بنية للغة الشعرية، تر: محمد الوالي ومحمد العمري، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء ،المغرب ،1986م.

23.                        لحميداني،  حميد:  بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط/2، 1993م.

24.                        مرتاض، عبد الملك: في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد ،المجلس الوطني للثقافة والفنون والأدب ،الكويت ،1996م.

25.                        معتصم،  محمد: النص السردي العربي-الصيغ والمقومات- المكتبة الأدبية ،شركة النشر والتوزيع ،الدار البيضاء ،المغرب ،2004م.

26.                        ابن منظور، محمد بن مكرم: السان العرب، دار إحياء التراث العربي، بيروت ،

1999م.

27.                        موير، إدوين: بناء الرواية، تر: إبراهيم الصيرفي، مراجعة: عبد القادر القط ،الدار المصرية للتأليف والترجمة ،القاهرة، مصر ،1965م.

28.                        نجمي،  حسن: شعرية الفضاء السردي –  المتخيل والهوية في الرواية العربية ،المركز الثقافي العربي ،الدار البيضاء ،المغرب،  بيروت،  لبنان ،ط/1، 2000م.

29.                        ناظم،  حسن:  مفاهيم الشعرية،  دراسة مقارنة في الأصول والمنهج والمفاهيم ،المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان ،1994م .

30.                        أبو نضال، نزيه: التحولات في الرواية العربية ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط/1، 2006م.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف