سليم النفار
" الحلم مرض نفسي قصير يستغرق الليل ، و أما المرض النفسي ، فهو حلم طويل يستغرق الليل والنهار" ربما هذا التوصيف الفرويدي ، يُعيننا على فهمٍ أعمق لحالتنا المُتشظية ، بين الحلم بما يعنيه من لحظة بوحٍ ، أو كشف ٍ عن الذي يداعب أو يُخايلُ المسكوت عنه ، تحت نسيج اللاوعي ، و بين المرض الذي يستغرق عمرنا وجهدنا ، والدوافع الكامنة وراء ديمومة المرض ، الذي نُدلّعه بوصفهِ حلماً ، ونعلن جهاراً عن استعداداتنا الدائمة لتقديم المزيد من القرابين ، من أجل شمسه التي ننتظر سطوعها ، ولكن أيُّ شمسٍ نرى ، ونحن نصعد سلالم هواءٍ فاسدة ، أيُّ شمسٍ نرى ونحن لا نفعل شيئاً ، تجاه غُددِ العتمة ، التي تتسع في الجسد المُتهالكِ ... بعضُ كلامٍ غير متجانس مع قائليه ، وأحلامٌ منذ عقود لمّا تجد مَدْرَجاً بعد للطيران ، فقط مراوحة في ذات الحالة ، التي أصبحت تُثير الغثيان ، وربما ما هو أسوأ من ذلك ... الأحلام دائماً جميلة ولكن الأمم لا تقاد بالأحلام وكفى ، فلا بدّ من ميكنزمات قادرة على ترجمة المُتخيل الى الواقع ، فهل فعلنا ؟
ربما كان ذلك الرجل الستيني " أبو العبد " أكثر حكمةً ودرايةً بالواجب فِعْلَه ، وهو لا يثرثر في هذا السياق ، لأنّ منطق الأشياء – بعفويته الشعبية – لا يحتمل التأويل ، هو يثرثر فقط بالمُتخيل الطفولي ، مُسترجعاً ما حوتهُ الذاكرة ، وبما يمثل ذاك الاسترجاع من حنينٍ ، يستعذبه حيناً وأحياناً قسوة المُتخيل تتوافق مع قسوة الواقع ، فتأخذانهُ الى غير ما يرضى ، ليصبحَ الحنين لحظة أسىً اضافية ، ربما تستدعي دموعاً وتأوهاتٍ ، تُثقل القلب الذي يحاول ما استطاع فرحاً .
ذات يومٍ شتويّ بارد ، كنتُ وصديقي بهاء العم علي جالسين أمام مصنع الحلويات الخاص بهم ، في نهايات المخيم وأمامنا صفيحةٌ ، قد أوقد فيها بهاء حطباً ، نتدفأ مستمتعين بوهجها ونتحاور بواقع المنطقة ، الذي كان قد أظلم وتغيرت قوانين اللعبة السياسية فيه ، ولاسيما بعد حرب الخليج وتداعياتها على العراق وقضيتنا .
نتفقُ في مفصلٍ ما ، ونختلف في آخر ، وهكذا يمتدُّ الوقت ونحن على ذلك الحال ، وإذ بأبي العبد يمرُّ أمامنا ، أعتقد بأنه قد كان يومها بزيارةٍ ، لأحد أقربائه في تلك المنطقة ، فأمسك به بهاء وأصرّ عليه أن يجالسنا ، يشرب كأس شاي لتوّها صُنعت على الحطب ، فاستجاب الرجل الستيني الذي لم تفارق محياه الابتسامة ، وكأنه يستقوي بها على قسوة الزمان ، الذي أفقده الكثير من أهله في حروبٍ متعددة .
كثيراً ما كان بهاء يعقد مجلساً بهياً في أواخر النهار ، هناك على باب المصنع ، حيث نرى الناس جميعاً في ذلك الشارع ، الموصل الى شاطئ البحر من جهةٍ ، ومن الجهة الأخرى نهاية موقف باص الحكومة ، القادم من المدينة .
أيام الصيف كان مجلساً جميلاً ، حيث الهواء العليل في الساعات الاخيرة من النهار ، وفي الشتاء بارد فنستقوي على برده بإشعال النار ، فاكهة الشتاء كما يقال .
وفي الصيف نادراً ما كنا نرى أبا العبد في تلك الجلسة ، لأنه يستعذب الجلوس على كتف المدرسة نهاراً ، وليلاً يجلس قريباً من مقهى البحر، حيث الاضاءة تساعدهُ في رؤية الشباك ، التي يستمتع بعملها كهوايةٍ أكثر من كونها عملاً يتحصل من خلاله على المال ، اللازم لقضاء احتياجاته اليومية .
في ذلك اليوم البارد ، الذي رأينا فيه الرجل الستيني ، جلس معنا مُستأنساً بدفء النار ، وكوب الشاي الممتع ، تحدثنا معه عن أحواله وأحوال الناس ، وعن ما كان يُقال أيامها : أن حلاً سياسياً ينتظر الفلسطينيين ، بعد نكبة العراق بدمارها ، والمواقف المُخزية للأنظمة العربية ... طبعاً لم يكن في مخيالنا من ذلك الحوار مع أبي العبد ، أننا سنتحصل على ما لا نعرف أو أنه سيُبصِّرنا الى فكرةٍ لم نرها ... ولكن كان للحوار معه متعةٌ ، تُبعدُ شبح الكآبة عنا وعنه الى حين ، ولكن كلّ ذلك كان وهماً منا ، نحاوله ما استطعنا كي نُدخل الرجل ، في عوالم البهجة ولو مؤقتاً ، ولكن كما قال المتنبي :
لا تحسبنَّ رقصي بينكم طرباً فالطير يرقص مذبوحاً من شدّةِ الألم
أبو العبد لم يكن يبتسم ويمزح ، إلا تعميةً عما يغلي في دواخله من هموم ، وعندما يتناول كأساً من العرق فإنّه يندلق بأحاسيسه ، كغيمةٍ مكتنزة بالماء ، وأكثر ما أحرجنا ذلك الاندلاق ذات يومٍ في كافتيريا " الطائر الحزين " عندما قرّرنا أنا وخالد متولي وحمزة البشتاوي أن يرافقنا اليها ... كافتيريا الطائر الحزين اسم لا يُقارب حالته ، فهي مكانٌ جميل في نهايات شارع بغداد ، أو شارع العشاق كما كان يسميه البعض ، هناك على كتف المدينة المُطل على البحر ، منه ترى مخيمنا وكأنّه في وادٍ سحيق ... دائماً يغصُ المكان بالشباب من الجنسين ، سواء في داخله أو ساحته الخارجية المُطلة على الشارع الفسيح ، يتناولون فيه المشروبات المختلفة ، ويتحاورون في العديد من القضايا ، سياسية ، ثقافية ، وقضايا أخرى تخصُّ القلوب ... في ذلك اليوم شرب أبو العبد أكثر من طاقته ، وبدأ يهرف بالكلام من الكامن في لا وعيهِ ، سياسياً فكاد – لولا محاسن الصّدف – أن يأخذنا تلك الليلة الى " بيت خالتنا " .
تدبرنا الأمر وذهبنا من المكان ، ونحن متوجسين بين لحظةٍ وأخرى ، أن نتفاجأ بأمرٍ غير محسوب ، لأن تلك البلاد لا تستطيع أن تطمئن فيها بالكلام ، فكما تقول أمي : الحيطان لها آذان ... ولكن أبا العبد كان مُحقاً في كلّ ما قال ، فليس معقولاً ، وليس مفهوماً ، أن يتحدَ العرب مع أعدائهم لتدمير حاضرة من أهم حواضر التاريخ العربي ، وليس معقولاً أن يتواصل النزيف الفلسطيني ، ولا أحد من الأمة يفعل ما من شأنه ، تخفيف الآلام ، اذا لم يكن بمقدوركم التحرير ، فلا تتآمروا علينا ... أبو العبد يقولها ببساطته المعهودة : يا شباب هي زعامة مربوطة ... وما تسألوني كيف ، أنا ما بعرف أفلسف الامور مثلكم ، ولكن لو فيها خير لأمطرت من زمان ... الله يرحم الشهدا .
أحياناً كثيرة لا ينفع تزويق الامور ، أو مجاملة الناس في كلّ التفاصيل ، فلا بدَّ من قول الأشياء كما هي ، أعجبهم أو لم يعجبهم ... ولكن خللاً في البناء الثقافي – لنا – يأخذنا كثيراً في سياق المجاملات ، وعلى نطاقٍ واسع ، لأننا أيضاً لم نستوعب النقد ودوره في عملية البناء ، فالنقد عندنا هو عملية هدم وكفى ... لذلك كل التقعرات و الانزياحات اللغوية ، تبتعد دائماً عن المعنى الذي نريد ، أما حان لنا في التجربة الطويلة ، أن نخرج من هذه الشرنقة ؟