الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

المُناضل الفلسطيني المُهذّب بقلم: منجد صالح

تاريخ النشر : 2019-10-30
المُناضل الفلسطيني المُهذّب  بقلم: منجد صالح
المُناضل الفلسطيني المُهذّب

ليلة عاصفة ماطرة من شهر كانون أوّل، عام 1983. بيوت مخيّم بلاطة ترزح تحت وابل المطر المنهمر دون توقّف. كأن السماء فتحت "خوابي مزاريبها" كلّها ودلفتها، دفعة واحدة، على البيوت المتواضعة المُتهالكة المُهلّهلة المُتراصّة. كأن السيل النازل مدرارا من عل، يسدُّ الفجوات القليلة ما بين البيوت المتعانقة المُتحّابة المُتشابكة المُتّكئة على بعضها البعض، ويكادُ أن "يُفسّخها". 

من يجرؤ أن يخرج، هذه الليلة، حتى أمام عتبة بيته، والى الفضاء الداكن الفسيح؟؟!! ولا حتى النجوم تجرؤ على الظهور، فالسحب الكثيفة تجري بهمّة تُغطّي كبد السماء وتُغطّي قمرها ونجومها وشهبها. ليس من السهل اطلاقا الخروج من البيت في مثل هذا الجوّ المُكفهر المُدلهم العاصف الصاعق، في مثل هذه الساعة المُتأخّرة ما بعد منتصف الليل.

طرق عنيف على باب المنزل أو على باب بيت الجيران. من يدري؟؟ فالمنازل متلاصقة. إذا ما طُرق باب أحدها بقوة فكأن الطرقة تقصف خمسة أبواب لخمس بيوت مُتجاورة مُتّحدة فيما بينها.

 الطرق يزداد حدة. صوت ضجيج طرق الباب يُنافس تردّد نغمات  طرق حبيبات المطر الرتيبة المنهمرة كنمور جامحة على سطوح بيوت الصفيح، فريستها وهدفها.

إستفاق الأب من سباته، مستغربا ومنزعجا، من شدة وقع طرق أحذية الجنود على الباب المتواضع. الساعة تُشير الى ما بعد الواحدة فجرا. 

خطى بين نومه وصحوه، نحو الباب، لفتحه. وقبل وصوله، وإستطلاع كُنه "الزائر" الليلي، أو الصباحي، صدمه حديد الباب، الطائر، المُتطاير، المُتناثر في وجهه وأنفه. نفر الدم من أنفه من شدة اصطدام الباب به. 

كان يمتطي الباب، الطائر الهارب، الى داخل البيت، ثلاثة جنود دفعة واحدة. مدجّجين، بالرشاشات والغطرسة والوقاحة، مُسودّي الوجوه بطلاء أسود مخطط، لإخفاء معالم تضاريسهم القبيحة.

لم يأبهوا للدماء. ينزف بها أنفه من شدة اللطمة التي أصابته، من الباب الطائر المُتطاير. دفعوه بقوة أسقطته أرضا، وهو بالكاد كان قد وقف وإستفاق من سقطته الأولى. سقطتان متواليتان. "ضربتين في الرأس بتوجع".

صرخ عليه أحد الجنود سائلا:

- "إيفو بسيم"؟؟ أين بسيم؟؟ نُريده.

- بسيم ... بسيم. أجاب الأب بتلعثم وهو يضع يده على أنفه النازف بإستمرار. 

بسيم كان ينام في فراشه، على فرشة مُنجّدة، على الارض، يتدثر ببطانيّتين، فالبرد قارص والمطر مدرار. 

في لمح البصر، أصبح مشرعا للهواء بفعل "غارة" الجنود الثلاث، مسودّي الوجوه، عليه. 

إستيقظ ولم يستيقظ، إستفاق ولم يستفق، رأى ولم يرى، أحسّ ولم يُحسن. ثلاثة رشاشات، بسبطانات طويلة، كانت مصوّبة الى رأسه، وربما نحو دماغه الفتي الكبير. 

أبوه كان على بُعد خطوتين من وراء حائط سدّ الجنود المُنكبّين عليه، ينظر الى "شبله" المُمدّد على أرضية الغرفة، الى جانب شقيقه الأصغر منه. يُحاول أن يرفع رأسه، لكن رشاشات الجنود تُعيده الى إلتصاق رأسه بالمخدّة الطويلة، المُنتفخة المطرّزة يدويا بخارطة طولية. يبدو ملامح الرسم والكتابة عليها إسم فلسطين. 

الحمد لله أن أحدا من الجنود ربما لا يتقن قراءة العربية. يتكلّم عربية مكسّرة نعم، لكن ربما لا يُتقن قراءة الحروف المُطرّزة بإسم فلسطين. 

ولكن ماذا يمكن أن يزيد الطين بلّة قراءتهم لإسم فلسطين على وجه المخدّة؟ فوجه بسيم الممتقع تكاد فوّهات بنادقهم أن تُدغدغه. أبوه من ورائهم يُريد أن يتدخّل لكنه لا يستطيع، أن يتحرّك لكنه لا يقدر، يُريد أن يصرخ لكن صوته مكتوم لا يخرج من بين شفتيه الجافتين المُشقّقتين المبللتين بدماء أنفه النازف. 

قلبه يعتصر على رؤية إبنه فريسة لنهم ثلاثة من الضباع. ودّ لو أنّه يستطيع في طرفة عين أن يُخبّىء إبنه بين رموش عينيه. أن تكون عيناه مغناطيسين قويين تجذبا إبنه من بين براثن الجنود وتدثّره وتخبّئه في مُقلتيهما. كي يكتشف الجنود فجأة بان بسيم موجود وغير موجود، مرئي وغير مرئي، يقبع في فراشه أو يتدثّر بين مقلتي عيون والده.

تناوله الجنود الثلاث من على الارض وأوقفوه قسرا على رجليه، صفّدوا يديه وإقتادوه كما هو، بالبيجاما، الى العراء المُريب المُتخم بالمطر الهاطل دون توقّف، وحذفوه على ارضية سيُارة الجيب العسكرية المصفّحة. 

بسيم رشيد، شاب يبلغ من العمر سبعة عشر عاما، لم يُنهي التوجيهي بعد. دأب ونفر من اترابه على التصدّي لقوات الإحتلال التي تقتحم مخيّم بلاطة بصورة شبه يوميّه، وهم يتصدّون لها بشكل شبه دائم، بالحجارة. 

لكن آخر مرّة تصدّوا لها، إستخدموا الزجاجات الحارقة، زجاجات المولوتوف، فأوقعوا جرحى بين جنود الإحتلال المدججين حتى اسنانهم بالرشاشات وبالرصاص الحي والمطّاطي والمعدني، وكلّها "أسماء دلع" للرصاص الحيّ القاتل. 

كانوا مجموعة من سبعة شبُان، متقاربي الأعمار، أصدقاء، زملاء في الدراسة، أبناء مخيم واحد، أبناء أبناء لاجئين تجرّع آباءهم وأجدادهم مرارة الهجرة والتهجير والقسوة والنكبة، من قرية العوجا، قضاء يافا، عام 1948، على ايدي العصابات الصهيونية، ذات الباع الطويل في المجازر والتشريد والقتل. 

أضعف الإيمان بالنسبة لهؤلاء الشباب الصناديد مواجهة جنود الإحتلال، وأن لا يكون دخولهم، اليومي المُتكرّر، للمخيّم، مُجرّد نزهة، يسرحون ويمرحون ويعتقلون ويجلدون كما يشاؤون ... فكل إقتحام لهم، كان للمواطنين الأبرياء نصيب من البطش ومن الضرب والتكسير والعقوبات الجماعية. وعلى أقلّ تقدير الإستدعاء ومجابهة التحقيق والركل.

 إقتحامهم المخيّم يجب ان يكون مُكلفا، أن يكون مدفوع الثمن، وليس مجّانا. يجب أن يدفعوا ثمن إحتلالهم وإقتحامهم. وإغتصابهم فلسطين، برّها وبحرها وجوّها، ثراها ومائها وسمائها. وبيّارات برتقال ساحلها وكروم زيتون وتين وعنب جبالها ونخيل وموز غورها. هكذا كان يفكّر الشباب، وهذا هو التفكير الصائب السديد. فمن غير المعقول ولا المنطقي ولا المقبول أن يدخل جيب جيش الإحتلال المخيّم وأن لا يرموا عليه الحجارة، يقذفوه بالحجارة وبالمنجنيق الصغير، "النقّيفة"، وإلا، وغير ذلك، لقلنا على الدنيا السلام.

إعتقل الإحتلال الستة شبّان، زملاؤه، على مدى الأيام الماضية. وجاء إعتقال بسيم، آخرهم، تلك الليلة المّكفهرّة، أو ذلك الفجر الحالك العاصف الماطر.

خلال ركل وضرب الجنود له وهو "مُكوّر" على أرضية الجيب لم يُفارق مخيّلته منظر أنف أبيه النازف بإستمرار، ووجهه الممقوت لعدم قدرته على حماية إبنه الفتي. 

وكانت هذه الصورة لوالده، في ذهنه، تتشابك مع صورة والدته المرحومة، التي غادرت الدنيا الى دار الخلود قبل عدة سنوات. 

لأول مرّة في حياته، ومنذ وفاة والدته، ينتابه شعور مختلف، في تلك اللحظات، لم يكن يشعر بالحزن على فراق والدته، كما يفعل دائما، في ايّامه ولياليه، وإنما كان شعورا ببعض الرضا، لأنّه حمد الله أن أمّه متوفاة حتى لا تراه على هذه الحالة والجنود الضباع تنهشه. أكيد أنّها ما كانت لتحتمل مثل هكذا منظر، فحمد الله على أن والدته كانت قد غادرت لباريها. 

هل من المعقول ان يتمنّى انسان، يتوق لتراب قدمي أمّه، صبح مساء، أن يحمد الله على أنّها مُتوفّاه، ولم تُشاهد مثل هكذا منظر ... منظر إعتقاله وإهانته وسحله، من قبل الضباع الثلاث؟؟!! 

عجيب ماذا يحدث مع الشباب الفلسطيني، مع الشعب الفلسطيني، الشعب المناضل المكافح منذ مئة عام واكثر. كان يقال قديما أن الفلسطينيين يقاتلون كالأبطال، ولكن مع شباب أبطال كبسيم وصحبه، أصبح يقال: أنّ الأبطال يقاتلون كالفلسطينيين.

لم تكن أيام وليالي التحقيق سهلة، كانت قاسية، فظيعة، مؤلمة. استخدم فيها محققوا "الشاباك"، مخابراتهم، جبروتهم، ووسائلهم المعروفة وغير المعروفة، المعلومة والمستترة، الجديدة المُبتكرة المُجرمة المُحرّمة دوليا. 

لا يتورّعون في عمل أي شيء أو إستخدام أيّة وسيلة من أجل إنتزاع الإعترافات، حتى لو كانت إعترافات قسرية إجبارية غير صحيحة. المهم بالنسبة إليهم تعبئة لائحة الإتهام "المدبوزة" بإعترافات وتقديمها للمحكمة والحكم بموجبها سنوات، من الظلام، يمكن أن تمتد الى سبع سنوات، على مجرّد رمي حجر. 

والمُناضل المُعتقل سيء الحظ هو من يترافق إعتقاله ومحاكمته مع جدال في الأوساط السيايسة والأمنية الإسرائيليّة حول أقسى وأقصى عقوبة سيوقعونها عليه نتيجة "التهمة" الجائرة المنسوبة إليه، رمي الحجر.

كم هي غالية حجارة بلادنا؟؟ توازي الذهب والماس والجواهر!!! والدم الطاهر. وسنين طوال من عمر وعذابات شبابنا؟؟!!

عندما وطأت قدميه أرض المعتقل مخفورا كان يفكّر في أمرين لا ثالث لهما. إنحصر تفكيره فجأة في مسألتين، ربما في شخصين أو أكثر من شخصين. كان ذهنه يتركّز في حبّه ورغبته لرؤية إبن عمّه. سبقه الى المعتقل منذ سنة. كان يُريد أن يراه، قبل أن يرى اي شخص آخر، فلسطينيا مُعتقلا كان أم سجّانا إسرائيليا حاقدا. 

لو كان الامر بيده لاشترط هذا الشرط على سجّانيه: 

- أريد أن أرى إبن عمي، أن أتقابل معه، أن أحتضنه، قبل أي كلام معكم!!

والأمر الثاني أنّه لم يكن يشعر برهبة ولا بمقت ولا انزعاج، بل كان يشعر بنوع من الإغتباط والرضا الغريب، الرغبة الجامحة، للقاء من سبقوه الى السجن، الى المُعتقل، الى دهاليز الظلام، أو ربما الى "مصنع الرجال"، من زملاء وقيادات كان يعرفهم أو يسمع عنهم.  

كان توّاقا للقائهم، ربما ليشدوا من أزره ويؤنسوه "بمقامه الجديد"، وربما ليشد هو من أزرهم، ويُبرهن لهم بأن السيل الهادر من المناضلين الابطال المُتدفّقين لن تخبو وتيرة جريانه ولن تجف مياهه. 

بعد ثلاثة أيّام طوال بلياليها المقيتة، سمحوا له، المحقّقون سجّانوه، أن يذهب الى المرحاض لقضاء حاجته أو بعضا من ما تبقّى من حاجته. ماذا يمكن ان نقول ونعيد ونزيد، ونكشف المستور للقريب والبعيد؟؟!! هل يتحمّل إنسان على أديم هذه البسيطة ان يستمرّ ثلاثة أيام مُتواصلة دون أن يقضي حاجته الخفيفة والثقيلة؟؟!! إذن أين المفرّ؟؟ وكيف سيكون التدبير وحراب المحتل تتلبّسه كالنير. 

تهمته كانت جاهزة لدى المحققين، الإنتماء لتنظيم محظور، غير مشروع، وإلقاء الحجارة، وإلقاء الزجاجات الحارقة. تهمة خطيرة بإستخدام سلاح ناري. فزجاجة المولوتوف يعتبرونها كالقنبلة، سلاح ناري "فتّاك". جزاء، عقاب، إستعمالها قد تصل الى سبع سنوات سجنا. أحكام قاسية، مبالغ بها، ضد فتية صغار لم يبلغوا الثامنة عشر عاما بعد من أعمارهم الغضّة. 

وهل سيرفُّ جفن قاضي المحكمة العسكرية الصهيوني حزنا على شاب إنتزعوه بالقوة المفرطة من أمام موقد الشتاء الدافيء ورموه في عراء زمهريري ليلة كاملة؟؟!! إختلط فيها عرقه النازف من مسامات جسمه، من فرط إجهاد البطش والقمع، مع حبيبات المطر الباردة اللاسعة الهاطلة عليه دون توقّف. لن تتحرّك شعرة في "بدن" القاضي رأفة به أو عليه. فالتهمة جاهزة سلفا ومسبقا، وكل ما يريدونه منه هو أن يمهرها بإبهام إصبعه أو بتوقيعه، قسرا أو طوعا، وعلى الارجح قسرا. 

أمضى تسعة ايام طوال بلياليها في التحقيق، في دهاليز التحقيق، في عذابات التحقيق. 

- أنت قائد المجموعة "التخريبية" التي ألقت الزجاجات الحارقة على الجنود. صرخ الضابط المحقق على بسيم الجاثم على كرسي خشبي بائس في غرفة صغيرة شبه مُظلمة. 

- أنا لم أفعل شيئا. لقد كنت عائدا من المدرسة. ومررت بالمصادفة من أمام الدير. 

- بل أنت من نظّم الهجوم على الدورية. لدينا معلومات كاملة عنك. من الأفضل لك أن تعترف. أردف المحقق بإصرار.

- ليس لي علاقة بالموضوع. كنت سائرا في الشارع فقط. أردف بسيم بإصرار موازي لإصرار المحقق بالرغم من عدم تساوي وضعيهما.

لم يكن بسيم، في جلسته هذه في الغرفة الصغيرة شبه المُظلمة على الكرسي الخشبي المتهالك، في حالة طبيعية، فقد كانت الكدمات وآثار الضرب والركلات تُغطّي معظم أجزاء جسده، وخاصة وجهه "المدبّر" وعينه المنتفخة. معصماه كانا "ينزّان" قطرات من الدم من شدة "حزق" الرابط البلاستيكي الحاد الذي يطوّقهما. شعرة أشعث منكوش من كثافة المرّات التي إمتدت إليه أيدي المحققين لشدّه ومحاولة نزعه. 

ومع أن بسيم، بعمره الفتي، ليس ولم يكن ضليعا في السير الدينية والتاريخية، ولا يعرف كثيرا عن الأديان الأخرى المسيحية واليهوديه، ولكن بحكم أن "عملية" الهجوم المُفترضة على الجيب العسكري الإحتلالي وقعت أمام دير بير يعقوب، في مدخل المخيم من جهة مدينة نابلس، فقد قفزت الى ذهنة صورة سيدنا عيسى بن مريم، يسوع الناصري، وهو ملتصق بالصليب بعد أن صلبوه، ودقوا المسامير في رسغي يديه لتثبيته على الصليب الخشبي، والدماء تسيل من رسغي يديه، كما تسيل الدماء الآن من رسغيه، ليزداد قوّة وصلابة أمام المُحقّقين. 

صورة قبل الفي عام مطابقة لصورة اليوم، الدم الفلسطيني النازف واحد، المُعاناة واحدة، والفاعل الجلّاد واحد ... مع أنّه ورد في القرآن الكريم، في سورة النساء: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبّه لهم". صدق الله العظيم.

أظهر صلابة في خضوعه للتحقيق بالرغم من عمره الطري وقلّة خبرته في المجال، فهو مناضل على السليقة، النضال يسري في دمه منذ نعومة أظفاره، ربما لم ينتظم في حلقات تنظيمية عديدة، هرمية كانت ام عنقودية، لم يتلقّى تدريبا كافيا على فنون المراوغة في التحقيق، ولم يقل له أحد كيف يتصرّف اذا ما وقع في "الأسر". تصرّف من تلقاء نفسه، من مناعته الذاتيه، من وحي وطنيّته الأصيلة والأصلية، وربما من تأثير الخارطة الطولية، الممهورة باسم فلسطين، التي يلتصق بها رأسه وخدّه، على مخدّته الطويلة المُنتفخة، كل ليلة حين نومه وحين حلمه بقرية العوجا قضاء يافا، وكلمات والده ترنّ في أذنيه:

- بلدنا العوجا أجمل البلاد على هذه الارض، أخرجونا منها الصهاينة غصبا وقسرا وبالحديد والنار. لن نقبل عنها بديلا مهما طال الزمن والانتظار. وسنرجع اليها يوما مكللين بالنصر والغار، وليس ذلك على الله ببعيد. قال الحق جلّ وعلا: "يا أيّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تُفلحمون". صدق الله العظيم. 

لهذا حرموه من النوم. حرموه من قضاء حاجته والذهاب الى المرحاض. شبحوه. عذّبوه. ركلوه "ببصاطيرهم". ضربوه بقبضات ايديهم الغليظة. 

صمد واستمر في القول:

- كنت عائدا من المدرسة، مارا في الشارع، من أمام الدير. ليس لي علاقة ... ليس لي علاقة.

أمام اصراره وانكاره، نقلوه الى غرفة في المعتقل، فيها خمسة "معتقلين"، وجوههم جامدة، بليدة، كالأصنام، ترتسم على شفاههم ابتسامات صفراء بلهاء، ثلاثة منهم اشتعلت رؤوسهم شيبا، وأربعة منهم تندفع كروشهم أمامهم، من فرط التهامهم للأطاييب. انها الغرفة سيئة السمعة والصيت والمصير، "غرفة العصافير". وهي اختراع صهيوني بامتياز، من أجل سحب اعترافات من المعتقلين "المزرقنين"، "المعصلجين"، بالمداهنة، بالتعمية، باسلوب "الثلاث ورقات". 

أقترب منه أحدهم، المالك للصفتين، الشعر الأشيب والكرش المندفع أمامه. وقال له:

- برافو عليك. إيّاك أن تعترف بانّك القيت زجاجة المولوتوف. خليّك صامد. همّ الي راح يتعبوا. أنا "أبو الفتح"، مسؤول تنظيم فتح في المعتقل. يعني أنا مسؤول عن كل المعتقلين من فتح، ومسؤول عنّك. خلّيك صامد، صلب. ولا يهمّك.

بسيم كان يُجيب بجملة واحدة، متلازمة واحدة، دخلت معه من أول لحظة وصوله المعتقل:

- أريد أن أقابل ابن عمّي. أريد أن أراه، أريد ابن عمّي.

- طيّب طيّب، ولا يهمّك. أنا بأجيب لك ابن عمّك. هذه سهلة. لكن اريد منك أن تكتب ماذا جرى مع جيب الجيش ذلك اليوم أمام الدير. حتى أرفع هذا التقرير "للقيادة"، حتى يقدّروا عملك ويكافئوك. أجابه "الشحط" الأشيب ذو الكرش المندفع أمامه، المدعو "أبو الفتح".

- أنا لا بأعرف جيب ولا بأعرف دير. أنا في حالي. "جيب لي إبن عمّي".

لم تفلح كل ألاعيب ومحاولات الشيّاب ذوي الكروش المندفعة مع الشاب الفتي، ذو السبعة عشر ربيعا. بقي يردد دون كلل أو ملل:

- أريد إبن عمّي، أريد أن أرى ابن عمّي ...

سأله آخر، الأكثر شبابا من بين الخمسة:

- بعد أن نحضر لك ابن عمك، هل ستخبرنا عن الزئبق؟؟

- الزئبق!! آه آه، هل تقصد ذلك المسلسل الذي يُبث على التلفزيون الاردني، مسلسل الزئبق؟؟ بأشوفه أحيانا، متقطّع، ليس دائما. 

- لا أقصد زئبق التلفاز، بل أقصد الزئبق المادة التي تُصنّع منها القنابل والمُتفجّرات، حتى نعمّمها على "المناضلين"، لزيادة معرفتهم ومُقاومتهم.

- أنا لا أعرف إلّا مسلسل الزئبق في التلفزيون الاردني.

في غرفة العصافير هذه "لم يأخذوا منه حقّا ولا باطلا". بقي صامدا مصمّما، يدقّ على وتر واحد وحيد فريد، نغمة منفردة، عزف منفرد لا ثاني ولا ثالث له: "أريد أن أرى إبن عمّي".

في المحكمة العسكرية الإحتلالية ذات التردّد الواحد، ذات النغمة الواحدة، بعنصريّتها وطبلها الأجوف الخالي من العدالة، حكموا علية بالسجن الفعلي سبع سنوات. الحد الاقصى على رامي الحجر، حكم قاس دون شك ولا جدال، لكن ما العمل، فهذه هي قوانين و"نظام عدالة" الإحتلال؟؟!! 

مع زجّه بالمعتقل نزعوا عنه ملابسه المدنية. سلّموه بنطلونين وقميصين وبلوزة شتوية وحذاء، مستلزمات "السجن" وطقوسه. لكن، في الحقيقة والواقع، فإنّهم يُعيّشونك حياة السجن، نمط السجن، عقاب السجن، منذ اللحظة الأولى. يُعاقبونك حتى قبل أن يوجّهوا لك تهمة. يُعاقبونك على أمر ما ربّما لم تفعله، يُشعرونك بأنّك في عالم آخر، لم يعُد عالم الإنسان، لم تعُد في عالم الإنسان، إنّما شيء ما على هيئة إنسان!!! 

يُحاولون ويعملون على نزع صفة الإنسان عن المُعتقل. يُشيّطنونه الى ابعد الحدود، ويلصقون به كافة التعابير غير الإنسانية، غير الآدمية، غير اللائقة بقامته وهامته كمناضل في سبيل حرّية شعبه. يصفونه "بالمُخرّب"، "والإرهابي"، "والمُعتدي"، "والمتوحّش".

أعطوه بطّانيات، "البقجة" كاملة، للنوم على الأرض. أربعمائة سجين معتقل في سجن نابلس، حينذاك، مكتظّين متراصين كحبّات القُطّين المرصوعة. ظروف الإعتقال مُهينة كريهه.

إلّا أنّه كان يشعر بنوع من الفخر والفخار والإعتزاز والإعتداد بنفسه وبزملائه، المُعتقلين منهم  والطُلقاء، "ينهشه" الشوق والحنين لمُلاقاة إبن عمّه، للإنضمام لركب مناضلين سبقوه للمعتقل. اللقاء دافيء وحار مع أحد الأقارب أو المعارف أو الجيران أو الزملاء أو القادة. 

بدأوا بالتقرّب منه واحدا واحدا. بعضهم بخفر وخجل وآخرين بإندفاع وغبطة. فالسجن مكوّن من أقسام. وعندما يخرج المعتقلون الى "ساحة الفورة"، يتنامى الى مسامعهم خبر مجيء مُعتقل جديد. يبدأون بالتعرّف عليه من خلال الشبابيك الحديديّة. 

كلّ معتقل يدخل السجن يجب عليه أن يُحدّد تنظيمه. في ذلك الوقت، لم تكن حماس والجهاد الإسلامي موجودة. كان معظم المُعتقلين من حركة فتح، ومن الجبهتين الشعبية والديمقراطية، ومن المُستقلّين غير المؤطّرين تحت لواء تنظيمات، ينتمون الى بعض منها خلال مدّة أعتقالهم، حيث يتثقّفون ويتعلّمون ويُتّقنون ويتمرّسون ويتمتّرسون في دروب النضال، وحتى يصبحون كوادر مُعبّرة معتبرة مجرّبة صلبة، لا تُهادن السجّان الصهيوني البغيض ولا تُفرّط بذرّة من ثرى الوطن الحبيب.

المُعتقلون المناضلون يُنظّمون حياتهم الداخلية بدقّة، يُشكلون الهرم التنظيمي لكل فصيل في المعتقل، ويتواصلون بطريقتهم الخاصة مع المعتقلات الأخرى لزيادة تنظيمهم. العديد منهم يحصلون على شهادات عُليا داخل المُعتقل. يتخرّجون بثقافة عاليه، بزخم من العلم والثقافة والوطنية. 

الحياة المُنظّمة السائدة، التي يمارسونها، في السجون، تصلح بأن تكون قاعدة صلبة لبناء الدولة. نواة صلبة لصقل مجتمع مقاوم منظّم متعلّم مثقّف متعاون متضامن متحّاب متصالح مع نفسه وذاته. 

الأسرى والجرحى والشهداء هم الزيت المعتّق الذي يُنير سراج النضال والتحرير. المنارة التي تُرشد السفينة كي ترسو بسلام وأمان في الميناء المؤمّل المقصود، الدولة المستقلة بإذن الله وكرمه والجود.

خرج بسيم من السجن عام 1991، أكثر صلابة من ذي قبل. بعد أن كان قد استطاع من تقديم إمتحانات التوجيهية العامة والنجاح بها بمعدّل 65 بالمئة. لا يوجد معدّلات عالية في السجن فظروف الإعتقال قاسية. عادة أعلى المُعدّلات يدور في فلك ال 65 بالمئة.

سيخوض بسيم مباشرة، دون مُقدّمات ولا توالي، نضالا جديدا، نضالا من أمام القضبان وليس من ورائها، كما كان يفعل خلال سبع سنوات طوال. وفحوى النضال الجديد وكنهه يتمثّل في تمكّنه أو تمكينه من إمكانية حصوله على مقعد في إحدى الجامعات الوطنية من اجل إكمال دراسته. 

ربما كانت جامعة القدس المفتوحة أهون الخيارات، اسهل الخيارات، أفضل الخيارات، أو هكذا تراءى له، هكذا إعتقد، هكذا تامّل. لكن بدا أن سفينته لم تمخر بالإتجاه الصحيح، بالبحر الهاديء الذي سيوصله الى بر الأمان. 

فقد إصطدم بمسؤول في الجامعة، يدبّ على ساق واحدة، ليس في إسمه شيء من الحُسن أو الحسان أو الحسّون. قال له، بعد تقديم طلب للإلتحاق بالجامعة، مدعّما بوسام سبع سنوات من الإعتقال والصلابة: "نو واي"، "لا مجال"، رفض، عدم قبول الطلب، عدم منح لا مقعد ولا كرسي ولا حتى "مغزّ إبرة". 

المسؤول المذكور، ذو الساق الواحدة، أقفل مجاله الجوّي ومياهه الإقليمية وعتبة بيت أبوه أمام المناضل، أمام أمله في إتمام دراسته الجامعية و"تعويض" بعض مما فاته، ومن عذابات عائلته وهم يرون إبنهم الخارج حديثا يتنفس هواء الحريّة بخياشيم السجن لا يستطيع الحصول على مقعد جامعي. 

هل يا تُرى الحصول على مقعد على "بُرش" في المعتقل أهون وأسهل من الحصول على مقعد دراسي في الجامعة المفتوحة، التي من المفترض أن تكون أبوابها مُشرّعة امام العامة بشكل عام، وأمام المناضلين بشكل خاص. 

"نو واي" أكّد المسؤول ذي الساق الواحدة. لا حول ولا قوّة إلّا بالله. حسبنا الله ونعم الوكيل. "بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنّوا علي كرام!!!".

"إشتدّي أزمة تنفرجي". فلنُجرّب في جامعة النجاح. الإلتحاق للدراسة في جامعة النجاح الوطنية. على بركة الله. ربما الطريق الى هذه الجامعة سيكون اقل "وعورة".

دخل الى الجامعة كحالة خاصة، وبصعوبة، ربما بصعوبة بالغة. إستطاع أن يلتحق بالجامعة بدل واحد من الطلبة المستنكفين، ليسير على خُطى خرّيجي جامعة النجاح السابقين المُناضلين، منهم حسام خضر وتيسير نصر الله وعبدالله داوود. 

عام 1992 كانت سنة مميّزة مُتميّزة. جرت الإنتخابات الطلابية في حرم الجامعة. الشبيبة الفتحاوية كانت تسود، الى جانبها فصائل منظمة التحرير. الجبهة الشعبية كانت قوية. الكتلة الإسلامية كانت في بداياتها الاولى، لم تكن قد تبلّورت بعد كقوة طلّابية إنتخابية.

دخل مجموعة من الشباب المطلوبين لقوات الاحتلال الى حرم الجامعة، لتعزيز الشبيبة الفتحاوية في الانتخابات، منهم: عبد الله داوود وناصر عويس وماجد المصري وبلال دويكات وياسر بدوي ومحمد تيّم. "وقامت الدنيا ولم تقعد". حصل انفجار بركاني بحمم لامتناهية. قامت قوات الاحتلال بأعداد كبيرة من الجنود والآليات العسكرية بمحاصرة جامعة النجاح للقبض على المطلوبين. لكن الجامعة، بطلّابها واساتذتها وموظفيها وشجرها وحجرها، إحتضنت المطلوبين وخبأتهم برموش العين. 

حصار خانق "لا ينزّ منه الماء"، ولا يتسرّب منه الهواء على مدى اربعة ايّام بلياليها. تفاعلات وأرتدادات وأصداء محلّية ودولية. 

جنود الإحتلال مصمّمون على إعتقالهم والجامعة مصمّمة على إحتضانهم وحمايتهم. الى ان جاء الحل والفرج، أو المخّرج. الإتفاق بإبعاد الشبّان المطلوبين الى الاردن. ربما كان هذا الحل هو أهون الشرور. ليس الحل الافضل ولا المؤمّل ولا يحمل في طيّاته الحبور والسرور.

أمّا المُناضل حكم أبو عيشة فقد إستطاع أن يكسر الطوق المفروض على الجامعة، خلسة، تسرّب منه كنسمة صيف، وإختفى داخل النسمة الى حين. وسقط لاحقا شهيدا خضّبت دماؤه الزكية ثرى الوطن الغالي.

تخرّج المناضل بنجاح عام 1996 حاصلا على درجة البكالوريوس باللغة العربية. عُيّن في التربية مّدرّسا للعربية في مدرسة طلّوزة، التي تمطتي وادي الباذان الخصيب الجميل. وتكثر في طلّوزة وحولها اشجار اللوز واللوزيات. لكنه لم يداوم في المدرسة، لم يذهب إليها، لم يلتحق بها، فقد كان قد إلتحق بالجهاز الأمني، منذ بداية البداية لقيام السلطة الوطنية ومؤسساتها وأجهزتها المُتعدّدة.  

داهمه الإعتقال الثاني عام 2002، خلال العملية العدوانية المسمّاة "السور الواقي"، إجتياح الضفة الغربية بتقسيماتها ألف وباء وجيم، وإحتلال كافة المدن، وإلغاء خصوصية مناطق ألف، مناطق نفوذ السلطة الوطنية الفلسطينية، حتى يومنا هذا. 

هذا الإعتقال كان اسوأ من الاعتقال الاول، اشدّ قسوة، أشدّ وقعا عليه، لم يتقبّله كما تقبّل الاعتقال الاوّل. شعر بالغضب والسوء، فظروفه كانت قد تغيّرت، حياته تغيّرت. الآن متزوّج ولديه عائلة، لديه إبنة فتيّة عمرها سبع زهرات وإبن صغير ام يتجاوز عمره الثلاث قرنفلات.

أقتحم الجنود المصروعين بيت العائلة: 

- "إيفو بسيم؟؟ أين بسيم؟؟ نريده". 

البيت العائلي مُكوّن من ثلاثة طوابق، عاثوا فسادا فيه وكسّروه. أحد أبناء أخوه، فتى صغير، إسمه بسيم، تيمّنا بأسمه، "إسم عمّه"، إعتقلوه، إعتقدوا أنّه هو، إعتقلوه على الإسم وليس على العمر، أوثقوه وضربوه. كان بسيم يسكن مع زوجته وإبنته في غرفة وصالون على السطح، شقة صغيرة، في قمّة البيت.

أخبرته زوجة شقيقه، أم الولد المعتقل جزافا، أن الجنود يفتّشون عنه، فنزل بالبيجاما والشبشب، وهكذا، على هذه الحالة، حملوه وأخذوه، تحت أعين إبنته الصغيرة وزوجته وبقية أفراد عائلته.

ودون تهمة محدّدة حكموا عليه سجنا، حكموه إداري، إعتقال إداري، ستة أشهر سجنا، تُجدد، تلقائيا، كل ستة أشهر. ويمكن أن يقضي عشر سنوات هكذا. فالاعتقال والحكم جاء بناء على شكوك وليس بيّنات أو دلائل. يعتقلونه ويحكمونه ثم يبحثون عن الدلائل. إسرائيل هي الدولة الوحيدة في هذا العالم التي تعتقل إنسانا بريئا بناء على شكوك، تخمينات، تهيّؤات، إفتراضات، كوابيس. بناء على ملف سرّي لدى المُخابرات، بناء على قرار من المُخابرات، فهي الآمر الناهي في مثل هكذا حالات. مخابرات فوق القانون في دولة تتصرّف أصلا وكأنّها فوق القانون.

على مدى سنة وثلاثة شهور حرموه من أية زيارة. معاناة له ولزوجته ولإبنته الفتيّة ولابنه الطفل الصغير. في التمديد الأول للإداري، رزقه الله بإبنته الثانية ... مبروك. يا لسخرية القدر!!! الفلسطينيون يوقّتون تاريخ وذكرى ميلاد أبنائهم بالإعتقال الإداري أو بالإعتقال أو بسقوط جريح أو بسقوط شهيد، وليس برحلة الى الجبال أو الى شاطيء البحر.

نسيبه، شقيق زوجته، المعتقل معه، تصادف إطلاق سراحه من المُعتقل في اليوم الذي كانت فيه زوجته تُنجب صغيرتهما. بالنسبة للصغيرة، ففي يومها الأول في هذه الدنيا، أبوها جدّدوا له الإعتقال الإداري، وخالها أصبح طليقا خارج المُعتقل. "ولله في خلقه شؤون". تبارك ربّي وجلّ في علاه. مسيّر الغيوم وناصب الجبال وباسط الارض. 

بعث لزوجته مع شقيقها رسالة كي يُشعرها أنّه يقف الى جانبها في هذه اللحظات المليئة بعواطف جيّاشة. لا يستطيع أن يكون موجودا بشخصه الى جانبها، فأحبّ أن يكون معها وجدانيّا وعاطفيّا، ولو من خلال كلمات معبّرة مخطوطة على ورقة بسيطة. كانت بعض الدموع تتسرّب من مُقلتيه، يمسحها لئلّا توشي به، لكن دخان سيجارته المُتصاعد، كانت تزيد عينيه حرقة على حرقة.

أُطلق سراحه من الإعتقال الأداري عام 2004، على حاجز ترقوميا، أقصى جنوب الضفة الغربية. الإسرائيليون يتعمّدون إطلاق معتقل الشمال في أقصى الجنوب، ومعتقل الجنوب في اقصى الشمال، "زيادة في الغلبة"، وحتى يتسبّبوا بالإزعاج والمشاق له ولعائلتة المُنتظرة بفارغ الصبر لقاءه ومشاهدته.

ومع تنفّسه أوائل بشائر نسمات الحريّة، كان يُفكّر في زملائه ورفاق دربه الذين ما زالوا يقبعون خلف القضبان، وخاصة صديقه "أبو العبد"، المحكوم بمؤبّدين ويزيد، والذي تقاسم معه أيّام وليالي السجن والحرمان، وتقاسم معه الخبز والملح. ومناضلون آخرون ما زالوا يُرتّلون أعذب أناشيد الحريّة في "باستيلات" المُغتصب الصهيوني.

صديق له نقله من حاجز ترقوميا الى مدينة دورا حيث إستضافه، وبعدها الى مدينة الخليل، ليصل الى مشارف مدينة نابلس ومشارف مخيّم بلاطة، الى حاجز حوّارة، بعد الساعة الحادية عشر ليلا. عائلته وأهله كانوا ينتظرونه على الحاجز. كانت عيونهم شاخصة تبحث عنه وتنتظر قدومه وطلّته. أما هو فلم تكن عيناه تبحث في هذه الدنيا كلّها إلّا عن شخص واحد. 

- أنت لا ترى من كل هذه الجموع إلّا بنتك، يقول المناضل الذي تنسّم لتوّه هواء الحريّة.

وفي لحظة إلتقت عينا الصغيرة مع عيني أبيها. وفي لمح البصر كانت تتدثّر في أحضانه. يلثم وجهها وتقبّل وجهه. والدموع تسيل على الخدود. من المستحيل أن تُعرف الدموع السائلة هل هي دموعه أم دموعها.

بسيم رشيد يبلغ من العمر الآن ستة وخمسين عاما، يعيش حياة هادئة مع عائلته، مستقر في عمله. مستمر في إصراره على إقفال المكالمة الهاتفية التي تصله على هاتفه النقّال والرجوع هو من طرفه للإتصال، يقول:

- من يتّصل بي يريد أن يُسلّم علي أو يريد منّي خدمة. وفي كلتا الحالتين أنا مدين له. إذا كان يُريد تحيّتي فمرحبا، أريد أنا أن أكرمه بمكالمة. وإذا كان طالب حاجة فربما ليس لديه الرصيد الكافي للتحدّث معي، وفي هذه الحالة أيضا يتوجّب علي أن أساعده بمكالمة قبل أن اعرف حاجته.

- وماذا عن تعبئتك بنزين سيّارتك بنفسك، بيديك، في المحطة؟ يسأله صديق.

- هذا موضوع آخر. لقد عملت في محطّة بنزين في صباي، وأعرف بماذا يشعر العامل بالمحطّة. لهذا أتعاطف معه، أريد أن اشعره بأهمّيته، فأعبّؤ البنزين بنفسي في سيّارتي، عندما يكون ذلك ممكنا. يجيب بسيم وإبتسامة خجولة تُزيّن ثغره.

مع خبرة المرء وتجاربه في هذه الدنيا، ومعرفته بخبايا الجنس البشري وعلم السسيولوجيا، بعد أن لف وزار ثلاثة ارباع دول وأصقاع هذه المعمورة، يعتقد أنه ختم علم معرفة الإنسان وأنماطة وأنواعه وطباعه. ولكن يُتفاجأ المرؤ أن هناك نمطا جديدا فريدا من البشر والناس، طراز نادر الوجود، لكنه موجود.

لا السجن ولا سنوات الإعتقال الطوال، تمكّنت من ثني المناضل الفلسطيني أو إعاقته عن إرتباطه بأرضه، بقضيّته العادلة، بعائلته، أو عن تحقيق حلمه وطموحه الذاتي، فهو اليوم قد أكمل دراسة الماجستير، ويتطلّع، بكل فخر وإعتزاز، الى دراسة الدكتوراة. 

هذا المناضل الفلسطيني يمتاز بمنتهى اللطافة ومنتهى الأخلاق ومنتهى الوطنية ومنتهى الود والحنان وفائق التهذيب: إنه بسيم، المناضل المهذّب الوسيم.
 
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف