أنا يا سُعادُ ..
قصّة قصيرة بقلم الكاتب : صلاح بوزيّان / تونس
بلغتْ الزّقاق بشقّ الأنفس ، الزّقاق طويلٌ و مشرق و وقورٌ ، أركانه مضيئة ، واجهات البيوت بيضاء سمحة ، همستْ :{ آه يا دنيا ، نشوف في روحي نلعبْ أنا و مفيدة بنت عمّي الشاذلي و رقية بنت عمّي التيجاني وكثير من بنات الزَّنقة ، و هايْ أمّي تنادي : أبوكي سيعود بعد شويَّا نخافْ يتغشّش عليك يعيّشْ بنتي هيّا روّحْ } وأراني أبوس البنات بوسات وأدخلُ ، ذكريات ، كلّ شيء مرّ في لمح البصر} وسالت الدّموع على خدّيها ، فمدّت من جيبها منديلا ومسحت آثار الحُرقة على الأيّام الخوالي . النّوافذ مفتوحة ورائحة البخور ترتفع في سماء الزّقاقْ ، مذياعٌ يبثُّ أخبار الرّئيس الجديد سعد الدّين ،وصوت نسوانيُّ يهتفُ :{ يا ربّي فرّج علينا رانا تعبنا من السرقة والكذب و الفقر والغلاء ، يا ربّي ، العبد ُ المسكين لشكون يشكي غيرك أنت ، يا ربّي} دعاء ودعاء ومناجاة العُبّاد الخفيّة ، وأدعية أخرى تنطلقُ من دهاليز ومن الأسطح و من مَرَمَّاتِ بعض البيوت ومن شقوق الجُدران و من جَوف قبور ظنّها بعض النّاس رفات أموت ، يعجُّ الزّقاق بالآهات و الشكايات إلى الله حاله كحال أرجاء القيروان .هي ابتهجت بالزّقاق تلوح فيه العربات و الباعة المتجوّلون و الصبية يتلاعبون ، و كانت تلثمُ أبواب الجيران وتهمسُ:{ آه يا دنيا }. تبدو القباب والصّوامع ناصعة البياض مُبهجة ، هي عوّلتْ على ذكريات الصّبا لتصل إلى دار الجدّ ، لم تركب سيّارة أجرة ، بل خيّرت السّير من ربط الرنّان إلى حيّ الجامع ، اقتربت من الدّار ، دلفت ثمّ وقفت على عتبة الباب ، دفعت مصراعه فانفتح ، دخلت ونادت:{عواطف يا عواطف ، أين أنت ؟} أجاب صوتٌ:{ أختي سعاد مرحبا مرحبا ، يا النّهار السّعيد} و أطلّت عواطف من غرفة في البيت الشاسع ، و أتت مسرعة فاتحة ذراعيها ، وطوّقت سعاد ، و راحت تقبّلها طويلا و تضمّها إليها ، وهي تشمّ رائحة الكُحل العربي المنبعثة من عينيها الكبيرتين ، ورائحة الحنّة في أصابعها البيضاء الجميلة ، نزعت سعاد السّفساري وأخذته عواطف فطبّقته و وضعته في خزانة ، ودخلتا سويّا إلى قاعة الجلوس ، وجلستا على الأريكة ، وعواطف تطوّق سعاد بين الفينة والأخرى وتلثمها ، و تعيد الأسئلة :{ كيف حال سي صالح والأولاد ؟ أين هي بثينة أفي تونس أم عادت إلى سويسرا ؟ } وسعاد تجيب وتستردُّ أنفاسها وتمسحُ العرق المتصبّب على الوجه الجميل الخالي من التّجاعيد و جراح الأيّام : { قُلّي وقتاش ها الرّاجلْ مِش يبطّل شُرب الخمر ؟ راهي سنين وتوّا أولادو كبرو وعمرو قريب السبعين ؟ } ، فقالت عواطفُ:{ هُو حبّْ يفهم ، وحاجة أخرى راهو يأخذ الرشوة في خدمتو } ، خيّم سكاتٌ قصير عليهما ، ثمّ أردفت سعاد: { نعمْ ، رشوة هذي رجولية ، هذي أفعال معملهاش لا الأب و لا الجدّ ، أشبيه خشّ الخلاء } وأضافت عواطفُ :{و راهو ناوي يبيع الهنشير ويطلّقني ويتزوّج الكاتبة متاعو ، راهو ضايع ، لا يتلها بأولادو ولا بالدّار ، يخرج الصباح للخدمة ميرجع كان في اللّيل ، و قالو لي نساء يخدمو معاه راووُهْ في سوسة مع شابة تخدم معاه الّي ناوي يتزوّجها ، شايب و عاشق والعياذ بالله } استأذنت عواطف و غابت برهة ، ثم عادت
و هي تمسكُ طبقا نحاسيًّا بيديها النّاعمتين ، وتحاذر من التعثّر ، في الطبق منديل مطوي على الجانب الأيمن ، وفي الوسط فنجانا قهوة يتصاعد منها بخار أبيض شفّاف ، وصحن بلوري متوسط الحجم فيه مقروض و بقلاوة و كعك ورقة وغُريِّبةُ حمص ، وضعت الطبق على طاولة من خشب الأبنوز ، ومدّ الفنجان إلى سُعاد وهي تهمسُ :{ بربّي أشرب قهوتك ، يفرّجها ربّي} ضحكت كبيرة قومها وشرعتْ تشرب وتأكل البقلاوة ، مضى الوقت مسرعًا ومالت الشمس إلى المغيب والمرأتان تسردان قصص الزّقاق و الأجوار و الذّكريات ، انطلق الأذان من مسجد أبي لقاطة ، وفجأة دخل رجلٌ مسرعًا ، أسبغ الوضوء و فرش السجّادة وسط البيت ، وأقام الصّلاة وكبّر ، تعجّبتا وبقيتا مذهولتين أهذا عاشق الفتاة وشاربُ الخمر ؟
أفشى السّلام و أسرع إلى سعاد :{ أهلا بأختي ومرحبا متى أتيتي لقد اشتقت إليك وإلى الأولاد } ضمّها إلى صدره و همس في أذنها :{ أنا ولدتُ من جديد ، والأسبوع القادم سأذهبُ للاعتمار } سالت دموع سعاد ووضعت رأسها على كتف زكرياء فقال :{ الليلة تبات عندنا سأكلّم سي مصطفى وفي الصباح أوصلك إلى الدّار} ، سحب هاتفه الجوّال وانزوى يسلّم ويفسّر القصّة وهو يضحك ويقسم بأغلظ الأيمان ، وراحت زوجته تستقبلُ أبناءها العائدين من المدرسة وهي في فرحة لا توصف . ثمّ تحلّق الجميع حول مائدة العشاء ، أطباق الدّجاج المشوي و صحون المرق و الهريسة الخضراء ، شرعوا يأكلون وهم يضحكون و يلعبون ويتندّرون ، مضت ساعة ثمّ تسلّل زكرياء إلى غرفته وهو يردّد :{ أمّي سعاد في الثامنة صباح نمشيو ، ليلة سعيدة } ، راجع الأطفال دروسهم في غرفتهم الفسيحة الدافئة ، دخلت إليهم عواطف وتفقدتهم واطمأنّت ، عادت إلى الغرفة و ألقت بجسمها المتعب قرب سعاد وتمدّدت ، وتقاسمت الغطاء والفراش معها ، وبقيتا تسامران إلى حدّ منتصف اللّيل ، و تصغيان إلى صوت التّلفاز ، و تتحدّثان عن أمور الانتخابات وغلاء المعيشة ، و في الصّباح ملأت عواطف كيسا بلاستيكيا بقوارير عطر مختلفة ودسّتها في حقيبة سعاد ، والأخرى تتساءلُ : { شنوا هذا ؟ } فردّ عواطف:{ اسكتي ، شويا برفان ، قدّاش من مرّة تهديلي أنت الدبش و البرفان } ، قبّلتها في خدّها بحرارة و وعدتها بالعودة في العطلة المدرسية ، ثمّ لحقت أخاها إلى طرف الزّقاق .
قصّة قصيرة بقلم الكاتب : صلاح بوزيّان / تونس
بلغتْ الزّقاق بشقّ الأنفس ، الزّقاق طويلٌ و مشرق و وقورٌ ، أركانه مضيئة ، واجهات البيوت بيضاء سمحة ، همستْ :{ آه يا دنيا ، نشوف في روحي نلعبْ أنا و مفيدة بنت عمّي الشاذلي و رقية بنت عمّي التيجاني وكثير من بنات الزَّنقة ، و هايْ أمّي تنادي : أبوكي سيعود بعد شويَّا نخافْ يتغشّش عليك يعيّشْ بنتي هيّا روّحْ } وأراني أبوس البنات بوسات وأدخلُ ، ذكريات ، كلّ شيء مرّ في لمح البصر} وسالت الدّموع على خدّيها ، فمدّت من جيبها منديلا ومسحت آثار الحُرقة على الأيّام الخوالي . النّوافذ مفتوحة ورائحة البخور ترتفع في سماء الزّقاقْ ، مذياعٌ يبثُّ أخبار الرّئيس الجديد سعد الدّين ،وصوت نسوانيُّ يهتفُ :{ يا ربّي فرّج علينا رانا تعبنا من السرقة والكذب و الفقر والغلاء ، يا ربّي ، العبد ُ المسكين لشكون يشكي غيرك أنت ، يا ربّي} دعاء ودعاء ومناجاة العُبّاد الخفيّة ، وأدعية أخرى تنطلقُ من دهاليز ومن الأسطح و من مَرَمَّاتِ بعض البيوت ومن شقوق الجُدران و من جَوف قبور ظنّها بعض النّاس رفات أموت ، يعجُّ الزّقاق بالآهات و الشكايات إلى الله حاله كحال أرجاء القيروان .هي ابتهجت بالزّقاق تلوح فيه العربات و الباعة المتجوّلون و الصبية يتلاعبون ، و كانت تلثمُ أبواب الجيران وتهمسُ:{ آه يا دنيا }. تبدو القباب والصّوامع ناصعة البياض مُبهجة ، هي عوّلتْ على ذكريات الصّبا لتصل إلى دار الجدّ ، لم تركب سيّارة أجرة ، بل خيّرت السّير من ربط الرنّان إلى حيّ الجامع ، اقتربت من الدّار ، دلفت ثمّ وقفت على عتبة الباب ، دفعت مصراعه فانفتح ، دخلت ونادت:{عواطف يا عواطف ، أين أنت ؟} أجاب صوتٌ:{ أختي سعاد مرحبا مرحبا ، يا النّهار السّعيد} و أطلّت عواطف من غرفة في البيت الشاسع ، و أتت مسرعة فاتحة ذراعيها ، وطوّقت سعاد ، و راحت تقبّلها طويلا و تضمّها إليها ، وهي تشمّ رائحة الكُحل العربي المنبعثة من عينيها الكبيرتين ، ورائحة الحنّة في أصابعها البيضاء الجميلة ، نزعت سعاد السّفساري وأخذته عواطف فطبّقته و وضعته في خزانة ، ودخلتا سويّا إلى قاعة الجلوس ، وجلستا على الأريكة ، وعواطف تطوّق سعاد بين الفينة والأخرى وتلثمها ، و تعيد الأسئلة :{ كيف حال سي صالح والأولاد ؟ أين هي بثينة أفي تونس أم عادت إلى سويسرا ؟ } وسعاد تجيب وتستردُّ أنفاسها وتمسحُ العرق المتصبّب على الوجه الجميل الخالي من التّجاعيد و جراح الأيّام : { قُلّي وقتاش ها الرّاجلْ مِش يبطّل شُرب الخمر ؟ راهي سنين وتوّا أولادو كبرو وعمرو قريب السبعين ؟ } ، فقالت عواطفُ:{ هُو حبّْ يفهم ، وحاجة أخرى راهو يأخذ الرشوة في خدمتو } ، خيّم سكاتٌ قصير عليهما ، ثمّ أردفت سعاد: { نعمْ ، رشوة هذي رجولية ، هذي أفعال معملهاش لا الأب و لا الجدّ ، أشبيه خشّ الخلاء } وأضافت عواطفُ :{و راهو ناوي يبيع الهنشير ويطلّقني ويتزوّج الكاتبة متاعو ، راهو ضايع ، لا يتلها بأولادو ولا بالدّار ، يخرج الصباح للخدمة ميرجع كان في اللّيل ، و قالو لي نساء يخدمو معاه راووُهْ في سوسة مع شابة تخدم معاه الّي ناوي يتزوّجها ، شايب و عاشق والعياذ بالله } استأذنت عواطف و غابت برهة ، ثم عادت
و هي تمسكُ طبقا نحاسيًّا بيديها النّاعمتين ، وتحاذر من التعثّر ، في الطبق منديل مطوي على الجانب الأيمن ، وفي الوسط فنجانا قهوة يتصاعد منها بخار أبيض شفّاف ، وصحن بلوري متوسط الحجم فيه مقروض و بقلاوة و كعك ورقة وغُريِّبةُ حمص ، وضعت الطبق على طاولة من خشب الأبنوز ، ومدّ الفنجان إلى سُعاد وهي تهمسُ :{ بربّي أشرب قهوتك ، يفرّجها ربّي} ضحكت كبيرة قومها وشرعتْ تشرب وتأكل البقلاوة ، مضى الوقت مسرعًا ومالت الشمس إلى المغيب والمرأتان تسردان قصص الزّقاق و الأجوار و الذّكريات ، انطلق الأذان من مسجد أبي لقاطة ، وفجأة دخل رجلٌ مسرعًا ، أسبغ الوضوء و فرش السجّادة وسط البيت ، وأقام الصّلاة وكبّر ، تعجّبتا وبقيتا مذهولتين أهذا عاشق الفتاة وشاربُ الخمر ؟
أفشى السّلام و أسرع إلى سعاد :{ أهلا بأختي ومرحبا متى أتيتي لقد اشتقت إليك وإلى الأولاد } ضمّها إلى صدره و همس في أذنها :{ أنا ولدتُ من جديد ، والأسبوع القادم سأذهبُ للاعتمار } سالت دموع سعاد ووضعت رأسها على كتف زكرياء فقال :{ الليلة تبات عندنا سأكلّم سي مصطفى وفي الصباح أوصلك إلى الدّار} ، سحب هاتفه الجوّال وانزوى يسلّم ويفسّر القصّة وهو يضحك ويقسم بأغلظ الأيمان ، وراحت زوجته تستقبلُ أبناءها العائدين من المدرسة وهي في فرحة لا توصف . ثمّ تحلّق الجميع حول مائدة العشاء ، أطباق الدّجاج المشوي و صحون المرق و الهريسة الخضراء ، شرعوا يأكلون وهم يضحكون و يلعبون ويتندّرون ، مضت ساعة ثمّ تسلّل زكرياء إلى غرفته وهو يردّد :{ أمّي سعاد في الثامنة صباح نمشيو ، ليلة سعيدة } ، راجع الأطفال دروسهم في غرفتهم الفسيحة الدافئة ، دخلت إليهم عواطف وتفقدتهم واطمأنّت ، عادت إلى الغرفة و ألقت بجسمها المتعب قرب سعاد وتمدّدت ، وتقاسمت الغطاء والفراش معها ، وبقيتا تسامران إلى حدّ منتصف اللّيل ، و تصغيان إلى صوت التّلفاز ، و تتحدّثان عن أمور الانتخابات وغلاء المعيشة ، و في الصّباح ملأت عواطف كيسا بلاستيكيا بقوارير عطر مختلفة ودسّتها في حقيبة سعاد ، والأخرى تتساءلُ : { شنوا هذا ؟ } فردّ عواطف:{ اسكتي ، شويا برفان ، قدّاش من مرّة تهديلي أنت الدبش و البرفان } ، قبّلتها في خدّها بحرارة و وعدتها بالعودة في العطلة المدرسية ، ثمّ لحقت أخاها إلى طرف الزّقاق .