الأخبار
الإمارات تواصل دعمها الإنساني للشعب الفلسطيني وتستقبل الدفعة الـ14 من الأطفال الجرحى ومرضى السرطانسرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفة
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

العجوز "ة" بقلم:عدنان جاركجي

تاريخ النشر : 2019-10-22
العجوز"ة"

هي قرية بعيدة متنائية الأحياء والمساكن.. لكنَّ أهلها متقاربون في نجدة بعضهم بعضاً.. ما يُصاب أهل بيتٍ إلا توزَّع حزنهم ودخل إلى جميع بيوت القرية.. فتنزل المصيبة وهي أثقل من أن يحملها أهلها.. فترجع أخف وأهون من أن تَثْقُل على عشرات البيوت.. كما تتمرد الصخرة بثقلها على ساعد أو ساعدين.. لكن إذا اجتمع عليها مئات السواعد فإنها تطيش وتلين.. ولا تلبث أن تخضع وترتفع من مكانها..
فإذا مات ميِّت أو افتقر أحدهم.. فكل خزائن وجيوب أهل القرية تُفتحُ للمحتاج العائل.. وكل الأبناء هم أولاد المصاب بولده..
ولا غرو..فكما أن المصائب تتشتت بين الأهالي لتكون مصائب مخففة.. فكذلك الأفراح تُجمع على جميع أهل القرية لتصبح أفراحاً مُضاعفة..
إن سكان هذه القرية ما زال كل فرد منهم يسير سيرته داخل مجتمعه.. ويجمع خيطاً صغيراً من خيوط الإحسان والبر.. حتى شكَّلوا حبلاً مجدولاً مشدوداً.. كفيل بأن يشنق أي رذيلة تدخل قريتهم..
وتصدوا للحياة ليس بكثير أسلحة من مال ومتاع.. ولكن بقليل من الإيثار والعفة..
لكن كما أن المعدن الثمين هو الذي يُفتتن بعرضه على النار ليتبين صفاؤه وخلوصه لذهبيته.. كذلك يُفتتن بعض الفضائل في نفوس أهلها ليتميز من يحمل صفة الإخلاص منها .. ومن يتسم بالمراءاة..
وكذلك ، فإن المعدن الرخيص لا يُؤبه له.. و أصحاب الأطماع والنفوس المنحطة لا يُنظر إلى مقدار القيم وتأثيرها في اجتماعيم ومعيشتم...
بخلاف القرية النائية وأهلها.. فإنهم عرضة للافتتان والتمحيص.. لما يملكونه من ثروات أخلاقية فيها من الإيثار والمحبة.. ما قد يُقال عنهم إنهم جوهرة إنسانية ثمينة...
لكن هل الشيطان تاركٌ هذه اللؤلؤة دون أن يعبث فيها..!!؟

إنها عاصفة الحرب مرَّت على معظم القرى من حولهم.. سوَّت أبنيتهم بالأرض.. وخلطت ببارودها دماء الناس بتراب أراضيهم..
لكن الجو في القرية النائية ما زال ساكناً وصافياً.. فليس ثمة ما يُوحي أنها ستُقصف..على الأقل هذا ما شعر به أبناؤها.. فكانوا يبيتون وروح الإطمئنان تحوط كل فرد منهم.. فيبيت رجل القرية ويُغمض عينيه على ثقة منه بأن جميع الأعين ساهرة لحمايته والذب عنه..
لكنهم أُنذروا وأُوعِيدوا أنه لابد وأنَّ عاصفة الحرب هذه ستُمطر في ديارهم..وأن إعصاراً من الصواريخ سيجتاح قريتهم .. ولن يذر ذات روح يدب على الأرض.. ولن يُبقي حجراً على حجر..
فاجتمع رؤوس القوم وتشارورا فيما بينهم وشدوا أفكارهم وآراءهم وعزموها نحو رأي واحد.. وهو المغادرة..
فتردد البعض من عامة أهل القرية حنيناً لأراضيهم وبيوتهم.. وخوف الذل والهوان.. إلا أنهم عادوا وخضعوا لرأي الجماعة..
بدت القرية وأهلها يستعدون لمغادرتها كأنهاخلية عمل ناشطة.. كل يعمل في خدمة الكل.. فالهدف والمصالح واحدة..

حركة وضجيج..سواعد تحمل وأخرى تضع.. وصيحات تعلو منادية... وأخرى تُلبي مساعدة..
وهكذا من يراهم يقول : بوركت الأيدي التي تحمل بقوة إرادتها.. وبوركت الأيدي التي تجود بمالها...
فجمعوا كل ما قدروا على جمعه ويستطيعون أن يحملوه معهم...
وهُيئت الوسائل التي ستنقلهم.. من شاحنات وغيرها.. وركب الجميع.. ومازالت تعمهم فوضى الصراخ والضجيج..
لكن وفي لحظة وجم الجميع وسكنوا كأن على رؤسهم الطير..
ونظروا جميعهم نحو جهة واحدة..
رابية صغيرة مرتفعة.. على مرأى من أبصارهم..
تجلس عليها عجوز متوركة.. تضع يديها في حجرها.. تميل برأسها يمنة ويسرة كأنها تنظر إلى اللاشيء.. أو تنظر إلى كل شيء..!!
إنها لا ترى .. عمياء البصر..
السواعد القوية التي كانت تحمل قبل قليل الأثقال والمتاع وتضعها في المراكب.. كأنها شُلت.. ولم تقوَ على النزول لتضم هذه العجوز المسكينة إلى الموكب المرتحل..
فما النفع منها..؟ قد هرم جسدها.. فلم يبقِ لها سوى جلد هزيل يحوط عظاماً بالية متهتكة.. وهي مع ذلك لا ترى ولا تسمع...
فالمكان الذي ستشغله في ترحالنا أولىبه شيء آخر..
أهكذا.. ما عادت هذه المرأة تساوى إلا شيء...
قال لي الراوي وهويُحدثني خبرها...
قال أبي يروي عن جده أن هذه العجوز كانت في صباها ، بنت الرابعة عشرة في الحرب الأولى.. وأنها لما بلغت العشرون سنة كان لها سبعة أبناء وبنتان.. إذ إنها كان تلد في بعض المرات توائم.. وفي الحادية والعشرين فُجعت بزوجها..فغدت بنت العشرون وواحد وحيدة في هذه الحياة إلا من أولادها.. إذا كنا ما زلنا في ذلك الزمن كل مشغول بإزالة تراب الحرب عن نفسه وعياله.. فلا سعة ولا مقدرة لأحد أن يُشرك مع طعام أهله بطوناً يتيمة..
أخذ الرواي نفساً عميقاً وأغمض عينيه ، كأنه يحاول أن يُوقظ في قلبه معاني لا أدري ما هي..
ثم أكمل حديث العجوز عن ابيه عن جده..

فقال : إن هذه العجوز بنت الحادية والعشرين ، نفضت غُبار الحرب عن أبنائها.. ولبست ثياب الكد والجد... ثم أغبرت نفسها في تراب الحياة.. فالصباح هو صباح تسعة أبطن تئن من فرط الجوع.. إذن فلتُحمِّل هي جسدها القوي مجهوداً يحتاج إلى تسعة رجال أشداء كي يقوموا به...
فتنهد الرواي وسكت...
قلت : وبعد..؟
قال : كذا فعل أبي وهو يروي عن جده.. قال أبي : يا بُني إني لمحت في عيني أبي دمعة متجمدة..أبت رجولته أن يُقال عنه أن فلان أبكته امرأة..!!
قلت : إن لجدك وهذه العجوز خبر..
فقال : بل قل إن لأهل قريتنا وهذه العجوز أخباراً...فإن جدي قال لأبي :بينما كنا نحن رجال القرية وأشدّاءها.. لا يكاد يستطيع الواحد منا أن يقوم على نفسه وعياله.. نظرنا فإذا فتاة صغيرة.. تتلفت في الحياة وحيدة.. تنظر يمنة ويُسرة.. فلا ترى إلا البؤس والفقر والحاجة..

يا بُني إننا من شدة ما كنا فيه...قد تمنينا كل في قرارة نفسه أن تنزل نازلة من السماء.. تُريح هذه المرأة وأطفالها.. وتُريحنا...
قلت : زدني من أخبار أبيك عن جدك..
قال : قال أبي ما زلت يا بُني في حيرة من أمري في شأن هذه البريق المتجمد في عيني أبي.. فما زلت به أسأله وأدور به حول حديث تلك المرأة العجوز.. حتى جاء اليوم الذي ضربت الصاعقة الغيوم المتلبدة في عينيه.. فإنطلق يجهش في بكائه... حتى روى لحيته وبعض ثوبه.. ثم قال جدي لأبي : يا بُني بينما كنا نتمنى الموت للمرأة وأطفالها لنخلص من عذاب ضمائرنا.. فنبرُّها هي وصبيتها بأن نحمل أجسادهم ونواريهم الثرى.. بينما كنا نحن كذلك...كانت هي تنظر إلينا.. لا لتستعطِفُنا.. بل تعُطفاً علينا.. فإنها فيما بعد قامت ببناء سبعة رجال وصبيتين.. ليس ذاك فحسب.. بل إن لهفتها على أهل قريتها والحرص على القيام في مصالحهم.. جعل رؤوس القوم وعامتهم يستصغرون أنفسهم إذا ما قورنوا بها.. فلئن كانت هذه الفتاة المعيلة.. تؤثر على نفسها وعلى عيالها في سبيل مصلحة الغير.. فما بالنا نحن نسير سيرة الطمع والحرص.. ومن يومها يا بُني انقلبت حال القرية من الحسد والتباغض والتباعد.. إلى البرِّ والتحابّ والتقارب.. فكانت هي الأرض التي أثمرت الثمار الناضجة النافعة التي تغذّى منها جيلنا وجيلك يا بُني.. والأجيال التي ستأتي من بعد..
قلت : إن كان من شأنها ماذكرت.. فما بال أهل القرية يزهدون فيها الآن ويتمنون موتها... ويضنون عليها بمكان في ترحالهم قد لا يُكلفهم إلا أن يطوي أحدهم قدمي ابنه..!؟ فأين جدك ليصرخ في وجوههم... وأين أبوك ليذُب عنها..!!؟
قال : أما جدي..فقد مات... وأبي لم يمت إلا منذ تسع سنين..
فقلت له : فأين أنت..!؟ ألا نزلت وجعلت خدك مداساً لقدمها.. وظهرك مكاناً لتجلس عليه.. إذا عزَّت المجالس في ذلك الترحال..!؟ لا أقول براً بها.. لكن براً لذكرى أبيك وجدك معها..
قال الراوي : كنت كأني مكبل الفكر والإرادة.. فإن القول شيء والعمل شيء آخر..
قلت : هل أنتم تاركوها لتواجه بجسدها الضعيف... عواصف ورعود هذا الإعصار...ألا أخذتموها معكم لتكونوا مظلة تستظل بكم في خريف حياتها..!!؟

قال : قام البعض منا بأخذها إلى دارها كي تستظل في فنائه من حر الشمس وبرد الليل..
قلت : نِعم الأفدة أفئدتكم.. إذ لولا أنتم لنُعيت معالم الإنسانية في العالم..!!
قلت : وماذا بعد..؟
قال : تركناها ونجونا بأنفسنا وأبنائنا..
قلت لنفسي وقد إستدمعت لها : ما نجا إلا هي... إن لم يكن من الموت.. فمن هذه الأكباد المتحجرة الغليظة...
قلت وبعد أن تركتموها ورحلتم..؟
قال : تغير كل شيء... كأن شيئاً ما ، بيننا إنقطع.. فلم تعد نظرات الرأفة والإيثار تأخذ محلها في الأبصار.. بل إلتفاتات المكر والحرص..والتربص لتحصيل المنافع ولو على حساب جميع أهل القرية..
قلت : الجزاء من جنس العمل.. أنتم تركتموها وكانت السبب في رُقي القرية ووصول أهلها إلى الغاية من القيم الإنسانية الرفعية التي كانت تتمثل بشخصها وأفعالها.. فهي هي المُثل العُليا قاطعتكم بعد أن قطعتم أنت السبب الذي كان يصِلكم بها..
قال الراوي صدقت...لكأننا كنا نعيش في حُلم.. استفقنا منه أثناء فرارنا من الحرب ، على واقع قد يُقال عنه إنه "غابي"..
قلت : وتلك العجوز..؟
قال : بعد أن سار بنا الركب مسافة قرية أو قريتين.. تنبه أحد أهل القرية أنه نسي في بيته ما لا بد وأن يأتي به.. فأرسل ولده إلى القرية وجاء بما أمره به أبوه.. إلا أنني لمحت في وجه الصبي ما يُشبه الدهشة من شيء رآه في القرية.. فتنحِّيت به جانباً ، وطلبت من أن يُسرَّ لي رؤيته التي رآها في القرية..قال : لما عُدت مسرعاً إلى بيتنا جئت بمطلب أبي..ثم خرجت أريد أن أدرككم.. فتلفت.. فإذا تلك العجوز التي أدخلتموها دارها.. عادت إلى تلك الصخرة..رافعة رأسها ويديها إلى السماء.. فاقتربت منها أريد أن أتنصت همسها..
قلت : ما أشك إلا أنها كانت تستنجد بالسماء من قلوبكم القاسية..
قال الراوي : أنا ظننت مثل ظنك.. لكن الفتى عندما اقترب منها سمعها تقول : يا ربي لا أدعوك لي.. بل أسألك أن تحفظ أهل القرية في حلِّهم وترحالهم.. وأن تسخِّر لهم الحجر والبشر..
وأكمل الفتى وقال : ثم إستدمعت العجوز وقالت : أسألك ربي أن تغفر لهم تركهم لي..
قال الرواي : عندما سمعت حديث الفتى ما تمالكت نفسي وعزمت على الرجوع إليها.. لكن القصف كان اشتد لدرجة أننا قلنا إن قريتنا قد هُدِّمت عن بَكْرَة أبيها..
قلت والعجوز ..؟
قال الرواي : بينما نحن نقطع المخاطر بين الجبال والوديان..كأنه أخذتني سِنة من النوم.. فسمعت هاتفاً من جهة السماء يقول : لا يقربن أحد من هذا الركب.. فإنهم محصَّنون ببركة دعاء تلك التي تخلفت عنهم على الصخرة...
قلت وبعد..؟
قال : بعد أن هدأت الحرب رجعنا إلى القرية فوجدنا أن الطرق قد قُطعت ما خلا جسراً حديدياً ممتداً فوق واد صغير.. فاقتحم أهل القرية هذا الجسر كل يُريد أن يكون أول من يجوزه..
قلت : الحرص والطمع وإيذاء الغير..

قال الرواي : هو ذاك.. ويشاء القدر أن ينخسف هذا الجسر وهم في وسطه..فيسقط الكثير منهم ليُلاقي مصيره الذي يستحق..
ودخلنا القرية فكانت بيوت الأقوياء الأشداء الذين اعتصموا بقوتهم ومالهم.. كانت بيوتهم قد سوِّيت بالأرض.. ونظر الجميع إلى نفس المكان الذي وجهوا إليه أبصارهم فرحين قبل رحيلهم.. ليجدوا أن بيت العجوز هو الوحيد الذي بقيَ قائماً لم يمسسه أي أذى أو ضرر..
قلت : والعجوز.. ما كان خبرها..!؟
فإستدمع الرواي..وقال : عندما كان أهل القرية يتقاتلون للعبور فوق الجسر..سمعت أنا هاتفاً من ناحية السماء يقول : الآن قد تُرِك هؤلاء لقوتهم ولحُسن تدبيرهم.. فلا دعاء يُحصنهم ويحميهم.. أخسفو بهم الجسر... قد ماتت العجوز..
عدنان جاركجي
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف