الأخبار
2024/5/17
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

700 عام من بغداد وحتى جنيف بقلم: عادل بن مليح الأنصاري

تاريخ النشر : 2019-09-13
700 عام من بغداد وحتى  جنيف بقلم: عادل بن مليح الأنصاري
700 عام من بغداد وحتى جنيف

لعادل بن مليح الأنصاري

بالأمس وقبل أكثر من 700 سنة تقريبا , ها نحن نقف أمام مكتبات بغداد حيث عصارة الفكر البشري وخلاصته تتناثر بين جنبات هذه المكتبات وبين صفحات ملاين المجلدات والمخطوطات , ولكن
لا أدري حقا هل قصص التاريخ العظيمة ذات زمن تحتوي على نوع من العزاء لهذا الهوان الكبير الذي أخذ بمفاصل حياتنا العلمية على المستوى الأممي ؟

يُحكى أن هارون الرشيد ومن العام 170هجرية , بنى دار للكتب أصبحت أعظم مكتبة عرفتها البشرية لمدة خمسة قرون , وفي عهد المأمون ازدهرت وبلغت أوج عظمتها , ملايين المجلدات كما لم تراه البشرية يوما تحت سقف واحد , وقد كانت مقسمة إلى حجرات متخصصة , فواحدة للفقه وأخرى للطب وثالثة للكيمياء ورابعة للسياسة وهكذا , وكان هناك مئات من النساخين والموظفين والمترجمين والباحثين وحتى المناولين (الذين يناولون الناس الكتب من الأماكن العالية) , وكانت هناك غرف خاصة للمطالعة، وغرف خاصة للمدارسة وحلقات النقاش والندوات العلمية، وغرف خاصة للترفيه والأكل والشرب، بل وكانت هناك غرف للإقامة لطلاب العلم الذين جاءوا من مسافات بعيدة , لقد كانت تحتوي على عصارة الفكر البشري حتى ذلك الوقت .
هل يتخيل العالم اليوم أن خليفة المسلمين وأعظم قادة العالم وقتها كان مهتما بالعلم لدرجة أنه يشترط على ملك الروم بعد انتصاره عليه أن يسمح للمترجمين المسلمين أن بقوموا بترجمة الكتب في مكتبة القسطنطينية للعربية ثم تودع في رفوف مكتبة بغداد !
وكان لخلفاء بني العباس موظفون يجوبون الأرض بحثا عن الكتب العلمية بأي لغة لتترجم للعربية !
لقد ترجمت في مكتبة بغداد الكتب المكتوبة باللغات اليونانية والسريانية والهندية والسنسكريتية والفارسية واللاتينية وغيرها .
وكلنا يعرف بقية القصة , حيث قام التتار برمي تلك الكنوز الثقافية في نهر دجلة حتى تحول لونه إلي الأسود بلون المداد الذي كُتبت به , حتى قيل أن الفارس التتري كان ينتقل من ضفة النهر إلى الأخرى فوق أكوام تلك المجلدات .
ولم تكن هذه الكارثة الوحيدة التي أصابت الثقافة العربية في تاريخها القديم , بل تكررت في الأندلس , فالصليبيون دمروا مكتبات قرطبة وغرناطة فأحرقوا مليون كتاب في ميدان عام , وكذلك مكتبات طليطلة وأشبيليه وبلنسية وسرقسطة , وكذلك الشام كمكتبة طرابلس , فأحرقوا ثلاثة ملايين كتاب , وفي مكتبات غزة والقدس وعسقلان .

يمكن إطلاق العنان لمخيلاتنا ,,, ماذا لو .

ماذا لو لم يُبتلى العالم الإسلامية في جسده الثقافي بتلك المحن والمصائب .
ماذا لو بقيت مكتبات بغداد والشام والأندلس كما هي عبر مئات السنين .
ماذا لو أبحر شباب العالم الإسلامي في تلك البحور الثقافية الهائلة منذ خمسة قرون وأكثر ؟

فلنترك تلك (اللو) التي لن تبرئ الجروح أو تمنح التعازي لمثل هذه الكارثة التي لا تُوصف , ولنتمعن في أثارها التي تفوق حد الفجيعة ذاتها , فأين نحن اليوم وأين هم ؟
أحفاد أولئك البرابرة الذين لم تقطر ضمائرهم رذاذ ندم على تلك المعارف التي دكتها سنابل خيولهم , ولا تلك السنوات والجهود التي بُذلت لجمع نفائس المعرفة تحت سقف واحد , أحفاد أولئك البرابرة شرقا وغربا أصبحوا يتنافسون في امتطاء هامات العلوم والمعارف ويجوبون الفضاء وعالم الإلكترون ويقودوا المستقبل , ونحن هنا نرمي بنظرات للماضي حسرة وللحاضر والمستقبل خوفا .
إن الفجوة التي تفرض نفسها بيننا وبينهم أكاد أجزم أنها لن تردم أبدا , صحيح أننا ربما نملك حق المراقبة والمتابعة والانتظار لما يجودون به علينا من اكتشافات وبعض رفاهية من تقدمهم الصناعي والعلمي , ولكن ليس لنا حق المبادرة والانطلاق , نحن في موقف المتلقي لكل شيء , نرقب جامعاتهم ومراكز أبحاثهم وعلمائهم وصناعاتهم كما كان يراقب ذلك التتري قاعات مكتبة بغداد .

هي صورة قد لا تخلو من بعض الواقعية , فما كان يملكه ذلك التتري وهو يقف مذهولا وعاجزا عما لا يدركه من خبايا مكتبة بغداد يكاد ينطبق على ما يشعر به العربي البسيط وهو يقرأ عن خلاصة ما توصل إليه الغرب من علوم الصناعة والفيزياء اليوم , ولنكن واقعيين وبعيدين عن تقديس الذات ونظرة عمرو بن كلثوم لرضيعه , وبشيء من الواقعية ماذا يدور في معاملنا العربية الجامعية وغيرها من مراكز الأبحاث يمكن أن يُحدث ثورة علمية عالمية ؟
وما هي الإمكانات المادية والبشرية التي رُصدت لتلك الأبحاث في ميزان الأمم اليوم ؟

أين نحن كعرب من منظومة الأبحاث الفيزيائية خاصة , تلك المنظومة العلمية التي ستغير وجه التاريخ بدءا من الطاقة وحتى السفر عبر الفضاء , ومن مراقبة الكون ونجومه إلى مراقبة الإلكترون والكوارك وما دونهما ؟

إنها نظرة عامة وسريعة على ما يُعرف بـ(مصادم الهدرونات الكبير) في جنيف وخفاياه تضعنا بوضوح على خارطة العلم الحديث .

واليوم وبعد ما يقارب أكثر من700 سنة من خراب مكتبات بغداد و تدمير عصارة الثقافة البشرية , نقف على أبواب (سيرن) «المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية» , حيث يذكر التاريخ أيضا أننا أمام عصارة ما توصلت إليه العقول البشرية من صناعات وأبحاث كونية في مجال الفيزياء والطاقة والمغناطيس وما دون الذرات , حيث (مصادم الهدرونات العظيم) , هذا المشروع الجبار ينبغي أن نتعرف على معالمه الأساسية حتى نعرف ملامح المستقبل الذي يُرسم وربما نحن بعيدون كل البعد عن التعرف على ملامحه المهيبة ,

باختصار لمن لم يتعرف على السيد (مصادم الهدرونات العظيم) فمن هو ؟

- قبل ولادة مصادم سيرن كان هناك المصادم الأمريكي الفائق ذي الموصلية الفائقة , ودون الدخول في تفاصيل كثيرة قضى الكونجرس الأمريكي على هذا المشروع بسبب تكلفته العالية , ولكن بداية قد يتبادر لذهن المتابع العادي أن جميع النتائج والأبحاث التي كان يمكن أن تتمخض من هذا المشروع الذي يصعب على الفرد العادي فهمه هي نتائج معروفة ومدروسة ومتوقعة , والحقيقة أن كل ما يُؤمل من نتائج ومخرجات هذا المشروع وحتى مشروع سيرن هي تجارب ضبابية بعضها متوقع وربما أكثرها غير متوقع ويخضع للمفاجآت العلمية التي يمكن أن تتفاعل عبر تلك التجارب , ورغم كونها توقعات مذهلة وربما أقرب للخيال العلمي إلا أن العلماء يدركون مواقع خطواتهم جيدا , وقد وضعوا احتمالات شتى لكل توقع يمكن أن يحدث .
ومن الطبيعي أن يعترض بعض العلماء ومناصري البيئة والمثقفين على تلك المشروعات التي يفهمون جيدا أنها تنطوي على فتح باب ( جهنم ) من خلال تلك التجارب الفيزيائية الكونية الهائلة والتي لا يدركون تماما نتائجها , وعلى سبيل المثال كان أكبر خطر وأقصى نتيجة حذروا منها إحداث ثقب أسود كنتيجة للتجارب داخل المصادم الكبير قد تبتلع منطقة المشروع وربما تمتد لسويسرا وفرنسا وربما الأرض ذاتها , وفعلا رُفعت دعاوي قضائية , ودخل الجميع في جدل ومداولات حول هذه القضية بين مرجح حدوثها وبين من يؤكد استحالة ذلك لدقة الدراسات ومراقبة النتائج بشكل لا يتطرق إليه الشك , ولكن وللحقيقة هذا المحذور لم يؤكد استحالته تماما إلا بعض علماء سيرن , بينما أقر بعض العلماء أن نتيجة كارثية كهذه ربما تقع لأن التجارب بحد ذاتها مازالت مجهولة العواقب من باب وقوع ما هو غير متوقع أو من باب الصدفة النادرة التي يمكن أن تقع .

هناك إشكاليات مذهلة ولا يمكن أن تخطر على بال الإنسان العادي حول هذه القضية , وحتى في فكرة المشروع والهدف منه ونتائجه المتوقعة قد لا تجد لها سبيل للخضوع لفهم الإنسان العادي , وهي تهم المتخصصين في تتبع عالم الفيزياء المذهل , ولكن حول هذه المائدة العجيبة هناك فُتات من المعرفة ربما يهم البعض , يكفي أن نشير لبعض الحقائق عن الإمكانات التي أُتيحت للسيد المصادم لنعرف أن الكبار يلعبون لعبة كونية خطرة , وهم فقط يدركون الهدف والنتيجة .

فلنراقب أوراق اللعبة الكونية المخيفة عن قرب :

- تكلفة المشروع خلال أعوام إنشائه وتوسعه تجاوزت مليارات الدولارات .

- يقع تحت بناء المشروع نفق بطول 27كلم يُمكن الجسيمات دون الذرية من التصادم بعد الانطلاق بسرعات تقارب سرعة الضوء , حيث تتجه فيض من البروتونات في دائرة المعجل في النفق , وفي الاتجاه المعاكس يقوم المعجل بتسريع فيض أخر من البروتونات كل في أنبوب موازي للأخر , وعند نقاط معينة تلتقي وتتصادم جميع محتوياتها الذرية المعروفة مثل ( إلكترونات ومضاد الإلكترون وبروتونات ونقائض البروتونات وكواركات وغيرها ) , والعجيب أن هذه العملية تمثل نظرية الانفجار العظيم التي نشأ بموجبها الكون , فهي تمثيل فيزيائي لما حدث منذ ملايين السنين , كما يمكن أن يقدم المصادم إجابات فيزيائية عن أشياء لا يمكن لنا كمتابعين عاديين من تصورها ولا تصور نتائجها مثل الجاذبية والطاقة المظلمة والمادة المظلمة واللتان تشكلان 80% من الكون , و يمكن أن يصاحبها من ظهور نتائج غير متوقعة والتي تخوف بعض العلماء من نشوء ( ثقب أسود ) لا يُعرف نتائجه .

- كان الأعضاء المشاركون عبر سيرن في هذا المشروع (20 ) دولة فقط , ثم امتدت لــ( 85 ) دولة , هذه فاتحة البدء , 85 دولة لرعاية هذا المشروع , فهل هناك عبث محتمل حول المشروع ؟

- عدد العلماء المشاركين في المشروع ( 10000 ) عالم أي ما يوازي نصف عدد فيزيائيي الجسيمات في العالم بأسره , ونصفهم يعمل بدوام كامل ويسكنون قرب المشروع !

- هناك المئات من الموظفين والمهندسين والإداريين والفيزيائين يعملون في هذا المشروع .

- من التعليقات التي تعكس ذهول بعض كبار المثقفين والعلماء والسينمائيين ورجال الفن حول هذا المشروع مثلا تشبيهه ( هو إنجاز بلغ الذروة – أنه إحدى عجائب الدنيا – تشبيهه بالأهرامات – أنه بلا شك أعظم إنجازات البشرية على الإطلاق ) .

لا يمكن إدراك التفاصيل المذهلة والمدهشة والخرافية لما يحدث في هذا المصادم من بحوث وأعمال ودقة في التنفيذ وحرص على تفاصيل متناهية الدقة إلا لمن يقرأ بتمعن عن هذا المشروع , وحتى فهم التفاصيل الهائلة للغرض من كل تلك التجارب هي خيالية بالنسبة للمراقب العادي , وكذلك نتائجها المتوقعة وغير المتوقعة شيء لا يمكن تصوره على وجه الحقيقة , ببساطة هناك فعلا عصارة الفكر البشري في عالم الفيزياء والذي يمكن أن يغير نظرتنا للعالم بشكل جذري , ومن الغريب أن من ضمن النتائج المتوقعة أن يقدم المشروع إجابات عن أسئلة كونية عميقة عن نشأت الكون , والكثير من الحقائق عن الزمان والمكان , والتأثير الكمومي لمكانيكا الكم والنسبية , والتأكد من وجود (بوزون هيجز) .

- ومن ( وجهة نظر شخصية ) إذا كانت مخاوف بعض العلماء من نشوء ثقب أسود داخل المصادم قد يؤدي حسب حجمه لنتائج ( ربما ) مجهولة , أو حتى نتائج لم تكن متوقعة أو في الحسبان , أو ربما نتيجة تجربة غير متوقعة تؤدي لتفاعلات لم تحسب , كل ذلك يقودنا لمبدأ هل تستحق تلك التجارب ما يمكن أن يحدث من كوارث ربما كونية غير متوقعة ؟

كذلك ربما لو تم عزل (جسيم هيغز) بطريقة غير متوقعة أو خاطئة , عن الكواركات التي تشكل أصل المادة داخل المصادم عندها ستفقد المادة كتلتها التي تكتسبها بتأثير مجال جسيم هيغز , فما الذي سيحدث للمادة عندها ؟

هنا أتصور أن كل شيء سيتحول لمجرد طاقة أو هباء كوني يعود بشكل عكسي لنظرية الانفجار العظيم .

الخلاصة

أننا ومنذ 700 سنة ونحن نقف على أطلال مكتبات بغداد وعلى مدرجات التاريخ , نراقب أحفاد البرابرة الذين دمروا بغداد والشام والأندلس ليرسموا معالم مجهولة عبر المصادم الكبير نحو الرقي البشري وفتح مجاهيل الكون أو ربما ليعيدوا الكون كما بدأ أول مرة .
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف