قراءة في المجموعة الشعرية "لابد من قوس لنهرها في نيابوليس"
للشاعرة التونسية أفراح الجبالي
بقلم الهادي عرجون
بثوبها الأزرق الذي يغلب عليه الاعتدال و الصفاء و الاستقرار، كما يعكس الانعتاق والتحرر و الإحساس والعبقرية ويفتح الأفق للخيال، تطل علينا الشاعرة التونسية أفراح الجبالي بمجموعتها الشعرية التي اختارت لها من العناوين " لابد من قوس لنهرها في نيابوليس "صادرة عن دار آفاق- برسبكتيف للنشر بتونس، ضمت بين صفحاتها الـ 168 مجموعة من قصائد النثر كتبت بحرفية شاعرة و بريشة رسامة ترسم خطوط الفرح و الكآبة و الإنعزال، تستعمل لون الروح و صفاء القلب و هي تخيط من الكلمات و من دقات قلبها نصوصا تزدحم فيها المشاعر بالإيقاع و الوجع بالألم و الطبيعة بالجمال، لترسم على مقاعد الأكاجو بريشة الآنسة الزرقاء زهرة المارغريت وعلى شفة الذئب الأزرق تعوي الريح بأصوات الغياب و هي تلبس فستانها القطني الأزغب ليلة السقوط من كل الحكايا الخارقة ليولد الشعر و نكتشف رسم الكلمات و تطابق اللوحة مع إيقاع الشعر ليصير المستحيل ممكنا و الصورة ظل اللغة و مزارا للتجريب في لغة الشعر.
لننطلق من عتبة العنوان " لابد من نهر لقوسها في نيابوليس" فالعنوان لا ينطق عن الهوى بل يأتي لإثبات شيء واقع في نفسية الشاعرة التي تريد أن تصنع قوسا لنهر مدينة نيابوليس (نابل ) ليحميها من خطر الفيضانات التي اجتاحتها و أغرقتها:
" عندما تسقطين باكية
مذهولة من الفيضان المرتفع لكذبه المتكوم قرب الأشياء
المختفية
التي تركها وراءه ( أتركها؟؟)
في الغرفة المبعثرة ..."(ص68)
كما تبحث عنه في لوحة ترسم فيها فراغا شاسعا برائحة المطر لتتحول إلى زهرة و لكن ماذا عسى لزهرة أن تقول؟ نعم يمكن لهذه الزهرة أن تأخذ قوسا لنهرها الرقراق شعرا سلسبيلا لذة للقارئين و السامعين لتحلم - رغم أنها تقول:(لا لوح لي. لا نوح عندي)- بسفينتها التي أخذت فيها من كل زوجين اثنين:
" ... السفينة مزدحمة
و القصر ضيق
الـ"أسنصير" ليس على مقاس جنوني
و ضفدعة الحكاية التي وعدتني.تخذلني.و تتركني
مذهولة أمامك كراهبة
و أدخل فيك هاربة
و من زوج من الزراف. و زوج من البط. و زوج الفيلة و القردة و الدود و من.
أدخل فيك هاربة
و أرى المياه تحيط. و أفكر أنه المحيط. و أنا المبلولة الملعونة..."(ص128).
لنكتشف معها أن القصيدة ليست مجرد إحساس نبحث عنه في ثنايا الكلمات فحسب بل هي إحساس متجسد في روح الشاعرة و كلماتها و أنفاسها لينفرد النص بلغات متعددة تنسج خطوطها لتفتح أبواب الفنون بمختلف مشاربها ليفيض الشعر رسما و يفيض الرسم شعرا، يسبح في روح قلقة تفتح قلبها و ترفعه ليسقط التوت، نعم ليسقط توت الشعر بين كفيها ولا يسقط الحب، حب نيابوليس.
تقول أفراح عن كتابها إنه دعوة لمحاولة التكلم مع العالم تصويرا و تخيلا... و محاولة للولوج إلى أنفسنا و العودة من هناك بسعادتها الخاصة في فرادتها ... سعادتنا الأكثر إقترابا و حميمية ...شعرا شعرا. كأنها تخاطب " فرجيل " و هو محاط بآلهة الإلهام:
" ... جرفك البحري
تمثالك المتوسطي.
ظهيرتك ذات صيف بماء أزاهيرك الناجية.
أخذنا فرجيل
ثم
لم نتعلم الشعر غير أنا
لم نتعلم الشعر غير أن المرجان الصغير الغارق هذا: غامق"(ص98).
و هنا لسائل أن يسأل لا أدري هل جذبتها الكلمة من اللوحة و عشقت القلم على حساب الريشة؟ و لكن يبقى الحنين للرسم هو الغاية و المقصد، و مع هذا فكلاهما مكمل للآخر و آخذا بناصية الآخر فهي حين ترسم تسقط الكلمات بين يديها و عندما تكتب يسير لعاب الألوان من ريشتها.
" آخذ الأيام أعجنها
أصنع منها لوحة فيها زهرة زعرور، و أسألها
هل تفهمين أحلامي؟
أحيانا تقول أنها تفهم
و أحيانا تسكت ...لا يهم
أرسم فراغا شاسعا برائحة المطر
يظل يتسع يتسع
أمشي فيه و أغني"(ص41).
لنكتشف معها وعي الصورة و التصور، وعي الرسم بالكلمة لينتج الوعي بالجمالية الشعرية التي ترمي تحقيقها و التحليق بها، و هو ما يجعل شعرها مستمد من تراجيديا إغريقية قديمة كما تستند إلى فلسفة في الكتابة التراجيدية لتعبر عن مآسي المجتمع ليكون مادة الشعر في النهاية ذاتي و إنساني.
" الثوب الأزرق الذي لم تهدني إياه
كويته البارحة بآلة ساخنة
ثم علقته بجانب الحلم المعلق
في الخزانة و خرجت
مازلت تحت الخروبة ذاتها
ألعب بقلوب المشمش و الطين
معي عائشة و حليمة و امرأة أخرى بلا اسم
لا أعرفها
قلبي (ذاك) قلبي الراكض عكس اتجاه البحر
سأسويه سماء..."(ص11).
كما يتجلى مثلا في قصائدها، مثل قصيدة (اللحم البارد - عندما يموت الأب – الذئب الأزرق- كنت أدرك أن موتي مستحيل ...) و غيرها من النصوص، و هو نفس تراجيدي استعمل كثيرا في الشعر الحديث وسيلة لبلوغ المعاني الحديثة و المستحدثة و قد ظهر هذا النوع من القصائد مع بدر شاكر السياب في عدة قصائد مثل قصيدة " المسيح بعد الصلب " و من رؤيا فوكاي" و غيرها ... تقول في مطلع قصيدة " إيكو" و التي يختلط فيها التاريخي بالواقع لتشير للفيضانات التي عمت مدينة نابل (نيابوليس). (ص116):
" أجمع أطرافك إيكو. شعرك. عينيك. ظلمتك أثينا
حزنك أكبر من الحب. و النرجس قسا
ينزل المطر على نيابوليس الليلة كالليل.
و أنا في أسفل السفينة
أجمع أطرافك إيكو. شعرا. و عينين.
و أسمع خلف الستارة المرخاة
ضجة صامتة تهذي.
كتلك التي نسمعها في أيامنا المتوحدة تحت قشرة بيضة"
و في الختام يمكن القول أن كل كلمة عند الشاعرة أفراح الجبالي أشبه بخط من خطوط الريشة تستعمله لرسم الملامح و تحديد السمات ليبرز ذلك الرسم كائنا شعريا حيا. هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم الكلمات نحتت صورا أشبه بعملية ولادة منحوتة رسمت ملامها و جعلت لها بصيرة و لسانا فصيحا يعبر عن ذاته و هو ما يجعل الشعر سابقا لمختلف الفنون على رأي أدونيس " الفعالية الشعرية متجهة إلى المستقبل لا الماضي، أي أن الشعر لا ينحصر في ما هو كائن بل يتجاوزه إلى ما يكون ".
لنوغل معها في ماء القصيدة و حبرها و ألوانها و ظلالها، نعم هو إيغال في بحر الكتابة و ضياء اللوحة التي تصارع الألوان و الألفاظ و تبحر في ذاكرة الشاعرة جملة الحالات الوجودية التي تكابدها من وجع و حزن و قلق لتفضح الواقع لا لتهرب منه، فيغدو حزنها لحنا و فرحها إيقاعا و رسمها آهات تعكس ألوان الفرح المصاحب لإيقاع النص لتصطدم بظل اللوحة و نورها تارة و دفء الكلمات و رقة المعنى تارة أخرى، لنكتشف معها روح شاعرة و رسامة أبحرت في فنين مختلفين و لكنها كانت ربانا ماهرا لكل من الشعر و الرسم.
للشاعرة التونسية أفراح الجبالي
بقلم الهادي عرجون
بثوبها الأزرق الذي يغلب عليه الاعتدال و الصفاء و الاستقرار، كما يعكس الانعتاق والتحرر و الإحساس والعبقرية ويفتح الأفق للخيال، تطل علينا الشاعرة التونسية أفراح الجبالي بمجموعتها الشعرية التي اختارت لها من العناوين " لابد من قوس لنهرها في نيابوليس "صادرة عن دار آفاق- برسبكتيف للنشر بتونس، ضمت بين صفحاتها الـ 168 مجموعة من قصائد النثر كتبت بحرفية شاعرة و بريشة رسامة ترسم خطوط الفرح و الكآبة و الإنعزال، تستعمل لون الروح و صفاء القلب و هي تخيط من الكلمات و من دقات قلبها نصوصا تزدحم فيها المشاعر بالإيقاع و الوجع بالألم و الطبيعة بالجمال، لترسم على مقاعد الأكاجو بريشة الآنسة الزرقاء زهرة المارغريت وعلى شفة الذئب الأزرق تعوي الريح بأصوات الغياب و هي تلبس فستانها القطني الأزغب ليلة السقوط من كل الحكايا الخارقة ليولد الشعر و نكتشف رسم الكلمات و تطابق اللوحة مع إيقاع الشعر ليصير المستحيل ممكنا و الصورة ظل اللغة و مزارا للتجريب في لغة الشعر.
لننطلق من عتبة العنوان " لابد من نهر لقوسها في نيابوليس" فالعنوان لا ينطق عن الهوى بل يأتي لإثبات شيء واقع في نفسية الشاعرة التي تريد أن تصنع قوسا لنهر مدينة نيابوليس (نابل ) ليحميها من خطر الفيضانات التي اجتاحتها و أغرقتها:
" عندما تسقطين باكية
مذهولة من الفيضان المرتفع لكذبه المتكوم قرب الأشياء
المختفية
التي تركها وراءه ( أتركها؟؟)
في الغرفة المبعثرة ..."(ص68)
كما تبحث عنه في لوحة ترسم فيها فراغا شاسعا برائحة المطر لتتحول إلى زهرة و لكن ماذا عسى لزهرة أن تقول؟ نعم يمكن لهذه الزهرة أن تأخذ قوسا لنهرها الرقراق شعرا سلسبيلا لذة للقارئين و السامعين لتحلم - رغم أنها تقول:(لا لوح لي. لا نوح عندي)- بسفينتها التي أخذت فيها من كل زوجين اثنين:
" ... السفينة مزدحمة
و القصر ضيق
الـ"أسنصير" ليس على مقاس جنوني
و ضفدعة الحكاية التي وعدتني.تخذلني.و تتركني
مذهولة أمامك كراهبة
و أدخل فيك هاربة
و من زوج من الزراف. و زوج من البط. و زوج الفيلة و القردة و الدود و من.
أدخل فيك هاربة
و أرى المياه تحيط. و أفكر أنه المحيط. و أنا المبلولة الملعونة..."(ص128).
لنكتشف معها أن القصيدة ليست مجرد إحساس نبحث عنه في ثنايا الكلمات فحسب بل هي إحساس متجسد في روح الشاعرة و كلماتها و أنفاسها لينفرد النص بلغات متعددة تنسج خطوطها لتفتح أبواب الفنون بمختلف مشاربها ليفيض الشعر رسما و يفيض الرسم شعرا، يسبح في روح قلقة تفتح قلبها و ترفعه ليسقط التوت، نعم ليسقط توت الشعر بين كفيها ولا يسقط الحب، حب نيابوليس.
تقول أفراح عن كتابها إنه دعوة لمحاولة التكلم مع العالم تصويرا و تخيلا... و محاولة للولوج إلى أنفسنا و العودة من هناك بسعادتها الخاصة في فرادتها ... سعادتنا الأكثر إقترابا و حميمية ...شعرا شعرا. كأنها تخاطب " فرجيل " و هو محاط بآلهة الإلهام:
" ... جرفك البحري
تمثالك المتوسطي.
ظهيرتك ذات صيف بماء أزاهيرك الناجية.
أخذنا فرجيل
ثم
لم نتعلم الشعر غير أنا
لم نتعلم الشعر غير أن المرجان الصغير الغارق هذا: غامق"(ص98).
و هنا لسائل أن يسأل لا أدري هل جذبتها الكلمة من اللوحة و عشقت القلم على حساب الريشة؟ و لكن يبقى الحنين للرسم هو الغاية و المقصد، و مع هذا فكلاهما مكمل للآخر و آخذا بناصية الآخر فهي حين ترسم تسقط الكلمات بين يديها و عندما تكتب يسير لعاب الألوان من ريشتها.
" آخذ الأيام أعجنها
أصنع منها لوحة فيها زهرة زعرور، و أسألها
هل تفهمين أحلامي؟
أحيانا تقول أنها تفهم
و أحيانا تسكت ...لا يهم
أرسم فراغا شاسعا برائحة المطر
يظل يتسع يتسع
أمشي فيه و أغني"(ص41).
لنكتشف معها وعي الصورة و التصور، وعي الرسم بالكلمة لينتج الوعي بالجمالية الشعرية التي ترمي تحقيقها و التحليق بها، و هو ما يجعل شعرها مستمد من تراجيديا إغريقية قديمة كما تستند إلى فلسفة في الكتابة التراجيدية لتعبر عن مآسي المجتمع ليكون مادة الشعر في النهاية ذاتي و إنساني.
" الثوب الأزرق الذي لم تهدني إياه
كويته البارحة بآلة ساخنة
ثم علقته بجانب الحلم المعلق
في الخزانة و خرجت
مازلت تحت الخروبة ذاتها
ألعب بقلوب المشمش و الطين
معي عائشة و حليمة و امرأة أخرى بلا اسم
لا أعرفها
قلبي (ذاك) قلبي الراكض عكس اتجاه البحر
سأسويه سماء..."(ص11).
كما يتجلى مثلا في قصائدها، مثل قصيدة (اللحم البارد - عندما يموت الأب – الذئب الأزرق- كنت أدرك أن موتي مستحيل ...) و غيرها من النصوص، و هو نفس تراجيدي استعمل كثيرا في الشعر الحديث وسيلة لبلوغ المعاني الحديثة و المستحدثة و قد ظهر هذا النوع من القصائد مع بدر شاكر السياب في عدة قصائد مثل قصيدة " المسيح بعد الصلب " و من رؤيا فوكاي" و غيرها ... تقول في مطلع قصيدة " إيكو" و التي يختلط فيها التاريخي بالواقع لتشير للفيضانات التي عمت مدينة نابل (نيابوليس). (ص116):
" أجمع أطرافك إيكو. شعرك. عينيك. ظلمتك أثينا
حزنك أكبر من الحب. و النرجس قسا
ينزل المطر على نيابوليس الليلة كالليل.
و أنا في أسفل السفينة
أجمع أطرافك إيكو. شعرا. و عينين.
و أسمع خلف الستارة المرخاة
ضجة صامتة تهذي.
كتلك التي نسمعها في أيامنا المتوحدة تحت قشرة بيضة"
و في الختام يمكن القول أن كل كلمة عند الشاعرة أفراح الجبالي أشبه بخط من خطوط الريشة تستعمله لرسم الملامح و تحديد السمات ليبرز ذلك الرسم كائنا شعريا حيا. هذه اللمسات العجيبة من الريشة المبدعة في رسم الكلمات نحتت صورا أشبه بعملية ولادة منحوتة رسمت ملامها و جعلت لها بصيرة و لسانا فصيحا يعبر عن ذاته و هو ما يجعل الشعر سابقا لمختلف الفنون على رأي أدونيس " الفعالية الشعرية متجهة إلى المستقبل لا الماضي، أي أن الشعر لا ينحصر في ما هو كائن بل يتجاوزه إلى ما يكون ".
لنوغل معها في ماء القصيدة و حبرها و ألوانها و ظلالها، نعم هو إيغال في بحر الكتابة و ضياء اللوحة التي تصارع الألوان و الألفاظ و تبحر في ذاكرة الشاعرة جملة الحالات الوجودية التي تكابدها من وجع و حزن و قلق لتفضح الواقع لا لتهرب منه، فيغدو حزنها لحنا و فرحها إيقاعا و رسمها آهات تعكس ألوان الفرح المصاحب لإيقاع النص لتصطدم بظل اللوحة و نورها تارة و دفء الكلمات و رقة المعنى تارة أخرى، لنكتشف معها روح شاعرة و رسامة أبحرت في فنين مختلفين و لكنها كانت ربانا ماهرا لكل من الشعر و الرسم.