من التصفح العشوائي للصحف الالكترونية، علمت اليوم أن الكاتبة اعتدال رافع توفيت منذ بضعة أيام في دمشق عن 81 عاماً. كنت قد نسيت هذا الاسم، رغم العلاقة القديمة والجميلة التي ربطتني به لأكثر من سنتين، حين كنت أهدر عمري في غرفة مخصصة لهدر العمر يسمونها "الجماعية التحتانية"، في مبنى متعدد الحقب والطوابق في دمشق، يسمونه "كركون الشيخ حسن" في باب مصلى.
لا أعرف اعتدال رافع، لم أقابلها يوماً ولا أعرف علم اليقين هل هي لبنانية أم سورية، واليوم فقط عرفت، ولم أستسغ، أنها كانت زوجة أنور البابا (أم كامل). كل ما أعرفه عن شخصها، هو صورتها المربعة الصغيرة والمغبشة التي ترافق زاوية "حديث الصباح" على الصفحة الأخيرة من جريدة البعث، حين كانت هذه الجريدة نافذتنا الوحيدة على العالم الذي كان يصر على التواري خلف جدران الكركون العالية.
عندما كان يحين دوري في قراءة الجريدة في "الجماعية التحتانية"، كنت أقرأها وفق تسلسلها، أما يوم الأربعاء، فكنت أبدأ من "حديث الصباح"، لأنه كان يوم "اعتدال رافع" أو حديثها. في تلك الدقائق القليلة، كنت أنسى ما يحيط بي، أنسى ضجيج المهجع وروائحه وضيق المكان وجيرة مقبرة الباب الصغير، وصوت أبي فراس وهو يكرر تنبيه القارئ التالي بأن يستعد لاستلام الجريدة بعد نصف ساعة، وكنت أنسى أن بين يدي جريدة بليدة "مسحوبة الحقيقة"، ومعلولة بالتمجيد والضحالة. حديث اعتدال كان بالنسبة لي نافذة حقيقية في النافذة، يمكن أن أشعر من خلالها بنسمة طازجة تشبه نسمة الصباح. في تلك النافذة الحقيقية كان يبدو لي أن لكل كلمة قيمة ومكان وأثر، كانت تبدو الكلمة في "حديث اعتدال" مدللة ومحترمة ومعتنى بها إلى المستوى الذي يجعلها تفوح بمعناها وتغري بشكلها المكتوب. كان "حديث اعتدال" في نظري مرج أقحوان أخضر وسط يباس واسع، أو "سوسنة بين الشوك". كان حديث اعتدال شيئاً أنتظره في زمن "الجماعية التحتانية" الرتيب اللانهائي. ولهذا انزرع اسمها في قلبي مثل غرسة لطيفة.
عندما قرأت الخبر، استيقظت في روحي زهرة نائمة وماتت. قبل أيام قليلة إذن كان يمكن أن أقول لاعتدال رافع ما أحمله لها في قلبي. ولكنني لم أفعل، كعادتي، كما لو أنني ضحية منذورة للندم. لم أفعل لأنني نسيت، ولا أظن أنني كنت سأفعل لو تذكرت. كنت سأجد سبباً ما للتأجيل، كنت سأستثقل نفسي، سأقنع نفسي أن هذه "ولدنة" لا تليق، كنت سأتذرع بصعوبة العثور على عنوان أو على وسيلة توصل رسالتي إليها، كنت سأقول لقد فات وقت ولم يعد من قيمة لنقل مشاعر قديمة ..الخ، وإلا كيف سيعتاش الندم؟ على الأرجح، كنت سأكتفي، لو تذكرتها، بمتعة التذكر والخروج بعد ذلك إلى سطح الزمن، كما يداعب العامل رأس طفل هنيهة ثم يمضي إلى مشاغله.
أغدق علي الندم من مرارته (الندم بعد الفوت أمر من الموت)، حين قرأت مقابلة مع "الجدة الطفلة" اعتدال، كما قال عنها محمد الماغوط، مضيفاً، "غير أن الآخرين لا يوقرونها كجدة ولا يدللونها كطفلة". أجريت المقابلة قبل عام تقريباً من وفاتها، تتكلم فيها عن مرضها وحياتها في دار المسنين وعجزها عن السير وحيدة بسبب اضطراب التوازن، وتقول "أنا لا أجيد كلام السياسة"، حين تُسأل: "كيف ترين المشهد السوري اليوم؟"، لكي توصد الباب في وجه الابتزاز وقنص المواقف في لحظات الضعف. أعادتني كلماتها إلى "حديث الصباح"، إلى ذلك الجمال المقيم في بساطة العبارة.
يصبح الندم أكثر مرارة حين تدرك أنه لو كانت اعتدال أكثر صخباً وافتعالاً وميلاً إلى البهرجة ولفت النظر، لكنت ربما صادفت ما يذكر بها في هذه السنوات، ولكنها لم تكن. كانت مثل أقحوانة المروج، في اغتنائها بذاتها عن مديح مجلوب. وها هي تطفئ آخر شموع روحها في دار للمسنين، كما يليق بمن يعطي لكي يعطي لا لكي يأخذ.
لا أعرف اعتدال رافع، لم أقابلها يوماً ولا أعرف علم اليقين هل هي لبنانية أم سورية، واليوم فقط عرفت، ولم أستسغ، أنها كانت زوجة أنور البابا (أم كامل). كل ما أعرفه عن شخصها، هو صورتها المربعة الصغيرة والمغبشة التي ترافق زاوية "حديث الصباح" على الصفحة الأخيرة من جريدة البعث، حين كانت هذه الجريدة نافذتنا الوحيدة على العالم الذي كان يصر على التواري خلف جدران الكركون العالية.
عندما كان يحين دوري في قراءة الجريدة في "الجماعية التحتانية"، كنت أقرأها وفق تسلسلها، أما يوم الأربعاء، فكنت أبدأ من "حديث الصباح"، لأنه كان يوم "اعتدال رافع" أو حديثها. في تلك الدقائق القليلة، كنت أنسى ما يحيط بي، أنسى ضجيج المهجع وروائحه وضيق المكان وجيرة مقبرة الباب الصغير، وصوت أبي فراس وهو يكرر تنبيه القارئ التالي بأن يستعد لاستلام الجريدة بعد نصف ساعة، وكنت أنسى أن بين يدي جريدة بليدة "مسحوبة الحقيقة"، ومعلولة بالتمجيد والضحالة. حديث اعتدال كان بالنسبة لي نافذة حقيقية في النافذة، يمكن أن أشعر من خلالها بنسمة طازجة تشبه نسمة الصباح. في تلك النافذة الحقيقية كان يبدو لي أن لكل كلمة قيمة ومكان وأثر، كانت تبدو الكلمة في "حديث اعتدال" مدللة ومحترمة ومعتنى بها إلى المستوى الذي يجعلها تفوح بمعناها وتغري بشكلها المكتوب. كان "حديث اعتدال" في نظري مرج أقحوان أخضر وسط يباس واسع، أو "سوسنة بين الشوك". كان حديث اعتدال شيئاً أنتظره في زمن "الجماعية التحتانية" الرتيب اللانهائي. ولهذا انزرع اسمها في قلبي مثل غرسة لطيفة.
عندما قرأت الخبر، استيقظت في روحي زهرة نائمة وماتت. قبل أيام قليلة إذن كان يمكن أن أقول لاعتدال رافع ما أحمله لها في قلبي. ولكنني لم أفعل، كعادتي، كما لو أنني ضحية منذورة للندم. لم أفعل لأنني نسيت، ولا أظن أنني كنت سأفعل لو تذكرت. كنت سأجد سبباً ما للتأجيل، كنت سأستثقل نفسي، سأقنع نفسي أن هذه "ولدنة" لا تليق، كنت سأتذرع بصعوبة العثور على عنوان أو على وسيلة توصل رسالتي إليها، كنت سأقول لقد فات وقت ولم يعد من قيمة لنقل مشاعر قديمة ..الخ، وإلا كيف سيعتاش الندم؟ على الأرجح، كنت سأكتفي، لو تذكرتها، بمتعة التذكر والخروج بعد ذلك إلى سطح الزمن، كما يداعب العامل رأس طفل هنيهة ثم يمضي إلى مشاغله.
أغدق علي الندم من مرارته (الندم بعد الفوت أمر من الموت)، حين قرأت مقابلة مع "الجدة الطفلة" اعتدال، كما قال عنها محمد الماغوط، مضيفاً، "غير أن الآخرين لا يوقرونها كجدة ولا يدللونها كطفلة". أجريت المقابلة قبل عام تقريباً من وفاتها، تتكلم فيها عن مرضها وحياتها في دار المسنين وعجزها عن السير وحيدة بسبب اضطراب التوازن، وتقول "أنا لا أجيد كلام السياسة"، حين تُسأل: "كيف ترين المشهد السوري اليوم؟"، لكي توصد الباب في وجه الابتزاز وقنص المواقف في لحظات الضعف. أعادتني كلماتها إلى "حديث الصباح"، إلى ذلك الجمال المقيم في بساطة العبارة.
يصبح الندم أكثر مرارة حين تدرك أنه لو كانت اعتدال أكثر صخباً وافتعالاً وميلاً إلى البهرجة ولفت النظر، لكنت ربما صادفت ما يذكر بها في هذه السنوات، ولكنها لم تكن. كانت مثل أقحوانة المروج، في اغتنائها بذاتها عن مديح مجلوب. وها هي تطفئ آخر شموع روحها في دار للمسنين، كما يليق بمن يعطي لكي يعطي لا لكي يأخذ.