الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/25
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

تأسفنا عليك يا كسلان بقلم:جهاد الدين رمضان

تاريخ النشر : 2019-08-30
تأسفنا عليك يا كسلان بقلم:جهاد الدين رمضان
تأسفنا عليك يا كسلان *

    في مدرستي الابتدائية كان الإلتزام بتعليمات و أوامر معلم الصف و المدير غايتنا، و عدمه مصدر خوفنا و رعبنا ، فإذا قال المعلم قصوا أظافركم فعلنا بدافع الخوف، و إذا قال اكتبوا الوظيفة مئة مرة فعلنا ذلك و لو كلفنا السهر للصبح، حتى أننا ابتدعنا لعبة اسمها (قال المعلم) نلتزم فيها بما يقوله صاحب الدور (ملك اللعبة) إذا لفظ جملة قال المعلم قبل طلبه، فننفذه مهما كان صعباً و عسيرا، و إذا لم يقلها (جملة قال المعلم) و فعلنا ما قاله نسقط في الفخ.

   ذات مرة قال لنا المدير قبل انصرافنا من المدرسة مساء يوم الخميس :

-         احلقوا غداً شعر الرأس على "الزيرو" و قصوا أظافركم ، و لتكن ثياب المدرسة (الصدرية) نظيفة كأجسادكم يا أبنائي و إلا فالويل للمتخاذلين.

و بكل طواعية و رهبة من العقاب فعلت ذلك، ثم اكتشفت بأن الحلاقة على الزيرو تعني أن أكون أقرع الرأس ، و محل سخرية رفاقي و أولاد الحارة.

   و أذكر من أصناف العقوبات غير الفلق و الضرب بالعصا على اليدين و الإليتين ، عقوبة معنوية مؤلمة أكثر من الضرب، و لها وقع أليم في أعماق النفس، ألا و هي إخراج التلميذ المعاقب من مقعده في الصف بأمر المعلم، و وقوفه أمام السبورة و ظهره لها و وجهه لنا بقرب سلة المهملات ، ثم يأمرنا المعلم بأن نتأسف عليه كلنا، و ها هنا نبدأ النشيد العقوبة الأليمة بصوت واحد مرتفع :

تأسفنا عليك يا كسلان

زي الزفت و الإحسان

تفو عليك يا كسلان

و نبصق في وجه زميلنا التلميذ المعاقب مع قول (تفو) و نكررها مرتين أو ثلاث حتى يبكي المسكين و يشفق عليه المعلم فيأمرنا بالتوقف.

................................................................................. 

.. بالنسبة لي لم أختبر هذا الألم النفسي - و لله الحمد - رغم كسلي في الصف الأول والثاني، لكن عرفت مدى ايلامه فيما بعد، و بعد انتهاء دراستي المدرسية كتلميذ، حين صرت معلماً وكيلاً من خارج ملاك مديرية التربية والتعليم، في ريف محافظة حلب الشمالي الغربي قرب حدود تركيا، كان ذلك في بداية العام الدراسي ١٩٨٢ – ١٩٨٣ تحديداً، حيث تم تعييني كمعلم ابتدائي شبه وحيد في قرية "هيكجة" البعيدة عن العمران شحيحة وسائل المواصلات، مما أجبرني على المكوث في المدرسة الوحيدة كمعلم مقيم، آكل من وجبات طعام أهالي التلاميذ حسب الدور، و أنام في غرفة المدير على فراش وثير مستعار من أحد بيوت القرية، و استعيض عن نور الكهرباء بنور "لمبة الكاز" و أحياناً استعير "لوكس" من أحد الكرماء، و أحتفظ بقليل من الماء في بعض الدلاء، و جعلت الخلاء في الحقل المجاور لبناء المدرسة هو الحلّ لقضاء الحاجة.

   كان الماء أيضاً غير متوفر بكثرة (يزودني به بعض التلاميذ) في المدرسة، و اكتشفت بعد شهرين من الغفلة بأن أحد أهالي القرية يعمل موظفاً عندي لتأمين مياه الشرب دون علمي ، إذ راجعني ذلك الموظف المتخاذل عن أداء واجبه لكي أرفع اسمه لمديرية التربية والتعليم ليحصل على الراتب المعتاد، فطلبت منه القيام بواجبه (المعتاد) لننعم بمياه الشرب و يحظى براتبه المعتاد و أكفّ عن عادة طلب المياه من التلاميذ، و من وقتها توفر لنا في المدرسة برميلان اثنان لمياه الشرب.

   و لأن زميلي المعلم الثاني المفروض أن يقاسمني الصفوف كان متغيباً معظم الوقت، كنت مرغماً على تعليم الصفوف الستة بأكملها في غرفة واحدة و بذات الوقت، من الصف الأول للسادس، و حين يأتي الزميل الغائب نتقاسم الصفوف جوز أو فرد (الصفوف المزدوجة أو المفردة)، و هذا ما يسبب بلبلة و فوضى و شغب في الدرس، و يجعل المعلم مقصراً في إكمال المنهاج، لكن مديرية التربية لا تبالي و لا تهتم، و أغلب الأيام تبقى مهمة تعليم كامل الصفوف الستة معلقة برقبتي وحدي.

   و لضبط سلوك التلاميذ في الصف استخدمت عقوبة شدّ الأذن بدل الضرب، و استخدمت عقوبة إخراج التلميذ من الصف (الطرد) لحين انتهاء وقت الدرس، و استخدمت عقوبة جديدة ابتدعتها بنفسي على سبيل الترهيب ، ألا و هي التهديد بأكل التلميذ المعاقب بالملح من عند الساعد و الكف، خطرت لي هذه الفكرة الشريرة من قولنا المعروف في سبيل تهديدنا لشخص ما : (سآكلك بلا ملح).

 جربتها قولاً في بادئ الأمر ، لكن لم يفهمها التلاميذ و لم تلقَ آذاناً صاغية، فخطر لي تنفيذها بالفعل (تمثيل طبعاً) ربما تردعهم و تأتي ثمارها، طلبت من "زيكو" التلميذ المشاغب – هذا لقبه من عندياتي لأنه ماهر مثل زيكو لاعب كرة القدم الدولي المشهور آنذاك – أن يأتي إليّ صوب طاولتي، و قلت له كيف تحب أن آكلك : بملح أم بلا ملح؟

استغرب زيكو العقوبة و لم يستوعب ما سألت ، قلت له شمر عن ساعدك، و هات لي الملح من غرفة المدير – غرفتي – يا "ايبو" الشاطر.

و ما أن وصلني الملح و رششته على ساعد زيكو و قربته من فمي، حتى أجهش بالبكاء.

أبعدت ساعده عني و نفضت عنها الملح، و طيبت خاطره بقولي إنه مجرد مزح.

   بعد ذلك اليوم لم أجرؤ على تكرار تلك العقوبة البدعة المخيفة مع تلاميذي الأشقياء أو الصالحين، لكن الشغب و الشقاوة زادا عن الحد، و لم يبقَ في جعبتي من عقوبات رادعة سوى عقوبة أساتذتنا القديمة المؤلمة أكثر من الضرب، ألا و هي (تأسفنا عليك يا كسلان).

أخرجت أحد التلاميذ العصاة كثير الشغب و الكسل، و قلت له هيا قف أمام اللوح (السبورة) يا لوح (تقال للكسول قليل الفهم)، أدر وجهك لرفاقك في الصف حتى أطلب منك الانصراف إلى مكانك، ثم طلبت من التلاميذ أن يرددوا خلفي ما أقول، و بدأت النشيد بصوت جهير :

تأسفنا عليك يا كسلان

ردد التلاميذ خلفي تأسفنا عليك يا كسلان. ثم تابعت :

زي الزفت و الإحسان

تفو عليك يا كسلان

ردد التلاميذ بقية النشيد خلفي بحذافيره، و بكل فرح و بهجة و سرور و بلا عويل و بكاء من التلميذ الكسول، و بلا بصاق بعد ترديد كلمة تفو.. علماً أنني لا أعرف حتى اليوم من أين أتت كلمة "الإحسان" في النشيد كما أتذكره و لقنته للتلاميذ ، أعرف بأنها لا تنسجم مع كلمات نشيد التوبيخ المعنوي، و لا أعرف كيف و من أين و لماذا أتت هذه الكلمة، سوى لضرورة القافية و سهولة اللفظ و حسب.

التلميذ المعاقب بعد أن سمع رفاقه يقولون "تفو" في وجهه ثارت ثائرته، و كاد يضربهم و يضربني، لم يبكِ مثلما فعل زيكو بعد تجربة عقوبة الأكل بالملح، بل صرخ غاضباً :

-         يا ويلكم مني يا رفاق، و يا استاذ كفى.

قلت له :

-         لا تضع نفسك بعد اليوم في هذا المكان، و هكذا كان.

في الفرصة و على انفراد قال لي التلميذ المأسوف عليه :

-         استاذ كان أرحم لي أن تأكلني بالفعل، ولا تجعل مني محل سخرية تلامذة الصف، لو قوسوني (رموني بالرصاص) أشرف لي و أرحم من قول تفو عليك، بالله عليك يا استاذ لا تفعلها ثانية معي و لا مع غيري، فوالله لو ما تكون غالي و محبوب، لضربتك بالبارود و هربت إلى جبال تركيا .
.............................. .............................. ................................

   كم من تكسير للنفس و تحطيم للروح لقينا في دروب الحياة من بيتنا عبر المدرسة إلى خدمة العلم في الجيش، أصغر كلمة توبيخ تبدأ ب "يا حقير" و الله يعلم أين تنتهي.

و ليتنا نرتدع و نعلم كم هو مؤلم جرح الروح ، و ليت معلمنا الكبير يتوقف عن أكلنا بملح و بدونه بالفعل لا بالقول، يقهقه و يكشر عن أنيابه و يأكلنا لحماً و عظم.

يا ترى لو تأسفنا عليه هل كان ليرتدع و يكف عن القتل؟

لكن يا حيف، لا حياة لمن تنادي، و لا حياء ولا حسّ .

.. يتبع

*القصة من مذكراتي و وحي الأحداث، و الصورة لطابور تلاميذ مدرسة ابتدائية يخضعون للتفتيش على نظافة و قص الأظافر.

                           ملحق للتوضيح **

   بعد كثرة الانتقادات التي وجهها لي معظم القراء على قصتي هذه التي نشرتها في صفحتي على الفيس بوك كمنشور (بوست) ، و هي قطعة من مذكراتي كتبتها بكل صدق و رضا و قبول، أقول للقراء ما يلي :

   عندما تم تعييني في تلك القرية البعيدة كمعلم وكيل (مؤقت) لم أكن أمتلك من مؤهلات المعلم إلا ما استقرّ في ذهني و ذاكرتي من أساليب و طرق التعليم، كيف يتم شرح الدرس و معاني الكلمات الجديدة و حل التمارين و نطق الحروف و الكتابة السليمة و إعداد البرنامج و الخ.

   و لأن مهمة المعلم تربوية في الأساس ، و مع صعوبة تسيير ستة صفوف بآن واحد و في غرفة واحدة ، تذكرت العقوبات التي كنا نخضع لها و نتجرعها على أيدي اساتذتي السابقين في المرحلة الابتدائية، و لقد جربت اللجوء إلى عقوبات جديدة ابتدعتها بنفسي لكي أتجنب استخدام العنف مع تلاميذي، منها محاولتي لتجريب معنى التهديد بقولنا : سآكلك بلا ملح، لكن مع إضافة الملح للزيادة في الشرح.

   أعترف بما زين لي شيطاني، الذي كبر معي منذ كنت مجرد طفل، و أوحى لي تنفيذ ذلك التهديد بتمثيلية رادعة ، و هو ما فعلت ثم اجتنبت.

   ثم جربت طريقة التأسف على الكسلان التي حفظتها غيباً و كلماتها ما تزال ترن في آذاني مع الألحان، بعدها اكتشفت مدى الأذى النفسي الذي تسببه و تزرعه في قلب ذلك الإنسان الخاضع لهذه العقوبة الظالمة، و لم أعد إليها مرة أخرى مطلقاً..

................ ............................ ............................... ...............................

   فيا ناس، يا عالم، ما بالكم تركتم كل أنواع الظلم و القهر التي تجرعناها على أيدي آبائنا و معلمينا و مدربينا في الجيش ؟

   في البيت كلما أخطأ الولد تضربه أمه و تدعي بقصف عمره و الدهس تحت دواليب سيارة بلا نمرة، ثم يأتي دور الأب بصفع الولد المذنب بضعة كفوف مع الحرمان من المصروف و الخروج من المنزل للشارع (متنفسنا و ساحة اللعب) و لا يخلو ذلك من بعض الشتائم و عبارات التوبيخ التي تحطم نفسية الطفل.

   و في المدرسة يهددنا المعلم برمينا بجبّ الفار بعد أن يدهن آذاننا بالزيت، و يضربنا ضرب غرائب الإبل، و يرفعنا فلقة ساخنة من تحت الدست، و يأمرنا بالوقوف على رجل واحدة مع رفع الذراعين للأعلى قرب سلة المهملات ، الوجه للحيط و القفا للتلاميذ الذين يسخرون من زميلهم المعاقب، و يرمونه بكرات الورق و قطع المحايات و سواها، و يفسدون عليه لمعلم الصف إذا ما أخفض قدمه الثانية أو أسبل ذراعيه، و قد يشدد المعلم عقوبته فيأمر التلميذ بوضع قدميه في سلة المهملات و يهمله حتى آخر الدرس.

   كم تأسفنا على زملاء لنا أحباب، من صفنا و من صفوف مجاورة أيضاً، لمجرد السهو عن كتابة الوظيفة، أو لشغب أحدثوه في الدرس.

   و كم أخرجنا المعلم لكتابة و نسخ (سطر من الكلمات) مئة مرة "جزا" على اللوح، و بعدها يكلفنا بكتابة بضعة جمل مئة مرة بالتمام و الكمال، مع الترقيم في دفتر "المسودة و المبيضة" في البيت قبل النوم .

   صديقي محمد (الدكتور حالياً) كسر عصا المعلمة في الفرصة لأنها ضربت بها زميله و أدمته، بعد الفرصة علمت المعلمة بفعلته و رأت العصا مكسورة، علقت على صدره ورقة كبيرة كتبت عليها (كسلان) و طلبت من عريف الصف أن يدور به في كل الصفوف ليتأسف عليه جميع تلاميذ المدرسة بما فيهم زملاء الصف... أي أذى أحدثته في نفسه تلك العقوبة الظالمة لدرجة أنه لم ينساها لليوم؟

   و تكتمل دورة تحطيم نفسية الطفل عندما تصحبه أمه أو أبيه إلى الصف، تسلمه للمعلم كخروف مسالم مطيع ، و تقول له بكل فخر :

-         استاذ اللحم إلك و العضم إلنا.

أهذه مدرسة للعلم، أم مسلخ للذبح؟!.

   و في دروس الفتوة و التدريب العسكري الجامعي و دورات الأغرار في خدمة العلم، أصغر كلمة نسمعها من المدرب هي (يا حقراء يا أوباش يا منا..) و الله يعلم أين تنتهي سلسلة التحقير و تحطيم النفس، و أين ينتهي زنا المدرب باللفظ في أخواتنا و زوجاتنا و أمهاتنا و مؤخراتنا نحن الشباب؟

    اليوم يتربع سيد الخراب على عرشه ضاحكاً، يأكلنا فعلاً و قولاً بلا ملح، و يحطم نفوسنا و بيوتنا و حضارتنا ، ثم يضع صورته فوق هذا الخراب بكل فخر.

و للأسف يصفق لجرائمه بعض الناس، بينما يتهمونني بالمجرم الشرير .

**تأسفنا عليك يا كسلان تقال هكذا كما علمت من غيري بعد نشر القصة :

تأسفنا عليك يا كسلان

زي الزفت و القطران

تفو عليك يا كسلان

أو تقال هكذا في رواية أخرى :

تأسفنا عليك يا كسلان

زي الزفت، حامض لفت

تفو عليك يا كسلان

و ربما كنا نقولها هكذا في صفي :

تأسفنا عليك يا كسلان

زي الزفت ولا إحسان

تفو عليك يا كسلان..

لكن لسهولة اللفظ أو ربما خطأي في الحفظ، لقنتها لتلاميذي كما قلت.

جهاد الدين رمضان
  في فيينا ٢٨ تموز / يوليو ٢٠١٩
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف