
هذا هو الإسلام
نصف قرن ولم تخمد نيران حريق المسجد الأقصى المبارك
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس
صادفت قبل أيام ذكرى أليمة في قلوب أبناء شعبنا الفلسطيني بل قلوب أبناء الأمة جميعاً ، ذكرى جريمة نكراء طالت المسجد الأقصى المبارك ، عنوان عزة الأمة وكرامتها ونصرها ، ودُرَّة مقدساتها ومسرى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم ، قال سبحانه وتعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 .
وعلى الرغم من مرور خمسين عاماً إلا أن أحداث هذه الذكرى الأليمة ما زالت ماثلة أمام نواظر المقدسيين ، يستحضرون مشاهد النيران وألسنة اللهب التي أشعلتها يد الحقد المسعور والتطرّف الممقوت فأتت على ما يقارب ألفاً وخمسمائة متر مربع من سقف المسجد الأقصى المبارك ، ومنبر البطل صلاح الدين رمز تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال الإفرنجي ، ورمز ارتباط قادة الأمة بمدينة القدس وبالمسجد الأقصى المبارك .
ففي صبيحة يوم الخميس السابع من جمادى الثانية عام 1389 للهجرة النبوية المشرفة ، الموافق 21/8/1969 م استيقظ المسلمون على نكبة جديدة حاول إيقاعها مجرم إرهابي امتدت يده الغادرة إلى قبلتهم الأولى فأضرم فيها النيران .
لقد تخطَّى السائح اليهودي المتعصّب مايكل دينيس كل الحدود ، وتجاوز كل القوانين والمواثيق والقيم ، وأحرق بِلَظَى كراهيته وسواد فعلته مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبلة المسلمين الأولى .
وكعادتها سارعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى التنصل من المسؤولية فنسبت مرتكبها المجرم إلى الجنون ، وادعت إصابته بالعَتَه واختلال القوى العقلية لتغطي على الحرائق الفعلية المبرمجة والخطط التآمرية المنظمة التي يقوم بها العقلاء والحكماء من دهاقين ساستها . فمنذ أن خضعت مدينة القدس للاحتلال أصبحت عرضة للاعتداء اليومي ، تعيث فيها يد الغاصب الصهيوني تهويداً وتبديلاً للمعالم الحضارية والتاريخية ، حتى جاءت هذه الجريمة الماكرة التي استفزت مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، فحظيت بمباركة وحماية سلطات الاحتلال الغاشم ، ومن الأدلة على تورطها ومشاركة المستوى السياسي في التخطيط لهذه الجريمة :
1- المحاولة الأولى لحريق المسجد الأقصى المبارك كانت بتاريخ 11/8/1968م، وكُلِّفَ بها دنيس روهان ذاته الذي جاء إلى فلسطين محملاً بكل الأحقاد اليهودية على الإسلام والمسلمين ، وبكل الأطماع الصهيونية في فلسطين أولاً ثم العالم الإسلامي كله ثانياً ، فدخل المسجد بصفة سائح استرالي ، ولكن يقظة الحراس واكتشافهم الجريمة قبل وقوعها أفشل هذه المحاولة ، ألْقي القبض على هذا المجرم وحوكم محاكمة صورية وعوقب بإبعاده إلى بلاده ، ثم عاد ثانية ونفذ جريمته النكراء بتاريخ 21/8/1969م ، فمجرد السماح بعودته إلى القدس يعتبر تواطؤاً معه في تنفيذ الجريمة .
2- اكتشاف خندق سري محفور تحت المسجد الأقصى المبارك أثناء إعمار المسجد من آثار الحريق ، يبدأ من وسط السور الجنوبي إلى داخل المسجد . وقد حفر من الجهة التي يسيطر عليها جيش الاحتلال قبل ارتكاب الجريمة ، ووجدت نقاط من الشمع جديدة العهد سقطت على الأرضية الترابية للخندق ، مما يدل على أنهم دخلوه منذ فترة قريبة .
3- لم تسمح السلطات الإسرائيلية لوكالات الأنباء بإذاعة نبأ الحريق إلا بعد أكثر من ساعة ونصف وبدون تفاصيل .
4- النافذة العلوية الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد القبلي ترتفع عن أرضية المسجد عشرة أمتار تقريباً فيصعب الوصول إليها من الداخل بدون استخدام سلم مرتفع ، يضاف إلى ذلك أن حريق هذه النافذة كان من الخارج وليس من الداخل مما يدل على وجود أفراد ساعدوا مرتكب الجريمة من الجهة الغربية في الخارج ؛ حيث كانت تحت إشراف سلطات الاحتلال منذ هدم حارة المغاربة وسيطرتها على باب المغاربة وساحة البراق والجهة الجنوبية الغربية للمسجد .
5- تأخّر سيارات الإطفاء التابعة لما يسمى ببلدية القدس في الحضور ؛ حيث وصلت بعد إخماد جميع النيران من قبل سيارات الإطفاء العربية التي وصلت قبلها من الخليل ورام الله ، لم تفعل تلك الإطفائيات شيئاً بل جاءت حتى تصورها وسائل الإعلام ووكالات الأنباء والصحافة العالمية لإيهام المجتمع الدولي أنها أدت واجبها .
6- قطعت إسرائيل المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك في يوم الحريق ، فعملية الإطفاء قام بها المقدسيون الذين استعانوا بالبراميل ونقلوا المياه يدوياً من الآبار الموجودة في ساحات المسجد الأقصى المبارك فاستغرق إخماد الحريق خمس ساعات .
7- كشف الشهود الذين أدلوا بشهاداتهم أمام اللجنة الإسرائيلية المكلفة بالتحقيق في الحريق أن أجهزة الإطفاء في المسجد الأقصى المبارك لم تكن صالحة للاستعمال عندما شب الحريق .
هبَّ أبناء الشعب الفلسطيني من كل مكان لنصرة مسجدهم ، وانطلقت سيارات الإطفاء من مدن نابلس وبيت لحم والخليل وغيرها ، وهرع أهل البلدة القديمة في القدس إليه سراعاً ، يحملون الماء بأيديهم يخمدون به النيران ، وفي اليوم التالي للحريق أدى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى المبارك وعمت المظاهرات الغاضبة مدينة القدس وسائر المدن الفلسطينية احتجاجاً على هذا التعدي السافر على مسجدهم ومسرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .
أما جماهير الأمة فقد غضبت وثارت لهذه الجريمة البشعة ، لانتهاك حرمة مقدساتها والمساس بأماكن عبادتها والاعتداء على كرامتها وعقيدتها ، فانطلقت المسيرات والمظاهرات في أرجاء العالم الإسلامي .
جاءت ردود الفعل العربية والإسلامية باهتة ضعيفة مخيبة للآمال ، فقد تداعى زعماؤها وحكامها خلال شهر من الكارثة إلى مؤتمر قمة لهم في المغرب ، قرروا فيه تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضمَّن ميثاقها العهد على السعي بكل الوسائل السياسية والعسكرية لتحرير القدس الشريف من الاحتلال الصهيوني .
ثم أنشئت لجنة القدس عام 1975م بهدف متابعة تنفيذ القرارات التي تتخذها منظمة المؤتمر الإسلامي والهيئات الدولية الأخرى التي تؤيدها أو تتماشى معها ، والاتصال مع أية هيئات أخرى ، واقتراح المناسب على الدول الأعضاء لتنفيذ المقررات وتحقيق الأهداف ، واتخاذ ما تراه من إجراءات .
ويهدف إنشاء لجنة القدس أيضاً إلى تنفيذ جميع قرارات المنظمة المتعلقة بمواضيع الصراع العربي الإسرائيلي نظراً للترابط الجذري بينه وبين قضية القدس وفلسطين .
ثم توالى عقد المؤتمرات العربية والإسلامية من أجل القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك ؛ لكن من غير أن يصدر عنها خطوات عملية لتحريره وإنقاذه من الأسر ، فتجرأ الغاصبون المعتدون على مواصلة انتهاكاتهم واعتداءاتهم المتسارعة ضد المسجد الأقصى المبارك وضد مدينة القدس إلى يومنا هذا .
أما على المستوى العالمي فقد كان من المنتظر أن تحدث هذه الجريمة الحاقدة دوياً في أرجائه ، وأن يكون لمنظماته موقف واضح يسهم في الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك وحمايته من أي مساس بحرمته أو عدوان على بنيانه ، ليس فقط لكونه دار عبادة تمنع القوانين والتشريعات الدولية التدخل في شؤونه أو انتهاك قدسيته أو ازدواجية العبادة فيه ؛ بل بوصفه أيضاً صرحاً معمارياً وأثراً حضارياً وجزءاً من التراث الإنساني .
اكتفى العالم بإدانة هذا العدوان الصارخ واستنكاره والامتعاض منه ، ولكنه لم يتمكن من تطبيق قراراته الدولية الهزيلة التي أصدرها على استحياء ضد إسرائيل ، ولم يأبه يوماً لعدم التزامها بها أو لرفضها تنفيذها .
وهذا نهجه على مدار العقود السبعة الماضية أو يزيد في قضايا الأمة الإسلامية والعربية ، ولسنا مجحفين في تقرير هذه الحقيقة السلبية الواضحة للعيان ، فقد رأينا ورأى الجميع موقف العالم والمجتمع الدولي من تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان ، وهل من مقارنة بين الموقفين ؟ إننا نشهد ونرى كما يرى الجميع وقوفه إلى جانب المحتل الغاصب وتبرير أفعاله الهمجية على المدنيين العَّزل ، وسكوته على انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان ، وعجزه الدائم عن منع أو انتقاد جرائمها الإرهابية ومجازرها التي لا تحصى ضد الشعب الفلسطيني .
لم تكن هذه الجريمة الصهيونية الأولى ضد المسجد الأقصى ، ونوقن أنها لن تكون الأخيرة ما دامت الأمة في هذا التفكك والتشرذم والضعف ، فمنذ زمن بعيد بيّتت إسرائيل النوايا للنيل من مدينة القدس ومقدساتها وبالأخص المسجد الأقصى المبارك ، ولكنها اليوم تنفذ ذلك جهاراً نهاراً ، ونعلم علم اليقين أن العدوان على المسجد الأقصى المبارك متواصل لا يتوقف ، والواقع يصدق هذا اليقين ، فهو يتعرض باستمرار لمخاطر حقيقية وتهديدات جدية .
ودليل جديتها استمرار اعتداءات الجماعات الدينية المتطرفة عليه ، وكثرة مخططات نسفه ومحاولات اقتحامه وارتكاب المجازر فيه . وفي كل مرة يدافع عنه الفلسطينيون وحدهم ، يحمونه بالمواظبة على الحضور الدائم في ساحاته ، وتحدي جميع الإجراءات القمعية والممارسات الاحتلالية التي تعيق الوصول إليه ، والوقوف إلى جانب حراسه وسدنته العزّل من السلاح في مواجهة الاحتلال بصدورهم العارية .
والآن وبعد مرور هذه العقود على الجريمة النكراء فللشعب الفلسطيني أن يتساءل : هل كانت أمته على مستوى الحدث ؟ هل كانت على مستوى المسؤولية ؟
إننا على يقين بأن لمسجدنا الأقصى المبارك رباً يحميه وللقدس رباً يرعاها ، ولها أبناء مرابطون وحرائر مرابطات وسدنة مخلصون شرفهم الله بأرفع وسام ، حاضرون في الخندق الأول يفتدونها بالمهج والأرواح ، لكن هذا لا يعفي الأمة أبداً من مسؤولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك وعن مدينة القدس العربية المحتلة وحمايتها ومؤازرة أهلها الثابتين فيها ثبات الشجر ؛ على الرغم من التضييق عليهم لتهجيرهم منها ، فجذورهم ضاربة في أعماقها التاريخية العريقة فلا يمكن اقتلاعهم منها ، لكنهم يفتقرون إلى الدعم والمناصرة والإسناد من أبناء أمتهم ، وعيونهم ترنو إلى الأفق الذي تلوح منه بشائر النصر ، فهذا من أوجب واجبات الأمة ، قال تعالى { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } الأنفال 72 .
ذاك كان الحريق الآني الذي بذلت جهود جماعية فورية لإخماده ، والدمار الواسع الذي استغرق أكث من ثلاثة عقود لإعادة إعماره ، أما الحريق المستمر الذي ما زال مشتعلاً في مدينة القدس منذ احتلالها فيتمثل في حرق تاريخها الإنساني وتغيير مشهدها التاريخي واستبدال هويتها العربية الإسلامية بهوية المحتلين الغاصبين ؛ وطمس معالمها الحضارية لتهويدها ، وأدواتها في ذلك متنوعة متعددة غير مسبوقة ، أقلها الأدلاّء السياحيون الذين يقدمون المعلومات المزورة عن المسجد الأقصى المبارك بأنه جبل الهيكل المزعوم ، وهذه مؤامرة من نوع آخر لا بد من التصدي لها وكشف زيفها بكل الوسائل المتاحة لرفع المظالم عن المسرى الأسير .
نصف قرن ولم تخمد نيران حريق المسجد الأقصى المبارك
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس
صادفت قبل أيام ذكرى أليمة في قلوب أبناء شعبنا الفلسطيني بل قلوب أبناء الأمة جميعاً ، ذكرى جريمة نكراء طالت المسجد الأقصى المبارك ، عنوان عزة الأمة وكرامتها ونصرها ، ودُرَّة مقدساتها ومسرى رسولها محمد صلى الله عليه وسلم ، قال سبحانه وتعالى { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } الإسراء 1 .
وعلى الرغم من مرور خمسين عاماً إلا أن أحداث هذه الذكرى الأليمة ما زالت ماثلة أمام نواظر المقدسيين ، يستحضرون مشاهد النيران وألسنة اللهب التي أشعلتها يد الحقد المسعور والتطرّف الممقوت فأتت على ما يقارب ألفاً وخمسمائة متر مربع من سقف المسجد الأقصى المبارك ، ومنبر البطل صلاح الدين رمز تحرير بيت المقدس من دنس الاحتلال الإفرنجي ، ورمز ارتباط قادة الأمة بمدينة القدس وبالمسجد الأقصى المبارك .
ففي صبيحة يوم الخميس السابع من جمادى الثانية عام 1389 للهجرة النبوية المشرفة ، الموافق 21/8/1969 م استيقظ المسلمون على نكبة جديدة حاول إيقاعها مجرم إرهابي امتدت يده الغادرة إلى قبلتهم الأولى فأضرم فيها النيران .
لقد تخطَّى السائح اليهودي المتعصّب مايكل دينيس كل الحدود ، وتجاوز كل القوانين والمواثيق والقيم ، وأحرق بِلَظَى كراهيته وسواد فعلته مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبلة المسلمين الأولى .
وكعادتها سارعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى التنصل من المسؤولية فنسبت مرتكبها المجرم إلى الجنون ، وادعت إصابته بالعَتَه واختلال القوى العقلية لتغطي على الحرائق الفعلية المبرمجة والخطط التآمرية المنظمة التي يقوم بها العقلاء والحكماء من دهاقين ساستها . فمنذ أن خضعت مدينة القدس للاحتلال أصبحت عرضة للاعتداء اليومي ، تعيث فيها يد الغاصب الصهيوني تهويداً وتبديلاً للمعالم الحضارية والتاريخية ، حتى جاءت هذه الجريمة الماكرة التي استفزت مشاعر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، فحظيت بمباركة وحماية سلطات الاحتلال الغاشم ، ومن الأدلة على تورطها ومشاركة المستوى السياسي في التخطيط لهذه الجريمة :
1- المحاولة الأولى لحريق المسجد الأقصى المبارك كانت بتاريخ 11/8/1968م، وكُلِّفَ بها دنيس روهان ذاته الذي جاء إلى فلسطين محملاً بكل الأحقاد اليهودية على الإسلام والمسلمين ، وبكل الأطماع الصهيونية في فلسطين أولاً ثم العالم الإسلامي كله ثانياً ، فدخل المسجد بصفة سائح استرالي ، ولكن يقظة الحراس واكتشافهم الجريمة قبل وقوعها أفشل هذه المحاولة ، ألْقي القبض على هذا المجرم وحوكم محاكمة صورية وعوقب بإبعاده إلى بلاده ، ثم عاد ثانية ونفذ جريمته النكراء بتاريخ 21/8/1969م ، فمجرد السماح بعودته إلى القدس يعتبر تواطؤاً معه في تنفيذ الجريمة .
2- اكتشاف خندق سري محفور تحت المسجد الأقصى المبارك أثناء إعمار المسجد من آثار الحريق ، يبدأ من وسط السور الجنوبي إلى داخل المسجد . وقد حفر من الجهة التي يسيطر عليها جيش الاحتلال قبل ارتكاب الجريمة ، ووجدت نقاط من الشمع جديدة العهد سقطت على الأرضية الترابية للخندق ، مما يدل على أنهم دخلوه منذ فترة قريبة .
3- لم تسمح السلطات الإسرائيلية لوكالات الأنباء بإذاعة نبأ الحريق إلا بعد أكثر من ساعة ونصف وبدون تفاصيل .
4- النافذة العلوية الواقعة في الزاوية الجنوبية الغربية من المسجد القبلي ترتفع عن أرضية المسجد عشرة أمتار تقريباً فيصعب الوصول إليها من الداخل بدون استخدام سلم مرتفع ، يضاف إلى ذلك أن حريق هذه النافذة كان من الخارج وليس من الداخل مما يدل على وجود أفراد ساعدوا مرتكب الجريمة من الجهة الغربية في الخارج ؛ حيث كانت تحت إشراف سلطات الاحتلال منذ هدم حارة المغاربة وسيطرتها على باب المغاربة وساحة البراق والجهة الجنوبية الغربية للمسجد .
5- تأخّر سيارات الإطفاء التابعة لما يسمى ببلدية القدس في الحضور ؛ حيث وصلت بعد إخماد جميع النيران من قبل سيارات الإطفاء العربية التي وصلت قبلها من الخليل ورام الله ، لم تفعل تلك الإطفائيات شيئاً بل جاءت حتى تصورها وسائل الإعلام ووكالات الأنباء والصحافة العالمية لإيهام المجتمع الدولي أنها أدت واجبها .
6- قطعت إسرائيل المياه عن المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك في يوم الحريق ، فعملية الإطفاء قام بها المقدسيون الذين استعانوا بالبراميل ونقلوا المياه يدوياً من الآبار الموجودة في ساحات المسجد الأقصى المبارك فاستغرق إخماد الحريق خمس ساعات .
7- كشف الشهود الذين أدلوا بشهاداتهم أمام اللجنة الإسرائيلية المكلفة بالتحقيق في الحريق أن أجهزة الإطفاء في المسجد الأقصى المبارك لم تكن صالحة للاستعمال عندما شب الحريق .
هبَّ أبناء الشعب الفلسطيني من كل مكان لنصرة مسجدهم ، وانطلقت سيارات الإطفاء من مدن نابلس وبيت لحم والخليل وغيرها ، وهرع أهل البلدة القديمة في القدس إليه سراعاً ، يحملون الماء بأيديهم يخمدون به النيران ، وفي اليوم التالي للحريق أدى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجية للمسجد الأقصى المبارك وعمت المظاهرات الغاضبة مدينة القدس وسائر المدن الفلسطينية احتجاجاً على هذا التعدي السافر على مسجدهم ومسرى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم .
أما جماهير الأمة فقد غضبت وثارت لهذه الجريمة البشعة ، لانتهاك حرمة مقدساتها والمساس بأماكن عبادتها والاعتداء على كرامتها وعقيدتها ، فانطلقت المسيرات والمظاهرات في أرجاء العالم الإسلامي .
جاءت ردود الفعل العربية والإسلامية باهتة ضعيفة مخيبة للآمال ، فقد تداعى زعماؤها وحكامها خلال شهر من الكارثة إلى مؤتمر قمة لهم في المغرب ، قرروا فيه تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي التي تضمَّن ميثاقها العهد على السعي بكل الوسائل السياسية والعسكرية لتحرير القدس الشريف من الاحتلال الصهيوني .
ثم أنشئت لجنة القدس عام 1975م بهدف متابعة تنفيذ القرارات التي تتخذها منظمة المؤتمر الإسلامي والهيئات الدولية الأخرى التي تؤيدها أو تتماشى معها ، والاتصال مع أية هيئات أخرى ، واقتراح المناسب على الدول الأعضاء لتنفيذ المقررات وتحقيق الأهداف ، واتخاذ ما تراه من إجراءات .
ويهدف إنشاء لجنة القدس أيضاً إلى تنفيذ جميع قرارات المنظمة المتعلقة بمواضيع الصراع العربي الإسرائيلي نظراً للترابط الجذري بينه وبين قضية القدس وفلسطين .
ثم توالى عقد المؤتمرات العربية والإسلامية من أجل القدس ومن أجل المسجد الأقصى المبارك ؛ لكن من غير أن يصدر عنها خطوات عملية لتحريره وإنقاذه من الأسر ، فتجرأ الغاصبون المعتدون على مواصلة انتهاكاتهم واعتداءاتهم المتسارعة ضد المسجد الأقصى المبارك وضد مدينة القدس إلى يومنا هذا .
أما على المستوى العالمي فقد كان من المنتظر أن تحدث هذه الجريمة الحاقدة دوياً في أرجائه ، وأن يكون لمنظماته موقف واضح يسهم في الحفاظ على المسجد الأقصى المبارك وحمايته من أي مساس بحرمته أو عدوان على بنيانه ، ليس فقط لكونه دار عبادة تمنع القوانين والتشريعات الدولية التدخل في شؤونه أو انتهاك قدسيته أو ازدواجية العبادة فيه ؛ بل بوصفه أيضاً صرحاً معمارياً وأثراً حضارياً وجزءاً من التراث الإنساني .
اكتفى العالم بإدانة هذا العدوان الصارخ واستنكاره والامتعاض منه ، ولكنه لم يتمكن من تطبيق قراراته الدولية الهزيلة التي أصدرها على استحياء ضد إسرائيل ، ولم يأبه يوماً لعدم التزامها بها أو لرفضها تنفيذها .
وهذا نهجه على مدار العقود السبعة الماضية أو يزيد في قضايا الأمة الإسلامية والعربية ، ولسنا مجحفين في تقرير هذه الحقيقة السلبية الواضحة للعيان ، فقد رأينا ورأى الجميع موقف العالم والمجتمع الدولي من تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان ، وهل من مقارنة بين الموقفين ؟ إننا نشهد ونرى كما يرى الجميع وقوفه إلى جانب المحتل الغاصب وتبرير أفعاله الهمجية على المدنيين العَّزل ، وسكوته على انتهاكات إسرائيل لحقوق الإنسان ، وعجزه الدائم عن منع أو انتقاد جرائمها الإرهابية ومجازرها التي لا تحصى ضد الشعب الفلسطيني .
لم تكن هذه الجريمة الصهيونية الأولى ضد المسجد الأقصى ، ونوقن أنها لن تكون الأخيرة ما دامت الأمة في هذا التفكك والتشرذم والضعف ، فمنذ زمن بعيد بيّتت إسرائيل النوايا للنيل من مدينة القدس ومقدساتها وبالأخص المسجد الأقصى المبارك ، ولكنها اليوم تنفذ ذلك جهاراً نهاراً ، ونعلم علم اليقين أن العدوان على المسجد الأقصى المبارك متواصل لا يتوقف ، والواقع يصدق هذا اليقين ، فهو يتعرض باستمرار لمخاطر حقيقية وتهديدات جدية .
ودليل جديتها استمرار اعتداءات الجماعات الدينية المتطرفة عليه ، وكثرة مخططات نسفه ومحاولات اقتحامه وارتكاب المجازر فيه . وفي كل مرة يدافع عنه الفلسطينيون وحدهم ، يحمونه بالمواظبة على الحضور الدائم في ساحاته ، وتحدي جميع الإجراءات القمعية والممارسات الاحتلالية التي تعيق الوصول إليه ، والوقوف إلى جانب حراسه وسدنته العزّل من السلاح في مواجهة الاحتلال بصدورهم العارية .
والآن وبعد مرور هذه العقود على الجريمة النكراء فللشعب الفلسطيني أن يتساءل : هل كانت أمته على مستوى الحدث ؟ هل كانت على مستوى المسؤولية ؟
إننا على يقين بأن لمسجدنا الأقصى المبارك رباً يحميه وللقدس رباً يرعاها ، ولها أبناء مرابطون وحرائر مرابطات وسدنة مخلصون شرفهم الله بأرفع وسام ، حاضرون في الخندق الأول يفتدونها بالمهج والأرواح ، لكن هذا لا يعفي الأمة أبداً من مسؤولية الدفاع عن المسجد الأقصى المبارك وعن مدينة القدس العربية المحتلة وحمايتها ومؤازرة أهلها الثابتين فيها ثبات الشجر ؛ على الرغم من التضييق عليهم لتهجيرهم منها ، فجذورهم ضاربة في أعماقها التاريخية العريقة فلا يمكن اقتلاعهم منها ، لكنهم يفتقرون إلى الدعم والمناصرة والإسناد من أبناء أمتهم ، وعيونهم ترنو إلى الأفق الذي تلوح منه بشائر النصر ، فهذا من أوجب واجبات الأمة ، قال تعالى { وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ } الأنفال 72 .
ذاك كان الحريق الآني الذي بذلت جهود جماعية فورية لإخماده ، والدمار الواسع الذي استغرق أكث من ثلاثة عقود لإعادة إعماره ، أما الحريق المستمر الذي ما زال مشتعلاً في مدينة القدس منذ احتلالها فيتمثل في حرق تاريخها الإنساني وتغيير مشهدها التاريخي واستبدال هويتها العربية الإسلامية بهوية المحتلين الغاصبين ؛ وطمس معالمها الحضارية لتهويدها ، وأدواتها في ذلك متنوعة متعددة غير مسبوقة ، أقلها الأدلاّء السياحيون الذين يقدمون المعلومات المزورة عن المسجد الأقصى المبارك بأنه جبل الهيكل المزعوم ، وهذه مؤامرة من نوع آخر لا بد من التصدي لها وكشف زيفها بكل الوسائل المتاحة لرفع المظالم عن المسرى الأسير .