الأخبار
سرايا القدس تستهدف تجمعاً لجنود الاحتلال بمحيط مستشفى الشفاءقرار تجنيد يهود (الحريديم) يشعل أزمة بإسرائيلطالع التشكيل الوزاري الجديد لحكومة محمد مصطفىمحمد مصطفى يقدم برنامج عمل حكومته للرئيس عباسماذا قال نتنياهو عن مصير قيادة حماس بغزة؟"قطاع غزة على شفا مجاعة من صنع الإنسان" مؤسسة بريطانية تطالب بإنقاذ غزةأخر تطورات العملية العسكرية بمستشفى الشفاء .. الاحتلال ينفذ إعدامات ميدانية لـ 200 فلسطينيما هي الخطة التي تعمل عليها حكومة الاحتلال لاجتياح رفح؟علماء فلك يحددون موعد عيد الفطر لعام 2024برلمانيون بريطانيون يطالبون بوقف توريد الأسلحة إلى إسرائيلالصحة تناشد الفلسطينيين بعدم التواجد عند دوار الكويتي والنابلسيالمنسق الأممي للسلام في الشرق الأوسط: لا غنى عن (أونروا) للوصل للاستقرار الإقليميمقررة الأمم المتحدة تتعرضت للتهديد خلال إعدادها تقرير يثبت أن إسرائيل ترتكبت جرائم حربجيش الاحتلال يشن حملة اعتقالات بمدن الضفةتركيا تكشف حقيقة توفيرها عتاد عسكري لإسرائيل
2024/3/29
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

مخاطر الإسعاف السريع بقلم:جهاد الدين رمضان

تاريخ النشر : 2019-08-19
مخاطر الإسعاف السريع بقلم:جهاد الدين رمضان
مخاطر الإسعاف السريع

   كنت مناوباً في مكتب "الأمتعة" بالوردية الليلية عندما سمعت صوت سيارة الإسعاف المميز، كان مكتبي يقع في آخر صف المكاتب بمحطة بغداد للقطارات في مدينة حلب، كانت المحطة خالية من الركاب بعد مغادرة آخر قطار منذ أكثر من ساعة ، فطويت السجلات و الأختام و وضعتها في أدراجها ، و أخرجت كتابي و دفتري و مسجلتي الكاسيت الصغيرة لأدرس على رواق ، و بينما أنا مستغرق في علم القانون على أنغام الناي و الطبلة و القانون ، صدح صوت منبه (زمور) عربة الإسعاف من جهة مكتب رئيس المحطة المناوب العم "أبو خالد" المحبوب، كان توقيت وصول العربة الاسعافية - بعد خلو المحطة من الركاب في آخر الليل - يعني أن المصاب هو أحد الزملاء بلا أدنى شك، فطويت دفتري و كتابي بيميني و أغلقت المسجلة، و خرجت استطلع الخبر، و من باب الحيطة والحذر أغلقت باب المكتب بالمفتاح ، نظرت باتجاه الصوت فرأيت حركة غريبة لعمال و موظفي المحطة من بعيد على "الرصيف نمرة واحد" أمام مكتب رئيس المحطة البعيد، هرعت فزعاً نحو الحشد و أنا أهجس في نفسي : أيكون العم أبو خالد هو المصاب؟

و بوصولي إلى مكان الحشد رأيت أحد عمال "قطار المناورة" * ممدداً على الرصيف، يتلوى ذات اليمين و اليسار، و يأنّ من وجعه بصراخ مكتوم و كلام غير مفهوم، كان العم أبو خالد يسأل الشباب أن يرافقه أحدهم في عربة "الإسعاف السريع" ، و الكل يرفض بسبب الخوف من مضاعفات عملية الإسعاف، و متاهات "السين و الجيم" في التحقيق. تألمت لمنظر العامل المسكين الملقح على الأرض بانتظار اسعافه إلى مشفى "الرازي" القريب، كانت إصابته على الرأس بدون جرح ظاهر أو دماء ، فقد هبط الجسر الحديدي الصغير المعلق بين العربات على رأسه من شدة اصطدام القاطرة بالعربات، هذا الجسر يُرفع إلى الأعلى و يثبت بمتراس صغير ليبقى مطوياً للأعلى ، بحيث يسمح لعمال "المناورة" بالوقوف في الفراغ الناجم عن تبعيد قطعتي الجسر ، ليتمكن عامل المناورة - المحصور بين العربتين – من فك الخطّاف و خراطيم الهواء و كابلات الكهرباء ، أو تركيبها خلال مناورة قاطرة الجر لتشكيل سلسلة العربات أو فصلها عن بعضها البعض.

ضربتني النخوة و عصفت بوجداني، و سرت دماؤها حماساً حاراً في عروقي، اقتربت من ناظر المحطة، و أخرجت مفاتيح مكتبي من جيبي، و قلت له بعد السلام :

- عمي ابو خالد أنا أرافق زميلنا المصاب، و هذه مفاتيح المكتب اعطها لزميلي من وردية الصباح، فقد أتأخر معه في المشفى، و لا أتمكن من تسليم العهدة لزميلي عند موعد الاستلام و التسليم الصباحي .

- الله يبارك فيك يا ابني، بس انت عندك دراسة في الجامعة، و يمكن يطلبوك للتحقيق و يصير سين و جيم و تتأخر على دوامك ، بلكي (ربما) حدا غيرك من رفقاته بروح معه؟

- ما في مشكلة عمي ابو خالد، الدراسة و حضور المحاضرات يمكن تأجيلها، و لا خوف علي من تحقيق الشرطة فأنا طالب "حقوق" أعرف الإجراءات ، لكن حالة زميلنا لا تحتمل التأجيل، خذ المفاتيح مني و دعني أرافقه.

استلم العم أبو خالد المفاتيح مني، و قال مع السلامة و بالسلامة و الشفاء العاجل للمصاب، و هيا يا رجال احملوه إلى سيارة الإسعاف في الحال. كانت النقالة جاهزة قرب الزميل المصاب "شكري" تنتظر الأوامر من الناظر (رئيس المحطة) ، مال الممرض المسعف نحو الأرض ، و طلب من الحضور مساعدته في رفع شكري على النقالة، و بثلاث عدات (١، ٢ ،٣) كان شكري على النقالة المتحركة ، و الله يعطيكم العافية يا شباب.

في ذلك الزمان – منتصف ثمانينات القرن العشرين – كانت وزارة الصحة السورية قد تزودت حديثاً ب "منظومة الإسعاف السريع" ، سمعت بهذه المنظومة "المنظومة" **  و لم أعرفها بعد، و بفضل إصابة زميلي شكري تعرفت عليها بلا فخر، أول ما لفت انتباهي إلى مساوئها طاولة مستطيلة ذات أربع قوائم بدواليب صغيرة يسمونها النقّالة، يعلوها فراش من الاسفنج المُغطى بجلد صناعي رخيص، لا يوجد معها اي شيء آخر. قلت في نفسي لعل باقي التجهيزات و المعدات "المنظومة" في داخل العربة الجديدة "الخلنج" البيضاء كثوب العروس، و حين دفشَ الممرض المسعف و سائق العربة تلك النقّالة إلى داخل السيارة، و قالا لي اصعد معه في الداخل من الخلف، و صعدا هما من الأمام - بعد أن أغلق أحدهما الباب علينا أنا و المصاب - عرفت كم هي "منظومة" هذه العربة و الخدمة الاسعافية الحديثة ، لا شيء في الداخل سوى جدران العربة الحديدية، و الله و كسر الهاء يا سادة يا كرام .!

أين التجهيزات و المعدات الطبية الاسعافية مثل أسطوانة الاوكسجين، أو جهاز الصدمات الكهربائي، أو جهاز تخطيط القلب، أو على الأقل أين مقعد المرافق، و أين الأحزمة لربط و تثبيت النقّالة و المريض؟!.. و لزيادة الطين بلّة، أراد السائق أن يرينا سرعة السيارة الحديثة، فأدار المنبه ذو الصوت المرعب المرتفع الذي يصمّ الآذان، و أرخى لدوّاسة السرعة العنان، و في كل مطب و كوع تتحرك النقّالة بعنف، و تصطدم بالجدران الحديدية الداخلية للعربة الخارقة ، ترتفع لفوق و تهبط و تضرب و تخبط ، و تميل لليمين و اليسار كأنها ترقص على "الوحدة و نصّ" و تدبك على "خبطة قدمكن جبارة" *** ، و زميلي شكري المسكين تتضاعف إصابته و تزيد كلما طرق رأسه بالحديد، و مع أنينه و تأوهاته المتسارعة ، طرقت الجدار الفاصل بين الصالون الخلفي و الأمامي للسيارة، لكي أطلب من السائق أن يترفق بنا و يقود السيارة برفق، توقفت السيارة بعد لحظات، و نزل الممرض المرافق من مقعده الأمامي، و فتح علينا الباب الخلفي المغلق من الخارج، مدّ رأسه و سألني :

- ما الأمر؟

 قلت له و قد نهنهني التمايل و الانعطاف :

- بالله عليكما، خلِّ السائق يمشي على مهل، المشفى قريب جداً ولا داعي للسرعة، كما أن الشوارع خالية في هذه الساعة قبل طلوع الفجر، و المريض يكاد يقع و يتفسّخ رأسه، ولا أستطيع الإمساك به و لا تثبيته مع هذه السرعة الفائقة ، أرجوك.. ايدي في زنارك قل للسائق أن يخفف السرعة ولا سيما عند الحفر و المطبات .

- طيب، ماشي.. راح أطلب منه تخفيف السرعة، و ما عاد تزعجنا.

- إذا بيمشي السائق "على بيض" نكون ممنونين و لا نزعجكم إلا بالدعاء.

سُرّ المعاون بكلامي عن الدعاء، و أغلق علينا الباب بعد التأكد من بقاء المريض على قيد الحياة، و عاد لمقعده بجانب السائق بكل اطمئنان، ثم مشت العربة ببطء ملحوظ و شكرٍ موفور، ثم زادت سرعتها قليلاً مع امتناعنا عن الشكر، ثم عادت لسرعتها السابقة و كأنها في "الفورمولا 1" تحاول أخذ الكأس  و رفيقي يكاد يموت من وجع الرأس، و مع آهات و صرخات وجع شكري، انقلب الشكر للسائق و معاونه إلى لعنات و شتم و سباب ، و قبل أن تصل العربة إلى باب مشفى الرازي، كبح السائق سرعتها بالفرامل الأرضية و اليدوية معاً فجأة و بأقصى سرعة و قوة، و من قوة صدمة النقّالة بالكوة الزجاجية المطلة على كابينة السائق، تهشم الزجاج برأس زميلي شكري المشبع بالرضوض، و فتح فيه بعض الجروح لتكتمل الإصابة بالتمام و الكمال..

........................................................
   في المشفى بقسم الإسعاف، كشف الطبيب المناوب على شكري دون تلكؤ أو تأخير، و مع إفادتي الموجزة عن بيانات و إصابة المريض أين و كيف حدثت؟.. ضمّد له جرحه الظاهر وفق الأصول، و قال لي و للمرض الآخر - غير معاون عربة الإسعاف – خذوه إلى جناح المراقبة و الانتظار في آخر الرواق، و لينتظر مريضك أطباء "المخ و الجراحة العصبية" ليكشفوا عليه في الصباح بكل عناية و رفق و رواق ، أنا لا أستطيع فعل اي شيء زيادة عن تضميد جرحه السطحي، ربما يكون معه نزيف داخلي أو ارتجاج في المخ، و اي حركة خاطئة ممكن تقضي على المصاب و تزيد مصابه، قد يصاب بالشلل إذا تحركت الجلطة في مخه أو قد يموت ...

زميلي شكري كان يتلوّى من الألم و يهذي بكلام عربي و كردي غير مفهوم، و ما إن سمع الدكتور يبشره بالجلطة و الشلل، حتى نهض على عجل، و بكل إحباط سأل :

- يا دكتور الله يخليك، راسي راح ينفجر من شدة الألم، يا ريت تعطيني إبرة مسكّن تخفف الوجع و تسكته، الله يرحم أحبابك ارحمني أرجوك؟ .

- لك يا ابني ما بجوز اعطيك شي، نكون في شي و نصير في شي تاني لا سمح الله، حالتك بدها مراقبة فقط لحين قدوم الطبيب الاخصائي في علاج المخ، هو يكشف عليك و يشخص إصابتك و يقرر العلاج المناسب.. بدك تتحمل الوجع يا ابني!.

- لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، و الله العظيم يا دكتور ما كان فيني شي قبل ركوبي سيارة الإسعاف، شوية وجع راس مقبول و محمول، لكن بعد الخبط و الضرب بحيطان السيارة، حسيت جمجمة راسي انقفعت (انفلقت) و طار "ظوظ" راسي (مخي) من محله..

- للأسف يا ابني كلامك صحيح، هذا الإسعاف السريع ما فيه شيء من اسمه إلا السرعة و "التشفيط". هيك فهموه الشباب!

قاطعت الدكتور لأساله :

- هل بإمكاني ترك المريض بعناية الكادر الطبي المناوب طالما لا فائدة من وجودي معه؟ هل يمكنني الذهاب إلى عملي؟

- كمان للأسف يا ابني لا تستطيع، هات" هويتك الشخصية " و انتظر مع مريضك حتى تأتي الشرطة، و تأخذ إفادتك و ترد لك بطاقة الهوية.. أعتذر منك يا ابني فهكذا تنص التعليمات و الأوامر .

- أمرك على راسي يا حكيم، و الله يعطيك العافية، و يعين عباده الطائعين .

... و للحقيقة اقول : بعد هذه الحادثة بسنوات، و بعد عزوف الناس عن إسعاف الآخرين، بسبب الخوف من التوقيف الاحترازي وفقاً للتعليمات و أوامر الروتين، أصدرت وزارة الداخلية تعميماً على أقسام الشرطة و مراكز الإسعاف، يقتضي بالاكتفاء بتسجيل بيانات المُسعِف في الهوية الشخصية و عنوان إقامته بالتفصيل، و إطلاق سراحه في الحال.

أما عن عربات الإسعاف السريع، فقد تم حذف كلمة "السريع" عنها في الواقع و المجاز، لأنها فقدت سرعتها بفضل أعطال المحرك و اهتراء الدواليب، و تعطل الكادر البشري عن تلبية النداء في الحال، لسوء أحوال المعيشة و فساد الأخلاق. 

و لعلكم تتساءلون ماذا حلّ بزميلي شكري بطل القصة؟ فأطمنكم عنه و أقول بأنه شفي من إصابته بحمد الله وفضله، و صار يشكرني كلما رأيته و سألته :

- شكري ، جو حاليتا؟ 

- رندة. ساعات خوش ، سار ساريه مِنْ استاذ جهاد. ****

…………………………………………………. 

*قطار المناورة : قاطرة للجر تستخدم في تنسيق عربات قطارات الركاب، تفصلهم أو تجمعهم في رتل واحد. و العمال المشتغلين بطاقمها ندعوهم عمال المناورة. 

**منظومة الأولى، جميع المرافق و التجهيزات و الخدمات المتعلقة بمصلحة الإسعاف السريع. و منظومة الثانية تعني حسن الترتيب و الأداء، يقال هذه سيارة منظومة، أي مستحسنة و جميلة و لا تشكو من نقص. 

***الرقص على الوحدة و نصّ : كناية عن الرقص الشرقي الذي تؤديه الراقصات المحترفات في المسارح و الكباريهات ، على ايقاع الطبلة و التخت الموسيقي الشرقي، و بلباس خاص مثير يكشف معظم مفاتن الجسم . و دبكة خبطة قدمكن : دبكة لفرقة الرقص الشعبي اللبناني على أنغام أغنية السيدة فيروز ( يا قمر مشغرة ) المشهورة. 

****جو حاليتا : عبارة باللغة الكردية للسؤال كيف الحال؟ و باقي الكلمات من اللغة الكردية أيضاً ، رندة : جميل، جيد. و ساعات خوش : شكراً. و سار ساريه مِنْ : على راسي. 

جهاد الدين رمضان

في فيينا ٢١ أيار ٢٠١٩ 
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف