الأخبار
إعلام إسرائيلي: إسرائيل تستعد لاجتياح رفح "قريباً جداً" وبتنسيق مع واشنطنأبو عبيدة: الاحتلال عالق في غزة ويحاول إيهام العالم بأنه قضى على فصائل المقاومةبعد جنازة السعدني.. نائب مصري يتقدم بتعديل تشريعي لتنظيم تصوير الجنازاتبايدن يعلن استثمار سبعة مليارات دولار في الطاقة الشمسيةوفاة العلامة اليمني الشيخ عبد المجيد الزنداني في تركيامنح الخليجيين تأشيرات شنغن لـ 5 أعوام عند التقديم للمرة الأولىتقرير: إسرائيل تفشل عسكرياً بغزة وتتجه نحو طريق مسدودالخارجية الأمريكية: لا سبيل للقيام بعملية برفح لا تضر بالمدنييننيويورك تايمز: إسرائيل أخفقت وكتائب حماس تحت الأرض وفوقهاحماس تدين تصريحات بلينكن وترفض تحميلها مسؤولية تعطيل الاتفاقمصر تطالب بتحقيق دولي بالمجازر والمقابر الجماعية في قطاع غزةالمراجعة المستقلة للأونروا تخلص إلى أن الوكالة تتبع نهجا حياديا قويامسؤول أممي يدعو للتحقيق باكتشاف مقبرة جماعية في مجمع ناصر الطبي بخانيونسإطلاق مجموعة تنسيق قطاع الإعلام الفلسطينياتفاق على تشكيل هيئة تأسيسية لجمعية الناشرين الفلسطينيين
2024/4/24
جميع الأراء المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي دنيا الوطن

زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب 6 بقلم:د.محمد بنيعيش

تاريخ النشر : 2019-08-15
زرياب في مزاحمة الكلاب بين الدروب والهضاب 6 بقلم:د.محمد بنيعيش
                                       6

                                   "هايْدي تُو" 

                   وفصول مطولة للرحلة الصيفية مع الكلاب



لم تكد "هايدي وان" تودع المكان والزمان وتخلي السطح وتمحي القرح بموتها ونسيان ذكراها حتى استعمرت مكانها كلبة من جنسها ولكنها ليست من فصيلتها وإنما هي من سلالة الكلب الثلجي (الهاسكي)الأبيض الذي سبق وأن زار منزل زرياب يوما ثم ذهب . إنها "مايا" الجميلة والرشيقة،زرقاء العينين بالنهار حمراؤها بالليل، تلبس قناعا يملأ وجهها على شكل هلالين متوازيين يؤلفان بين رمز الليل والنهار في سواد وبياض ،مع أذنين واقفتين كالرادار ترصد سرعة الأخبار،مشيتها على ذروة الأطراف وسرعتها كالسهم المباشر الذي لا يعرف التفاف ،تفرحك وتسرك حينما تقبل عليك مبصبصة لاحسة ومتمططة، وتخيفك عندما تكشر عن أنيابها غاضبة ومحتجة ،لكنها قد لا تؤذي بطبعها الإنسان ،والويل ثم الويل لمن جاراها أو تحداها من بني جنسها الحيوان .وهي الآتية من بلاد بعيد وغريب عن البلاد التي هي موطن هايدي الأصلي،إنه بلاد البرد والثلوج وموطن الذئاب والثعالب والدببة وأناس قريبة شكلها من شكلها وسلوكها من سلوكها تتعايش معها وتتبادل المنافع والمصالح بحسب الضرورة ومقتضى الحال.   

ملأت مايا الفراغ من الخريف حتى الصيف حيث بدأ تبادل الزيارات العائلية وقضاء العطلة هنا أو هناك.وبينما الأطفال يلعبون بقارعة الطريق وعند نهاية الدرب ومنعطفه ستطل عليهم كلبة مهزومة محطمة الخطوات شريدة ومعطوبة الرجل ومعوجة الظهر،ربما قد دهستها سيارة أو انهالت عليها هراوة .وكأنها تردد أغنية المطرب عبد الحليم حافظ:"وسرت وحدي شريدا محطم الخطوات تهدني أنفاسي تخيفني لفتاتي كهارب ليس يدري أين أو أين يمشي..."

توقف الأطفال في حيرة وتردد ثم بحكم فطرتهم وطيبوبة نفوسهم وحنانهم عطفوا على الوافدة من غير موعد بشيء من الطعام يسد رمقها،لأنها كانت جائعة وعطشى ولا ماء ولا كلأ يقدم إليها.فما كانت تلك المبادرة إلا أن أطمعتها بالتوقف عند هذه المحطة حيث لا محطة لها غيرها.فلو أنها وجدت من يطعمها ويسقيها في مكان آخر لبقيت فيه ،والنفوس ،أي نفس،مجبولة إلى من يحسن إليها.حتى ولو كانت نفس حيوان وحشرات،تماما كما يذكر ابن خلدون بأن الدار التي تكون دار خير ورزق يقصدها الفئران والهررة والطيور والعصافير والصراصير.أما التي هي دار بخل وقفر فلا يوجد بها سوى المزابل والمنابل والمعاول.

وفي إطلالة من زرياب سيلحظ هذه الكلبة الواقفة موقف المستعطف، المكسرة النفس والرجل الخلفية مع تقوس الظهر، تنظر إليه وكأنها تقول له على شاكلة "جان فلجان" في البؤساء:هل من ملجأ لديكم في هذا الدرب بعدما ضاقت بي السبل ونفرت مني النفوس واعتدي على جسمي ولم أنل تعويضا أو مواساة تذكر؟

نظر زرياب من حوله ثم أعاد النظر فتذكر سوء ظنون الجيران وترصدهم وتبريرهم لكل ما فيه شنآن،فهم لم يرحموا الإنسان فكيف بالحيوان ،وخاصة إذا كان كلبا كما هو الحال لدى سكان مدينة الصبّانة سبق وسردنا. 

يكفي زرياب ما قد بدأ يشير به إليه ويتمتموا حوله بعض الجيران من مناوشة وافتعال خصومة بزعم أن الكلب ليس له مكان في الحي وأنه ربما قد يزعج السكان ويؤرقهم...في حين لم يكد أحد منهم أن ينبس ببنت شفة ،أو يتفق على تغيير منكر بتبليغ السلطات ،حينما يسهر عند عتبات بيوتهم وقارعة الطريق وسط الدرب بعض المتسكعين والمخمرين ومدمني المخدرات ،بل حتى المصاحبين للفتيات في قلة حياء واستهتار، فيصيحون ويسبون بأقذع الشتائم والسباب،يتكرر الأمر تقريبا كل ليلة وخاصة عند عطلة نهاية الأسبوع.

لكنهم لم يحل لهم أن يرفعوا أصواتهم وينتقدوا إلا جارهم بكلبه الهادئ والجميل المسلي،حتى إنه قد لا يسمع له نباح إلا في النادر القليل.

فكر زرياب ثم فكر وتوقع فكان ما توقع ،وهو أن حضور هذه الكلبة في الدرب سيكون محسوبا عليه وسيقول الجيران بأنه هو الذي أتى بها وهو الذي حرض على بقائها... فما كان لتفادي هذا المنغص وللحفاظ على حسن الجوار إلا أن سارع بنفسه لطردها من الدرب علها أن لا تعود.

التفتت نحوه في شكل ملام وكأنها تريد أن تقول شيئا ثم انصرفت وغابت إلى حين،وفي يوم الموالي عادت فكرر معها نفس السلوك وردت عليه بنفس الإشارة.ثم لم يكتف زرياب بهذا بل ذهب بمعية مايا خارج الدرب وهو ينوي أن يضللها الطريق فطاف بعيدا وهي تتبعه بل تتبع الكلبة مايا للاستئناس بها وفي قرارة نفسها تشعر وكأنها دون مستوى هذا القرب، وكأنها ضيف ثقيل مرفوض لا يتسحق أن يهتم به .لكن مهما حاول زرياب من تضليل إلا وقالت له :إنني معكم ولن أفارقكم وسأموت عندكم كما ماتت "هايدي وان".وكأنها تردد اللحن الحزين للموسيقار فريد الأطرش:"لِمين أشكي ويسمعني لمين أبكي ويرحمني... ،ليه الظلم ليه ،ليه الظلم ليه.العمر قضيت حزين مهموم أخلص من هم ألاقي هموم ".

فقد كان هناك تشابه كبير بين شخصية هايدي وهذه الكلبة الوافدة حتى في شكلها وحجمها وعنفها وعزة نفسها،وهذا ما دفع بالأطفال لتسميتها بهايدي الثانية أو" هايدي تو".

استسلم زرياب للأمر الواقع ،أمر فرضته كلبة ضعيفة بكماء عرجاء لا حيلة لها سوى نظراتها واستعطافها في مواجهة واقع قوم لا يعرفون معنى الرحمة والشفقة والعطف إلا مجاملة وحيث المصالح والفرص.ففضل زرياب أن يغلب واقع الكلبة على واقع البشر ثم بدأ بدوره يطعمها ويسقيها ويهتم بها أكثر مما كان يهتم بهايدي الأولى ومايا ،فخصص لها إناء فيه ماء يملؤه لها كل يوم كما يتذكرها عند كل وجبة طعام فيطعمها ويسقيها وهو مرتاح البال والضمير ويتأمل في سلوكها وما امتحنه الله به من خلالها.

وهكذا أخذت "هايدي تو" مكانها في الدرب بالرغم من كراهية بعض الجيران لوجودها هناك، قد تتفاوت هذه الكراهية فتخف أو تشتد بحسب المزاج.

فعادت أنشودة هايدي إلى الحياة على نفس الإيقاع الذي كان مع الأولى:

                     هيدودي هيدودي   هيدودي هيدودي 

لم يكن لهايدي تو مأوى تأوي إليه سوى ظلال بعض العتبات حينما يشتد الهجير أو أنها كالعادة قد تلجأ إلى الاختباء تحت السيارات ،ربما قد كان هذا هو السبب في إعطابها،إذ كم من متسرع قد يحرك سيارته وينطلق من غير انتظار أو تفحص ما تحت سيارته هل هر أم كلب ولم لا إنسان فيدهسه ويدوسه من حيث لا يدري،فقد كثر المتشردون ولا من يؤويهم !!! 

وفي كثير من الأحيان قد يفتح زرياب أو أحد أهله لها الباب فتلزم مكانا وراءه لا تتعداه إلى حين يعتدل الحر فتخرج للبحث عن مصالحها.

أخذت هايدي تو مكانها في الدرب ووطنت نفسها حيث يمكن لها أن توطنها،ثم شرعت في تأدية وظيفتها المنوطة بها ،وظيفة من أشرف الوظائف وأنظفها وأعزها ،إنها حماية الدرب من الدخيل والقيام بدور الشرطي من غير سلاح ولا هراوة ولا صراخ ولا عويل،وإنما هي تكشيرة واحدة أو نبحة حتي يكون الأمر قد قضي وولى الغريب هاربا أو رجع القهرى واختار طريقا آخر غير المسلك المقصود !.بل حتى تلك القطط التي كانت تزعج السكان بموائها المرعب وخاصة عند التخاصم أو التناسل لم يعد لها وجود ،ومن كان لا يستطيع ترك سيارته بالليل خوفا من اللصوص والمتطفلين فقد استأمنها عند هايدي تو وهو لا يريد أن يعترف بدورها.إذ غالبية سكان الدرب رأوا فيها كائنا غير مرغوب فيه وأنه توريط للدرب بكلبة مزعجة ومقرفة ومعرضة الجيران والمارة للأمراض وما إلى ذلك من مزاعم لتبرير قرار الطرد.لكنهم كانوا دائما يلمحون إلى زرياب بأنك أنت السبب في هذا المطب.وفي فترة لم يتمالك نفسه حتى استشاط غضبا وحمل المسؤلية عكسا للجيران لأنهم سكتوا منذ اليوم الأول ولم يتخذ أحدهم مبادرة ولا قرار بطرد هايدي من الدرب بينما كان هو أول من حاول ولم يفلح.

بل في  فترة ما قرر أن لا يناولها شيئا من الطعام كوسيلة ضغط وحرب نفسية و اقتصادية لكي تبتعد عن الدرب بهذا السبب، فما كان من هايدي وإستراتيجيتها المتحدية إلا أن ذهبت إلى بعض حاويات القمامة والتقطت عظمة معز يابسة عليها بعض بقايا جلد وألياف وغضاريف ثم شرعت تقضمها قضما بالقرب من زرياب:-قْرَطْ قْرطْ قْرطْ.وفي نفس الوقت تنظر إليه فتكرر حركتها ثم تعيد الالتفاتة في شموخ وثقة بالنفس وكأنها تقول له بلسان حالها وعقيدتها في التوكل:- إن كنت تريد أن تحرمني من رزقي وتمنعني من حقي في العيش فهناك من يرزقني ويسقيني دونك.هناك من لا ينساني ولا يحرمني ،هناك من ضمن لي رزقي ولم يساومني على مبادئي وطبيعتي التي خلقني عليها .وكأنها تذكره بقول الله تعالى :" وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ"،" وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ"" وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ".

وصلت الرسالة كالبرق إلى وعي زرياب فندم على ما قرره ونواه ثم حاول استدراك الأمر وجبر الخاطر بتقديم ما ينبغي من الأكل لهايدي ،مع الاعتذار والشعور بالنقص وقلة الوعي بقضايا الحياة ومستلزمات الوجود. 

فلقد كان هذا درسا موجها بالمباشر إليه في باب التوكل ،وتذكيره باستحضار وعد الله تعالى للمتوكلين والضامن لأرزاقهم مهما تسلط عليهم اللصوص وضيع الظالمون لهم من حقوق ،فما هو من نصيبك آت آت لا محالة ولو بعد حين، بل الخزي والندم حيث لا ينفع ندم سيعود على المحتكرين والكانزين والمبذرين والمضيعين للمال العام والخاص بغير حق ولا قانون !.

وبعد مرور الزمن بدأت تظهر ثمرات وجود هايدي بوضوح في الدرب مما شجع زرياب على زيادة تكريس حضورها وبقائها هناك.

لم يكن في الدرب بيت يقدم لها ولو كسرة خبز أو حتى شربة ماء،لكن وبعد تحديها الوجودي والوظيفي بدأت بعض الجارات تخصص لها بين الفينة والأخرى بقايا طعام وما شابهه.لكن هايدي لم تكن تقصد غير دار زرياب، فيها الطعام وفيها الشراب ،وفيها الأصدقاء وفيها الأحباب،وفيها الملاذ وفيها المآب. 

ولم يقتصر هذا التحول في العلاقات على بني الإنسان بل تعداه أيضا إلى الحيوان،فبعدما كانت القطط لا تكاد تصل إلى عتبة المنزل حتى  تهش فيها هايدي بكل ما أوتيت من نبحة أصبحت تعقد معها اتفاقا مؤقتا وتحالفا يسمح لها بمشاركتها في شيء من الطعام والارتواء من الوعاء.لكن ، لكي تحافظ على سرية هذه المعاهدة فقد كانت هايدي في بعض الأحيان تراوغ زرياب وتظهر بأسها وشدتها على القطط وكأنها عدوها اللدود ،وذلك حينما كان يعود من السوق بالسيارة مملوءة بالخضر والسمك،ومؤونة خاصة بها من رؤوس دجاج وأرجلها وأقنصتها...فيصادف هناك هرة واقفة بالباب مطمئنة وبجانبها هايدي يتحدثان ويتشاوران ويستأنسان ،فما أن تراه حتى تنتفض هذه الأخيرة من غير سابق إنذار وتصدر نباحا تحذيريا وهجوميا يقفز معه الهر قفزا ويطير هاربا وكأنه لم يكن منذ اللحظة ذلك الصديق وخير أنيس .فيضحك زرياب ضحكا عميقا ومتأملا في هذا العالم الحيواني الذي لا يكاد يختلف عن الإنساني في شيء سوى الهندام !!!.

مر الصيف وجاء الخريف وبدأ الحنين إلى الدفء والتساكن، ولم لا التزاوج والتوالد ؟.ولم يكن أحد يخطر بباله أن هايدي تو ستسعى لكي تكون أما يوما ما.وكيف لها ذلك وهي عرجاء مكسرة الظهر ومدمرة الحركة لا تكاد تحمل جسمها فكيف بجرائها؟

ولكن الغريزة هي الغريزة وسنة الكون هي سنة الكون ولله في خلقه شؤون.فالقياس العقلي للحكم على طبيعة الكائنات ووظيفتها وعوالمها عاجز عن العثور على الحد الأوسط في كثير من الأحيان.

وفعلا كثر الخطاب وتكاثر العزاب يطلبون يد وود هايدي ،حتى إنهم كانوا يزورونها في مكانها وعند الدرب الذي تقطنه من غير سقف أو لحاف.وكان زرياب لا يكاد يرى تلك الكلاب تمر به حتى يهرع لمطاردتها وصرفها إلى مكان آخر دفعا للحرج وحفاظا على مبادئ اللياقة.فالستر جميل ولو عند الكلاب ،وهذا هو ما يجعل لقاءاتها تكون في غالب الأحيان ليلا أو في مكان بعيد وخال.لكن هايدي بحكم إعاقتها لم تستطع الابتعاد فسبب لها هذا العجز ما سبب من نكد !.

وبعد فترة من فترات تزاوج الكلاب بدأت تظهر على هايدي علامات الحمل وأنها مقبلة على عهد جديد وتحقيق أمنية لم يحققها كثير من بني أو بنات البشر.وجاءها المخاض فكانت تحاول أن تلد ببيت زرياب ،لكن المكان لا يحتمل ،ثم ألجأها الوضع إلى مكان خال وراء الدار فوضعت جراءها بين الحيطان والأعشاب ،حتى استدركها زرياب وبعض الجيران بما يلزم الأم النفساء من لوازم العناية والأغطية والأفرشة ومعها الطعام والشراب ولم لا حتى الدواء !. 

فgقد ولدت ما يقرب عن خمسة جراء ،استمتعت بها لفترة قصيرة ،فكان يزورها بين فينة وأخرى شاب ،فقير ومضطرب  نفسيا، من نفس الحي والزقاق قد كان يعتبر في حكم المتمردين والمجانين والمعتدين، ولم يستدرك أمره وعلاجه إلا بعد فوات الأوان ،فإذا به سيكون من أرحم أهل الدرب وأكثرهم حنانا وصيانة لهايدي، بحمايتها وإطعامها وسقائها ،حتى لقد نافس زرياب في الأمر ،فكانت هايدي سببا في التصالح بينهما لشنآن وخصومة كانت قد حصلت من قبل ولم تنته فصولها إلا عند نفاس وسبوع  جراء هايدي !. 

لكن الفرحة لم تكتمل بهذه البساطة ،فما أن هي أيام قلائل حتى ماتت جراؤها كلها أو سلب بعضها منها بفعل فاعل ، وحتى وقفت هايدي بوسط الدرب تشتكي بصوت وعويل وأنين يختلط فيه صوت الحيوان مع تعبير الإنسان وهي تصدح عاليا:-ووووه،ووووه. 

يسالها زرياب :- ما بك يا هايدي ماذا دهاك؟ فترد عليه وهي ترفع رأسها إلى السماء شاكية باكية ومتضرعة إلى خالقها:- وووووه،ووووه.

أدرك زرياب في الحين أنها تشتكي من ضياع فلذات كبدها وتسائله :أين ذهبت جرائي ردوا علي أولادي ردوها علي بحق الله...ولم تكتف بهذا الصراخ بل حاولت دخول دار زرياب تجوبه من مكان إلى مكان علها تعثر على أولادها يقينا منها بأنه لا يمكن أن يضرها أو يؤذيها و يسيء إليها على هذا المستوى.

في تلك اللحظة قد كان بجانب زرياب صديق وجار له ،مثقف ومهذب ،يحادثه في أمر ما ،فلما سمع الصراخ قال له:ما بال هذه الكلبة تصرخ هكذا؟.أجابه زرياب والدهشة والدموع تغالبه:- إنها تشكو فقد جرائها وتقول لي ابحث معي عنها.

تعجب الصديق ودهش وأقر بأنه في حياته لم يسمع مثل هذا الصوت وهذا الإيحاء من كلبة يظن أنها محتقرة وشرسة ،ومع ذلك فهي ذات كبد رطب تختلج قلبها الرحمة والشفقة ،بل تعطي لبني الإنسان دروسا ما بعدها من دروس في وفاء الأمومة وعدم التخلي عن فلذة كبدها مهما كلفها الثمن !.

أصرت هايدي على البقاء والتمركز فكانت حياتها ذات تميز،يغلب عليها الإباء والوفاء في آن واحد،وتتعاور حياتها الأفراح والأحزان ولكنها ليست كأحزان الإنسان،بل هي سرعان ما تنسى وتجدد حياتها ،فمرة تصح  وتتعافى وتتقوى فتقوم على قوائمها الأربعة حتى يظن أنها قد تلاءمت وجبرت تلك التي كانت مهشمة ،كما قد يستقيم ظهرها ويتراص عمودها الفقري فتبدأ في العدو تجاري قرينتها مايا حينما تخرج للتنفس والاستجمام من سجنها المنزلي.بل كانت هايدي أسعد بكثير من الكلاب المحصورة بالمنازل وذلك لحريتها وتقرير مصيرها بيدها ،بينما الكلاب المقتناة هي أقرب إلى السجن منها إلى الإيواء والعناية.
 
لا يوجد تعليقات!
اضف تعليق

التعليق الذي يحتوي على تجريح أو تخوين أو إتهامات لأشخاص أو مؤسسات لا ينشر ونرجو من الأخوة القراء توخي الموضوعية والنقد البناء من أجل حوار هادف