منذ تسعة وتسعين عاماً، أعلن الجنرال الفرنسي، غورو، في الأول من أيلول/سبتمبر 1920، إنشاء دولة لبنان الكبير، وذلك في قصر الصنوبر الذي كان مقراً لوالي بيروت العثماني عزمي بيك، ثم تحول مقراً للمندوب السامي الفرنسي، قبل أن يصير مقراً للسفير الفرنسي في بيروت.
الشخصية الأبرز التي حضرت الاحتفال كان البطريرك الماروني إلياس الحويك، الذي رأى في هذه الدولة تجسيداً للبنانين؛ الأول قديم هو الجبل، والثاني جديد ترعاه فرنسا.
وبصرف النظر عن النقاش الذي دار حول شرعية الدولة الجديدة وانتهى إلى تسوية رضوخ من قبل الحركة الوطنية السورية، فإن إعلان غورو أسس لدولة لا تزال مستمرة قامت على ضم المدن الساحلية والبقاع إلى المتصرفية التي نشأت بعد الحرب الأهلية الأولى عام 1860.
لبنان الرسمي والسفارة الفرنسية والعديد من المراكز الأكاديمية تستعد للاحتفال بمرور مئة سنة على هذا الحدث، الذي يستحق نقاشاً جدياً حول جدواه ودلالاته وأثره على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذه الدولة التي خرجت من رحم الاستعمار الفرنسي.
كتب الكثير لشرعنة وتسويغ هذه الدولة الوليدة، التي كانت جزءاً من مشروع لتقسيم سوريا إلى خمس دويلات، لم يصمد منها سوى هذا اللبنان الكبير.
كلمة كبير ملتبسة، فلبنان بلد صغير، وتكبير المتصرفية لم ينتج عنه سوى رقعة جغرافية مساحتها 10452 كيلومتراً، لكنه كبير بالنسبة إلى متصرفية جبل لبنان، وجرى تكبيره رمزياً عبر أَسْطرة ماضيه الفينيقي- الكنعاني، والتنظير لدوره كوسيط بين الشرق والغرب.
استعداداً لهذه الذكرى، تعالوا نقرأ بهدوء ماذا فعلت دولة لبنان الكبير بنفسها، وبهذه الرقعة الجغرافية التي صارت دولة مؤجلة ووطناً ناقصاً.
أريد أن أتوقف عند صفة الكبير التي ألصقها الجنرال غورو بهذه الدولة، التي صار اسمها الجمهورية اللبنانية، والتي صُنعت كي تكون استمراراً لنظام المتصرفية بطابعه الطائفي الغالب.
كل محاولات تكبير لبنان على المستويات الأيديولوجية والرمزية، من ميشال شيحا إلى الندوة اللبنانية، كانت تنحني أمام بنية النظام المتصرفي القائم على المحاصصة الطائفية، وعلى اعتماد الطوائف الأساسية على الدعم الخارجي.
منذ عام 1920 تقوم الطبقات اللبنانبة الحاكمة بتصغير هذا اللبنان الصغير أصلاً. وتسعى إلى تحطيم هوامش الحرية التي نشأت على ضفاف توازناته الطائفية.
ربما لم ينج من سياسات التصغير وما رافقها من توترات دائمة سوى مكان واحد هو بيروت، التي صارت بفعل التطورات الإقليمية عاصمة ثقافية عربية.
تحوّلت بيروت إلى عاصمة عربية كبرى صنعتها موجات المهاجرين واللاجئين إلى هذه المدينة، بحيث تشكل فيها مناخ حداثي، على هامش لعبة وجهاء المتصرفية القدامى والجدد، كان تحدياً دائماً لأنظمة الاستبداد العربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي. الاستبداد العربي رأى في بيروت احتمالاً لا يمكن تحمل حرياته، والاحتلال الإسرائيلي رأى حقيقة كونها العاصمة العربية التي احتضنت المقاومة بأشكالها الفكرية والثقافية والنضالية.
لذلك، ولد اتفاق ضمني إقليمي مع وجهاء الطوائف على شطب الحرية اللبنانبة من المعادلة.
حولت الممارسات الطائفية الهوجاء لبنان الكبير إلى ساحة صراعات طائفية-إقليمية في مناخات حرب أهلية مستمرة، وجاء الاستبداد والاحتلال ليكملا لعبة هذا الحطام اللبناني، بحيث صار لبنان الصغير أصغر وأصغر.
لا أدري ماذا سيقول المحتفلون بالذكرى المئوية لتأسيس دولة لبنان الكبير، لكن الاحتفال في رأيي، يجب أن يكون حول تصغير لبنان المستمر وليس حول تكبيره.
فلبنان يصغر بهذه الطبقة من الطائفيين والرأسماليين، التي لا يولد زعماؤها الجدد إلا على إيقاع طبول التجييش الطائفي والممارسات العنصرية واضطهاد وقمع ما تبقى من حريات عامة، وتحطيم الثقافة.
خلال تسعة وتسعين سنة، بدل أن يكبر لبنان جرى تصغيره، وكل محاولة لتكبير دوره كأرض للحريات ومكان للنهضة الثقافية العربية جرى تحطيمها.
هامش الحرية الذي صنعته بيروت بصفتها عاصمة للثقافة العربية حطمته لبننة بيروت وترييفها عبر القمع والترهيب.
واليوم، يعيش لبنان في همروجة اللامعنى، وصار أسياد ثقافته كأبو كسم وطغمة الأكليروس وأصحاب الفتاوى هم من يقرر ثقافته، ويدفع به إلى قعر الانحطاط.
ماذا يعني هذا الخطاب الطائفي السائد سوى أنه دعوة إلى الانتحار؟
لقد لعبها غورو بشطارة، لم يتوفق الاستعمار الفرنسي كما توفق بهذا اللبنان الصغير المكبّر، صنع دولة لا يمكن أن تُحكم إلا من خارجها، معتقداً أن استعماره وهيبته سوف تدومان، وقاد ذلك لبنان إلى حروب أهلية مع كل تغيير في موازين القوى الإقليمية. وقد أوصل الاستبداد الأسدي هذه المعادلة إلى ذروتها، وتلاعب بالطوائف معتقداً أنه يرث غورو، فكان ذلك بداية انهياره الشنيع وانهيار سوريا المأساوي.
كان البطريرك الحويك يعتقد أنه كبّر لبنان الصغير، ولم يكن يدري أن المرض الطائفي العنصري الذي بني عليه «مجد لبنان» سوف يصل إلى قعر انحطاط التعصب الديني الذي يسعى إلى قتل آخر اختلاجات الروح في الثقافة اللبنانية.
لقد صغرتموه أيها السادة، صغرتموه بالعنصرية والنهب والفساد وباللجوء إلى الاحتماء بالأديان السماوية كي تحولوا الأرض جحيماً، صغرتموه إلى درجة لم يعد أحد يستطيع رؤيته.
رجاء، ضبّوا الاحتفالات بلبنان الكبير، وتعالوا نفكر كيف يمكن إخراج لبنان من شرنقة التصغير التي نسجها الطائفيون، محولين لبنان من مشروع وطن إلى مشروع حرب أهلية دائمة.
الشخصية الأبرز التي حضرت الاحتفال كان البطريرك الماروني إلياس الحويك، الذي رأى في هذه الدولة تجسيداً للبنانين؛ الأول قديم هو الجبل، والثاني جديد ترعاه فرنسا.
وبصرف النظر عن النقاش الذي دار حول شرعية الدولة الجديدة وانتهى إلى تسوية رضوخ من قبل الحركة الوطنية السورية، فإن إعلان غورو أسس لدولة لا تزال مستمرة قامت على ضم المدن الساحلية والبقاع إلى المتصرفية التي نشأت بعد الحرب الأهلية الأولى عام 1860.
لبنان الرسمي والسفارة الفرنسية والعديد من المراكز الأكاديمية تستعد للاحتفال بمرور مئة سنة على هذا الحدث، الذي يستحق نقاشاً جدياً حول جدواه ودلالاته وأثره على الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في هذه الدولة التي خرجت من رحم الاستعمار الفرنسي.
كتب الكثير لشرعنة وتسويغ هذه الدولة الوليدة، التي كانت جزءاً من مشروع لتقسيم سوريا إلى خمس دويلات، لم يصمد منها سوى هذا اللبنان الكبير.
كلمة كبير ملتبسة، فلبنان بلد صغير، وتكبير المتصرفية لم ينتج عنه سوى رقعة جغرافية مساحتها 10452 كيلومتراً، لكنه كبير بالنسبة إلى متصرفية جبل لبنان، وجرى تكبيره رمزياً عبر أَسْطرة ماضيه الفينيقي- الكنعاني، والتنظير لدوره كوسيط بين الشرق والغرب.
استعداداً لهذه الذكرى، تعالوا نقرأ بهدوء ماذا فعلت دولة لبنان الكبير بنفسها، وبهذه الرقعة الجغرافية التي صارت دولة مؤجلة ووطناً ناقصاً.
أريد أن أتوقف عند صفة الكبير التي ألصقها الجنرال غورو بهذه الدولة، التي صار اسمها الجمهورية اللبنانية، والتي صُنعت كي تكون استمراراً لنظام المتصرفية بطابعه الطائفي الغالب.
كل محاولات تكبير لبنان على المستويات الأيديولوجية والرمزية، من ميشال شيحا إلى الندوة اللبنانية، كانت تنحني أمام بنية النظام المتصرفي القائم على المحاصصة الطائفية، وعلى اعتماد الطوائف الأساسية على الدعم الخارجي.
منذ عام 1920 تقوم الطبقات اللبنانبة الحاكمة بتصغير هذا اللبنان الصغير أصلاً. وتسعى إلى تحطيم هوامش الحرية التي نشأت على ضفاف توازناته الطائفية.
ربما لم ينج من سياسات التصغير وما رافقها من توترات دائمة سوى مكان واحد هو بيروت، التي صارت بفعل التطورات الإقليمية عاصمة ثقافية عربية.
تحوّلت بيروت إلى عاصمة عربية كبرى صنعتها موجات المهاجرين واللاجئين إلى هذه المدينة، بحيث تشكل فيها مناخ حداثي، على هامش لعبة وجهاء المتصرفية القدامى والجدد، كان تحدياً دائماً لأنظمة الاستبداد العربية ودولة الاحتلال الإسرائيلي. الاستبداد العربي رأى في بيروت احتمالاً لا يمكن تحمل حرياته، والاحتلال الإسرائيلي رأى حقيقة كونها العاصمة العربية التي احتضنت المقاومة بأشكالها الفكرية والثقافية والنضالية.
لذلك، ولد اتفاق ضمني إقليمي مع وجهاء الطوائف على شطب الحرية اللبنانبة من المعادلة.
حولت الممارسات الطائفية الهوجاء لبنان الكبير إلى ساحة صراعات طائفية-إقليمية في مناخات حرب أهلية مستمرة، وجاء الاستبداد والاحتلال ليكملا لعبة هذا الحطام اللبناني، بحيث صار لبنان الصغير أصغر وأصغر.
لا أدري ماذا سيقول المحتفلون بالذكرى المئوية لتأسيس دولة لبنان الكبير، لكن الاحتفال في رأيي، يجب أن يكون حول تصغير لبنان المستمر وليس حول تكبيره.
فلبنان يصغر بهذه الطبقة من الطائفيين والرأسماليين، التي لا يولد زعماؤها الجدد إلا على إيقاع طبول التجييش الطائفي والممارسات العنصرية واضطهاد وقمع ما تبقى من حريات عامة، وتحطيم الثقافة.
خلال تسعة وتسعين سنة، بدل أن يكبر لبنان جرى تصغيره، وكل محاولة لتكبير دوره كأرض للحريات ومكان للنهضة الثقافية العربية جرى تحطيمها.
هامش الحرية الذي صنعته بيروت بصفتها عاصمة للثقافة العربية حطمته لبننة بيروت وترييفها عبر القمع والترهيب.
واليوم، يعيش لبنان في همروجة اللامعنى، وصار أسياد ثقافته كأبو كسم وطغمة الأكليروس وأصحاب الفتاوى هم من يقرر ثقافته، ويدفع به إلى قعر الانحطاط.
ماذا يعني هذا الخطاب الطائفي السائد سوى أنه دعوة إلى الانتحار؟
لقد لعبها غورو بشطارة، لم يتوفق الاستعمار الفرنسي كما توفق بهذا اللبنان الصغير المكبّر، صنع دولة لا يمكن أن تُحكم إلا من خارجها، معتقداً أن استعماره وهيبته سوف تدومان، وقاد ذلك لبنان إلى حروب أهلية مع كل تغيير في موازين القوى الإقليمية. وقد أوصل الاستبداد الأسدي هذه المعادلة إلى ذروتها، وتلاعب بالطوائف معتقداً أنه يرث غورو، فكان ذلك بداية انهياره الشنيع وانهيار سوريا المأساوي.
كان البطريرك الحويك يعتقد أنه كبّر لبنان الصغير، ولم يكن يدري أن المرض الطائفي العنصري الذي بني عليه «مجد لبنان» سوف يصل إلى قعر انحطاط التعصب الديني الذي يسعى إلى قتل آخر اختلاجات الروح في الثقافة اللبنانية.
لقد صغرتموه أيها السادة، صغرتموه بالعنصرية والنهب والفساد وباللجوء إلى الاحتماء بالأديان السماوية كي تحولوا الأرض جحيماً، صغرتموه إلى درجة لم يعد أحد يستطيع رؤيته.
رجاء، ضبّوا الاحتفالات بلبنان الكبير، وتعالوا نفكر كيف يمكن إخراج لبنان من شرنقة التصغير التي نسجها الطائفيون، محولين لبنان من مشروع وطن إلى مشروع حرب أهلية دائمة.