
سليم النفار
في أواسط أيار يتهيأ الفلاحون في بلاد الشام لحصاد القمح ، وعندما كنا أطفالاً نمرُّ على القرى والمناطق المجاورة لمدينة اللاذقية ، كنا نسعد بمتابعة تلك المشاهد الأخاذة ، في ذلك الكرنفال البشري الساحر ، فرغماً عن التعب الذي نراه على وجوههم ، فقد كانت قلوبهم تضجُّ فرحاً بذلك الموسم ، الكلّ منهمك نساء ورجال في موسم الخير ، وكنا ثلةٌ من الأطفال الأصدقاء في تلك الأيام ، غالباً ما نذهب عصر كلّ يومٍ الى آخر المخيم ، حيثُ كانت الحقول الصغيرة المزروعة أيضاً ، قمحاً وأشياء أخرى ، وحيث التلال أو الكثبان الرملية المُطلة على تلك الحقول ، و التي كانت تشكل حاجزاً وهمياً ، متعارفٌ عليه بين المخيم وحي التركمان اللصيق بمخيمنا .
كنا نذهب ونتسابق في قطف " الحبلق " اللذيذ ، وكثيراً ما نتشاجر مع أبناء أصحاب الأراضي هناك ، نضربهم ويضربوننا ونعود فرحين- رغماً عن كل ذلك - بثمار الحبلق أو بأشياء أخرى ستسألونني ما هي الأشياء الأخرى ؟
سأقول لكم ، فلا تستعجلوا ... في تلك الأيام وعلى تلك الكثبان المحيطة بالمخيم ، كان الهواء العليل وأشتال الخضار يُغرين بعض العوائل في الذهاب عصراً للاستراحة ، من عناء الأعمال المنزلية وسواها ، فيبسطون البُسط أو البطانيات والشراشف على الرمال هناك ، وغالباً كانت النساء وأولادهم هم الذين يذهبن الى هناك ، يتسامرون بالحكايات ، بهمومهم وآمالهم يروّحون عن أنفسهم ، ونحن كنا نسعد في ذلك البراح ، أن نرى بعض الفتيات الصغيرات ، من ذوات أعمارنا اللواتي لهنَّ وقعٌ ما في قلوبنا ، لم نكن نعرف ماذا نُسميهِ وقتها ، غير أننا كنا نحب اللقاء بهنَّ ولو لقاء العيون ، وربما نحظى بدردشاتٍ ، وغالباً ما يُتاح لنا اللعب معاً في تلك المساحة ، فأهلنا لم يكونوا متزمتين في هذا السياق ، ولا سيما أننا أطفال ومؤدبين
أيضاً ، ولكن هل الأدب حاجز يمنع الهوى ؟
طبعاً – لا – وهكذا كانت تلك التلال جنتنا ، وحكاياتنا الأثيرة ، فماذا نُسمي ذلك ؟ ربما كان هو الحبُّ ، نعم إنّهُ كذلك ، ولكن : بنسخته الأولى الأكثر براءة وعفوية .
في تلك السنين وتحديداً في 15/5/1973 أي في أيار الذي حدثتكم عنه قبل قليل ، لم يكن الحصاد كما أشتهي أنا ، فعلى غفلةٍ من الزمان وفي صباح يوم الجمعة ، من ذات التاريخ جاء الخبر ، الذي قلب تفاصيل حياتي ، وأخرجني من عوالم الطفولة والفرح ، اللذين قبلاً بالكاد ألامسهما في تفصيلٍ هنا أو هناك ، وأمطر أيار الشامي يومها ، مطراً ساخناً مُغبرّاً وكأنهُ يعبر عن حزنهِ ، لرحيل بحارٍ عنيد أحبّ الشام وأهلها ، كما أحبَّ يافا وغزة ، نعم كان يوماً حزيناً ولقد بكته نساء المخيم بحرقةٍ ، وكان يوماً فارقاً في حياة أمي وحياتي ، لقد رحل الفدائي العنيد حاملاً طيَّ الجروحِ ، أحلامه الوارفة بلقاء الأهل والأصدقاء ولو على شاطئ غزة ، الذي شهد يفاعته وحلمه الأول بالعودة الى موجةٍ يافوية ، كان قد تعمَّدَ برذاذها ، نعم رحل الفدائي .