فارس السيف والقلم - برهان الدين العبوشي- بين الظلم والنسيان
د. أحمد جبر
انطوت صفحات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحملت في طياتها الكثير من الأسرار التي لم يتم الكشف عنها بشكل جلي يظهر حقيقة المواقف التي تبناها الشعراء العرب حيالهما وحيال أطرافهما، ما خلط الحابل بالنابل، وأسدلت الستارة على كثير من المواقف التي لا بد من الوقوف عليها ، وكشفها للمواطن العربي دارسا وقارئا وباحثا ، فقد انغمس بعض من الشعراء في الأوحال نتيجة لمواقفهم ولأشعارهم التي نظموها في تلك الحقبة، إذ بادر بعضهم إلى إسقاط قصائد طوال من ديوانه وبادر البعض الآخر بتقديم الاعتذار عن تلك الأشعار في حين أقدم بعض الدارسين
على وصف تلك المواقف والأشعار التي مجّدت المستعمر ومدحته بالسقطات أو الهفوات فلم ينشغلوا بها أو يولونها الدرس والتحليل.
إن قراءة جديدة للأدب العربي قديمه وحديثه قد أصبحت ضرورة ملحة، لإبراز القيمة الحقيقية لما أنتجه الأدباء في مختلف العصور الأدبية ومدى ما يعكسه النتاج الأدبي من مشاهد الحياة العربية في زمن النص وربط ذلك بالواقع المعاش في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى لا يظل البعض أسير مقولة الفن للفن فالفن حاجة إنسانية تؤدى على نحو ما لتحقق هدفا للفنان أو تحكي فكرة أو حكاية تفاعل معها الفنان رساما كان أم أديبا أم نحاتا، وعليه فنحن في أمس الحاجة لمؤشّر للقياس والتقويم على مستوى الأدب، ذلك أن الأدب الذي لا يخدم
قضايا الأمة ولا يساهم في نهضتها، ورسم طريق الخلاص أمامها يعد عثرة وعقبة يحول دون تقدمها ورقيها، والإبقاء عليها أسيرة ورهينة للخيال والعبثية، فالفن يخدم الإنسان ويلامس مشاعر الإنسان ويستهدف الإنسان قبل كل كائن.
كما أن القارئ العربي سيقف على أسماء اشتُهرت بعينها دون غيرها فلاقت الترحاب وانفتحت لها الأبواب وكثر فيها قول الأحباب وإطراء الأرباب وقد جاورت أسماؤهم الثريا، بينما بقي غيرهم من الشعراء يلامس بصيته الثرى رغم ما قدمه للوطن
وللأمة فشاعر كعبد الحميد الديب على سبيل المثال في مصر وبرهان الدين العبوشي في فلسطين وغيرهم من المغمورين قل من يعرفهم على امتداد الوطن العربي، إذ جرت العادة أن يفوز بالصيت من مُهّدت له الأحول والظروف ليعانق نجوم السماء شهرة وصيتا، فالشاعر الذي يأخذ وقته وزمنه الكافي لإنتاج قصيدة كزهير بن أبي سلمى في حولياته، يروق له التنقيح والتنميق والتزويق حتى يخرج عمله مزركشا وملونا بألوان الطيف يحمل من الصور ما يبهر الأبصار، في حين ينشغل الشاعر الفارس بميادين الحروب ومقارعة الأعداء، وقول الشعر ميدانيا مرتجلا مباشرا لم يجهد نفسه فيه لتزويقه وتنميقه.
الشاعر الفلسطيني برهان الدين العبوشي شاعر السيف والقلم واحد من هؤلاء المظلومين الذين لم يحالفهم الحظ ولم تسعفهم الظروف التي تهيأت لغيرهم من ذوي الصيت والشهرة، وقد دفعني ذلك لانجاز أطروحة لنيل الدكتوراه بعنوان : الاتجاه
القومي في شعر برهان الدين العبوشي، ولم أفاجأ حين ألفيت الشاعر مشغولا بالهم القومي والوطني بل سيطر ذلك الهم على حياته في مجمل مراحلها ، فلا يكاد متصفح أعماله الكاملة يجد صفحة تخلو من الحديث على القومية أو الدين أو الوطنية
والدعوة لمقارعة المستعمر، واستحضار التراث العربي والإسلامي في أبهج صوره ومشاهده وكل ذلك، جاء في نتاج أدبي منوع بين شعر موزون مقفى جنح فيه إلى التقليد وآخر شعري مسرحي ومذكرات، وعلى الرغم من تلك النتاجات الأدبية المنوعة والمباشرة، وكل تلك التضحيات التي قدمها الشاعر والعذاب الذي واجهه في الأسر مرارا وتكرارا إلا انه بقي رهين الظلم والنسيان والأغرب من ذلك إقدام البعض على تقزيم ما نظمه من أشعار ووصفها بالضعف مستندين إلى مسوغات ومبررات بعيدة كل البعد عن المهام والأدوار التي ينبغي للشاعر القيام بها إضافة إلى الظروف التي يعيشها والتي لا تمكنه من فعل ما قدمه غيره فهو شاعر ميدان ارتجالي يستخدم من الألفاظ والمعاني والصور ما هو قريب من فهم شرائح المجتمع كافة يبتعد عن التزويق والتنميق والغزل إلى حد بعيد لذلك تأتي أشعاره ارتجالية بسيطة المعاني والصور لا تخالطها الأحاجي والألغاز والأساطير التي لا تعرفها الجموع المتنوعة والمتباينة في فهمها وتلقيها للخطاب العبوشي الثائر في وجه المستعمرين والطغاة
.
إن هذه الكلمات دعوة صادقة لإنصاف الشاعر برهان الدين العبوشي من خلال قراءة جديدة للشعر لا تقف عند حد التزويق والتنميق والغزل والتشبيب فلكل مقام مقال وقد ناسب وناغم العبوشي بين المقام والمقال بل وأجاد في ذلك إلى حد بعيد دفع
النقاد الموضوعيين والمنصفين إلى إطلاق لقب فارس السيف والقلم عليه، فقد كانت جل أشعاره ارتجالية ميدانية تصب في نهج التحرر والوحدة والكرامة والمجد.
د. أحمد جبر
انطوت صفحات الحربين العالميتين الأولى والثانية، وحملت في طياتها الكثير من الأسرار التي لم يتم الكشف عنها بشكل جلي يظهر حقيقة المواقف التي تبناها الشعراء العرب حيالهما وحيال أطرافهما، ما خلط الحابل بالنابل، وأسدلت الستارة على كثير من المواقف التي لا بد من الوقوف عليها ، وكشفها للمواطن العربي دارسا وقارئا وباحثا ، فقد انغمس بعض من الشعراء في الأوحال نتيجة لمواقفهم ولأشعارهم التي نظموها في تلك الحقبة، إذ بادر بعضهم إلى إسقاط قصائد طوال من ديوانه وبادر البعض الآخر بتقديم الاعتذار عن تلك الأشعار في حين أقدم بعض الدارسين
على وصف تلك المواقف والأشعار التي مجّدت المستعمر ومدحته بالسقطات أو الهفوات فلم ينشغلوا بها أو يولونها الدرس والتحليل.
إن قراءة جديدة للأدب العربي قديمه وحديثه قد أصبحت ضرورة ملحة، لإبراز القيمة الحقيقية لما أنتجه الأدباء في مختلف العصور الأدبية ومدى ما يعكسه النتاج الأدبي من مشاهد الحياة العربية في زمن النص وربط ذلك بالواقع المعاش في مختلف النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية حتى لا يظل البعض أسير مقولة الفن للفن فالفن حاجة إنسانية تؤدى على نحو ما لتحقق هدفا للفنان أو تحكي فكرة أو حكاية تفاعل معها الفنان رساما كان أم أديبا أم نحاتا، وعليه فنحن في أمس الحاجة لمؤشّر للقياس والتقويم على مستوى الأدب، ذلك أن الأدب الذي لا يخدم
قضايا الأمة ولا يساهم في نهضتها، ورسم طريق الخلاص أمامها يعد عثرة وعقبة يحول دون تقدمها ورقيها، والإبقاء عليها أسيرة ورهينة للخيال والعبثية، فالفن يخدم الإنسان ويلامس مشاعر الإنسان ويستهدف الإنسان قبل كل كائن.
كما أن القارئ العربي سيقف على أسماء اشتُهرت بعينها دون غيرها فلاقت الترحاب وانفتحت لها الأبواب وكثر فيها قول الأحباب وإطراء الأرباب وقد جاورت أسماؤهم الثريا، بينما بقي غيرهم من الشعراء يلامس بصيته الثرى رغم ما قدمه للوطن
وللأمة فشاعر كعبد الحميد الديب على سبيل المثال في مصر وبرهان الدين العبوشي في فلسطين وغيرهم من المغمورين قل من يعرفهم على امتداد الوطن العربي، إذ جرت العادة أن يفوز بالصيت من مُهّدت له الأحول والظروف ليعانق نجوم السماء شهرة وصيتا، فالشاعر الذي يأخذ وقته وزمنه الكافي لإنتاج قصيدة كزهير بن أبي سلمى في حولياته، يروق له التنقيح والتنميق والتزويق حتى يخرج عمله مزركشا وملونا بألوان الطيف يحمل من الصور ما يبهر الأبصار، في حين ينشغل الشاعر الفارس بميادين الحروب ومقارعة الأعداء، وقول الشعر ميدانيا مرتجلا مباشرا لم يجهد نفسه فيه لتزويقه وتنميقه.
الشاعر الفلسطيني برهان الدين العبوشي شاعر السيف والقلم واحد من هؤلاء المظلومين الذين لم يحالفهم الحظ ولم تسعفهم الظروف التي تهيأت لغيرهم من ذوي الصيت والشهرة، وقد دفعني ذلك لانجاز أطروحة لنيل الدكتوراه بعنوان : الاتجاه
القومي في شعر برهان الدين العبوشي، ولم أفاجأ حين ألفيت الشاعر مشغولا بالهم القومي والوطني بل سيطر ذلك الهم على حياته في مجمل مراحلها ، فلا يكاد متصفح أعماله الكاملة يجد صفحة تخلو من الحديث على القومية أو الدين أو الوطنية
والدعوة لمقارعة المستعمر، واستحضار التراث العربي والإسلامي في أبهج صوره ومشاهده وكل ذلك، جاء في نتاج أدبي منوع بين شعر موزون مقفى جنح فيه إلى التقليد وآخر شعري مسرحي ومذكرات، وعلى الرغم من تلك النتاجات الأدبية المنوعة والمباشرة، وكل تلك التضحيات التي قدمها الشاعر والعذاب الذي واجهه في الأسر مرارا وتكرارا إلا انه بقي رهين الظلم والنسيان والأغرب من ذلك إقدام البعض على تقزيم ما نظمه من أشعار ووصفها بالضعف مستندين إلى مسوغات ومبررات بعيدة كل البعد عن المهام والأدوار التي ينبغي للشاعر القيام بها إضافة إلى الظروف التي يعيشها والتي لا تمكنه من فعل ما قدمه غيره فهو شاعر ميدان ارتجالي يستخدم من الألفاظ والمعاني والصور ما هو قريب من فهم شرائح المجتمع كافة يبتعد عن التزويق والتنميق والغزل إلى حد بعيد لذلك تأتي أشعاره ارتجالية بسيطة المعاني والصور لا تخالطها الأحاجي والألغاز والأساطير التي لا تعرفها الجموع المتنوعة والمتباينة في فهمها وتلقيها للخطاب العبوشي الثائر في وجه المستعمرين والطغاة
.
إن هذه الكلمات دعوة صادقة لإنصاف الشاعر برهان الدين العبوشي من خلال قراءة جديدة للشعر لا تقف عند حد التزويق والتنميق والغزل والتشبيب فلكل مقام مقال وقد ناسب وناغم العبوشي بين المقام والمقال بل وأجاد في ذلك إلى حد بعيد دفع
النقاد الموضوعيين والمنصفين إلى إطلاق لقب فارس السيف والقلم عليه، فقد كانت جل أشعاره ارتجالية ميدانية تصب في نهج التحرر والوحدة والكرامة والمجد.