
تعقيبا على ما كتب الأستاذ عارف حجاوي في مقاله الأخير
بقلم : رائد محمد الدبعي
الفرق بين معرفة مواطن وآخر بمدينته، كالفرق بين من يذهب لشاطئ لبحر للاستجمام وتسمير البشرة، وتقضية بعض الوقت، والتحرر من ضغوطات الحياة عبر نفضها على شواطئه، وبين من يغوص عميقا ليكتشف أسرار البحر، وخفاياه، فالمدن كالبحار، والكتب، شواطئها وعناوينها لا تخبر الكثير، بينما أعماقها، ومتون صفحاتها تحمل كثيرا من الحقائق والأسرار.
أعتقد أن الأستاذ عارف حجاوي لم يتجاوز السير على الشاطىء، حينما كتب مقالته " نابلس مدينة النساء القويات "، وهو الأمر الذي لم نعتده من قامة علمية باسقة بحجم عارف حجاوي، أحد المرجعيات الأكاديمية في الأدب والإعلام، وأسس الكتابة السليمة والتحرير والتدقيق اللغوي، والذي تتلمذ على يديه صفوة الإعلاميين والكتاب، إذ يبدو أن بعده الجغرافي عن نابلس لعقود متواصلة قد أثر على معرفته الدقيقة بها، مما قاده نحو ذكر حقائق تفتقر للدقة، وتمتاز بالقسوة والمبالغة، حتى كدت أعتقد أن الأستاذ عارف لو أعاد قراءة مقاله، لتبرى منه كما تبرى جبران خليل جبران من الكثير من أعماله الأدبية في بواكير حياته، ووصفها بغير الناضجة بما فيه الكفاية.
اسمحوا لي بداية أن أؤكد على مبدأ مقدس أؤمن به وسأظل بإذن الله، وهو أن حرية الفكر، والإبداع والضمير، يجب أن تبقى مصونة في كل الأحوال، وأن الأشخاص، والمدن، والأحداث ليست مقدسة، ويجب أن تخضع دائما للنقد، والتحليل، والدراسة، والمسائلة، وكما جاء في قواعد العشق الأربعون " يجب ألا ننسى أنّ المدن تشبه البشر فهي تولد وتمرّ بمرحلتي الطفولة والمراهقة ثم تشيخ, وفي النهاية تموت"، وبالتالي فإن الهدف من هذه السطور هو محاولة إبداء رأي، معزز بالمعلومات الموثقة حول بعض ما قاله الأستاذ عارف حجاوي في مقاله المذكور.
ولكي أكون أكثر تحديدا فإنني أضع بعض ما جاء في مقال الأستاذ عارف حجاوي حرفيا بين أقواس، ومن ثم أحاول التعقيب عليها :
اولأ : يقول الأستاذ عارف حجاوي " فقد كانت نابلس دائماً مدينة ثانية أو ثالثة، فالقدس عاصمة سياسية تاريخياً، ويافا جعلها البحر كبيرة ومهمة، وغزة جعلتها النكبات حاضرة إقليمها. لذا ظلت الابن الثاني الذي لا يرث وجاهة أبيه ".
نابلس لم تدع يوما أنها المدينة الأولى، ولم تضع نفسها أبدا في منافسة مع القدس عاصمة دولتنا، وتاج فلسطين، كما أنها لا تنافس غيرها من المدن الفلسطينية أو العربية، إذ أن العلاقة بينهم هي علاقة تكامل، وتعاون، لا تنافس وصراع، كما أن تصنيف المدن طبقات، ومستويات، لا يخدم القضية الوطنية الفلسطينية، وقد يحرض على تأليب النوازع العصبية والقبلية التي لا أرى داع لاستحضارها .
ثانيا : قال الأستاذ عارف حجاوي: " قل في نابلس من اشتغل بسياسة البلاد، لكن تكونت فيها زعامات محلية تدافع عن مصالحها المحدودة " ومن ثم أضاف في مكان آخر " ليس النابلسي مادة صالحة للتحول إلى قبضاي. إنه بالأحرى شخصية مفاوضة تسعى إلى التفاهم. وهو يميل إلى التنفيس عن غضبه بالكلام، وبتعزية الذات، وبقبول الوضع القائم" ، وأضاف في آخر "ونابلس قد أسبغ عليها لقبها الشهير "جبل النار" ما لا تملك. هي بالأحرى طفل وديع يغفو بين ثديي أم" .
أرى أن تلك السطور تفتقر للدقة، وتجافي الحقائق المثبتة، إذ قال المؤرخ الفرنسي " ادوارد لوكرو" عن نابلس " وأخيرا فشل نابليون بسبب بطولة وصمود أبناءها"، كما كان لنابلس السبق في تأسيس الجمعيات الإسلامية المسيحية، التي تصدت للمشروع الصهيوني التوسعي في فلسطين، بعد سقوط الدولة العثمانية، ووقوعها تحت الاحتلال البريطاني، وبها تأسست جمعية مكافحة الصهيونية عام 1913 ، وهي من أوائل الجمعيات التي قاومت المشروع الصهيوني العنصري، كما أن جمعية نابلس التي غيرت اسمها للجمعية الوطنية العربية لاحقا، كانت من طلائع المؤسسات الوطنية التي تشكلت بعد الاحتلال البريطاني مباشرة، وقد كانت من أكثر الجمعيات نشاطا، وتعبئة للجماهير حول مخططات الحركة الصهيونية في فلسطين، ورفضا لتعيين "هربرت صموئيل" مندوباً سامياً، وعندما عقد المؤتمر الفلسطيني العربي الأول في القدس عام 1919، انتخب النابلسي صاحب النفس الوحدوي والانتماء القومي محمد عزت دروزة سكرتيرا عاما له، كما عقد الاجتماع الثاني له في نابلس بعد ثلاثة أشهر، ومنها وجهت رسائل باسم الشعب الفلسطيني إلى مختلف الدول للمطالبة باستقلال فلسطين، ونابلس هي التي استضافت المؤتمر الفلسطيني الخامس عام 1922 في مبنى المنشية، الذي هو اليوم مكتبة المدينة العامة، الذي تم فيه انتخاب توفيق حماد نائبا لموسى كاظم الحسيني الذي انتخب رئيسا للمؤتمر، وفيه تقرر رفض الانتداب والدستور، ومقاطعة انتخابات المجلس التشريعي، وعدم الاشتراك في مشروع "روتنبرغ" للكهرباء، والمطالبة بإصدار طوابع عليها شعارات فلسطينية، ومقاطعة الصهاينة في البيع والشراء، وبه تشكلت لجنة تنفيذية للعمل على تنفيذ القرارات، ومن نابلس انطلقت كبرى المظاهرات الاحتجاجية على بيع أراض في سهل بيسان للمشروع الصهيوني عام 1911، كما شاركت قيادات نابلس في إرسال أول وفد إلى لندن بتاريخ 25 حزيران سنة 1921 للمطالبة باستقلال فلسطين ووقف الهجرة اليهودية، وقد دفعت نابلس في سفرهم 1000 جنيه، وحينما تم اعتقال أكرم زعيتر عام 1936، هب النابلسيون لمهاجمة مراكز الإنجليز في كل مكان، مما جعل نابلس وأخبارها في صدر الصحف العربية، التي وصفتها " ببلد الوطنية " ، لما عرف عن أهلها من التمرد على الظلم والعدوان.
وللحركة النسوية النابلسية باع طويل في مسيرة النضال، إذ تأسست " الجمعية النسائية" ، في مدينة نابلس سنة 1921، برئاسة مريم عبد الغني هاشم، وكان لها بصمة جلية إبان ثورة 1929، من خلال إمداد المجاهدين بالمال والأسلحة، وتبني الإشراف على أسر الشهداء، والوقوف إلى جانب الرجال في قيادة الأنشطة النضالية، والمطالبة بالاستقلال، كما تـأسست جمعية "الإتحاد النسائي" في مدينة نابلس وسجلت في سجل الجمعيات عام 1945 برئاسة عندليب العمد.
وكان لشباب نابلس وطلبتها دورا قياديا في توجيه النضال الوطني، إذ عقد المؤتمر الثاني لطلبة فلسطين في نابلس عام 1931، بمشاركة آلاف الطلبة من مختلف مناطق الوطن، وفيه تم التأكيد على عروبة فلسطين، ورفض المشروع الصهيوني التوسعي العنصري.
كما أن العديد من الوثائق ومنها وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية لأكرم زعيتر، تفوح بحجم الدور النضالي لنابلس في توجيه الرأي العام، وقيادة الشارع الفلسطيني بأكمله، إذ يشير بأن قرار إنشاء اللجنة القومية للإشراف على سير الحركة الوطنية عام 1936، وإعلان الإضراب العام اتخذ في نابلس، وتوسع ليشمل باقي الوطن، وهو الأمر الذي تنبهت له قوات الاحتلال البريطاني، التي ركزت قمعها في نابلس ويافا والقدس، كونها شكلت موجها، ورافعة للحركة الوطنية الفلسطينية.
كما كانت مشاركة نابلس بأكثر من نصف عدد أعضاء المؤتمر العربي الفلسطيني السابع عام 1928، وفي المؤتمر الإسلامي للدفاع عن المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة عام 1929 وفي نابلس نظم عام 1931 مؤتمر التسليح بدعوة من القائد الوطني النابلسي اكرم زعيتر.
وقد كان لنابلس دورا محوريا في الكثير من القرارات الحاسمة التي اتخذت بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس في حزيران عام 1967، فمنها صدر قرار استئناف الدراسة، بعد أن توقفت بسبب الاحتلال، مما ساهم في عودة عشرات الآلاف من الأسر إلى الوطن، بعد أن انتقلوا للدول المجاورة لتعليم أولادهم، وبوعي رئيس بلديتها حمدي كنعان، ومجلسها البلدي، تم تثبيت المواطنين في نابلس، وأوقف مشروع المحتل بتهجير شعبنا، بالإضافة إلى أن بقاء قلقيلية حتى اليوم بوجهها العربي الكنعاني الفلسطيني، يعود لهؤلاء الرجال، ووعيهم ، إذ أن مخطط الاحتلال كان يقوم على ضم قلقيلية بعد أن فجر ما يزيد عن 60% من مبانيها، إلا أن قرار بلدية نابلس بإعادة إصلاح شبكتي المياه والكهرباء في قلقيلية ، وعودة المواطنين إلى بيوتهم ساهم في الحفاظ على المدينة وتثبيت المواطنين في الوطن.
يضاف إلى ذلك الدور الوطني الذي لعبته نابلس في قيادة وتوجيه الأحداث الوطنية خلال انتفاضة عام 1987، وعام 2000 .
ثالثا: يقول الأستاذ عارف الحجاوي في مقاله " عاش النابلسي بضع مئات من السنين صاحب دكان أو تاجراً أو إقطاعياً أو وسيطاً بين أهالي القرى المحيطة بالمدينة وبين أهل المدينة، أو معلماً أو فقيهاً متوسط العلم ". قبل أن يضيف " أو خادما يسعى في حاجات أهل الثروة ويعيش من فتات موائدهم " .
وهنا فإنني أرى أن أستاذنا عارف قد أغفل مجموعة من الحقائق، فحول الدور الأكاديمي والمعرفي لنابلس، شكلت مدرسة النجاح التي أضحت اليوم كبرى جامعات الوطن، منارة للعلم والإبداع من مطلع القرن الماضي، مما حدى -بأمير البيان- شكيب ارسلان، أن يجيب على سؤال القائد الوطني المغربي الكبير الحاج عبد السلام بنونة ، عندما استشاره عن أفضل مكان يجمع بين الحداثة والأصالة، ليرسل أبنائه لتلقي العلم به، ليس لك سوى نابلس، إذ تحفل سجلات مدرسة النجاح بالعشرات من أسماء الطلبة من المغرب العربي الذين أصبحوا بعد تخرجهم من قادة الرأي وصناع والقرار، بل أن أحد أسباب انتشار قصيدة موطني لإبراهيم طوقان، هو هؤلاء الطلبة الذين نهلوا العلم في نابلس، ونشروه في المغرب العربي، ولا زال شارع تطوان في البلدة القديمة في نابلس شاهدا على ذلك.
كما أن قامة علمية بحجم عارف الحجاوي لا يغفل أفواج العلماء من أبناء نابلس الذين ملأ علمهم وإبداعهم أصقاع الأرض، منهم على سبيل المثال لا الحصر، فدوى طوقان، وابراهيم طوقان، وخيري حماد، وعصام عبد الهادي، ومحمد عزت دروزة، وقدري طوقان، وسلافة حجاوي، وسيف الدين الكيلاني، وعندليب العمد، وغيرهم الكثير.
أما حول الاعتياش على موائد الأثرياء، فإن مختلف المحطات التي مرت بها نابلس، تثبت أن صمود المدينة، وثبات أهلها، كان بحكمة طبقتها الوسطى، لا أثريائها، وهذا ظهر جليا سواء ما بعد محنة الزلزال الذي ضربها عام 1927، أو خلال فترة النكبة، واستقبالها لآلاف المهجرين، أو خلال النكسة، وما تلاها من محطات.
ختاما يقول الأستاذ عارف حجاوي " ولا بأس قبل استئناف هذا الحديث من أن نلم إلماماً بأثر نكبة 1948 التي جاءت إلى المجتمع النابلسي بآلاف اللاجئين الذين لم يستوعبهم النظام الاجتماعي- الاقتصادي للبلاد فظلوا مجتمعاً هامشياً يتمتع بعلاقة غيظ متبادلة مع سكان المدينة" .
فهو أيضا يفتقد للدقة، إذ أن النكبة قد شكلت مصيبة كبرى على الشعب الفلسطيني بأكمله، سواء تلك المدن والقرى التي خسر أهلها بيوتهم وأرضهم، أو تلك التي فتحت أبوابها للاجئين، والتي كانت نابلس منهم، وبالتالي فإن حدوث بعض التجاذبات الناتجة عن محدودية فرص العمل، والتنافس الكبير عليها، لم يقتصر على نابلس، ولا يشكل مبررا لتجاهل حقيقة أن " لجنة إغاثة النازحين" التي شكلتها عدة بلديات في فلسطين كان مركزها نابلس، وكان يترأسها رئيس بلدية نابلس سليمان عبد الرزاق طوقان، بل إن سجلات بلدية نابلس تشير أن البلدية كانت تقدم منحا ومساعدات مالية وعينية لعدد من البلديات في قطاع غزة، في مجالات التعليم والإغاثة ودعم المقاومة، وغيرها .
يضاف إلى ذلك أن نتائج الانتخابات التشريعية عام 1996، أظهرت فوز ثلاثة مرشحين من مخيمات نابلس من بين المرشحين الثمانية الفائزين، كما حصد النائب أحمد الحاج علي من مخيم " عين بيت الماء" على أعلى أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية عام 2006، حيث حصل على 44.957 صوتا .
ختاما، أود أن أشير أن فضاء الفكر هو التلاقح لا التناطح، وأن مساحة الحرية لا يجب أن يكون على مقاس مجموعة من المواطنين، فيضيق ويتسع وفقا لأهواء ومصالح البعض، وما كتبه الأستاذ عارف حجاوي في مقالته يجب أن يكون محفزا للمختلفين معه لكي يثبتوا عكس ما كتب، بينما لغة التشهير، والشخصنة، والهجوم، لا تساهم في إثراء المعرفة، ولا في خلق فضاءات من الحوار، والتعددية الفكرية، والإبداع.
بقلم : رائد محمد الدبعي
الفرق بين معرفة مواطن وآخر بمدينته، كالفرق بين من يذهب لشاطئ لبحر للاستجمام وتسمير البشرة، وتقضية بعض الوقت، والتحرر من ضغوطات الحياة عبر نفضها على شواطئه، وبين من يغوص عميقا ليكتشف أسرار البحر، وخفاياه، فالمدن كالبحار، والكتب، شواطئها وعناوينها لا تخبر الكثير، بينما أعماقها، ومتون صفحاتها تحمل كثيرا من الحقائق والأسرار.
أعتقد أن الأستاذ عارف حجاوي لم يتجاوز السير على الشاطىء، حينما كتب مقالته " نابلس مدينة النساء القويات "، وهو الأمر الذي لم نعتده من قامة علمية باسقة بحجم عارف حجاوي، أحد المرجعيات الأكاديمية في الأدب والإعلام، وأسس الكتابة السليمة والتحرير والتدقيق اللغوي، والذي تتلمذ على يديه صفوة الإعلاميين والكتاب، إذ يبدو أن بعده الجغرافي عن نابلس لعقود متواصلة قد أثر على معرفته الدقيقة بها، مما قاده نحو ذكر حقائق تفتقر للدقة، وتمتاز بالقسوة والمبالغة، حتى كدت أعتقد أن الأستاذ عارف لو أعاد قراءة مقاله، لتبرى منه كما تبرى جبران خليل جبران من الكثير من أعماله الأدبية في بواكير حياته، ووصفها بغير الناضجة بما فيه الكفاية.
اسمحوا لي بداية أن أؤكد على مبدأ مقدس أؤمن به وسأظل بإذن الله، وهو أن حرية الفكر، والإبداع والضمير، يجب أن تبقى مصونة في كل الأحوال، وأن الأشخاص، والمدن، والأحداث ليست مقدسة، ويجب أن تخضع دائما للنقد، والتحليل، والدراسة، والمسائلة، وكما جاء في قواعد العشق الأربعون " يجب ألا ننسى أنّ المدن تشبه البشر فهي تولد وتمرّ بمرحلتي الطفولة والمراهقة ثم تشيخ, وفي النهاية تموت"، وبالتالي فإن الهدف من هذه السطور هو محاولة إبداء رأي، معزز بالمعلومات الموثقة حول بعض ما قاله الأستاذ عارف حجاوي في مقاله المذكور.
ولكي أكون أكثر تحديدا فإنني أضع بعض ما جاء في مقال الأستاذ عارف حجاوي حرفيا بين أقواس، ومن ثم أحاول التعقيب عليها :
اولأ : يقول الأستاذ عارف حجاوي " فقد كانت نابلس دائماً مدينة ثانية أو ثالثة، فالقدس عاصمة سياسية تاريخياً، ويافا جعلها البحر كبيرة ومهمة، وغزة جعلتها النكبات حاضرة إقليمها. لذا ظلت الابن الثاني الذي لا يرث وجاهة أبيه ".
نابلس لم تدع يوما أنها المدينة الأولى، ولم تضع نفسها أبدا في منافسة مع القدس عاصمة دولتنا، وتاج فلسطين، كما أنها لا تنافس غيرها من المدن الفلسطينية أو العربية، إذ أن العلاقة بينهم هي علاقة تكامل، وتعاون، لا تنافس وصراع، كما أن تصنيف المدن طبقات، ومستويات، لا يخدم القضية الوطنية الفلسطينية، وقد يحرض على تأليب النوازع العصبية والقبلية التي لا أرى داع لاستحضارها .
ثانيا : قال الأستاذ عارف حجاوي: " قل في نابلس من اشتغل بسياسة البلاد، لكن تكونت فيها زعامات محلية تدافع عن مصالحها المحدودة " ومن ثم أضاف في مكان آخر " ليس النابلسي مادة صالحة للتحول إلى قبضاي. إنه بالأحرى شخصية مفاوضة تسعى إلى التفاهم. وهو يميل إلى التنفيس عن غضبه بالكلام، وبتعزية الذات، وبقبول الوضع القائم" ، وأضاف في آخر "ونابلس قد أسبغ عليها لقبها الشهير "جبل النار" ما لا تملك. هي بالأحرى طفل وديع يغفو بين ثديي أم" .
أرى أن تلك السطور تفتقر للدقة، وتجافي الحقائق المثبتة، إذ قال المؤرخ الفرنسي " ادوارد لوكرو" عن نابلس " وأخيرا فشل نابليون بسبب بطولة وصمود أبناءها"، كما كان لنابلس السبق في تأسيس الجمعيات الإسلامية المسيحية، التي تصدت للمشروع الصهيوني التوسعي في فلسطين، بعد سقوط الدولة العثمانية، ووقوعها تحت الاحتلال البريطاني، وبها تأسست جمعية مكافحة الصهيونية عام 1913 ، وهي من أوائل الجمعيات التي قاومت المشروع الصهيوني العنصري، كما أن جمعية نابلس التي غيرت اسمها للجمعية الوطنية العربية لاحقا، كانت من طلائع المؤسسات الوطنية التي تشكلت بعد الاحتلال البريطاني مباشرة، وقد كانت من أكثر الجمعيات نشاطا، وتعبئة للجماهير حول مخططات الحركة الصهيونية في فلسطين، ورفضا لتعيين "هربرت صموئيل" مندوباً سامياً، وعندما عقد المؤتمر الفلسطيني العربي الأول في القدس عام 1919، انتخب النابلسي صاحب النفس الوحدوي والانتماء القومي محمد عزت دروزة سكرتيرا عاما له، كما عقد الاجتماع الثاني له في نابلس بعد ثلاثة أشهر، ومنها وجهت رسائل باسم الشعب الفلسطيني إلى مختلف الدول للمطالبة باستقلال فلسطين، ونابلس هي التي استضافت المؤتمر الفلسطيني الخامس عام 1922 في مبنى المنشية، الذي هو اليوم مكتبة المدينة العامة، الذي تم فيه انتخاب توفيق حماد نائبا لموسى كاظم الحسيني الذي انتخب رئيسا للمؤتمر، وفيه تقرر رفض الانتداب والدستور، ومقاطعة انتخابات المجلس التشريعي، وعدم الاشتراك في مشروع "روتنبرغ" للكهرباء، والمطالبة بإصدار طوابع عليها شعارات فلسطينية، ومقاطعة الصهاينة في البيع والشراء، وبه تشكلت لجنة تنفيذية للعمل على تنفيذ القرارات، ومن نابلس انطلقت كبرى المظاهرات الاحتجاجية على بيع أراض في سهل بيسان للمشروع الصهيوني عام 1911، كما شاركت قيادات نابلس في إرسال أول وفد إلى لندن بتاريخ 25 حزيران سنة 1921 للمطالبة باستقلال فلسطين ووقف الهجرة اليهودية، وقد دفعت نابلس في سفرهم 1000 جنيه، وحينما تم اعتقال أكرم زعيتر عام 1936، هب النابلسيون لمهاجمة مراكز الإنجليز في كل مكان، مما جعل نابلس وأخبارها في صدر الصحف العربية، التي وصفتها " ببلد الوطنية " ، لما عرف عن أهلها من التمرد على الظلم والعدوان.
وللحركة النسوية النابلسية باع طويل في مسيرة النضال، إذ تأسست " الجمعية النسائية" ، في مدينة نابلس سنة 1921، برئاسة مريم عبد الغني هاشم، وكان لها بصمة جلية إبان ثورة 1929، من خلال إمداد المجاهدين بالمال والأسلحة، وتبني الإشراف على أسر الشهداء، والوقوف إلى جانب الرجال في قيادة الأنشطة النضالية، والمطالبة بالاستقلال، كما تـأسست جمعية "الإتحاد النسائي" في مدينة نابلس وسجلت في سجل الجمعيات عام 1945 برئاسة عندليب العمد.
وكان لشباب نابلس وطلبتها دورا قياديا في توجيه النضال الوطني، إذ عقد المؤتمر الثاني لطلبة فلسطين في نابلس عام 1931، بمشاركة آلاف الطلبة من مختلف مناطق الوطن، وفيه تم التأكيد على عروبة فلسطين، ورفض المشروع الصهيوني التوسعي العنصري.
كما أن العديد من الوثائق ومنها وثائق الحركة الوطنية الفلسطينية لأكرم زعيتر، تفوح بحجم الدور النضالي لنابلس في توجيه الرأي العام، وقيادة الشارع الفلسطيني بأكمله، إذ يشير بأن قرار إنشاء اللجنة القومية للإشراف على سير الحركة الوطنية عام 1936، وإعلان الإضراب العام اتخذ في نابلس، وتوسع ليشمل باقي الوطن، وهو الأمر الذي تنبهت له قوات الاحتلال البريطاني، التي ركزت قمعها في نابلس ويافا والقدس، كونها شكلت موجها، ورافعة للحركة الوطنية الفلسطينية.
كما كانت مشاركة نابلس بأكثر من نصف عدد أعضاء المؤتمر العربي الفلسطيني السابع عام 1928، وفي المؤتمر الإسلامي للدفاع عن المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة عام 1929 وفي نابلس نظم عام 1931 مؤتمر التسليح بدعوة من القائد الوطني النابلسي اكرم زعيتر.
وقد كان لنابلس دورا محوريا في الكثير من القرارات الحاسمة التي اتخذت بعد الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، وقطاع غزة، والقدس في حزيران عام 1967، فمنها صدر قرار استئناف الدراسة، بعد أن توقفت بسبب الاحتلال، مما ساهم في عودة عشرات الآلاف من الأسر إلى الوطن، بعد أن انتقلوا للدول المجاورة لتعليم أولادهم، وبوعي رئيس بلديتها حمدي كنعان، ومجلسها البلدي، تم تثبيت المواطنين في نابلس، وأوقف مشروع المحتل بتهجير شعبنا، بالإضافة إلى أن بقاء قلقيلية حتى اليوم بوجهها العربي الكنعاني الفلسطيني، يعود لهؤلاء الرجال، ووعيهم ، إذ أن مخطط الاحتلال كان يقوم على ضم قلقيلية بعد أن فجر ما يزيد عن 60% من مبانيها، إلا أن قرار بلدية نابلس بإعادة إصلاح شبكتي المياه والكهرباء في قلقيلية ، وعودة المواطنين إلى بيوتهم ساهم في الحفاظ على المدينة وتثبيت المواطنين في الوطن.
يضاف إلى ذلك الدور الوطني الذي لعبته نابلس في قيادة وتوجيه الأحداث الوطنية خلال انتفاضة عام 1987، وعام 2000 .
ثالثا: يقول الأستاذ عارف الحجاوي في مقاله " عاش النابلسي بضع مئات من السنين صاحب دكان أو تاجراً أو إقطاعياً أو وسيطاً بين أهالي القرى المحيطة بالمدينة وبين أهل المدينة، أو معلماً أو فقيهاً متوسط العلم ". قبل أن يضيف " أو خادما يسعى في حاجات أهل الثروة ويعيش من فتات موائدهم " .
وهنا فإنني أرى أن أستاذنا عارف قد أغفل مجموعة من الحقائق، فحول الدور الأكاديمي والمعرفي لنابلس، شكلت مدرسة النجاح التي أضحت اليوم كبرى جامعات الوطن، منارة للعلم والإبداع من مطلع القرن الماضي، مما حدى -بأمير البيان- شكيب ارسلان، أن يجيب على سؤال القائد الوطني المغربي الكبير الحاج عبد السلام بنونة ، عندما استشاره عن أفضل مكان يجمع بين الحداثة والأصالة، ليرسل أبنائه لتلقي العلم به، ليس لك سوى نابلس، إذ تحفل سجلات مدرسة النجاح بالعشرات من أسماء الطلبة من المغرب العربي الذين أصبحوا بعد تخرجهم من قادة الرأي وصناع والقرار، بل أن أحد أسباب انتشار قصيدة موطني لإبراهيم طوقان، هو هؤلاء الطلبة الذين نهلوا العلم في نابلس، ونشروه في المغرب العربي، ولا زال شارع تطوان في البلدة القديمة في نابلس شاهدا على ذلك.
كما أن قامة علمية بحجم عارف الحجاوي لا يغفل أفواج العلماء من أبناء نابلس الذين ملأ علمهم وإبداعهم أصقاع الأرض، منهم على سبيل المثال لا الحصر، فدوى طوقان، وابراهيم طوقان، وخيري حماد، وعصام عبد الهادي، ومحمد عزت دروزة، وقدري طوقان، وسلافة حجاوي، وسيف الدين الكيلاني، وعندليب العمد، وغيرهم الكثير.
أما حول الاعتياش على موائد الأثرياء، فإن مختلف المحطات التي مرت بها نابلس، تثبت أن صمود المدينة، وثبات أهلها، كان بحكمة طبقتها الوسطى، لا أثريائها، وهذا ظهر جليا سواء ما بعد محنة الزلزال الذي ضربها عام 1927، أو خلال فترة النكبة، واستقبالها لآلاف المهجرين، أو خلال النكسة، وما تلاها من محطات.
ختاما يقول الأستاذ عارف حجاوي " ولا بأس قبل استئناف هذا الحديث من أن نلم إلماماً بأثر نكبة 1948 التي جاءت إلى المجتمع النابلسي بآلاف اللاجئين الذين لم يستوعبهم النظام الاجتماعي- الاقتصادي للبلاد فظلوا مجتمعاً هامشياً يتمتع بعلاقة غيظ متبادلة مع سكان المدينة" .
فهو أيضا يفتقد للدقة، إذ أن النكبة قد شكلت مصيبة كبرى على الشعب الفلسطيني بأكمله، سواء تلك المدن والقرى التي خسر أهلها بيوتهم وأرضهم، أو تلك التي فتحت أبوابها للاجئين، والتي كانت نابلس منهم، وبالتالي فإن حدوث بعض التجاذبات الناتجة عن محدودية فرص العمل، والتنافس الكبير عليها، لم يقتصر على نابلس، ولا يشكل مبررا لتجاهل حقيقة أن " لجنة إغاثة النازحين" التي شكلتها عدة بلديات في فلسطين كان مركزها نابلس، وكان يترأسها رئيس بلدية نابلس سليمان عبد الرزاق طوقان، بل إن سجلات بلدية نابلس تشير أن البلدية كانت تقدم منحا ومساعدات مالية وعينية لعدد من البلديات في قطاع غزة، في مجالات التعليم والإغاثة ودعم المقاومة، وغيرها .
يضاف إلى ذلك أن نتائج الانتخابات التشريعية عام 1996، أظهرت فوز ثلاثة مرشحين من مخيمات نابلس من بين المرشحين الثمانية الفائزين، كما حصد النائب أحمد الحاج علي من مخيم " عين بيت الماء" على أعلى أصوات الناخبين في الانتخابات التشريعية عام 2006، حيث حصل على 44.957 صوتا .
ختاما، أود أن أشير أن فضاء الفكر هو التلاقح لا التناطح، وأن مساحة الحرية لا يجب أن يكون على مقاس مجموعة من المواطنين، فيضيق ويتسع وفقا لأهواء ومصالح البعض، وما كتبه الأستاذ عارف حجاوي في مقالته يجب أن يكون محفزا للمختلفين معه لكي يثبتوا عكس ما كتب، بينما لغة التشهير، والشخصنة، والهجوم، لا تساهم في إثراء المعرفة، ولا في خلق فضاءات من الحوار، والتعددية الفكرية، والإبداع.